قطعة لحم

مشى الرجل الهوينى باتجاه ناصية الشارع، وعند وصوله إليها، ألقى نظرةً خاطفة يمينًا ويسارًا بطول الشارع المُتقاطِع، إلا أنه لم يلحَظ شيئًا باستثناء أضواء المصابيح المنتشرة عند التقاطُعات المتتالية. ثم استدار وعاد متمهلًا من نفس الطريق الذي جاء منه. كان ينساب في صمتٍ كأنه ظِلٌّ وسط هذا الضوء الخافت، وكانت كل حركة منه بحساب. كان في غاية اليقَظة، كحيوانٍ برِّي في الأدغال، كما كان على درجة عالية من الإدراك لكل ما حوله. لم يكن مُمكنًا لأي شخص آخر أن يتحرَّك على مقربة منه دون أن يَلحظ الرجل وجوده، إلا إذا كان ذاك الشخص يفوقه براعةً في التحرك خلسة.

لم يكن سيل إدراكه للبيئة المُحيطة نابعًا من حواسِّه فقط، بل كان مُنبثقًا كذلك من وعي خفي، «حدس» داخلي خاصٍّ به. كان يعلم أن المنزل الذي وقف أمامه للحظة فيه أطفال. لكنه لم يتعمَّد بذل أي جهد للوصول إلى هذا الاستنتاج. بل ولم يكن واعيًا حتى إنه يعلم بوجود أطفال في المنزل؛ أي إن هذا الانطباع كان خفيًّا مُستترًا. ولكن إذا تعين عليه أن يفعل شيئًا ما يتعلَّق بهذا المنزل، فسيأخذ في حُسبانه وجود أطفال داخله. لم يكن واعيًا بكلِّ ما يَعرفه عن هذا الحيِّ.

وبالكيفية نفسها، التي لم يكن يَفهم تفسيرها، عرف أنَّه غير مُعرَّض لأي خطر من وقع الأقدام التي سمعَها آتية تُجاهه من الشارع المُتقاطع مع شارعه. فقبل حتى أن يتبيَّن مصدر الصوت، عرف أنه وقع أقدام شخص مُتأخِّر عائد إلى المنزل في عجالة. ثم ظَهَر له ذلك الشخص السائر عند مُفترق الطرق، وواصل السير في الشارع حتى غاب عن نظره. بعدها أخذ الرجل يراقب فرأى وميض ضوء في نافذة منزل على ناصية الشارع، وعندما تلاشى الضوء، عرف أنه كان ناتجًا من إشعال عود ثقاب ثمَّ انطفائه. كان ذلك تمييزًا واعيًا لظواهر مألوفة، وقال في نفسه: «شخصٌ ما في ذلك المنزل يُريد معرفة الوقت.» كما لاحظ ضوءًا خافتًا مُستمرًّا يخرج من إحدى الغرف في منزل آخر، وراوَدَه شعورٌ بوجود شخص مريض في هذه الغرفة.

كان اهتمامه مُنصبًّا على منزلٍ يقع على الجانب الآخر من الشارع في مُنتصَف المربع السكني. سلَّط جُل تركيزه على هذا المنزل. فحيثما كان يُولِّي وجهه أو مهما كان الاتجاه الذي يسير فيه، فدائمًا ما كانت نظراته وخطواته تعود إلى هذا المنزل مجددًا. لم يكن ثمة شيءٌ غير معتادٍ في المنزل، باستثناء نافذةٍ مفتوحةٍ فوق شرفة المدخل الأمامية. لم يدخله ولم يخرج منه أحد. ولم تجرِ فيه أي أحداث. لم تكن أيٌّ من نوافذه مُضاءة، ولم يلحظ الرجل أي أضواء تظهر وتَنطفئ عند أيٍّ من النوافذ. لكنَّه ظلَّ بؤرة اهتمامه. وكان دائمًا ما يعود إليه بعد التكهُّن بأحوال بقية الحي.

ورغم إحساسه بالبيئة المحيطة، لم يكن يشعر بالاطمئنان. كان يعي تمامًا أنه عُرضةٌ للخطر. صحيح أن وَقْع أقدام ذلك السائر العابر لم يُقلقه، لكنه كان يقظًا ومُرهِفًا حواسَّه ومُتأهبًا للانتفاض خوفًا من أيِّ حركة حوله كغزالٍ وَجِل. كان يُدرك إمكانية وجود كائنات أخرى تتحرك خُلسة في الظلام، كائنات تُشبهه في الحركة والوعي بما حولها والتكهُّن بالمجهول.

لمح الرجل خيالًا يتحرَّك على مبعدةٍ في الشارع. وعلم أنه ليس شخصًا مُتأخرًا عائدًا إلى المنزل، بل يُمثل تهديدًا وخطرًا عليه. فصفَّر مرتَين تجاه المنزل المقابل، ثم تحرَّك خلسة تجاه الناصية وانعطف مختبئًا وراءها. توقَّف هناك وأخذ ينظر حوله بعناية. وبعد أن اطمأنَّ، اختلسَ النظر مِن مخبئه وراء الناصية وتفحَّص الجسم المُتحرِّك الذي كان يَقترب. كان محقًّا في خوفه. فقد كان هذا الشخص شرطيًّا.

سار الرجل بطول الشارع المُتقاطِع مع الشارع الذي كان فيه، ووصَل إلى الناصية التالية، ثم اختبأ هناك ونظَر إلى الناصية التي تركها للتو. فرأى الشُّرطي يمرُّ بها ويُواصِل السير قُدمًا نحو آخر الشارع. فمشى في مسارٍ مُوازٍ لمسار الشرطي ليَتبعه، ومن الناصية التالية، شاهده مرةً أخرى وهو يمرُّ بها ويَمضي قُدُمًا، وعندئذٍ عاد أدراجه. صفَّر بشفتَيه مرةً واحدة باتجاه المنزل المقابل، وبعد فترة، صَفَّر مرةً أخرى. كانت الصافرة هذه المرة تحمل طمأنة، كما كانت الصافرتان السابقتان تَحملان تحذيرًا.

رأى ملامح جسم داكن يَرتسِم على سطح الشُّرفة الأمامية، وينزل ببطء من الشُّرفة مُستخدمًا عمودًا. ثم نزل ذلك الجسم على الدرج، وخرج من البوابة الحديدية الصغيرة، وسار على الرصيف، فتبين أنه رجل. ظلَّ الرجل الأول على الجانب الآخر من الشارع، ومشى بالتوازي مع الرجل الثاني حتى وصلا إلى الناصية، وعندها عبر الشارع وانضمَّ إليه. حينئذٍ بدا ذاك الرجل الأول ضئيلًا جدًّا بجوار الثاني.

