المعاصرون العالميون

كتَّاب القصة القصيرة العالميون كثيرون بين الأمريكيين، ولكن أشهرهم بين أبناء القرن العشرين ثلاثة، كلهم ولدوا فيه أو قبله بنحو سنتين، وكلهم يتناول بالقصة القصيرة مسائل كبرى تعم بني الإنسان، ولا تخص البيئة الأمريكية عامة أو البيئة الأمريكية في إقليم من أقاليمها.

هؤلاء الثلاثة هم: فولكنر المولود سنة ١٨٩٧، وهمنجواي المولود سنة ١٨٩٨، وشتاينبك المولود سنة ١٩٠٢، فهم جميعًا كما تقدم من ناشئة القرن العشرين.

•••

ولد وليام فرنسيس فولكنر في أكسفورد بولاية مسيسبي من ولايات الجنوب، ونشأ في أسرة زراعية خملت بعد نباهة وثراء، فلم ينتظم في التعليم، وتغير اتجاهه بين الصناعات غير مرة في تعليمه الأول، فلما نشبت الحرب العالمية الأولى تطوَّع مع فِرقة الطيران الكندية، ثم قاتل في الميدان الفرنسي مع فِرق الطيران الإنجليزية، ثم عاد إلى وطنه بعد الحرب، فحضر بعض الدروس في الجامعة نحو سنتين، وعمل كاتبًا بمصلحة البريد من سنة ١٩٢٢ إلى سنة ١٩٢٤، نَظَم في خلالهما الشعر، وأصدر ديوانه الأول واتجه إلى كتابة القصة الأولى سيرة محلية متتابعة تتمثل فيها أحوال الأسرة المتداعية من زُرَّاع الجنوب …

وليس من الحق أن تنسب شهرة فولكنر إلى سبب واحد، أو إلى أسباب عدة محلية من الأسباب التي تعني أبناء الأقاليم الجنوبية دون سواهم، فالواقع أن موضوعات فولكنر هي موضوعات القرن العشرين جميعًا، وإن كانت بيئتها محصورة في إقليم واحد، فقد شُغِل القرن العشرون في العالم بمشكلة العصبية العنصرية وتفاوت الأقوام بحسب الأصول البشرية، وشغل كذلك بمسألة الجنس ودراسة عوارضه من الوجهة النفسية، وشغل بمسألة الجريمة وطبيعة الإنسان أمام نوازع الفطرة ودواعي المجتمع، وشغل بكيان الأسرة ومتاعب الثروة في بيئات الزراعة والصناعة، وما يلازم كل بيئة من ضرورات الاقتصاد والاجتماع، وهذه الشواغل جميعًا تعرض لفولكنر في قصصه الصغيرة وملاحمه الكبيرة بغير قصد إلى الدعاية أو لشرح المذاهب والآراء من طريق الحوار والتعليق، فمزيَّة فولكنر الكبرى أن مشكلة الحياة عنده «إنسانية» ملازمة لطبع الإنسان وكيانه، فردًا متشابهًا أو متقاربًا في كل مجتمع وكل حقبة، وقد منحته لجنة نوبل جائزتها عن سنة ١٩٤٩ وقالت عن سبب اختصاصه بها إنها تمنحها إياه «لقوته واستقلاله الفني …» وقال هو في خطابه الذي ألقاه عند تسليمه الجائزة: إن «العاطفة الإنسانية» هي مدار كل عمل باقٍ من أعمال الفنون.

نشأ فولكنر شاعرًا كمعظم أدباء الجنوب في نشأتهم، ثم اصطدم خياله بغاشية من اليأس، وراعته رذائل العيش وجرائمه، فصورها كما هي غير ملطفة بمس الرجاء أو مغالطة الفكر والشعور، إلا أنه قد ثاب إلى شيء من الثقة بالإنسان، كما يؤخذ من خطابه في لجنة نوبل، ومن مضامين كلامه في «الصلاة على روح راهبته». وخلاصة ما ثاب إليه الإنسان جدير أن يتغلب، وليس قصاراه أن يصبر ويبقى، وأنه يبلغ سلام الروح من طريق الألم والمحنة وجملة قوله: «إنني أرفض أن أتقبل نهاية الإنسان …»

قال الكاتب الفرنسي مارسل إيميه Aymé في فصلٍ كتَبَه عما يراه القراء الفرنسيون في فولكنر: «في هذا البلد حين يصفُ كاتبٌ متدين مثل مورياك صورة الآلام الإنسانية القانطة، ترى أن الأبطال حلَّ بهم البلاء لأنهم لم تحضرهم بركة الله، وأن الألوان أمامك قاتمة حالكة في واقع الحياة، إن الله على العموم غائب من تلك المشاهد في رواياته، أما في قصص فولكنر فالأمر على خلاف ذلك؛ كلما تجسمت القسوة والشناعة وسفك الدم في تصوير أبطاله كان الشعور بوجود الله أمسَّ وأدنى …»

•••

أما زميل فولكنر في الشهرة العالمية — إرنست ميلر همنجواي — فقد ولد بولاية إلينوي وتعلم بمدارسها، وانتظم في سلك التعليم إلى الدراسة الجامعية، واشترك في الحرب العالمية الأولى مع فِرقة الإسعاف، ومارس الصحافة وكتابة القصة الكبيرة والصغيرة، وتطوع لتأييد الجمهورية في إسبانيا الأهلية، ونال من التقدير ما لم ينله كاتب قط في مثل سنه، فكتب النقاد والمعجبون عنه المصنفات المطولة يعلقون بها على سيرته وأسلوبه وسمات فنه وموضوعات قصصه. والراجح في رأينا أن همنجواي يعجب قراءه ونقاده بقوة شخصه فوق إعجابهم بجودة فنه، وأنه اتخذ في حياته مثالًا يقتدي به كل امرئ عالج أن يحل مشكلة الحياة بالفكر فلم يجد لها حلًّا حاسمًا يركن إليه بكل عقله وضميره، وقد يقال عنه إنه حل مشكلة الحياة بالرياضة الدائمة. وهي عندي تشمل حركة النفس وحركة الجسد ومذاهب العرف والأخلاق. فكن «رياضيًّا» في سلوكك ولا عليك بعدها أن تهتدي بفكرك إلى الحل الذي يبطل فيه الخلاف، وخالف إن شئت من شئت ولكن كما يختلف الرياضيان، فلا يتطلب أحدهما من نفسه أن يكون على الحق كله، ولا يتهم خصمه أنه يتأثر بالخطأ كله … وليس معنى ذلك أن همنجواي لا يفكر ولا يستخدم فكره، وإنما معناه أنه يعتمد على الفكر فيما يمكن عمله، وفيما يترجمه بفعله، حركة أو عاطفة أو لعبًا تراض به النفس على نشاطها ولا يجدي في عرفه أن تتطلب من الفكر غاية وراء هذه الغاية، وحياته كلها تطبيق لهذا المذهب إن صح فيه أنه مذهب يضاف إلى المذاهب الفكرية، فهو يخرج للصيد ويصارع الثيران، ويطارد السباع في أدغال أفريقيا، ويجوب البحار والسهوب ليتمرس بمصارعة العناصر ومصارعة الحيوان، ويجعل عمله كله رياضة، كما يجعل رياضته عملًا حيثما استطاع، وهذه خطة جرى عليها منذ شبابه، ومكنته من الجري عليها قوة الحيوية في بنيته، ثم كادت تصبح عنده «دينًا» بعد أن تمرس بمشكلات الحياة.

ومما لا شك فيه أن أسلوبه الكتابي من أسباب الإقبال على مطالعته واستحسان فنه كيفما كان الموضوع.

ويأتي ثالث هذين نمطًا مخالفًا لكل منهما في أدبه ووجهته وسيرة حياته، فليست آفات النفس ورذائل المجتمع هي «شتاينبك» وهجيراه في قصصه كفولكنر، ولا هو ممن يغرقون شكوكهم وقضاياهم العقلية في دوامة من الحركة الرياضية كهمنجواي، ولكنه يكتب أحيانًا ليصلح كما صنع بروايتيه «عناقيد الغضب والمعركة المريبة»، وكلتاهما كان لها أثر عاجل في إنصاف العمال المهاجرين بكاليفورنيا، ويكتب أحيانًا ليثير الثائرة على طغيان الفتح والاستبداد كما صنع بروايته «القمر ينزل» التي حيَّا بها الأمة النرويجية في مقاومتها للسيطرة النازية. وأبطاله كلهم أرضيون واقعيون تتساوى عنايته بهم على اختلاف الطبقات، وهو مع مساهمته في تأييد بعض المذاهب ومقاومة بعضها لا يذهب إلى حدِّ الاستغراق والحصر، سواء أكان من المناصرين أم من المنكرين، وقد زار روسيا واصطحب معه مصورًا خاصًّا لالتقاط المناظر والشخوص، ثم كتب رحلته فلم تعجب أنصار المذاهب ذات اليمين ولا ذات اليسار، وكتب في ختامها يقول إن اليساري يحسبها حملة على روسيا، واليميني يحسبها تشيعًا لها وتعصبًا على ما عداها، ولا بد أن يقال فيها شيء كهذا لأنها سطحية، أما خلاصة القول في الروسيين فهم ناس كسائر الناس، بينهم أشرار ولا ريب، ولكن الطيبين من جمهرة الشعب أكثر من الأشرار.

وربما كان من أسباب القبول الذي يناله بين القراء أنه يروي الحسن كما يروي القبيح، ويصور خشونة الحياة وفظاظتها كما يصور طيبها ورفاهيتها، ويحتفل ببلاغة التعبير أحيانًا، ويجنح به إلى مسحة من الرمزية أحيانًا أخرى، وقد يكون الإعجاب به وبزميليه علامة على وجهة واحدة في تفكير قرائه وأحاسيسهم، فإن الإعجاب بهم جميعًا دليل على إفلاس الدعوة إلى مذهب واحد من المذاهب التي تحاول حل مشاكل المجتمع وتفسير ألغاز الحياة. وشتاينبك — على الخصوص — يثبت الألغاز كما هي ويزينها بالجانب الفكاهي والجانب الساذج على الفطرة في شخوص رواياته وأبطال رحلاته، ومنهم من يتكرر في سلسلة من القصص الصغيرة، كالصبي الفلاح جودي بألاعيبه وثرثرته وفضوله فيمثل للقارئ صورة من صور الناشئة الريفية يكاد يلتقي بها في كل مكان.

