التصوف واللاأدرية

قلنا: إن التصوف هو المذهب القائل بالإلهام أو بالبصيرة، وإذا شئت فبالعلم الإلهي، أي بهذا النوع من المعرفة اليقينية الذي لا يعتوره شك ولا تعبث به سفسطة، ولئن كان هذا التعريف غير منطبق تمام الانطباق على حقيقة التصوف، فإنه ولا شك يرينا ما للمعرفة من أهمية، فتصفية الروح ليست غرضًا عند رجال الصوفية، إلا لأنها تمهد للاتصال بالله، ولا ريب أن معرفةً تأتي عن طريق الإلهام وتجيء عن طريق الألوهية، فإنها معرفة لا يتطرق إليها الهدم ولا تنهار أمام عواصف المنطق، بل هذه الأمور الصبيانية التي تجدها أحيانًا في كلام الصوفية لا تقل في ثبوتها عن البديهيات، وأنت تحاول عبثًا إذا أردت أن تبعث الشك عند الصوفي، أو تثنيه عن رأيه، إذ كيف يحيد عن فكرة يعتقد أنه تلقاها من الملأ الأعلى في فترة صفت فيها روحه وتطهرت.

من ذلك يكون اللاأدري شخص لا يعترف بحقيقة، أو لا يعترف بأن هناك طريقًا يوصلنا إلى معرفتها على فرض وجودها، وعبثًا تحاول أن تقنعه بعقيدة ما؛ إذ هو لا يقتنع إلا بالشك، ولا يرضى برأيه بديلًا، وإن يَدهش لشيء فإنما يَدهش لعدم اقتناعك أنت بفكرته التي يعطيك على صحتها البرهان تلو البرهان والحجة تلو الحجة، حتى لتعترف آخر الأمر بأن لرأيه وجاهته وقيمته.

يقين مطلق إذًا من جهة الصوفية وشك عميق من جهة اللاأدريين، اختلاف شاسع إلى تعارض وتضاد.

وبالرغم من أن محاولة التقريب وعقد الصلة بين هذين المذهبين تبدو لكثير من الناس مهزلة مضحكة، فإن الاختلاف بينهما أقل مما نتصور، ذلك أن الصوفية واللاأدرية يتفقان في المبدأ الذي بُنِي عليه كل منهما، أي إن الفكرة التي حدت بالصوفي إلى التصوف هي الفكرة التي حدت باللاأدري إلى مذهبه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن اللاأدرية نفسها كثيرًا ما تؤدي إلى التصوف، ونحن موضحون هذا فيما يلي:

كلنا يعلم أن هناك طريقين للمعرفة: هما الحواس والعقل، فمعرفتي بالشيء تنتج عن أني أراه أو أحسه إلخ، أو عن أني أستنتجه بدليل عقلي.

كثير من الناس، بل الأغلبية الساحقة منهم تأخذ المعرفة الناشئة عن هذين الطريقين كأنها قضية مسلَّمة لا تقبل جدلًا ولا يُحيط بها شك، ولكن في العالم أيضًا ذاك الذي يرى أنه ما دامت الحواس تخطئ فهي ليست أهلًا للثقة؛ إني أرى السراب فأحسبه ماءً، وتسيطر على فكري صورة من الصور وتقوى هذه السيطرة فأرى الصورة ممثلةً أمامي، والمريض يرى خيالات لا حقيقة لها، والخائف يرى أشباحًا ويسمع أصواتًا لا وجود لها، إن الأمثلة على ذلك لا تُحْصى، وكل يوم، بل كل فترة تعطيني دليلًا على خطأ الحواس، فهل بعد هذا أثق فيها أو أثق بمعرفة تأتي عن طريقها؟ كلا!١

بقي العقل إذًا، ولكن ما قيمته؟ كل ينتسب إليه ومع ذلك فلا تجد اثنين يتفقان، هذه المذاهب الفلسفية التي لا تكاد تُعد، كلها مبنية على العقل، كلها مؤسسة عليه وقائمة به، وكلها جذابة أخاذة تغري بقوة أدلتها، وتستولي عليك بصرامة منطقها، ومع ذلك كله فلا تكاد تتفق في شيء ما، ثم ماذا؟ ألم يبرهن أحدهم ببرهان عقلي منطقي على أن الأرنب لا يلحق السلحفاة، وآخر على أن السهم في سيره لا يتحرك إلخ، وأنت نفسك، أليست آراؤك في حالة التخمة غيرها في حالة أخرى، وفي حالة السرور غيرها في حالة الحزن، ثم البراهين التي ترى قوتها وتعتقد فيها وأنت في حالة السرور غيرها في حالة الحزن، ثم البراهين التي ترى قوتها وتعتقد فيها وأنت في حالة الحلم ليست أقل من أن يقال عنها إنها براهين عقلية، وهكذا إذا أخذت في تعداد الأمثلة على عدم مقدرة العقل فإنك لا تقف عند حد.