سأله: «كيف سارت الأمور يا مات؟»

نخر الرجل الآخَر بصوتٍ غير واضح وواصَلَ المشي بضع خطوات في صمت.

قال: «أظنُّ أنَّني وجدت غنيمتنا المنشودة.»

ضحك جيم ضحكة مكتومة في الظلام، وانتظر ليَسمع المزيد. مرَّا على الكثير من المباني، وبدأ ينفد صبره.

فسأله: «حسنًا، ماذا عن تلك الغنيمة؟ ما مقدارها؟»

«لم يكن لديَّ الوقت لمعرفة مقدارها، لكنها ضخمة. هذا هو كل ما أعرفه الآن يا جيم؛ أنها ضخمة. لستُ مُتيقِّنًا من مقدارها بالضبط. انتظر ريثما نعود إلى الغرفة.»

نظر جيم إليه بإمعان تحت عمود الإنارة في التقاطُع التالي، ولاحظ أن قسمات وجهه متجهمة قليلًا وأن ذراعه اليُسرى لم تكن على ما يرام.

سأله: «ما خطبُ ذراعك؟»

«لقد عضني هذا الحقير. آمُل ألَّا أصاب بداء الكَلَب. فعضَّة الإنسان تصيب بداء الكَلَب في بعض الأحيان، أليس كذلك؟»

سأله جيم بنبرةٍ مُشجِّعة: «لقد تعاركتما، أليس كذلك؟»

فنخر الآخَر.

صاح فيه جيم باستياء: «من الصعب معرفةُ أيِّ معلومةٍ منك. قل لي ماذا حدث. فلن تخسر نقودًا لمجرَّد أنك قلت لي.»

فرد عليه قائلًا: «أعتقد أنني خنقتُه.» ثم أكمل موضحًا: «لقد استيقظ مِن نومِه وأنا هناك.»

«يبدو أنك فعلتها بإتقان تام. فأنا لم أسمَع أيَّ صوت قط.»

فقال الآخر بجدية: «قد يُؤدِّي ذلك إلى المشنقة يا جيم. لقد قتلته. كان عليَّ أن أفعل ذلك. حريٌّ بنا أن نتوارى عن الأنظار فترة.»

أطلق جيم صفيرًا ينمُّ عن الفهم.

وسأل فجأة: «هل سمعتني وأن أصفِّر لك؟»

«بالتأكيد. كنتُ قد انتهيت. وكنتُ في طريقي للخروج من المنزل.»

«لاحظت وجود شرطي. لكنه لم يكن مُنتبهًا إطلاقًا. مرَّ بي وواصَل المشي حتى غاب عن أنظاري. عندئذٍ عُدت وأطلقتُ الصافرة لك. لماذا تأخَّرت في الخروج بعد ذلك؟»

قال مات: «كنتُ مُنتظرًا كي أتيقن.»

وأضاف: «كنتُ في غاية السعادة عندما سمعتُك تُصفر مجددًا. فالانتظار صعب. لقد جلست وظَلِلتُ أُفكر وأفكر … أوه، فكرتُ في كل شيء. عجيبٌ ما قد يُفكر فيه المرء. ثم ظهرت قطة لعينة وظلَّت تتحرَّك في أرجاء المنزل وتُزعجني بصوتها.»

صاح جيم بسعادة متطرقًا إلى موضوع آخر؛ إذ قال: «والغنيمة ضخمة!»

«أؤكِّد لك ذلك يا جيم. لا أُطيق الانتظار حتى أحظى بنظرة أخرى.»

بدأ الرجلان يَمشيان بوتيرة أسرع دون أن يُدركا ذلك. لكنَّهما ظلَّا حَذِرَين ويقظَين. غيرا طريقهما مرَّتين ليتفاديا رجال الشرطة، وتيقَّنا تمامًا من أن لا أحد لاحَظَهما، عندما دلفا بسرعة إلى الرواق المعتم المؤدي إلى مبنًى رخيص يضمُّ غرفتهما المستأجرة في منطقة وسط المدينة.

وما إن وصلا إلى غرفتهما في الطابق العُلوي، حتى أشعلا عود ثقاب. وبينما كان جيم يُضيء المصباح، أوصد مات الباب ووضَعَ المِزلاج في مكانه. وعندما استدار، لاحَظَ أن شريكَه كان ينتظر مترقبًا. ابتسم مات من تَلَهُّف جيم.

قال مات وهو يُخرج من جيبه كشافًا كهربائيًّا صغيرًا ويَفحصُه: «هذا الكشاف لا بأس به.» وأردف: «لكن يتعين علينا شراء بطارية جديدة. فقد أصبح الكشاف ضعيفًا جدًّا. ظننتُ مرةً أو مرتين أنه سينطفئ ويتركني في الظلام. تصميم ذاك المنزل غريب. كدتُ أضلُّ الطريق إلى غرفته. كانت الغرفة جهة اليسار، وهذا حيَّرني.»

قاطعه جيم: «لقد قلتُ لك بالفِعل إنها جهة اليسار.»

اعترض مات: «بل قلتَ لي إنها جهة اليمين. أنا أعرف ماذا قلتَ لي، وها هي الخريطة التي رسمتَها بنفسك.»

أخذ مات يَبحث في جيب صُدْريَّته، وأخرج قصاصة مَطوية من الورق. وعندما بسطها، انحنى جيم ونظر فيها.

اعترف جيم قائلًا: «لقد ارتكبت خطأً.»

«أجل بالتأكيد. لقد كلَّفتني وقتًا للتخمين.»

صاح جيم: «لكن هذا ليس مهمًّا الآن. دعنا نرَ ماذا أحضرت.»

أجاب مات: «بل مُهمٌّ بالتأكيد. مُهم جدًّا … لي. اضطررتُ إلى خوض كل المخاطر. فأثناء بقائك في الشارع كنتُ أنا أُواجه الخطر. عليك أن تكون واعيًا بأفعالك وتتحلَّى بحذرٍ أكبر. حسنًا، سأُريك ماذا أحضرت.»

دس مات يده بلامبالاة في جيب بنطاله وأخرج حفنةً من الألماس الصغير الحجم. نثر الألماس اللامع على الطاولة المتَّسخة أمامهما. فأطلق جيم صيحة تعجب من الانبهار.

قال مات بغطرسة المنتصر: «هذا لا شيء. فأنا لم أبدأ بعد.»

وأخذ يُخرج بقية الغنيمة من جيب تلو الآخر. كانت تضمُّ العديد من قِطَع الألماس الملفوف بجلد الشمواه، وكانت تلك القِطَع أكبر حجمًا من ألماس الحفنة التي أخرجها أولًا. وأخرج من أحد الجيوب حفنة من الجواهر المصقولة الصغيرة جدًّا.