ولد جون إرنست شتاينبك بكاليفورينا سنة ١٩٠٢، وتعلم بجامعة ستانفورد على غير انتظام، واستطاع بكتابته القصصية والصحفية أن يكون إقليميًّا وأمريكيًّا وعالميًّا في وقت واحد لأنه نظر إلى مسائلة من زاوية العطف الإنساني ولم يقيدها بحدود الإقليم والساعة، وإن كانت أزمات الكساد مدار حملة الإصلاح التي شغلته في أكثر من رواية كبيرة وأكثر من قصة صغيرة.

وقد اشتهر في العالم غير هؤلاء الثلاثة من الكتاب الأمريكيين طائفة كبيرة من الأدباء، ولكن هؤلاء الثلاثة في القصة الصغيرة «تشكيلة» كافية تحيط بكل متجه ملحوظ في العهد الأخير، وهم الطرف الآخر الجدير بأن يقابل في هذا العصر طرف الرواد والأقطاب من أمثال أرفنج وبو ومارك توين ودربزر من أواسط القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين.

(١) وردة لإميلي A Rose For Emily

بقلم: وليم فولكنر

١

لما توفيت السيدة إميلي جريرسون خرج لتشييعها عامة أهل المدينة، قام الرجال بهذا الواجب بعامل المحبة والاحترام لذلك الأثر الذي طوته يد المنون، وتبعهم النساء غالبًا بعامل الفضول لاستطلاع منزلها من الداخل، ذلك المنزل الذي لم يرَ فيه أحد منذ عشر سنوات، اللهم إلا خادمًا عجوزًا يجمع في هذا البيت بين مهنة البستاني وعمل الطباخ.

كان منزلًا كبير الأركان، مربع البنيان، ويخيل أنه كان فيما مضى متألق الجنبات، تزينه القباب والطنف ذوات الأبراج على طراز القرن السابع عشر، وقد أقيم في شارع كان يُعدُّ من أهم شوارع المدينة، إلا أنه قد طغت عليه الآن حظائر السيارات ومحالج القطن، وعفت على كل ما فيه، حتى تلك العناوين الفخام التي كانت تحل في ذلك الجوار … ولم يبق غير منزل السيدة إميلي الذي ظلَّ قائمًا على رغم البِلى في إصرار وعناد بين مركبات القطن ومضخات البترول: قذًى بين أقذاء … وها هي ذي السيدة إميلي قد رحلت من هذه الدار لتلحق بمن سلفوا من أصحاب تلك العناوين الفخام، وهم رقود في مقابرهم تحت أشجار الصنوبر الساحرة، حيث مثوى جنود الاتحاد الأمريكي الذين لاقوا حتفهم في معركة جيفرسون …

كانت العناية بالسيدة إميلي تقليدًا وواجبًا وضربًا من الرعاية، وفرضًا يتوارثه الناس في المدينة منذ عهد الكولونيل سرتوريس ذلك الحاكم الذي أصدر أمره ذات يوم عام ١٨٩٤ ألا تخرج إلى الطريق امرأة من الزنوج بغير ميدعة، وظل يعفي إميلي من الضرائب ويصرف لها معاشًا منذ مات أبوها، وما كان معنى هذا أن السيدة إميلي تقبل الصدقة، كلا. بل كان الكولونيل سرتوريس قد ابتدع قصة ليفهم الناس أن والد السيدة إميلي سبق فأقرض المدينة قرضًا وأنها تختار هذه الطريقة لسداده … ولم يكن لينخدع بهذه القصة غير رجل من ذلك الجيل الذي عاش فيه الكولونيل سرتوريس ولم يكن ليصدقها من النساء غير امرأة واحدة. فلما انصرم ذلك الجيل وجاء بعده جيل له أفكاره وآراؤه، وتغير الحكام ومشايخ البلاد، ظهر بعض التذمر من جراء هذا التدبير، فأنفذ إليها رجال الإدارة في بدء السنة إعلانًا يطالبونها بالضرائب، وحلَّ شهر فبراير ولم يظفروا منها بجواب، فأرسلوا إليها خطابًا يستدعونها إلى مكتب الحاكم في الوقت الذي يلائمها، فلما انقضى أسبوع كتب إليها الحاكم نفسه يطلب إليها الحضور لمقابلته، فإذا لم تستطع وتعذر عليها الحضور فإنه يرسل إليها مركبته، فجاءه ردها وهو مكتوب بحبر باهت على ورقة قديمة، وفحواه أنها لم تعد تستطيع الخروج، ثم أعادت الإعلان دون أن ترد على ما فيه.

دعَوْا إلى عقد اجتماع لشيوخ البلدة، فانعقد وتقرر أن يذهب إليها مندوبون منهم، فلما طرقوا بابها الذي لم يعبره قط أحد منذ انقطعت عن إعطاء دروسها في نقش الخزف قبل ثماني أو عشر سنوات، أدخلهم الزنجي الهرم إلى ردهة مظلمة تفضي إلى سُلَّم يؤدي إلى مكان أشد ظلمة، وكانت تتصاعد هنالك رائحة الغبار والعفن، ومن ثم قادهم إلى قاعة الاستقبال، وهي مفروشة بأثاث ثقيل مغطى بالجلد، فلما فتح شراعة إحدى النوافذ ظهر لهم ما في هذا الجلد من التشقق، فما كادوا يجلسون عليه حتى تصاعد عليهم التراب، وأخذت ذرات منه تطوف وسط الشعاع الوحيد الذي بدا من النفاذة، ثم ظهر أمام الموقد صورة على حمالة مذهبة للسيد والد إميلي.

فلما دخلت السيدة إميلي نهضوا واقفين: سيدة قصيرة ممتلئة في ثياب الحداد، تتدلى من عنقها سلسلة سميكة من الذهب، وتتوكأ على عصا من الأبنوس متوجة الرأس من الذهب، وكان هيكل جسمها ضئيلًا حتى إن ما يعد بدانة في غيرها يعد إفراطًا في السمن بالنسبة إليها، وقد بدا جسمها منتفخًا كأنما ألقي زمنًا طويلًا في ماء راكد، وكان لونها شاحبًا، وعيناها الضائعتان في غضون وجهها الممتلئ، كقطعتين صغيرتين من الفحم ركبتا في كتلة من العجين، تنتقل بهما من وجه إلى وجه، وهم يشرحون لها رسالتهم التي أُوفِدوا لتبليغها، لم تدْعُهم إلى الجلوس ولكنها وقفت بالباب وأصغت في هدوء إلى أن انتهى متحدثهم من حديثه، وقد استطاعوا أن يتسمعوا دقات ساعتها وراء سلسلتها الذهبية.

قالت وفي صوتها جفاف وبرودة: ليس عليَّ ضرائب في جيفرسون، بهذا أخبرني الكولونيل سرتوريس، ولعل أحدكم يرجع إلى سجلات المدينة، ويقنعكم بما يجده هنالك.

– ولكننا فعلنا، ونحن السلطة التنفيذية في المدينة يا سيدة إميلي … ألم يصل إليك إعلان بذلك من الحاكم موقع عليه بخاتمه؟

قالت السيدة «إميلي»: أجل لقد تسلمت ورقة ممن يعتبر نفسه الحاكم، ومع ذلك ليس عليَّ ضرائب في جيفرسون!

– ولكن ليس في سجلاتنا ما يدل على ذلك كما ترين، ويجب أن نذهب إلى …

– ليس عليَّ ضرائب في جيفرسون، ويمكنكم أن تسألوا في هذا كولونيل سرتوريس!

– ولكن يا سيدتي إميلي، إن الكولونيل سرتوريس قضى نحبه منذ عشر سنوات.

– ليس عليَّ ضرائب في جيفرسون على كل حال!

ثم ظهر الزنجي فأومأت إليه أن تقدم هؤلاء السادة إلى الباب.

٢

وهكذا تغلبت عليهم بخيلهم ورجلهم كما تغلبت على آبائهم منذ ثلاثين سنة في أمر الرائحة بعد موت أبيها بعامين وبعد أن هجرها حبيبها بأيام قليلة … وكنَّا نعتقد جميعًا أنه سيتزوجها.

لقد كانت بعد موت أبيها لا تغادر منزلها إلا في القليل النادر، وقلَّ أن رآها أحد بعد أن رحل عنها عشيقها، فكان بعض السيدات يجازفن ويعبرن عن رغبتهن في زيارتها، فلم يكن يسمح بالمقابلة، وقد خلا هذا المنزل من كل علامة من علامات الحياة، إلا ذلك الزنجي الذي كان شابًّا صغيرًا في ذلك الوقت، يدخل ويخرج وفي يده سلة السوق.

كانت السيدات في دهشة حينما انتشرت هذه الرائحة الكريهة من بيتها، وكثيرًا ما قلن: إن أي رجل يستطيع أن يقوم بتنظيف المطبخ. وهكذا كانت تلك الرائحة حلقة اتصال بين الدنيا الصاخبة اللاغبة وبين الأعزاء من آل جيرارسون.

وشكَتْ سيدة من الجيران إلى القاضي ستيفنسون حاكم المدينة — شيخ في الثمانين — فقال لها: «وماذا تريدين أن أفعل يا سيدتي؟»

قالت السيدة: تأمرها أن تزيل هذه الرائحة، أليس ثمة قانون؟!

قال القاضي: لا ضرورة لذلك فيما أرى، ولعله ثعبان أو جرذ قتله الزنجي وتركه في الفناء وسأخاطبه في ذلك.

وفي اليوم التالي تلقى شكويين أخريين إحداهما من رجل جاء يسترحم وهو متردد، وقال: «حقًّا إننا يجب أن نعمل شيئًا في هذه الرائحة يا سيدي القاضي.»

فأجابه: إنني آخر إنسان في العالم يقدم على إزعاج السيدة إميلي، إلا أننا نستطيع أن نعمل شيئًا.

واجتمعت في تلك الليلة هيئة — شيوخ المدينة — وهم ثلاثة من ذوي اللحى البيضاء ورجل أقلُّ سنًّا ممن ينتمون إلى الجيل الجديد.