أخطأت الحواس فلا ثقة فيها، وأخطأ العقل فلا ثقة به، فهل معنى ذلك ألا سبيل إلى المعرفة الحقيقية؟ نعم يجيبنا اللاأدري، وسنمكث إلى الأبد محكومًا علينا بالجهل أو إذا شئت بعدم المعرفة الصحيحة.

ولكن الصوفي بعد أن سار هذه الخطوات كلها، ووصل مع اللاأدري إلى الشك في قيمة الحواس والعقل، وفي قيمة المعرفة الناشئة عنهما، يعود فيثبت المعرفة عن طريق آخر: هو الإلهام، أو البصيرة، أو العلم اللدني كما يقولون.

قطع الصوفي واللاأدري إذًا المرحلة الأولى معًا، فوصلا إلى الشك فرضي به أحدهما واقتنع بألا مطمح وراءه، وخطا الآخر خطوةً أخرى خطاها لا يضع لنفسه منطقًا أو منهجًا يسير عليه ليعتصم من الزلل الذي توقعه فيه حواسه ويوقعه فيه عقله كما يفعل الفلاسفة، وإنما ليصل إلى معرفة من طريق آخر لا يتسرب إليه شك.

لِنُلقِ الآن نظرةً على النفس الإنسانية، فنرى أنها لا تحب الإقامة على الشك، ولا ترغب في اتخاذ الإنكار مذهبًا وقاعدةً، وإنها على كثرة حبها للمعرفة وشغفها بالاستطلاع، تريد أن تجعل دائمًا اليقين قاعدة آرائها وأعمالها، ونرى أيضًا أن من أشق أوقات الإنسان تلك الفترة التي تضطرب فيها نفسه، وتتذبذب آراؤه ويختلط عليه الأمر، هذه الحالة تبعث في النفس الضيق والكآبة، فإذا اشتدت واستمرت سببت أحيانًا الانتحار وأحيانًا الجنون، ولكنها أيضًا في كثير من الأحيان تؤدي إلى التصوف، نعم، تؤدي إلى التصوف حيث يجد المتصوف ملجأً تستقر فيه نفسه، وتهدأ وتسكن، وحيث يجد اليقين والإيمان والعلم الثابت.

أما حالة الإمام الغزالي النفسية فقد كان متلهفًا على المعرفة محبًّا للاطلاع والدرس والبحث غارقًا في محيط الفلسفة والعلم، ولكنه مع كثرة اطلاعه لم يجد في المذاهب الفلسفية ما يرضيه، ولم يجد في العقلية المؤسسة عليها هذه المذاهب ما يقنعه، ورأى من العبث أن يبدأ في تأليف مذهب فلسفي جديد، ذلك حتمًا مصير ما سبق من المذاهب التي إن أخذت بإعجاب كثير من الناس، فإنها لا تَثْبُت أمام النقد الصارم؛ إذ ليس فيها من القوة البرهانية ما يُقنع.

ليس هناك إلا الشك واللاأدرية إذًا.

وفي الواقع شك الإمام الغزالي وشك في العقل وشك فيما ينتج عنهما من معرفة، أما نفسه فقد اضطربت، ونحل جسمه وضاق بالحياة، ولم يجد ملجأً ولا عاصمًا من هذه الحيرة إلا التصوف فولج بابه واطمأن إليه كما سنوضحه فيما يلي:

(١) الغزالي

هو أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، جادت به الحكمة الخالدة في مطلع عام خمسين وأربعمائة للهجرة، وتسع وخمسين وألف ميلادية ببلدة طوس من أعمال خراسان من أصل فارسي، وكان والده فقير اليد غني الروح، يكسب قوته من مغزله ومن قيامه بخدمة رجال الدين والفقهاء في مجالسهم وخلواتهم، وقد حاول بعض المستشرقين وفي طليعتهم العالم الألماني «وستنفليد» أن يثبتوا أن أسرته من أسر العلم الشوامخ، ولكن الحقائق التاريخية لم تذكر لنا دليلًا واحدًا يجرؤ على الثبات، ولم تحدثنا عن ماضي تلك الأسرة شيئًا يطمئن إليه النقد العلمي.٢

ولعل هذا الإحساس المُلِحَّ والرغبة النفسانية العنيفة في اكتساب المجد العلمي وتقديس الثوب الديني قد ورثهما الغزالي عن والده وإنما في صورة أخرى؛ فقد أُتِيح للولد ما لم يُتَحْ للوالد، ولعلنا في هذا الضوء نستطيع أن نفهم النَّهَم العجيب في الغزالي الذي يدفعه في إلحاح وإصرار إلى الاستزادة من العلوم والإقبال على المعارف.