ثم قال وهو يَسكبُها على الطاولة في مكان مُنفصِل وحدها: «غبار الشمس.»

تفحَّصها جيم.

وقال: «لكن الواحدة منها يمكن أن تُباع ببضعة دولارات. أهذا كل ما لديك؟»

فسأله مات بنبرة ممزوجة بشعور بالإساءة: «أليس كافيًا؟»

فأجاب جيم باتفاقٍ تام معه: «بل كافٍ بالتأكيد. أكثر مما توقَّعت. لن أقبل بأقل من ١٠ آلاف دولار نظير كل هذا.»

قال مات ساخرًا: «١٠ آلاف! إنها تُساوي ضِعف هذا المبلغ، رغم جهلي بالمُجوهرات. انظر إلى هذه الجوهرة الكبيرة!»

أمسك جوهرة كبيرة من وسط كومة الجواهر اللامعة، وقرَّبها إلى المصباح كأنه خبير مجوهرات، وراح يَزنها ويُقيِّمها.

قال جيم بتسرُّع: «هذه فقط تُساوي ١٠٠٠ دولار.»

فقال مات بسخرية: «١٠٠٠ دولار أيها الأحمق! إنها تُساوي أكثر من ٣٠٠٠ دولار.»

تلألأت عينا جيم ببريق الجواهر، وبدأ يلتقط حبات الألماس الأكبر حجمًا ويفحصها قائلًا: «لا أصدق هذا! أنا في حلم! نحن أغنياء يا مات، سنعيش حياة الأثرياء.»

فقال مات الذي كان أكثر واقعية: «سيَستغرِق الأمر سنوات حتى نتمكَّن من بيعِها كلها، والحصول على قيمتها.»

«لكن تخيَّل كيف ستكون حياتنا في تلك الفترة! لن نفعل شيئًا سوى بيع المُجوهرات وإنفاق ثمنها.»

بدأت عينا مات تتلألأ، ولكن برزانة؛ إذ بدأ يعود إلى رباطة جأشِه المُعتادة.

قال بصوت خافت: «قلت لك إنني لا أعرف مقدار الغنيمة من فرطِ دسامتها.»

قال جيم بحماس شديد: «يا لها مِن غنيمة! يا لها من غنيمة!»

فقال مات وهو يضع يده داخل جيب سُترته الداخلي: «كدتُ أنسى شيئًا.»

أخرج سلسلة من اللآلئ الكبيرة من وسطِ لفافة من المناديل وجلد الشمواه. لكن جيم اكتفى برمقها بنظرة خاطفة.

قال: «إنها تُساوي مبلغًا كبيرًا من المال»، وأخذ يتفحَّص الألماس ثانيةً.

ثم خيَّم صمت على الرجلين. أخذ جيم يعبث بالجواهر بين أصابعه؛ إذ راح يفرزها إلى كومات، ثم يُفرِّقها على الطاولة. كان رجلًا نحيفًا نحيلًا وسريع الانفعال وسيئ المزاج وهزيلًا مثله مثل أي رجل نشأ في فقر مُدقع، كما كانت قسماته دميمة مُشوهة، وعيناه صغيرتَين، ووجهه وفمه ينمَّان عن نهمٍ مُزمن، وكان يبدو شرسًا مثل القطط البرية، ومُنغمسًا في الانحطاط حتى النخاع.

أمَّا مات، فلم يلمس الجواهر. جلس واضعًا ذقنه على يدَيه، ومُستندًا بمرفقيه إلى الطاولة، وأخذ يرمش بشدة أمام وهج الجواهر الباهرة. كان مات عكس جيم تمامًا. فلم يَنشأ في أيِّ مدينة. وكان مفتول العضلات وكثيفَ شَعرِ الجسد، فبدا كالغوريلا في القوة والمظهر. لم يكن مُؤمنًا بوجود عالم غيبي غير مرئي. كانت عيناه واسعتَين ومُتباعدتَين، وبدا فيهما إيحاءٌ ما بالجرأة والوفاء الأخوي. كانتا توحيان بأنه جديرٌ بالثِّقة. ولكن عند النظر إليهما عن كثب، يتَّضح أنهما أشد اتساعًا وأكثر تباعدًا مما هو طبيعي بقليل. كان مظهرُه مُتخطيًا حدود ما هو طبيعي ومُتجاوزًا إياها، وكانت قسماته تُعطي انطباعًا خادعًا عن حقيقته.

قال جيم فجأة: «الغنيمة تُساوي ٥٠ ألفًا.»

فقال مات: «بل ١٠٠ ألف.»

عم السكون مرةً أخرى واستمر طويلًا، حتى عاوَدَ جيم الكلام.

«لماذا كان يَحتفِظ بكل هذا في منزله؟ هذا ما أريد معرفته. كنت أظنُّه مُحتفظًا بها بالأسفل في خزينة المحل.»

كان مات يُفكِّر للتو في منظر وجه الرجل المخنوق، عندما رآه آخر مرة في ضوء المصباح الكهربائي الخافت في غُرفته؛ لكنه لم يُظهِر أيَّ ردِّ فعل عندما أتى جيم على ذكره.

أجاب قائلًا: «يصعب معرفة السبب. ربما كان يستعدُّ للتخلِّي عن شريكه. أو ربما كان يتجهَّز للمُغادرة إلى وجهةٍ مجهولةٍ في الصباح لو لم يَسُقنا القدر إليه. يبدو أن عدد اللصوص بين الشرفاء هو نفسه عددهم بين اللصوص. غالبًا ما تنشر الصحف أخبارًا عن مثل هذه الحوادث يا جيم. يشتهر الشركاء بأنَّ بعضهم يخون بعضًا.»

لاحت في عينَي جيم نظرة غريبة ومُتوتِّرة. لم يُبيِّن مات أنه لاحظها، لكنه قال:

«ماذا يدور في خَلَدك يا جيم!»

بدا على جيم الارتباك لوهلة.

وأجاب: «لا شيء. كنتُ فقط أفكر في غرابة أن يُحتفَظ بكل هذه المُجوهرات في المنزل. لماذا تسأل؟»

«لا شيء. شعرت بالفضول فحسب، هذا كل ما هنالك.»