وقال: من السهل علينا أن نرسل إليها أمرًا إداريًّا بأن تنظف منزلها ونعيِّن لها وقتًا لتنفيذ ذلك، وإلا …

وقال القاضي: «بئس ذلك الرأي يا سيدي، أيجوز أن نخاطب سيدة ونواجهها بتهمة الرائحة الكريهة؟!»

وفي الليلة التالية اقتحم أربعة اقتحم أربعة من الرجال عند منتصف الليل حديقة السيدة إميلي، وانسلُّوا إلى داخل المنزل كاللصوص يتشممون الرائحة في الطرق، والممرات، ومن النوافذ المطلة على مخازن الطعام، وأحدهم يبذر مادة مطهرة من حقيبة معلقة على كتفه، وانطلقوا إلى باب المخزن فرشوا به مقدارًا من الجير وكذلك صنعوا بسائر مباني المنزل من الخارج، وقد ظهر بصيص من النور من نافذة كانت مظلمة، وبدت وراءها السيدة إميلي ماثلة كالدمية بغير حراك وانسلُّوا من الحديقة بهدوء إلى ظلال شجر الخروب المصطف على طول الطريق، وقد اختفت الرائحة بعد أسبوع أو اثنين.

كان هذا والناس يأسون لحاها في الحقيقة، ويذكر أهل بلدتنا كيف جنت خالتها السيدة ديات، وكانت تعتقد أن آل جيرارسون يترفعون كثيرًا لما كانوا عليه من سمو المكانة، وأن أحدًا من الشباب لا يستحق أن ينال يد السيدة إميلي وأمثالها، وكنَّا منذ زمن نراهم في لوحة مصورة تبدو فيها السيدة إميلي رشيقة القد إلى جانب أبيها، وهو شيخ ضامر قد أسند ظهره إليها وحمل في يده سوطًا، وكأنما الباب من خلفهما إطار لتلك الصورة، ولكننا جعلنا نقول في أنفسنا: إنها حتى مع الجنون الوراثي في الأسرة ما كانت لتوصد الباب في وجه كل فرحة لو أتيح لها أن تتمها!

فلما مات أبوها وجدتْ أنه لم يبق لديها غير المنزل، وارتاح الناس لهذا المصير، ولكنهم استطاعوا أن يشعروا نحوها بالشفقة؛ إذ كانت قد تخلفت وحيدة معوزة، فاصطبغت عندهم بالصبغة الإنسانية، وإنها الآن تهتم بسحتوت يزيد وسحتوت ينقص، شأنها في ذلك شأن سائر الناس من المكدودين والفقراء.

وفي اليوم التالي تهيأت جميع السيدات للذهاب إلى المنزل لتقديم عزائهن ومعونتهن جريًا على العرف والعادة، فاستقبلتهن السيدة إميلي على الباب بملابسها اليومية، وليس على وجهها أثر من أمارات الحزن، وقالت لهنَّ إن أباها لم يمت، وظلت على ذلك ثلاثة أيام لم ينقطع في خلالها وفود من القساوسة والأطباء يحاولون إقناعها بوجوب التصرف في الجثة، وإنهم ليهمون باللجوء إلى سلطان القانون واستخدام القوة إذا هي لم تتراجع وتأذن لهم أن يدفنوا أباها على عجل!

ولم نقل آنئذ إنها مجنونة، بل اعتقدنا أنها خليقة أن تصنع ذلك؛ إذ كنَّا نذكر كل أولئك الفتيان الذين طردهم أبوها وعرفنا أنها — وقد صفرت يداها من كل شيء — ستعلق بذلك الخطيب الذي غرر بها كما يفعل سائر الناس.

٣

مرضت برهة، فلما رأيناها بعد ذلك إذا هي قد قصت شعرها وعقصته على زي الفتيات الصغيرات متشبهة بسمات الملائكة المرتسمة على نوافذ الكنائس الملونة، يجللها الحزن والوقار.

وكانت المدينة قد أتمت الاتفاق على رصف الطرق وقد بدئ العمل في الصيف بعد موت أبيها، وجاءت شركة المقاول الذي قام بهذا العمل بالزنوج والبغال والآلات البخارية، وعلى رأسهم رجل يدعى هومر بارون: رجل ضخم الجسم، أسمر البشرة، غليظ الصوت، عيناه سمراوان أخف من سمرة وجهه، وكان صغار الصبيان يتوافدون زرافات ليروه وهو يسوق الزنوج وينهرهم، وهم يغنون مع حركة المعاول صاعدة وهابطة!

وسرعان ما تعرف إلى الناس في المدينة، وحيثما سمعت الضحكات تجلجل متتابعة في الحي، فهي ضحكات هومر بارون بين رفاقه، ثم أصبحنا فإذا بنا نراه والسيدة إميلي يخرجان في نزهات الأصائل أيام الأحد تسير بهما مركبة خفيفة ذات دواليب صفراء تجرها الجياد!

عمَّنا الفرح بادئ الأمر لأن السيدة إميلي قد ظفرت بشيء من التسلية، وقال سائر الناس: «إن سيدة من آل جيرارسون بطبيعة الحال لن تفكر تفكيرًا جديًّا في رجل شمالي يعمل بقوت يومه.» إلا أن أناسًا ممن هم أكبر سنًّا كانوا يقولون: «إن الحزن لا يصح أن يجعل سيدة تنسى الكرامة والعرف وتتجاهلهما!» وينتهي بهم القول إلى أن السيدة إميلي يجب أن يزورها أقرباؤها، فإن لها أقرباء في «ألباما» قد قاطعهم أبوها من جراء ضيعة السيدة ديات — تلك المرأة المجنونة — فلم يعد ثمة اتصال بين العائلتين حتى إنهم لم يحضروا جنازته …

وما يكاد الرجال المتقدمون في السن ينظرون إليها ويقولون: «يا للمسكينة إميلي!» حتى يتهامسوا ويقولوا: «أتظنونها كذلك … وماذا تكون غير ذلك؟!»

ولا يفتأون يقولون: «يا للمسكينة إميلي!» وهم فيما كانوا فيه، وحفيف الديباج المخمل المقصب خلف الستائر المغلقة التي تحجب شمس الأصيل يوم الأحد، والركب يجدُّ، وحوافر الخيل تدوي في الطريق: يا للمسكينة إميلي!

ذلك وهي لا تُرى إلا رافعة الرأس حتى في حين كنَّا نرثي لحالها، كأنما تتقاضى الناس فوق ما تعودت أن تتقاضاه من قبل — كرامة تجدر بسلالة آل جيرارسون. كذلك كانت ترى حين اشترت سم الزرنيخ، وكذلك بعد أن مضى عام وهو يقولون: «يا للمسكينة إميلي!» وفي زيارتها يومئذٍ اثنان من أولاد عمومتها.

قالت للصيدلي: «أريد سمًّا» وكانت إذ ذاك قد جاوزت الثلاثين: هيفاء أنحف من المألوف، لها عينان سوداوان متكبرتان في وجه مشدود البشرة، كأنما تانِكَ العينان قد ركبتا فيه على مثال العيون التي تلمحها في وجوه حراس المنارات.

قالت: أريد سمًّا.

– أجل يا سيدتي إميلي، وأي نوع تريدين؟ ألأجل الفئران وما شاكلها؟ إنني محضره إليك.

– أريد أحسن ما لديك، ولا أسأل عن النوع.

وأخذ الصيدلي يعدد لها أسماء شتى: إن هذه الأصناف تقتل ما تشائين وإن كان فيلًا … ولكن ما هو النوع الذي تريدين؟

قالت السيدة إميلي: الزرنيخ، أليس هذا نوعًا جيدًا؟

– الزرنيخ؟ أجل يا سيدتي، ولكن ماذا تصنعين به؟

– أريد زرنيخًا!

وأخذ الصيدلي ينظر إليها وهي تنظر إليه وقد نصب إليه وجهها كالعلم، فقال: إذا كان هذا طلبك فإن القانون يفرض علينا أن نسألك ماذا تصنعين به؟

ولم تزد السيدة إميلي على أن نظرت إليه محملقة، وأمالت رأسها كأنها تريد أن تتمكن من مواجهته عينًا لعين، حتى مال بنظره عنها ومضى في إحضار الزرنيخ، ثم أرسله إليها مع الزنجي الذي يوزع الطلبات على أصحاب المنازل.

ولما فتحت الورقة التي لف فيها السمُّ وجدت مكتوبًا على الصندوق تحت علامة الجمجمة والعظام: «سمُّ فيران».

قلنا بعد يوم إنها تريد أن تبخع نفسها، وخيرًا ما تفعل … إنا كنا نقول حينما رأيناها أول مرة مع هومر بارون: «إنها ستتزوجه» ثم قلنا: «إنها تحاول أن تقنعه» لأن هومر نفسه قد صرح بأنه لا يهوى النساء، وكان معروفًا عنه أنه ينادم صغار الشبان في «نادي الوعل» ثم عدنا فقلنا: «يا للمسكينة إميلي»! وهي تمر خلف الستائر في المركبة اللامعة عصر يوم الأحد، وكانت السيدة إميلي رافعة الرأس وهومر بارون يضع على رأسه قبعة عالية وفي فمه سيجار، والعنان والسوط في يديه، يغطيهما قفاز أصفر.

أخذ النساء يقلن: هذا عار على المدينة ومثل سيِّئ لشبابها، أما الرجال فلم يشاءوا أن يتعرضوا للأمر، إلا أن النساء قد أرغمن القسيس على أن يستدعيها إليه؛ لأن أسرة السيدة إميلي كانت من أتباع الكنيسة الرسولية، فاستدعاها ولم يشأ أن يفضي بشيء مما دار بينه وبينها، ولكنه رفض مفاتحتها مرة أخرى، فلما جاء يوم الأحد التالي خرجا في المركبة وطافا في شوارع المدينة، فكتبت زوجة القس غداة ذلك اليوم إلى أسرة السيدة إميلي في ألباما.

هكذا رأينا أقرباءها يعدن إلى المنزل مرة ثانية، وتريثنا لنعرف ماذا سيكون، فلم يحدث شيء ما بادئ الأمر، ثم كنَّا على يقين بأنهما سيتزوجان لا محالة، وقد عرفنا أن السيدة إميلي كانت قد ذهبت إلى بائع الجواهر وطلبت منه بعض أدوات الزينة الفضية من لوازم الرجال، وعلى كل قطعة منها حرفا: ﻫ. ب. ثم اشترت بعد يومين جهازًا كاملًا من ملابس الرجال ومنها قميص للنوم، وقلنا حينئذٍ: «لا بد أنه قد تم زواجهما.» وكنا مسرورين بذلك فعلًا، لأن ابنتي عمها كانتا أحرص منها على رعاية العرف والسمعة، ولم ندهش حينما رحل هومر بارون من المدينة على أثر فراغه من رصف الشوارع، وخاب ما كنا ننتظره من ثوران زوبعة من القيل والقال بالبلدة، إلا أننا اعتقدنا أنه إنما ذهب ليستعد لاستقبال السيدة إميلي أو ليعطيها فرصة تتخلص فيها من ابنتي عمها — وكان هنا تآمر بينهما على السيدة إميلي التي كنَّا نناصرها جميعًا — ثم تأكدنا فيما بعد أنهن غادرن منزلها بعد أن قضين به أسبوعًا آخر.

قفل إلى المدينة هومر بارون كما كنَّا نتوقع بعد ثلاثة أيام، وأبصره أحد الجيران وراء الزنجي يقوده من باب المطبخ في غبش المساء.

ثم كان آخر عهدنا بهومر بارون وكذلك السيدة إميلي فترة من الزمن كان الزنجي يدخل خلالها ويخرج من المنزل والباب مغلق من آن لآخر، ومن آن لآخر كنَّا نراها تقف لحظة في النافذة كما فعلت عندما كان الرجال يلقون الجير … ولقد ظلت ستة أشهر محتجبة لا تظهر في المدينة، وكان هذا هو المنتظر كأنما كانت خصلة أبيها التي عطلت حياتها الأنوثية وراثة أقوى من أن تموت في جوانح سليلته!

فلما وقع نظرنا على السيدة إميلي أول مرة بعد ذلك كانت قد سمنت وشاب شعرها، وازداد الشيب مع السنين حتى صار — كما يقولون — في لون الملح والفلفل، وثبت على ذلك.

وحتى وهي في الرابعة والسبعين من عمرها عندما وافاها الأجل كان شعرها قويًّا حديدي اللون أشبه ما يكون بشعر الرجال الأشداء!

ومنذ تلك الآونة لبث الباب الأمامي مغلقًا إلا خلال أيام ستة أو سبعة لا يرى مفتوحًا، إلا فترة من الزمن حين بلغت الأربعين، وقد كانت في تلك الأيام تعطي دروسًا في نقش الخزف، وتتخذ لها مرسمًا في حجرة من حجرات الدور الأرضي حيث كانت بنات الخاصة من كريمات جيل الحاكم وحفيداته يزرنها بانتظام في المواعيد التي كنَّ يراعينها في زيارة الكنيسة أيام الآحاد ومعهن قطعة من ذوات الربع الريال لطبق الهدايا، وظلت إلى ذلك الحين معفاة من الضريبة.

وتولى الجيل الجديد شئون البلدة، ونمت التلميذات وكبرن، فانقطعن عن الدروس ولم يخلفهن أحد من أطفالهن ليذهب إليها بصناديق الألوان، وريشات التصوير والرسوم المقصوصة من مجلات السيدات، وهكذا أغلق بابها على آخر تلميذة من تلميذاتها، وظلَّ مغلقًا وهي لا تسمح لرجال البريد أن يضعوا على بابها لوحاتهم المعدنية وصناديقهم التي يودعونها ما يحملون من الخطابات.

وكنَّا نرقب الزنجي يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام، وهو يزداد شيبًا وانحناء، ولا يزال يقبل ويدبر بسلة السوق …

وفي كل شهر من شهور ديسمبر كنَّا نرسل إليها إعلانًا نطالبها فيه بالضرائب، فيرد بعد أسبوع بغير جواب، وكنَّا نراها من آن لآخر مطلَّة من إحدى النوافذ بالدور الأرضي، فقد كان الدور العلوي مغلقًا على الدوام، وكأنما هي وثن مكب في محراب، ولا نكاد ندري هل كانت تنظر إلينا أو لا، وهكذا عاشت من جيل إلى جيل عزيزة شكسة مستقرة.

ثم ماتت بعد أن دهمها المرض في منزل يعلوه التراب وتغمره الأشباح، ولم يكن ليشهد وفاتها غير هذا الزنجي، ونحن لا نعلم بمرضها ولا نسأل الزنجي شيئًا من أخبارها لأنه لا يكلم أحدًا، ومن المحتمل أنه كان لا يكلمها … وقد غلظ صوته وصدئ من الإهمال وقلة الاستعمال.

وماتت السيدة إميلي في حجرة من الحجرات الأرضية على سرير من الخشب الثقيل، ومطروح عليها ستار، ورأسها الأبيض ملقى فوق وسادة صفراء وقد تعفنت من القِدَم والظلام.

قابل الزنجي أول وفود السيدات على باب المنزل، وأدخلهن وهن يتهامسن وينظرن نظرات خاطفة ملؤها الفضول، وكان يسير قدمًا داخل المنزل وخارجه، ثم اختفى بعد ذلك. وحضرت ابنتا عمها على الأثر، وأقامتا الجنازة في اليوم التالي، وحضر أهل المدينة لينظروا السيدة إميلي في مرقدها الأخير تحت باقات الأزهار، وقد أطل على النعش وجه أبيها من صورته الماثلة هنالك يتأمله في عمق وأناة، والنساء يُولْوِلنَ في ذعر وأسًى، وبدا الرجال الذين قد تقدمت بهم السين، على سدة الباب وفي طرقات الحديقة، بعضهم يلبس الرداء الرسمي وبعضهم بغيره، وهم يتحدثون عن السيدة إميلي كما لو كانت معاصرة لهم، وربما قال بعضهم إنهم راقصوها، وهم يخلطون بين الزمن وسياقه الحسابي كما يفعل الشيوخ عادة؛ إذ يخيل إليهم أن هذا الزمن مرج طويل لا يعفو أبدًا ولا يمسه الشتاء، وإنما يفصل بينه وبينهم مدى السنوات العشر الأخيرات.

ونما إلى علمنا أن بالدور العلوي حجرة لم يرها أحد منذُ أربعين سنة، وأن هذه الحجرة يجب أن تقتحم، وقد تريث القوم حتى دفنت السيدة إميلي وتولوا فتحها.

وكان اقتحام الباب كفيلًا بانتشار التراب في كل جانب، وقد بدا كل ما في هذه الحجرة المؤثثة بجهاز العرائس، وكأنما عليه غطاء كثيف من أغطية النعوش هنا وهناك ستائر مهيأة للزفاف ناصعة اللون، ومناضد مغطاة، وأوانٍ بِلَّورية وأدوات الزينة من لوازم الرجال … تغيرت جميعًا حتى امَّحَتْ حروف الاسم المرقوم عليها، وعلاها كلها الغبار، وران عليها ظل كظل القبور … وبينها جميعًا طوق وقلادة كأنما خلعا أخيرًا، متروكين على التراب، ووضعت البدلة على كرسي مطوية معنيًّا بطيها، وتحتها الحذاء والجوارب … أما الرجل نفسه فراقدٌ على الفراش!

•••

وقفنا هنيهة ننظر إلى ذلك الوجه المكشر عن أسنانه معروقًا على جسم كان كأنما يتهيأ للعناق، ولكن خانة ذلك النوم الطويل الذي يبقى حين يذهب الحب ويطغى حتى على ملامح الهوى، ويخالس فراش الغرام، وقد تعفنت البقية الباقية من ذلك الحطام تحت ما تبقى من قميص النوم، واختلطت بالفراش الذي يرقد فيه، واستقر على الوسادة إلى جواره دثار من ذلك التراب الساكن الصبور.

ثم لمحنا على الوسادة رأسًا منخوبًا، فأقامه أحدنا ورفعه إلى الأمام، وقد غشاه ذلك التراب الهزيل الذي تجمد في خياشيمه، فوجدنا خيطًا طويلًا من الشعر الأبيض الحديدي اللون؛ شعر إميلي …!

(٢) زعيم الشعب

بقلم: شتاينبك

عصر يوم السبت، وقف بللي بك راعي المزرعة يلقي بقية الدريس الذي تخلف من السنة الماضية على سور المزرعة فتتلقفها بعض الماشية المتلهفة، وتنعقد في الأفق الأدنى سحائب من الغبار كأنها طلقات المدفع، تسوقها نحو الشرق رياح شهر مارس.

وكان يسمع حفيف الرياح في أعالي الأشجار، وقلما كانت نسمة منها تصل إلى بطون المزرعة ومنحدراتها، وخرج جودي الصغير من الدار وفي يده قطعة غليظة من الخبز والزبد يقضمها، وقد وقع نظره على بللي وهو يلقي بمجرافه بقايا العشب المتراكم، فنزل يخبط بحذائه في طريقٍ طالما حذروه من تلف الحذاء إذا سار عليه.

وبينا يمر بشجرة السرو انطلق منها سرب من الحمام الأبيض، ثم عاد فهبط عليها مرة ثانية، ووثبت من نافذة الكوخ قطة صغيرة في مثل ظهر السلحفاة، وهي تجري على ساقيها الصلبتين وتلتوي، وتنثني ثم تجري، فالتقط جودي حجرًا وهمَّ أن يقذفها به، ولكنها أجفلت قبل أن ينطلق الحجر من يده، فألقاه على شجرة السرو، فانطلقت منها الحمائم البيض ثم حلقت وعادت إلى مكانها كما فعلت أول مرة.

ووقف راعي المزرعة، وهو رجل كهل، فغرس مجرافه في الأرض، ورفع قبعته ثم مسح بيده على شعره وقال: لم يبق من هذا الدريس شيء لم تبلله الأنداء، ثم عاد فوضع قبعته على رأسه ومسح يديه الجامدتين إحداهما بالأخرى.

قال جودي: يبدو أن وراء هذا الدريس كثيرًا من الجرذان.

قال بللي: إن لوسي تزحف معها دائمًا حيث سارت.