ساد الصمت، ولم يكن يكسر جداره إلا قهقهاتُ جيم الخافتة والمتوترة بين الفينة والفينة. كان مفتونًا بالمجوهرات المنثورة أمامه. ليس لأنه كان يقدر جمالها. فهو لم يكن يُدرك أنها جميلة في حد ذاتها. لكنها سرعان ما جعلتْه يسرح بخياله فيما يستطيع أن يَشتريَه من ملذات الدنيا بثمنها، وراحت تُمنِّي نفسه بما يُداعب كل رغبات عقله المريض وشهَوات جسده السقيم. لقد شيد في خياله بوهجها اللامع قلاعًا عجيبة مُفعمة بالعربدة والملذات، وروَّعته تخيُّلاته. وعندئذٍ راح يقهقه. إذ كان من المستحيل تحقيق كل هذا. لكن وهج المجوهرات ظلَّ يتلألأ على الطاولة أمامه، مؤجِّجًا شهوته، فقهقَهَ من جديد.

قال مات فجأةً وهو ينسلخ من رُؤَاه التي كانت تراوده: «أظنُّ أننا ينبغي أن نحصرها عددًا. يمكنك مراقبتي وأنا أحصرها كي تتيقَّن من أمانتي؛ يجب أن نتحلَّى بأمانةٍ متبادلة فيما بيننا يا جيم. أتفهمني؟»

لم يعجب هذا الكلام جيم، وأبدى ضيقَه في عينَيه، بينما لم يُعجب مات ما رآه في عينَي شريكه.

كرر مات مجددًا كأنه يهدده: «أتفهم؟»

أجاب جيم مدافعًا عن نفسه؛ لأن الخيانة قد بدأت تتسلَّل إلى داخله بالفعل: «ألم نكن دومًا أمناء فيما بينَنا؟»

فأجاب مات: «الأمانة في أوقات العسر لا تُكلِّف المرء شيئًا. المهم أن تكون أمينًا في أوقات اليسر. فعندما كُنا لا نملك شيئًا، لم يسعنا إلَّا أن نكون أمناء. لكنَّنا أغنياء الآن، وحريٌّ بنا أن نتصرَّف مثل رجال الأعمال، رجال الأعمال الأمناء. أتفهم؟»

قال جيم مُصدقًا على كلامه: «أتفق معك في هذا»، ولكن في أعماق ذاته الضعيفة، ورغمًا عنه، كانت الأفكار المؤذية والمنحطَّة تهتاج كوحوش مُكبَّلة بالسلاسل.

مشى مات إلى رف الطعام الموجود خلف موقد الطهي الكيروسيني ذي الشُّعلتَين. أفرغ الشاي من كيسٍ ورقي وأفرغ بعض الفلفل الأحمر من كيسٍ آخر. وعاد إلى الطاولة بالكيسين، ووضع حبات الألماس الصغيرة في أحدهما ووضع الحبات الأكبر حجمًا في الكيس الآخر. ثم أحصى الجواهر الكبيرة، ولفَّها في مناديلها الورقية وجلد الشمواه الخاص بها.

وأخذ يحصر الغنيمة قائلًا: «١٤٧ جوهرة مُتوسِّطة الحجم، و٢٠ جوهرة كبيرة، وجوهرتان كبيرتان جدًّا، وجوهرة واحدة كبيرة للغاية، وما يُعادل حفنتَين من حبات الألماس البالغة الصغر.»

نظر إلى جيم.

فردَّ قائلًا: «صحيح.»

كتب مات العدد على ورقة، ثم نسخ نسخة من الورقة، وأعطى شريكه واحدة واحتفَظ بالأخرى لنفسه.

قال: «كمَرجع فقط.»

ثم عاد مرةً أخرى إلى رف الطعام، حيث أفرغ السكر من كيسٍ ورقي كبير. ووضع في الكيس حبات الألماس، الكبيرة والصغيرة، ولفَّه بعصابةِ رأس وخبَّأه تحت وسادته. ثم جلس على حافة السرير وخلع نعلَيه.

وبينما كان جيم يفكُّ رباط نعله هو الآخر، توقف ورفع ناظريه إلى مات قائلًا: «أحقًّا تعتقد أن كل هذه المجوهرات تُساوي ١٠٠ ألف دولار؟»

أجاب: «بالتأكيد. فذات مرة قابلتُ راقصةً في أريزونا وكانت ترتدي مجوهرات كبيرة. لم تكن المجوهرات حقيقية. قالت إنها لو كانت حقيقية لما عملَت بالرقص. وقالت إنها لو كانت حقيقية لكان ثمنُها ٥٠ ألفًا، علمًا بأن إجمالي عدد المجوهرات التي كانت تَرتديها لم يبلغ حتى دزينة واحدة.»

قال جيم بانتصار: «من الذي سيعمل من أجل كسب الرزق بعد الآن؟» وأردف مُستهزئًا: «العمل المُضني! حتى لو عملت كالحمار طوال حياتي، وادَّخرتُ كل أجري، ما كنت لأستطيع الحصول على نصف ما حصلنا عليه الليلة.»

«أنت لست مُؤهلًا إلا لمِهنة غسل الأطباق، ولا يُمكن أن تحصل منها إلا على ٢٠ دولارًا شهريًّا بالإضافة إلى السكن والطعام. أي إن حساباتك غير صحيحة، لكني أفهم قصدك. دع أولئك الذين يُحبون العمل يعملون. كنت أعمل راعيًا للبقر مُقابل ٣٠ دولارًا في الشهر عندما كنت صغيرًا وساذجًا. حسنًا، الآن أصبحت أكبر سنًّا، ولن أرعى البقر.»

آوى مات إلى الفراش واضطجعَ على أحد جانبَيه. وأطفأ جيم المصباح وتبعه مُضطجِعًا على الجانب الآخر من الفراش.

سأل جيم مات بنبرةٍ ودية: «كيف حال ذراعك؟»

كان هذا الاهتمام غير معتاد من جيم، ولاحظ مات ذلك، وأجاب قائلًا:

«أظنُّ أنني لن أصاب بداء الكَلَب. لماذا تسأل؟»

شعر جيم بالذنب، وسب في سرِّه الطريقة التي كان مات يسأله بها أسئلة سخيفة، لكنه أجاب قائلًا: «لا شيء، كل ما هنالك أنك بدوتَ قَلِقًا من الإصابة به في البداية. ماذا ستفعل بنصيبك من الغنيمة يا مات؟»

«سأشتري مزرعةَ ماشية في ولاية أريزونا وأجلس مرتاحًا، وأستأجر رجالًا آخرين ليؤدُّوا العمل بدلًا مني. ثمة عدة أشخاص سأتلذَّذ برؤيتهم يطلبون مني عملًا، سحقًا لهم! والآن اخرس يا جيم. فما يزال أمامي بعض الوقت لأتمكَّن من شراء تلك المزرعة. والآن سوف أخلد للنوم.»