– ربما دعوت الكلاب وتصيدت هذه الجرذان، بعد أن تزيل كل ما هنالك.

قال بللي: يقينًا تستطيع ذلك؟!

وحمل مجرافًا من الدريس المبلل وذرَّاه في الهواء، ولم تلبث أن وثبت معها جرذان ثلاثة، ثم اختفت تحت الدريس بسرعة، وتنفس جودي في ثقة وقال: هذه الجرذان السمينة المكتظة كانت مختفية في مكمنها تحت الدريس ثمانية أشهر، تنمو وتتكاثر وهي في حصن منيع من القطط ومن المصائد ومن السم ومن جودي كذلك! وقد اكتست لحمًا واكتنزت شحمًا، وازدادت عظمًا وهي في مأمنها، والآن أزفت ساعتها، فلا نجاة لها بعد اليوم.

وألقى بللي نظرة إلى التلال التي تحيط بالمزرعة وقال: قبل أن تقدُم على شيء يجب أن تستأذن أباك.

– أين هو الآن؟

– لقد ركب بعد تناول الغداء وذهب إلى أطراف المزرعة، وسرعان ما يعود.

قال جودي، وقد وثب إلى الأرض: لا أظنه يأبه لشيء من هذا.

قال بللي منذرًا وهو يعاود عمله: يحسن أن تسأله على أي حال، أنت لا تجهل أطواره.

إن جودي ولا شك يعرف تلك الأطوار، فإن والده كارل تفلن يصرُّ على استئذانه في كل ما يجري في المزرعة، عظُم أو صغُر، قلَّ أو كثر.

ولم يلبث جودي أن هبط على العمود الذي كان يستند إليه حتى تربع على الأرض، ورفع بصره إلى قطع السحاب التي تسوقها الرياح، وقال: أترى في الجو مطرًا يا بللي؟

– قد يكون، إن هذه الرياح تنبئ به وإن لم تكن من القوة بحيث تعجِّل بسقوطه.

– أجل، أرجو ألا تمطر حتى أقضي على هذه الجرذان اللعينة.

وألقى من وراء كتفيه نظرة ليرى وقع حديثه، إلا أن بللي ظلَّ منهمكًا في عمله، ولم يجبه.

ونكص جودي ملتفتًا إلى جانب الرابية حيث ينحدر الطريق، وقد غمرتها أضواء شمس مارس الخافتة، وبدت زاهية من بين أغصان الريحان رءوس العوسج الفضية، وقد أينعت زهرات الترمس الزرقاء وبعض شجيرات الخشخاش، وظهر في عرض الطريق إلى جانب الرابية كلبه الأسود «دبل تري. مت» يحفر برجليه جحر سنجاب فتتناثر الأوحال من بين ساقيه، وكأنه لا يعرف أن الكلب لا يستطيع أبدًا أن يتصيد السنجاب في جحره.

وبينما جودي يترقب الكلب الأسود إذا به يراه قد ثبت في مكانه وانصرف عن الجحر، وقد ألقى نظرة إلى الرابية حيث يمتد الطريق، فرفع جودي بصره كذلك فلمح بعد لحظة خلال السماء الشاحبة «كارل تفلن» ممتطيًا جواده، منحدرًا نحو الطريق الذي يؤدي إلى المنزل، وكان يحمل في يده شيئًا أبيض.

وانتصب جودي واقفًا على قدميه وصاح: هذا خطاب … ودلف مسرعًا نحو البيت، علَّ الخطاب يُتلى أمامه فيسمع ما فيه.

وصل إلى المنزل قبل أن يصل إليه أبوه، ثم دخل وسمع كارل وهو يترجل ويربت جواده ليصرفه إلى حيث يتلقاه بللي ويخلع عنه أدواته ويعيده إلى حظيرته!

جرى جودي إلى المطبخ صائحًا: ورد إلينا خطاب! فرفعت أمه رأسها من قدر الفول وقالت: مع من؟

– مع أبي، رأيته في يده.

ودخل كارل المطبخ، فسألته أم جودي: ممن الخطاب يا كارل؟

قال مُقطِّبًا: من أين علمت بالخطاب؟

فأومأت برأسها نحو الوالد: لقد أخبرني جودي الذي يزج بأنفه في كل شيء.

واضطرب جودي؛ إذ التفت أبوه إليه مشمئزًّا وهو يقول: إنه فضولي ثرثارة، إنه يهتم بأمر كل إنسان إلا أمر نفسه، ويزجُّ بأنفه الكبير في كل شيء!

ولان صوت السيدة تفلن وهي تقول: لا بأس، إنه لا يجد ما يشغله دائمًا … ومن عند مَن هذا الخطاب؟

قال كارل وهو لا يزال مقطِّبًا ملتفتًا نحو جودي: سوف أطيل شغله إذا لم يقلع عن هذه الأفاعيل.

ثم أبرز خطابًا مغلفًا.

– أظنه من عند أبيكِ.

فأخرجت السيدة تفلن دبوسًا من رأسها وفتحت الغلاف، وقد أبصر جودي عينيها وهما تجولان بين السطور، وأخذت تلخص ما فيه: يقول إنه سيبرح إلينا يوم السبت ليمكث بيننا بضعة أيام. «كيف ذلك ونحن في يوم السبت؟! لا شك أن الخطاب قد تأخر!» وأقبلت تتفحص خاتم البريد فقالت: لقد أُرسِل أول أمس، وكان يجب أن يكون هنا أمس، ثم التفتت نحو زوجها تستفسر متجهمة، وقد اكفهر وجهها غضبًا؛ إذ قالت: ما بالك مقطِّبًا؟ إنه لا يزورنا إلا لِمامًا!

فأشاح كارل محوِّلًا ناظره عن وجهها المغضب؛ فهو يستطيع أن يشتد معها في غالب الأحيان، إلا أنه لا يقدر على مواجهتها حين يتملكها الغضب.

وعادت تصيح به: ماذا أصابك؟!

قال متلعثمًا، وكان في تعليله شيء من الاعتذار قد يجدر بجودي بعض الأحيان: إنه كثير الكلام، كثير الكلام …

– وماذا في هذا الكلام؟ إنك أنت كذلك كثير الكلام!

– أنا ولا شك أُكثِرُ من الكلام أحيانًا، ولكنَّ أباك يتحدث عن شيء واحد لا يعدوه! وصاح جودي متوفزًا: الهنود الحمر واجتياز السهول!

فانتهره كارل في عنف وصاح به: اخرج أيها الفضوليُّ، اغرب عن وجهي.

فانصرف جودي من الباب الخلفي وأمارات الكآبة ترتسم على محيَّاه، وأغلق وراءه المزلاج حريصًا على الهدوء، ووقعت عيناه الخَجِلَتان على حجر يلفت النظر، فانحنى والتقطه، وجعل يقلبه وهو يسمع الحديث جليًّا من نافذة المطبخ المفتوحة، فإذا بأبيه يقول: ولكن جودي لم يعدُ الحقيقة، إن أباك لا يعرف إلا حكاية الهنود واقتحام السهول، سمعت منه قصة الخيول العاديات آلاف المرات، يعيد فيها ويبدي ولا يغيِّر حرفًا مما يحكيه.

قالت السيدة تفلن مغيرة لهجتها ترد عليه، حتى لم يتمالك جودي أن رفع بصره عن الحجر الذي كان يتأمله تحت النافذة، وكانت نبرات صوتها نبرات من يوضح ويلتمس المعاذير، وإن جودي ليعرف كيف تغير ملامحها وهي تحاول الإقناع: انظر إلى عادات أبي من حيث تنظر يا كارل. فقد كان ذاك هو الأمر الجلل في حياته، وهو أنه كان يقود القافلة ويجتاز بها السهول نحو الشاطئ، إن حياته لتنتهي بانتهائه من هذا العمل، وإنه لعمل عظيم وإن لم يطل.

قالت وهي توالي حديثها: تأمل كأنه خُلق ليقوم بهذا العمل، وإذا انتهى منه لم يبقَ أمامه إلا التفكير فيه والتحدث عنه، ولو بقي أمامه مكان يتقدم فيه نحو الغرب لتقدم. لقد طالما سمعته يقول ذلك، إلا أنه وجد أمامه البحر المحيط في النهاية، وهو يعيش الآن إلى جانب المحيط — المكان الذي وقف عنده.

قالت هذا، وكأنها أسرت كارل واستحوذت عليه بصوتها الرقيق!

فقال مصدقًا هادئًا: إني رأيته؛ رأيته يهبط فيلقي بنظرة إلى الغرب نحو المحيط، ثم يذهب إلى نادي «حدوة الفرس» في غيضة المحيط الهادئ ويظلُّ يتحدث عن الهنود وكيف كانوا يسوقون الخيل.

ثم أخذ صوته يرتفع قليلًا.

وحاولت أن تلفه وتعتقله بلهجتها مرة أخرى فقالت: إن هذا كل شيء لديه، ولعلك تصطنع معه قليلًا من الصبر، وتتظاهر بالإصغاء إلى حديثه.

ولكن كارل أعرض بوجهه متململًا وقال: على أية حال إن زاد الأمر عن الطاقة ذهبت إلى حجرتي في المزرعة، وجلستُ مع بللي هنالك.

ثم خرج من المنزل وأغلق وراءه الباب.

أما جودي فقد راح يزاول هوايته، ويضع الحبوب لصغار الدجاج ولا يطاردها، ويجمع البيض من الأوكار، ثم انطلق إلى المنزل ووضع في الصندوق حزمة من الخشب بالغ في تشبيكها حتى ملأه بوسق ذراعين، وانتهت أمه من المطبخ، وقلبت النار، ثم مسحت الموقد بريشة من ريش الدجاج، وأحدق جودي بنظره نحوها ليرى هل هناك ما يعوقه، ثم سأل: هل سيحضر اليوم؟

– هذا ما يقوله في خطابه.

– أليس من اللائق أن أذهب لاستقباله في عرض الطريق؟

قالت السيدة تفلن وقد وضعت غطاء القدر: يحسن بك ذلك، فقد يسرُّه أن يجد أحدًا في استقباله.

– إذن سأذهب للقائه.