لكن جيم بقي مستيقظًا على الفراش وقتًا طويلًا وهو يَرتعِش من شدة توتره، وراح يتقلب في عدم ارتياح فكان يستيقظ كلما غفا. كان وهج الألماس ما يزال مُشتعلًا تحت جفنيه، وكان لهيبه يؤرقه. أمَّا مات، فمع أن جسده كان ضخمًا ثقيلًا، كان نومه خفيفًا كالحيوانات البرية التي تبقى متأهبة أثناء نومها، وكان جيم يلاحظ، كلما تحرك، أن جسد شريكه يتحرك هو الآخر ليبين أنه شعر بتأثير حركته، وأنه يهتز موشكًا أن يستيقظ. بل إن جيم في مراتٍ عديدة لم يكن مُتيقنًا ممَّا إذا كان مات مستيقظًا أم لا. ففي إحدى المرات، كان جيم يظنُّ مات نائمًا بالفعل. لكنه فوجئ به يقول له بهدوء: «أوه، نمَ يا جيم. لا تقلق بشأن المجوهرات. إنها في أمان.» ليتَّضح عندئذٍ أنه كان واعيًا تمامًا في تلك اللحظة.

استيقظ مات مع أول حركةٍ من جيم في وقتٍ متأخِّر من الصباح، وبعدها ظل يستيقظ ويغفو معه حتى منتصف النهار، وعندئذٍ نهضا معًا وبدآ يَرتديان ملابسهما.

قال مات: «أنا خارج لشراء الجريدة وبعض الخبز. وأنت حضِّر لنا القهوة المغلية.»

وبينما كان جيم يستمع لكلام مات ويَنظر إليه، جال بنظره دون أن يشعر نحو الوسادة التي توجد تحتها الحزمة الملفوفة بعصابة الرأس. فأصبح وجه مات كوجهِ وحشٍ مُفترس.

قال غاضبًا: «انظر إليَّ يا جيم. عليك أن تكون أمينًا معي. إذا غدرتَ بي، فسأقتلك. أتفهمُني؟ سأنهشُك بأسناني يا جيم. وأنت تَعرف ذلك. سألتهمُك من رقبتِك وآكُلُك كشرائح اللحم.»

كان وجهه المسفوع من أشعة الشمس أسودَ مع اندفاع الدماء فيه، وكشفَت شفتاه الغاضبتان عن أسنانِه الصفراء المُلطَّخة مِن أثر التبغ. فارتعش جيم وانكمشَ لا إراديًّا من شدَّة الخوف. رأى الموتَ مُتجليًا في الرجل الذي أمامه. فذلك الرجل ذو الوجه الأسود قد قتل في الليلة السابقة للتوِّ رجلًا آخر بيدَيه، من دون أن يُؤرِّقه ذلك في منامه. وكان جيم في أعماقه واعيًا بإحساسٍ بالذنب يتسلَّل إلى داخله، وبأفكارٍ في ذهنِه تجعلُه يستحق كلَّ هذا التهديد.

خرج مات من الغرفة، تاركًا جيم لا يزال يَرتعِش. انبعجت قسمات وجه جيم بالكراهية، وبدأ يشتم بصوت خفيض باتجاه الباب. ثم تذكَّر المجوهرات، فأسرع إلى السرير، ووضع يده تحت الوسادة ليتحسَّس لفافة المجوهرات. وأطبق عليها بأصابعه ليتيقَّن من أنها ما تزال داخلها. وبعدما اطمأنَّ إلى أن مات لم يأخُذها معه، نظر ناحية موقد الكيروسين بانتفاضة بسبب إحساسه بالذنب. ثم أوقد المَوقِد سريعًا، وملأ وعاء القهوة بماء الصنبور، ووضعها على الموقد لتَغلي.

كانت القهوة تَغلي عندما عاد مات، وبينما كان الأخير يُقَطِّع الخبز ويضع شريحة من الزبد على الطاولة، سكَب جيم القهوة. وبعدما جلس وارتشف عدَّة رشفات منها، أخرج مات الجريدة الصباحية مِن جيبه.

قال: «كُنا مُخطئَين. قلت لك إنني لم أستطع تقدير قيمة الغنيمة من فرطِ دسامتها. انظر إلى هذا.»

أشار إلى العنوان في الصفحة الأولى مِن الجريدة. كان مكتوبًا فيها: «قِصاص سريع في إثر بوجانوف. قُتل أثناء نومِه بعد سرقته شريكه».

صاح مات: «انظر! لقد سرَق شريكَه، سرَقَه مثل لصٍّ خسيس.»

قرأ جيم بصوت عالٍ: «فَقْد مجوهرات قيمتُها نصف مليون دولار.» ووضع الجريدة على الطاولة وحدَّق إلى مات.

قال مات: «هذا ما قلته لك. فماذا نَعرِف نحن عن المجوهرات بحق السماء؟ نصف مليون! وأفضل تقدير لي كان ١٠٠ ألف. استمرَّ في القراءة.»

أكملا القراءة في صمت، ورأساهما مُتجاوران، وبدأت القهوة التي لم يَلمسها مات تبرد شيئًا فشيئًا؛ وكان أحدهما بين الفينة والفينة يُصدِر صوتًا مُتعجبًا عند قراءة معلومة مهمة في الجريدة.

قال جيم مبتهجًا بشماتة: «كنتُ أتمنى رؤية وجه ميتزنر عندما فتح خزينة المتجر هذا الصباح.»

قال مات: «لقد قصَدَ المكان الأهم وذهب فورًا إلى منزل بوجانوف. أَكمِلِ القراءة.»

«كان مِن المُفترض أن يُسافر الليلة الماضية في الساعة العاشرة على متن سفينة ساجودا البخارية إلى بحر الجنوب … لكنها تأخَّرت بسبب حمولتها الزائدة …»

قاطعه مات قائلًا: «لذا وجدناه في سريره. لقد كان هذا حظًّا محضًا … كأن تقع عليك القرعة من بين ٥٠ واحدًا.»

«أبحرت السفينة في الساعة السادسة من صباح اليوم …»

قال مات: «لم يَلحق بها. رأيت أن ساعة منبهه كانت مضبوطة على الخامسة. كان أمامه متَّسع من الوقت … لكني جئت وأجهضتُ خططه. أَكمِل.»

«أدولف ميتزنر في حالة من اليأس؛ فعِقد اللؤلؤ الشهير هايثورن، المصنوع من مجموعة مُتنوعة من اللآلئ الرائعة، يُقدر الخبراء قيمتَه بما يتراوح بين ٥٠ و٧٠ ألف دولار.»

توقَّف جيم عن القراءة وأخذ يشتمُ بكلِّ جدية وانحطاط، ثم قال: «بيضات المَحار هذه تُساوي كل هذه الأموال!»

لعق شفتَيه وأضاف: «كانت جميلة بلا شك.»

وأكمل القراءة قائلًا: «جوهرة برازيلية كبيرة. بقيمة ٨٠ ألف دولار، وعدَّة جواهر قيِّمة ممتازة، وعدة آلاف من قِطَع الألماس الصغيرة يُقدَّر ثمنها بنحو ٤٠ ألف دولار.»

قال مات بابتسامةٍ مازحة: «ما لا يعرفه المرء عن الجواهر يَستحقُّ المعرفة.»

واصل جيم القراءة قائلًا: «افتراضات المحقِّقين. يرى المُحققُون أن اللصوص كانوا على درايةٍ بذلك حتمًا، وأنهم كانوا يُراقبون تحركات بوجانوف بدهاء، وأنهم بالتأكيد كانوا على معرفة بخطَّته، وتعقَّبوه إلى منزله وهو يحمل الغنيمة التي سرقها …»

صاح مات: «سحقًا لذكائهم! هكذا تنشأ السُّمعة … في الجرائد. وكيف عرفنا أنه سيَسرق شريكه؟»

قال جيم مُبتسمًا: «على أيِّ حال، لدينا الغنيمة. هيا نُلقِ نظرةً أخرى عليها.»

تيقَّنَ من أن الباب مُغلَق ومُوصد بالمزلاج، بينما أحضر مات الحُزمة الملفوفة بالعصابة وفتحها على الطاولة.

قال جيم مُتعجبًا عند رؤية اللآلئ: «أليست جميلة رغم كل شيء!» وظلَّت عيناه مُحدقتَين إليها فقط. وأردف: «بناءً على كلام الخبراء، يتراوح ثمنها بين ٥٠ و٧٠ ألف دولار.»

وأضاف مات: «والنساء تُحبها. وهنَّ على استعداد لفعل أيِّ شيء للحصول عليها … أن يَبعْنَ أنفسهنَّ، أو يقتلْنَ، أي شيء.»

«تمامًا مثلي أنا وأنت.»

أجاب مات: «بالطبع لا. فأنا أَقتُل لأحصل على المجوهرات، ولكن ليس من أجل المجوهرات في حدِّ ذاتها، بل من أجل ما يُمكن أن أجنيَه من ورائها. هذا هو الفرق. النساء يُردْنَ المجوهرات في حد ذاتها، وأنا أريد المجوهرات من أجل جَلبِ النساء وأشياء أخرى.»

قال جيم: «من حسن الحظِّ أن الرجال والنساء لا يرغبُون في الأشياء نفسها.»

قال مات موافقًا: «وهذا أساس التجارة؛ فلولا اختلاف الأذواق لبارَتِ السِّلَع.»

في مُنتصف فترة الظهيرة، خرج جيم لشراء الطعام. وبينما كان بالخارج، أزال مات المجوهرات من فوق الطاولة، ولفَّها كما كانت من قبل ووضعها تحت الوسادة. ثم أشعل موقد الكيروسين وبدأ في غلي الماء من أجل إعداد القهوة. وبعد بضع دقائق، عاد جيم.

قال جيم: «غريب جدًّا. ما زالت الشوارع والمحال والناس كما هي. لم يتغيَّر أي شيء. وكنت أمشي وسطهم وأنا مليونير. ولكن لم يَنظُر إليَّ أحد ويُخمِّن ذلك.»

نخر مات بطريقة تنمُّ عن عدم تعاطُفه مع جيم. فهو لم يكن يتفهَّم نزوات شريكه وأهواءَه الخيالية التافهة.

وسأله: «هل أحضرتَ شريحة اللحم البقري؟»

«بالتأكيد، سُمكها بوصة. وشكلُها يُسيِّل اللُّعاب. انظر بنفسك.»

أخرج جيم شريحة اللحم من لفافتها ورفعها حتى يتفحَّصها شريكُه. ثم أعدَّ القهوة وجَهَّز الطاولة، بينما راح مات يُحمِّر شريحة اللحم في المِقلاة.

قال جيم محذرًا: «لا تضع الكثير من الفلفل الأحمر على اللحم. فأنا لستُ معتادًا تناول الطعام على الطريقة المكسيكية التي تطهُو بها. فأنت تضع الكثير من التوابل الحارَّة.»

ضحك مات واستمرَّ في الطهي. سكب جيم القهوة، لكنه قبل ذلك أفرغ في الكوب الخزفي المخدوش مسحوقًا كان يحمله داخل لفافة ورقية رقيقة في جيب صُدريتِه. كان قد أدار ظهره عن شريكه في هذه الأثناء، لكنَّه لم يجرُؤ على الالتفات إليه ولو بنظرةٍ خاطفة. وضع مات جريدة على الطاولة، ووضع المقلاة الساخنة على الجريدة. ثم شطر الشريحة إلى نصفَين، وأخذ نصفًا وأعطى جيم النصف الآخر.

قال مات لشريكه: «كُل اللحم وهو ما يزال ساخنًا» وبدأ يستخدم السكين والشوكة ليُريه.

قال جيم بعد أول قضمة: «إنها لذيذة. لكني سأُخبرك بشيء صراحةً. لن أزورك أبدًا في مزرعتك في أريزونا، فلا تطلُب مني ذلك.»

سأله مات: «لماذا تقول هذا؟»

فأجاب جيم: «لن أستطيع تحمُّل أسلوب طهوك المكسيكي. فإذا كان مُقدرًا لي العذاب في الحياة الأخرى، فلن أُعذِّب أمعائي في هذه الحياة!»

ثم ابتسم، وزفر أنفاسه بقوةٍ ليُبرِّد فمه المُحترق، واحتسى بعض القهوة، واستمرَّ في تناول شريحة اللحم.

وبعدها بقليل، سأل شريكه قائلًا: «ما رأيك في الحياة الأخرى على أيِّ حال يا مات؟» بينما كان يتساءل سرًّا لماذا لم يَلمس الآخر القهوة بعد.

أجاب مات وهو يتوقَّف عن الأكل؛ ليَرتشِف رشفتَه الأولى من القهوة: «لا توجد حياةٌ أخرى. لا جنة ولا نار، ولا أي شيء. فكل ما سيحدث للإنسان سيُصيبه في هذه الحياة فقط.»

سأله جيم بفضول مَرَضي: «وماذا بعد هذه الحياة؟» إذ إنه كان يَعرِف أنه يُحملِق إلى رجل سيموت قريبًا. وكرَّر سؤاله: «وماذا بعد هذه الحياة؟»

فسأله مات: «هل رأيتَ من قبل جثة رجل منذ أسبوعين؟»

هزَّ جيم رأسه بالنفي.