وانطلق جودي يدعو الكلاب ويصفر لها في سرور وابتهاج: هلمي إلى الربوة؛ فرفع الكلبان ذنبيهما وجريا إلى عرض الطريق، واقتطف جودي أزاهير من الريحان الفضي الذي ازدانت به جوانبه؛ وربطها في يده، فانتشر أريجها في الفضاء، واندفع الكلبان يقفزان وهما يعبران الطريق وراء أرنب بريٍّ، ثم اختفيا عن جودي، وعادا أدراجهما نحو المنزل بعد أن اقتنصا الأرنب! وأخذ جودي يعدو ويجدُّ في السير فوق المرتفعات حتى وصل إلى المنحنى الذي يؤدي إلى الطريق، وكان هواء الأصيل يداعب وجهه ويعبث بشعره ويلعب بطيات قميصه، وهو يلقي نظرة على الآكام والرُّبى، حتى وصل إلى «وادي سالينا» الخصيب وبدت لعينيه مدينة سالينا تلمع نوافذها تحت أشعة الشمس الشاحبة، وظهرت تحته شجرة البلوط وقد غطَّاها سرب من الغربان حتى بدت سوداء بلونها، وأخذت تنعق بصوت واحد.

تتبَّع جودي بناظريه طريق القوافل الذي ينحدر أسفل المرتفع الذي يسير فيه حيث كان يبدو من جانب ويختفي من الجانب الآخر، وقد أبصر على هذا الطريق الممتد عربة تسير في بطء، يجرها جواد أشهب، ثم اختفت عن عينيه وراء الأكمة، جلس جودي على الأرض حيث تعود العربة إلى الظهور، والرياح تتناوح على ظهور الآكام، وقد أخذت قطع السحاب تغِذُّ السير نحو الشرق، وهنا بدت المركبة ظاهرة لعينيه، ووقفت، ثم نزل من مقعدها رجل يرتدي لباسًا أسود، فتمشى قليلًا حتى جاء إلى رأس الجواد، وأدرك جودي على بُعد أنه يخلع عنه العنان، فقد رآه يطأطئ رأسه إلى أسفل … وسار الجواد قدمًا والرجل يسير إلى جواره بخطًى وئيدة، فصاح جودي مبتهجًا وعدا نحو الطريق متجهًا إليه، وكان بعض السنجاب يقفز هنا وهناك، وقد نشر سنجاب منها ذنبه وجرى على الحافة، ثم انبرى كمن ينزلق على الجليد.

كان جودي يعدو ويحاول في كل خطوة يخطوها أن يقفز إلى نصف ظله، وسقط حجر تحت قدمه فزلت به إلى أسفل.

فلما وصل إلى حَنِيَّة صغيرة جرى حتى صارت بينه وبين جده وعربته مسافة قصيرة، وخفف الولد من جريه وتريث ثم سار متئدًا.

كان الجواد يتعثر في مشيته فوق تلك الآكام، وكان الشيخ يسير إلى جواره، وارتمت خلف شبحهما الكبير ظلال سود، كان على الجدِّ حُلَّة من القماش الأسود الخشن، وفي رجليه طماق من جلد العنز، وحول عنقه طوق منشًّى حوله قلادة سوداء، وقد حمل قبعته في يده، وبدت لحيته مطمومة وحاجباه المبيضان يتدليان فوق عينيه كأنهما شاربان، أما عيناه الزرقاوان فعليهما مسحة المرح الوقور، وتحفُّ بمرآه جميعًا سيمة صخرية يُخيل إليك أن تحريكها مستحيل، فإذا سكن جسمه تحوَّل إلى صخرٍ لن يتحرك ثانية، وإذا خطا فخطواته وئيدة ثابتة كل خطوة منها لا تخالف الأخرى في اتجاهها ولا تزيد ولا تنقص في اتساعها.

وما كاد جودي يظهر من جانب المنحنى حتى رفع جَدُّه قبعته مُرَحِّبًا قائلًا: هذا أنت يا جودي، أقادم أنت لاستقبالي؟! فاقترب جودي ثم عاد فأسرع وتقدم نحو الرجل الشيخ ومثل إلى جانبه يجر قدميه، وأجابه: أجل يا سيدي، إننا لم نتسلم خطابك إلا اليوم.

قال جده: كان ينبغي أن يصل بالأمس! كيف حالكم جميعًا؟

– إنهم على أحسن حال يا سيدي.

وتردد قليلًا ثم قال في خجلٍ: هل لك في صيد الجرذان غدًا؟

فأجابه الجَدُّ متهانفًا: صيد الجرذان؟! هل انحدر أبناء هذا الجيل إلى هذا الحضيض؟! إنني أعلم أنهم ضعاف، ولكني لم أكن أحسب أن سيبلغ من ضعفهم أن يتخذوا الجرذان صيدًا!

كلا يا سيدي، إنها لعبة فحسب، لقد ذهب الدرس وأنا أسوق الجرذان إلى الكلاب وأنت تراقب أو تضرب العشب قليلًا.

قال الجَدُّ، وأدار إليه عينيه الثابتتين المرحتين: إني أراك لا تأكلها؟ لم يصل الأمر بك إلى هذا الحد!

وقال جودي وهو يحاول أن يشرح له ما يرمي إليه: إن الكلاب تأكلها يا سيدي، ولا شك أنه ضرب من الصيد غير صيد الهنود.

كلا ليس الأمر كذلك، ولكن بعد أن خرج الجنود يتعقبونهم ويتصيدون أبناءهم ويحرقون أجرانهم، لم يكن ثمة فرق كبير بين هذين الضربين من الصيد!

وتسلقا المرتفعات فأخذ يهبطان إلى الوهاد وضوء الشمس يتقلص من فوق أكتافهما، ويقول الجَدُّ: لقد طلتَ يا جودي وأحسبك قد نموت نحو قيراط!

فأجابه جودي مزدهيًا: بل أكثر من ذلك، إنهم حينما قاسوا قامتي على الباب وجدوا أني زدت أكثر من ذلك، أحمد الله على كل حال.

قال الجَدُّ بصوته الأجش: قد يكون هذا … لعل عودك قد أصاب ماء غزيرًا فنما وترعرع، ولكن انتظر حتى تستوفي نموك ثم ننظر ماذا تكون؟

وألقى جودي نظرة عاجلة على وجه الرجل الشيخ يخشى أن يكون قد أساءه على غير قصد، ولكن عيني الرجل النافذتين الزرقاوين لم تُنْذِرا بشيء من العقاب أو تشيرا إليه بالزجر، واقترح جودي صيد خنزير.

– كلا، لست أدعك تفعله، إنما هو كلام تجره معي يا جودي، فما الساعة بموعد صيد.

– أتذكر الخنزير الذي كنا نسميه رايللي يا سيدي؟

– أجل إنني أذكر رايللي جيِّدًا.

– لقد قرض جحرًا من العشب فانهار عليه واختنق!

فأجاب الجَدُّ: إن الخنازير تفعل ذلك كلما أمكنها.

– كان رايللي خنزيرًا لطيفًا، وكنت أمتطي ظهره وهو لا يبالي.

وفُتِح باب من أبواب المنزل، وبدت لهما أم جودي على عرض الطريق تلوح بمئزرها مرحبة به، وبدا تفلن قادمًا من الجرن لاستقباله.

كانت الشمس قد اختفت من فوق الروابي، وطبقات الدخان الأزرق الذي ينبعث من المدخنة معلقة في الأفق الأرجواني، وقد وقفت السحب التي تسوقها الرياح فوق السماء بغير حراك.

خرج بللي بك من الحجرة وألقى على الأرض إناء من الماء والصابون، وكان من عادته أن ينظف لحيته في منتصف الأسبوع.

إن بللي يهاب الجَدَّ ويوقره، وكذلك الجَدُّ يقدره، ويقول: إن بللي من الأفراد القلائل الذين لم تفسدهم طراوة الترف في هذا الجيل، ويدعوه بالولد، وإن كان قد بلغ منتصف العمر.

وأسرع نحو المنزل، فلما وصل جودي مع جَدِّه كان الثلاثة في استقبالهم على باب الفناء، قال كارل: مرحبًا بالسيد، لقد كنَّا في انتظارك.

وقبلته السيدة تفلن على جانب لحيته، وجلست إليه في أدب، فربَّت براحته الكبيرة على كتفها، وصافحه بللي بهدوء وهو يبتسم ابتسامة عريضة من تحت شارب كأنه منسوج من التبن، ثم قال: سأذهب لأريح الجواد، وأرفع عنه الركاب.

وكان الجَدُّ يرقب حركاته وهو يروح ويغدو ويردد تلك الكلمة التي طالما رددها مئات المرات: هذا ولد طيب، إنني أعرف أباه «ذيل البغل» كما كانوا يسمونه، لا أعرف لماذا كانوا يسمونه «ذيل البغل» ألأنه كان يربط البغال؟

والتفتت إليه السيدة تفلن وقادتهم إلى داخل المنزل، وقالت: كم تقضي معنا يا والدي؟ لم تقل في خطابك.

فأجاب: لا أدري على التحقيق، قد أمكث أسبوعين، ولكنِّي على أي حال لا أخالني سأقضيهما.

جلسوا بعد هنيهة إلى المائدة يتناولون عشاءهم، ومن فوقهم مصباح تنعكس أشعته عليهم من صفحة القصدير يرفرف حولها الفراش والبعوض.

وأخذ الجَدُّ يقطع شطائر اللحم أجزاء صغيرة ويمضغها ببطء، ويقول: لقد جعتُ حقًّا، إن ركوبي إلى هنا هيَّج فيَّ ضراوة الجوع! وكذلك كنَّا ونحن نعبر البراري، كان يدركنا الجوع عاجلًا، فلا ننتظر حتى ينضج اللحم لنأكله، وكنت ألتهم قرابة خمسة أرطال من لحم الجاموس كل ليلة.

قال بللي: هكذا تفعل الحركة، لقد كان أبي عاملًا في الحكومة، وكنت أساعده وأنا صغير، وكنَّا نأكل معًا فخذًا من لحم الغزال.

قال الجَدُّ: إنني أعرف والدك، إنه رجلٌ لطيف، وأعجب كيف قَبِلَ أن يشتغل بربط البغال!

قال بللي: نعم كان يربط البغال.