«حسنًا، أنا رأيت. كان مثل شريحة اللحم هذه التي نأكُلُها. فتلك الشريحة كانت في يوم من الأيام حيوانًا ينبض بالحياة ويجول في كل مكان. لكنَّها الآن مجرد قطعة لحم. مجرَّد قطعة لحم ليس غير. وهذا ما سنئول إليه أنا وأنت وجميع الناس؛ قطعة لحم.»

شرب مات كوب القهوة بأكمله، وأعاد مِلْأه.

ثم سأل شريكه: «هل أنت خائفٌ من الموت؟»

هزَّ جيم رأسه نافيًا. وقال: «وما الفائدة من الخوف؟ فأنا لن أموت على أيِّ حال. بل سأُفارق الحياة وأعود إليها …»

قال مات ساخرًا: «لتعود إلى السرقة والكذب والتباكي الجبان في حياتك الأخرى، وتظلَّ هكذا إلى أبد الآبِدِين؟»

قال جيم بتفاؤل: «ربما أُصبح شخصًا أفضل. قد لا تكون السرقة ضرورية في الحياة الأخرى.»

ثم توقف عن الكلام فجأة، ونظر أمامه مباشرة بعين شاخصة، وارتسم الخوف على وجهه.

سأله مات: «ماذا بك؟»

قال جيم، باذلًا جهدًا في استعادة تركيزه: «لا شيء. كنتُ فقط أفكِّر في الموت، هذا كل ما هنالك.»

لكنه لم يستطع التخلُّص من شعور الخوف الذي أفزعه. فقد شعر كأن سحابة غير مرئية من الكآبة قد مرَّت بجانبه، مُلقية عليه ظلالًا غير مرئية. كان متوجسًا. وكأن شيئًا مشئومًا سيحدث. وكأن مصيبة ما تحُوم في الهواء. شَخَص ببصرِه عبر الطاولة إلى الرجل الآخر. لكنَّه لم يستطع فهم ما يحدث. هل ارتكب خطأً ووضَع السم في كوبه هو؟ لا، لقد كان مات يَشرب من الكوب المخدوش، وهو بالتأكيد قد وضع السم في هذا الكوب.

ارتأى أن ذلك كله ربما يكون من نسج خياله. فقد خدَعه خياله من قبل. يا لحَماقته! بالتأكيد كان ذلك حقيقيًّا. بالتأكيد كان شيء ما سيحدث، لكنه سيحدث لمات. ألم يشرب مات كوب القهوة كله؟

انفرَجَت أسارير جيم وأكمل شريحة اللحم، وأخذ يغمس الخبز في المرق عندما انتهى من أكل اللحم.

ثم تكلَّم قائلًا: «عندما كنت طفلًا …» لكنَّه سكت فجأة.

خيَّمت الغيمة الكئيبة غير المرئية مجدَّدًا، وكان كيانه مُفعمًا بهاجسٍ يُنذره بشؤمٍ وشيك. شعر بتأثير مُدمِّر في جسده، وبدا على كل عضلاته أنها على وشك الارتعاش. فمال إلى الوراء فجأة، وانحنى فجأة إلى الأمام واضعًا مرفقَيه على الطاولة. سَرَت قشعريرة في جسده. كانت الرعشة كالحفيف الأول لأوراق الأشجار قبل قُدوم الريح. أطبق على أسنانه. وتشنَّجت عضلات جسده مرةً أخرى. شعر بذعرٍ يتمرَّد عليه من داخل أعماقه. لم تَعُد عضلاته تعترف بسيادته عليها. وتشنَّجت مرة أخرى، رغمًا عنه؛ لأنه كان يُحاول كبح تشنجها. كانت هذه ثورة داخل نفسه، فوضى عارمة تُقوِّض سلطته؛ واجتاحه رُعبُ العجزِ، بينما أخذ جسده ينقبض كأنما يُحكِم قبضته على روحه، فانتابته قشعريرة في كامل عموده الفقري، وبدأ العرق يتصبب من جبينه. نظر في الغرفة، وأشعَرَته كل تفاصيلها بإحساس غريب من الأُلفة. شعر كأنه عاد لتوِّه من رحلة طويلة. نظر عبر الطاولة إلى شريكه. كان مات يُشاهده ويبتسم. فارتسم الرعب على وجه جيم.

صرخ قائلًا: «مات! هل دسستَ لي السم؟»

ابتسم مات وظلَّ يُشاهده. وفي النوبة التي تلَت ذلك، لم يفقد جيم الوعي. تشنَّجت عضلاته وارتعشت وانقبضت، فآلمته وكأنها تسحقُه في قبضتها الوحشية. وفي خضمِّ كل ذلك، تبين له أن مات كان يتصرف بغرابة. فقد بدَت عليه بوادر أعراض مُماثلة. ذهبت الابتسامة من وجهه، وارتسم عليه التركيز، كما لو كان يستمع إلى حكاية داخلية عن نفسه ويُحاول استنتاج مغزاها. نهض مات ومشى عبر الغُرفة وعاد مرةً أخرى، ثم جلس.

قال مات بهدوء: «لقد فعلتَها بي يا جيم.»

أجاب جيم موبخًا: «لكنِّي لم أتخيل أنك ستردُّ لي الصاع بمثله.»

قال مات وهو يجز على أسنانه وجسده يرتجف: «لقد رددتُ إليك الصاع بمثله طبعًا. ماذا وضعتَ لي؟»

«ستركنين.»

فقال مات من تلقاء نفسه: «هو العقار نفسه الذي وضعتُه لك. نحن في ورطةٍ بشعة، أليس كذلك؟»

قال جيم مُتوسلًا: «أنت تكذب يا مات. أنت لم تضَع لي السُّم، أليس كذلك؟»

«بل وضعته بالتأكيد يا جيم؛ لكني لم أضع لك جرعة زائدة. لقد دسستُه بمنتهى الدقة والإحكام في شطرك من شريحة اللحم … انتظر! إلى أين أنت ذاهب؟»

كان جيم قد هرع إلى الباب وبدأ يفتح المزلاج. فقفَز مات مسرعًا ليقف أمامه ودفعه بعيدًا.

قال جيم لاهثًا: «إلى الصيدلية. الصيدلية.»

«لا لن تذهب. يجب أن تبقى هنا. فلن تخرج إلى الشارع وأنت مسموم … خصوصًا مع وجود كل هذه المجوهرات تحت الوسادة. أتفهَم؟ فحتى إنْ لم تَمُت، فستُلقي الشرطة القبض عليك وسيكون عليك تفسير الكثير من الأمور. تُستخدَم المُقيئات لمثل هذه الحالات. فحالتي سيئة مثل حالتك، وسوف آخذ مُقيئًا. هذا ما سيُعطونك إياه في الصيدلية على أيِّ حال.»