ووضع الجَدُّ السكين والشوكة أمامه، ونظر حول المائدة وقال: أذكر أننا ذات مرة استنفدنا ما عندنا من اللحم.

وانخفض صوته وانبعث في جرس كأنه أخدود تشقه عباراته لنفسها دون قصد منه … قال: لم يصادفنا جاموس ولا وعل ولا أرنب، لم يصادفنا حتى ولا ذئب، وهنا يعمل الزعيم عمله، وما كان الزعيم يومئذٍ أحدًا غيري! وظلت عيناي ترقبان، أتعرفون لماذا؟ في هذه اللحظة كانت القافلة تتضور جوعًا، وأوشك رجالها أن يذبحوا الثيران التي نعتمد عليها! أتصدقون هذا؟! لقد سمعت أن قافلة أكلت لحم ماشيتها نيئًا! بدءوا بالوسط، ثم انصرفوا إلى آخرها فأكلوه، ثم قضوا على الأزواج الأولى فالأخيرة، وعلى زعيم القافلة أن يحول بينهم وبين ذاك.

ودخلت فراشة كبيرة إلى الحجرة فجعلتْ تحوم حول المصباح، وإذا بللي ينهض ويحاول أن يصطادها بكفيه، وبادر كارل فضربها وأمسك بها. واستطرد الجَدُّ في حديثه ولكن كارل قاطعه قائلًا: خذ قليلًا من اللحم فإنك لم تستوف عشاءك بعد هذا الجوع، إننا نوشك أن نأكل الحلوى.

وأدرك جودي أن سحابة من الغضب تعلو وجه أمه، وقال الجَدُّ وقد أخذ في يده الشوكة والسكين: إنني جَدُّ جوعان وسأتم لكم قصتي فيما بعد.

وإذ انتهوا من العشاء جلسوا إلى الموقد. فأخذ جودي يتفرس في وجه جَدِّه، ويتطلع إلى الملامح التي عهدها، وإلى رأسه الملتحي، وإلى عينيه وقد فارقتهما صرامته، وتوجه بهما إلى نار الموقد واضعًا أصابعه النحيلة فوق ركبته وهو يقول: لا أدري هل أخبرتكم بأن هؤلاء اللصوص قد ساقوا أمامهم خمسة وثلاثين جوادًا من خيولنا؟

قاطعه كارل قائلًا: أظنك رويت لنا ذلك، أليس هذا قبل أن تذهب إلى تاهواي؟

قال الجَدُّ وقد التفت التفاتة عاجلة إلى صهره: هذا صحيح، أظن أنني أخبرتكم بذلك.

قال كارل بقسوة: عدة مرات!

وتحاشى أن ينظر إلى عيني زوجته، وإن كان قد أحسَّ وقعهما، فقال: إلا أنني طبعًا أحب أن أسمعها مرة أخرى.

وعاد الجَدُّ ينظر إلى نار الموقد وقد فكَّ أصابعه المتشابكة، أما جودي فقد عاوده في تلك اللحظة شعور بالمهانة والانكسار، ألم يصفوه بالفضولي أصيل ذلك اليوم؟ لقد تسامى به الفضول إذن إلى أوج البطولة؛ فأنشأ يقترح على جَدِّه الحديث ويقول له: حدثنا عن الهنود.

وتسري الصرامة مرة أخرى إلى عيني جَدِّه فيقول: إن الأولاد يحبون دائمًا أن يسمعوا ما يقال عن الهنود، إنه عمل رجال، إلا أن الأولاد يشوقهم خبره، هل أخبرتك كيف أشرت بأن تحمل كل مركبة صفحة طويلة من الحديد؟

وكان الجميع في سكون شامل عدا جودي، فأجاب: كلا إنك لم تخبرنا.

قال الجَدُّ: حينما كان الهنود يهاجموننا كنَّا نقيم المركبات حولنا كالدائرة ونطلق عليهم النار من بين العجلات، وخطر لي أنه إذا وضعت في كل عربة لوحة من الحديد مخرقة تنفذ البنادق من خروقها، أمكننا أن نحمي بها المركبات فنصون حياة رجالنا، غير أنه ما من أحد في القافلة كان يعمل بهذه الوصية؛ إذ لم تسبقنا قافلة إليها قبل ذلك، فما بالهم يتكلفون مثل هذه النفقة التي لم تتكلفها القوافل الأخرى؟! على أنهم قد عاشوا حتى ندموا على إهمالهم لتلك الوصية.

وألقى جودي نظرة إلى أمه، فرأى ما ينم عنه وجهها، إنها لم تكن مصغية إلى شيء، وأبصر كارل يتفحص إبهامه، وبللي بك يرقب عنكبوتًا يزحف على الحائط!

كان صوت الجَدِّ قد تهيأ للإيقاع والإلقاء، وإن جودي ليعرف جيِّدًا مواقع كلامه: إنه ينقض كلما استعرض مواقف الهجوم، ويُشْجِي كلما ذكر الجراح، ويكاد ينتحب عند ذكر الموتى ودفنهم في البراري والسهول.

كل ذلك وجودي هادئ يرقب حركات جَدِّه، وعيناه الزرقاوان منصرفتان عنه، غير مكترث بالقصة، فلما فرغ من حديثه قوبل صمته بالخشوع والتوقير كأنه تخوم القصة التي تحق لها الرعاية والاحترام.

وقام بللي بك فتمطى وأصلح من لباسه، وقال: «لعلي أعود» ثم توجه نحو الجَدِّ وقال: «إن عندي بندقية ومسدسًا لعلك رأيتهما!»

وهزَّ الجَدُّ رأسه وقال: أظن ذلك يا بللي، لقد ذكَّرْتَني ببندقية كانت لديَّ حين كنتُ أقود القافلة، وجلس بللي ساكنًا حتى انتهت القصة، فحيَّاهم وانصرف من المنزل، وحاول كارل أن يغيِّر مجرى الحديث فقال: كيف حال الطريق من هنا إلى مونترو؟ سمعت أنه طريق يابس.

وأجاب الجَدُّ: إن الطريق ليابس حقًّا وليس في إقليم اللاجونسكا قطرة واحدة من الماء، ولكن العهد بعيد من عام ٨٧، حيث كانت الأرض جميعها شعلة من البارود، وفي عام ٦١ ماتت الذئاب عن آخرها من شدة الجوع وارتفعت درجة الأمطار حتى بلغت ١٥ قيراطًا في هذه السنة، أجل حدث كل هذا آنفًا وفي وسعنا الآن أن نكتفي بالتعليل.

واستقرت عينا كارل على جودي فأشار إليه قائلًا: ألا تذهب إلى فراشك؟

ووقف جودي ممتثلًا، وقال: هل لي أن أبيد الجرذان التي في الدريس يا سيدي؟

– الجرذان؟ أجل، اقتلها جميعًا ولا تبقِ ولا تذر؛ إن بللي يقول إن الدريس قد أزيل ولم يبقَ منه شيء.

وتبادل جودي وجَدُّه نظرات خفية راضية، وقال متوعدًا: غدًا سأقضي عليها.

رقد جودي في فراشه يسبح بخياله في ذلك العالم العجيب، عالم الهنود والعجول، ذلك العالم الذي ذهب واندثر إلى غير رجعة، ما كان أشوقه أن يعيش في ذلك العصر الحافل بالبطولة والأبطال! كان يعلم أنه لم يخلق من معدن البطولة، وليس أحد من معدنها يعيش الآن خلا بللي بك، فإنه يستطيع أن يضطلع اليوم بما كانوا يفعلون بالأمس.

جِيل من الجبابرة، كان يعيش في تلك الآونة، كانوا رجالًا بواسل أولي شجاعة لا تُعرف اليوم، ثم أخذت تطوف بذهن جودي صور السهول الشاسعة والمركبات التي تزحف كالديدان، وتصور جَدَّه وهو يمتطي صهوة جواد أبيض يتقدم القوم، فتمثلت في ذهنه تلك الأشباح الكبيرة التي سارت على الأرض أمدًا ثم اختفت أبدًا.

وعاد أدراجه إلى المزرعة لحظة فوقر في سمعه ذلك الصوت الثقيل الذي ينبعث من الفضاء الصامت، وسمع أحد الكلاب في حظيرته يحكُّ برغوثًا ويضرب بذراعه في الأرض، وعادت الرياح تهب وشجر السرو الأسود يتمايل ويتناوح مع تلك الرياح، ثم استغرق جودي في النوم.

واستيقظ قبل أن يدق جرس الإفطار بنصف ساعة، ودخل إلى المطبخ فرأى أمه تقلب الموقد فينبعث زفير النيران.

قالت: لقد استيقظتَ مبكرًا، أين تذهب؟

– سأخرج لاستحضار عصًا، وسوف نبيد نحن الجرذان اليوم!

– ما ذا تعني ﺑ «نحن»؟

– أنا وجَدِّي.

– إذن أنت قد طويته معك! وهكذا دأبك لا تزال تشرك معك أحدًا تتقي به اللوام!

قال جودي: سأعود عاجلًا، إنما جئت لأستحضر عصًا، وأعدَّ عدتي بعد أن نتناول طعام الإفطار، وأغلق خلفه الباب، وخرج فلاقاه جوُّ صباحٍ صاف برود.

كانت العصافير تغرِّد والقطط تنحدر من الأكمة وهي تتلوى كالحيات، وكانت هذه القطط الأربع تصطاد الجرذان في الظلام ممتلئة بلحومها، ولكنَّها مع ذاك تموء في ضراعة شوقًا إلى جرايتها المعهودة من اللبن!

وجرى الكلبان دبلتري مت وسماشر على حافة السور يؤديان واجب التحية بجدٍّ ووقار إلا أنهما لم يكادا يستمعان إلى صفير جودي حتى شالا برأسيهما وبصبصا بذنبيهما واندفعا إليه يتثاءبان، فربَّت جودي رأسيهما، ثم التفت إلى حزمة من العصيِّ واختار يد مكنسة قديمة وعودًا من الخشب، وأخرج رباط حذاء من جيبه وربط العصي بعضها إلى بعض؛ ليصنع منها مدقة وأدار سلاحه في الهواء ثم ضرب الأرض ليجرب متانة هذا السلاح والكلاب تثب وتعدو متوحشة إلى جواره.