دفع جيم إلى مُنتصَف الغرفة وأغلق المزلاج. وبينما كان في طريقه إلى رفِّ الطعام، وضع يده على جبينه ونفض عنه العرق. فتساقطت قطراته على الأرض مُحدثة صوتًا. ظل جيم الذي كان يتألم بشدة يُشاهد مات، وهو يأخذ علبة الخردل وكوبًا ويركض إلى الحوض. خلط الخردل بالماء في الكوب وشرب الخليط بالكامل. تبعه جيم وحاوَل أن يُمسك بيديه المرتجفتين الكوب الفارغ. لكن مات دفعه بعيدًا مرةً أخرى. وقال له وهو يجهز كوبًا ثانيًا:

«هل تظنُّ أن كوبًا واحدًا يكفيني؟ انتظر حتى أفرُغ.»

بدأ جيم يتَّجه نحو الباب، لكن مات رآه.

«إذا اقتربت من هذا الباب، فسأكسر عُنقك. أتفهم؟ يمكنك أن تأخذ دورك حالما أنتهي. وحتى لو أنقذك ذلك، فسأكسر عنقك على أيِّ حال. ليست لديك فُرصة للنجاة في كلتا الحالتين. لقد حذرتُك مرارًا مما سيحدث لك إذا غدرت بي.»

قال جيم بمشقة بالغة: «لكنَّك غدرت بي أنت أيضًا.»

كان مات يشرب الكوب الثاني ولم يرد. تصبَّب العرق حتى وصل إلى عيني جيم، وبالكاد استطاع أن يعود إلى الطاولة، حيث حصل على كوبٍ لنفسه. لكن مات كان يجهز كوبًا ثالثًا، ودفعه مرة أخرى كما فعل من قبل.

قال مات غاضبًا: «قلت لك أن تَنتظِر حتى أنتهي. ابتعد عن طريقي.»

حاول جيم أن يسند جسده المرتعش بالإمساك بالحوض، بينما كان يتوق إلى الخليط الأصفر الذي سيُبقيه على قيد الحياة. وقد استطاع ذلك بفضل إرادته وحدها. تهاوى جسده للأمام وكاد يسقط على الأرض. شرب مات الكوب الثالث، وتمكن بصعوبة من الوصول إلى الكرسي والجلوس. كانت النوبة الأولى في نهايتها. وكانت تشنُّجات جسده تهدأ. واعتبر أنَّ خليط الخردل والماء هو السبب في ذلك. لقد زال الخطر على أيِّ حال. جفَّف وجهه من العرق، وفي فترة من الهدوء، راوده الفضول. فألقى نظرة على شريكه.

كانت التشنجات قد أسقطت علبة الخردل من بين يدَي جيم، وانسكبت محتوياتها على الأرض. فانحنى ليضع بعض الخردل في الكوب، لكنه أصيب بنوبة تشنُّج ثانية طرحته أرضًا. ابتسم مات.

وشجَّعه قائلًا: «واصِل المحاولة. فهذا هو الترياق المُناسِب دون شك. لقد عالجني.»

سمعَه جيم واستدار ناحيته بوجه منكوب مُفعَم بالمعاناة والتوسُّل. وأخذ يُصاب بنوبة تلو الأخرى، حتى تشنَّج جسده بالكامل، فتدحرج على الأرض واصفرَّ وجهه وشعره بالخردل الذي تمرَّغ فيه.

ضحك مات ضحكة مبحوحة على منظر شريكه، لكن الضحكة توقَّفَت فجأة. فقد داهمته رعشة سرت في جسده بأكمله. كانت بداية نوبة جديدة. قام ومشى مترنحًا إلى الحوض، حيث حاول عبثًا استعجال القيء بوضع سبابته في فمه. وفي النهاية، تشبَّث بالحوض كما كان جيم متشبثًا به من قبله، وملأه الرعب من السقوط على الأرض.

كانت نوبة الآخر قد انتهت، فانتصب في جلسته واهنًا خائر القوى غير قادر على القيام من الأرض، وكان العرق يتصبَّب من جبهته، فيما كانت شفتاه ملطختَين برغوة صفراء بسبب الخردل الذي تمرَّغ وجهه فيه. أخذ يفرك عينيه بأصابعه، وخرج من حنجرته أنين أشبه بالنحيب.

سأله مات في ألم: «علامَ تبكي! كل ما عليك فعله هو الموت. وعندما تموت، تنتهي تمامًا.»

فأجاب جيم لاهثًا ببطء ويأس: «أنا … لا … أبكي … إنه … الخردل … قد دخل … في عيني.»

كانت هذه آخر جملة كاملة له. فبعدَها أخذ يهذي بكلام مُتقطِّع غير مفهوم، ويضرب الهواء بذراعيه المرتعشتَين حتى أصابته نوبة تشنُّج جديدة مدَّدته على الأرض.

عاد مات إلى الكرسي بشق الأنفس، وجلس عليه مُنكفئًا ومُحتضنًا ركبتَيه بذراعيه، وظل يقاوم انهيار جسده. وعندما انتهت نوبة تشنُّجه، كان باردًا واهنًا. ونظر ليرى ماذا حدث لجيم، فرآه مستلقيًا بلا حراك على الأرض.

حاول أن يُناجي نفسه ويأخذ المسألة بمرح، ويضحك ضحكة عنيدة أخيرة في وجه الحياة، لكن شفتَيه لم تُصدرا سوى أصوات متقطعة غير مفهومة. أدرك أن المُقيِّئ قد فشل في إنقاذه، وأنه ليس أمامه سوى الذهاب إلى الصيدلية. نظر ناحية الباب ووقف على قدمَيه بصعوبة. وعندئذٍ تمسَّك بالكرسي ليُنقذ نفسه من السقوط. لكنه أصيب بنوبة أخرى من التشنجات. وفي أوج النوبة، وبينما كان يشعر بأن كل أجزاء جسده تتفتَّت وتتلوَّى وتَلتحِم مجددًا، تشبَّث بالكرسي ودفعه إلى الأرض، واتَّكأ عليه لئلا يسقُط وهو يشقُّ طريقه إلى الباب. وعندما وصَل إليه، كانت آخر بقايا إرادته يتلاشى. تمكَّن من إدارة المفتاح وإزاحة مزلاج. ثم أخذ يتحسَّس الباب ليعثر على المزلاج الثاني، لكن بلا جدوى. وفي النهاية، استند بثقله إلى الباب وانزلق ببطء إلى الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