ثم استدار جودي وسار إلى مكان الدريس ليلقي نظرة إلى ميدان المذبحة، إلا أنه سمع بللي يناديه وهو يجلس في هدوء على درج السلم الخلفي: خير لك أن ترجع، لم يبق إلا دقائق على موعد الإفطار.

فارتد جودي من وجهته ومشى ناحية المنزل، وأسند مدقه على درج السلم، وهو يقول: «سوف أُخرِج بها الجرذان، لا شك أنها قد سمنت وانتفخت، وكأني بها لا تدري ماذا سيحل بها اليوم!»

قال بللي متفلسفًا: «كلا، ولا أنت تدري ماذا يحلُّ بك!»

فاضطرب جودي لهذا الخاطر لعلمه بصدقه، وغابت عن خياله كل فكرة عن الجرذان وصيدها، ثم خرجت أمه من الباب الخلفي وطرقت الناقور، فانهارت كل أفكاره كومة واحدة!

فلما جلسوا على المائدة لم يظهر الجَدُّ معهم، وأشار بللي إلى كرسيه الخالي متسائلًا: «لعله بخير، ما أحسبه مريضًا.»

قالت السيدة تفلن: «إنه يتوانى طويلًا في ارتداء ملابسه وفتل شاربيه ومسح حذائه.»

وأخذ كارل يرشُّ السكر على العصيدة التي في إنائه، وهو يقول: إن الرجل الذي يقود القافلة يجب أن يُعنى بارتداء ملابسه.

والتفتت إليه السيدة تفلن وقالت: هه دع هذا أرجوك يا كارل، والتهديد في لهجتها أقرب من الرجاء، مما أثار كارل وأغضبه.

حسنًا كم مرة يا ترى سوف أجبر على سماع قصة الأطباق الحديدية وقصة الخيل الخمسة والثلاثين … ذلك زمان قد غبر، ما باله لا ينساه! إنه غبر واندثر.

وجعل كلما يتكلم يشتد به الغضب ويرتفع صوته، واستطرد قائلًا: ما باله يعيدها كرة بعد أخرى؟! لقد عبر السهول … نعم عبر السهول، حسن، هذا كله قد مضى وانقضى، وما من أحد يعنيه أن يستعيد هذه القصة مرارًا وتكرارًا.

وكان باب المطبخ مقفلًا، وجلس الأربعة على المائدة جامدين، ووضع كارل ملعقته على المائدة معتمدًا ذقنه بأصابعه.

وفي تلك اللحظة فُتح باب المطبخ ودخل منه الجَدُّ مبتسمًا وعيناه تغمزان، قال: «عِموا صباحًا!»، ثم جلس ينظر إلى صحفة العصيدة التي أمامه …

ولم يطق كارل أن يسكت دون أن يسأل: هل سمعت ما كنتُ أقول؟

فأنغض الجَدُّ رأسه قليلًا …

– إنني لا أعرف ماذا جرى لي! وإنني لا أعني شيئًا، إنما كان محض مزاح.

نظر جودي إلى أمه خجلًا، ورآها تنظر إلى كارل وهي تكظم أنفاسها، لقد كان الجَدُّ يعاني أشدَّ العناء، ويغالب نفسه مغالبة شديدة وهو يتكلم على هذا النحو إذ كان يحز في نفسه أن يرجع في كلمة واحدة … فأما أن يرجع فيها خجلًا فذلك مما لا يطاق!

ونظر الجَدُّ إلى جانبه وقال في دعة: وددت لو أنني أكفُّ عن هذا، وما أنا بذي جنَّة، ولستُ أبالي ما قلتَ، فلعله حقٌّ، ولعلي خليق أن أباليه.

قال كارل: لا شيء من هذا، لا شيء مما تظن، لقد قمتُ من نومي متوعكًا، وآسفُ لأنني قلت ما قلت.

– لا تأسف يا كارل، إن الشيخ الهَرِم قد يفعل ذلك أحيانًا، ولعلك على حق، إن أيام تلك الرحلات قد غبرت، وكان خليقًا أن تُنسى …

قام كارل وغادر المائدة ثم قال: لقد شبعت وسأذهب إلى عملي، ثم التفت إلى بللي قائلًا: كلْ كفايتك … وخرج مهرولًا، فالتهم بللي بقية الطعام وتبعه على عجل، ولكن جودي لم يغادر مقعده.

قال جودي: ما عدت تقول لي شيئًا من القصص.

– وكيف لا؟! إنني سأقول! ولكن حين أجد أذنًا صاغية.

– إنني أحب أن أسمعها.

– لا شك أنك تحب ولكنك صغير، وهذه القصص عمل رجال، وإن كان الأطفال يحبون الإصغاء إليها.

وقام جودي من مقعده، وهو يقول: سأنتظرك في الخارج يا سيدي، لقد أعددت عصًا جيدة للجرذان.

– اذهب فاقتلها أنت، إنني أفضِّل أن أجلس في الشمس.

– تستطيع أن تستعمل عصاي إذا شئت.

– كلا، سوف أجلس هنا لحظة.

والتفت جودي محزونًا، ثم اتجه إلى مكان الدريس فأخذ يشحذ همته بالتفكير في الجرذان السمان، ودقَّ الأرض بمدقته وانبرت الكلاب تلهث وتلتف حوله، ولكنه لم يستطع الذهاب، ولما عاد إلى المنزل وجد جَدَّه جالسًا على سُدَّة الباب متضائلًا شاحب الوجه؛ فانصرف جودي عما هو بصدده، وجلس على الدَّرج تحت أقدامه.

– لقد عدت أدراجك، هل قتلت الجرذان؟

– لا يا سيدي، سأقتلها في يوم آخر.

وكان الذباب الذي يدب في الصباح يغمر الأرض والنمل يسير على الدَّرج، ورائحة الريحان تنبعث من الرابية، وخشب البوابة دافئًا تحت أشعة النهار.

ولم يكن يعرف جودي متى استأنف جَدُّه الكلام، ولكنَّه سمعه وهو يقول: أما والحال حالنا، فليس لي أن أمكث هنا.

وجعل يتفحص يديه القويتين، ثم قال: أحسب تلك الرحلات لم تكن تستحق أن ترحل. وتحركت عيناه إلى جانب التل فاستقرتا على صقر جاثم على شلو ميت، وعاد يقول: إنما أقص هذه الحكايات، وما هي بالذي أعنيه وإنما أعني أن أرى ماذا يجول في خواطر الناس حين يسمعونها.

لم يكن المهم شأن الهنود … كلا، ولا تلك المغامرات … كلا، ولا مَخرجي منها إلى حيث ترونني في هذا المكان، إنما كان الخطب خطب كتلة من أبناء آدم تجمعت في شبه حيوان ضخم يزحف هنالك، وكنت أنا رأس ذلك الحيوان … كان همُّنا جميعًا أن نضرب ونضرب، وكان كل منهم يتمنى شيئًا لنفسه، ولكن الكتلة الهائلة، ذلك الحيوان الضخم، لم يكن من همه إلا أن يضرب ويضرب … وكنت أنا الزعيم، ولكني لو لم أكن زعيمها، لكانه إنسان آخر، فلم يكن في تلك الكتلة الهائلة غنًى عن رأس.

«كانت الظلال تحت الخمائل مسودة حالكة في وضح النهار، فلما رأينا الجبال في النهاية مرحنا جميعًا، ليس الوصول إلى هنا هو المهم، إنما المهم هو التجوال والتغريب.»

«لقد حملنا حياتنا كأننا النمل التي تحمل بويضاتها وكنتُ أنا الزعيم، كان التغريب فكرة كبيرة كأنها إله، وتجمعت خطواتنا، وكانت تلك الخُطا التي خطوناها تتجمع وتتجمع حتى تمهد مسالك القارة.»

«وهنا وصلنا إلى البحر وانتهى كل شيء.»

ثم وقف ومسح عينيه حتى احمرت جفونهما: «هذا ما يجب أن أقوله بدلًا من القصص.»

ولما قال جودي: «أتراني مستطيعًا أن أقود الناس كما قدتَهم يا جدِّي؟»

ابتسم الرجل وقال: «لم يبقَ ثمة مكان تذهب إليه، إن المحيط أمامك، وعليك أن تقف عنده، وإن هنالك صفًّا من الرجال الشيوخ الذين في مثل سني يقفون على طول الشاطئ وهم يكرهون المحيط؛ لأنه صدَّهم عن العبور …»

– «ألا أعبره في الزوارق والسفن؟»

– «لم يبقَ أمامك مذهب يا جودي، لقد أُخِذ كل مكان، كلا، ليس هذا أسوأ ما فيه، إن فكرة التغريب قد ماتت في نفوس الناس، لم تعد هناك شهوة إلى التغريب بعد أن انتهى كل شيء، إن أباك على حق» وشبك أصابعه على ركبته وأخذ يتفرس في وجوههم!

واغتمَّ جودي غمًّا شديدًا وهو يقول: إن أردت يا سيدي كوبًا من شراب الليمون ففي وسعي أن أهيئه لك، وكاد جَدُّه يرفض ولكنه آثر أن يوافقه، وقال: والله إنه ليحلو أن نتناول كوبًا من الليمون الآن … نعم إنه ليحلو.

وأسرع جودي إلى المطبخ حيث كانت أمه تمسح الصحفة الأخيرة من صحاف الإفطار، وسألها: هل لديك ليمونة لأصنع كوب شراب لجدِّي؟ وابتسمت أمه محاكية، وقالت: ليمونة أخرى، لتصنع كوبًا لأجلك أنت!

– كلا أنا لا أريد يا أماه.

– أنت مريض يا جودي.

ووقفت فجأة، وقالت بصوت وديع: خذ ليمونًا من الثلاجة، وسأحضر لك العصارة ههنا.

ملاحظة

تمت هذه المجموعة الأولى من «ألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي»، وقد توخينا في اختيارها أن تشتمل على مثال من كتابة كل أديب معروف من كتَّاب هذه القصة، فلم تخلُ من آثار أحدهم إلا لضرورة تقضي بها حقوق التأليف والترجمة، وفيما عدا ذلك نرجو أن تكون المجموعة وافية بالدلالة على القصة القصيرة في الأدب الأمريكي من عصر الاستقلال إلى العصر الحاضر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