ومات هذا الوالد والغزالي وشقيقه أحمد في مدارج الطفولة الأولى، فتعهدهما رجل صوفي فقير من أصدقاء والدهما الذي لم يترك لهما إلا صُبابةً من المال ضئيلةً، ولم يترك للصوفي إلا وصيةً واحدةً هي قوله: «كانت أمنيتي في الحياة أن أتعلم الخط فأريد منك أن تحقق أمنيتي في نجليَّ هذين.» وقد برَّ الصوفي بتلك الوصية فاهتم بها علمًا وخلقًا حتى نَفَذَت صُبابة المال التي تركها والدهما، فضاقت يده عن طعامهما والإنفاق عليهما فقال لهما: «اعلما أنني أنفقت عليكما ما كان لكما، وأما أنا فرجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فأواسيكما وأصلح حالكما، فما لكما ألا تلجآ إلى مدرسة؛ فإنكما طالبان للفقه عساه يحصل لكما مقدار قوتكما.»٣ حتى كان الغزالي يقول كلما عاودته تلك الذكرى: «طلبنا العلم لله فأبى إلا أن يكون لغير الله.»

وقضى الغزالي فترةً في إحدى مدارس العلم الديني في بلدته قرأ الفقه خلالها على «أحمد بن محمد الطوسي»، ثم جنحت به نفسه إلى الاستزادة من العلوم فهاجر إلى جرجان إلى الإمام العلامة «أبي نصر الإسماعيلي»، وفي جرجان ابتدأ الغزالي يكتب ما يتلقى من علوم أستاذه، ولكن يبدو أنه لم يستفد عقليًّا مما كتب أو استمع، بل كان يقرأ أو يكتب في نهم وسرعة دون عناية بالفهم والهضم، يدل على تلك القطعة الطريفة الساذجة المكتوبة بقلمه في اعترافاته التي أسماها «المنقذ من الضلال»، والتي تدل على تلك الفترة من حياته، قال: «قُطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتعقبتهم، فالتفتَ إليَّ مقدمهم وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، فقلت له: أسالك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد عليَّ تعليقتي فقط فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتبٌ في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علومها: فضحك وقال: كيف عرفت علمها وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم، ثم أمر بعض أصحابه فسلم إليَّ المخلاة فتركت تلك الحادثة في نفسي أثرًا كبيرًا وقلت في نفسي: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته وصرت بحيث لو قُطِع عليَّ الطريق لم أتجرد من علمي.»

وتلك القطعة التصورية من قلم الغزالي تدلنا على صفة كان لها أكبر الأثر في إعداده ورسالته، وهي تأثره العجيب بالجانب الديني الصوفي من الحياة، فهو يرى في جوابِ قاطعِ الطريق رسالةً سماويةً ونطقًا ربانيًّا لإرشاده في أمره وطرق تعليمه.

عاد الغزالي من جرجان إلى طوس، وانقطع انقطاعًا تامًّا كما يقول إلى العلم ثلاث سنوات حتى حفظ جميع ما درس واستوعب ما قرأ بحيث لو قُطع عليه الطريق وسُرق ما معه لم يتجرد من العلم والمعرفة، هذا، والعلم في نظر الغزالي كان خلال تلك المدة غير واضح المعاني، غير واضح الأهداف، فهو يدرس ويحفظ على طريقة عهده كتب الدين وآراء المذاهب والفقهاء ليكون يومًا ما من رجال التدريس أو القضاء، أو قد يسعده الزمان فيلتحق ببطانةِ عظيمٍ أو أمير أو سلطان.

ولكن تلك الروح العظيمة التي أُعِدت لغير ما يعدها صاحبها لم تقنع بما وصلت إليه من دراسات، ولم تطمئن إلى ذاك اللون من التعليم، بل لم تقنع بما أُلْقِي إليها من يقين؛ إذ هي تَنْشُد معاني أخرى وتتلمس بابًا إلى النور لم يزل خافيًا.

وضاقت معارف طوس بالغزالي كما ضاق بها، برحل إلى نيسابور إحدى مدن العلم والنور في عهده، وهناك اتصل بإمام الحرمين أبي المعالي الجويني عَلَم عصره في التوحيد والإلمام بمذهب الأشعرية وطرق الجدل والأصول والمنطق.

وفي نيسابور ابتدأت خطوط تلك النفس العظيمة تتكون وتتضح، وابتدأت آفاق الغزالي تتفتح وتتسع، فهو يشاهد فيها دنيا جديدة ومجتمعًا جديدًا مزدحمًا بأنفاس العلماء كما هو مزدحم بأنفاس الحياة.

وفي نيسابور ابتدأ إيمان الغزالي بعلم الفقه يضعف، كما أخذ إجلاله للعلماء يتضاءل، فهو يدرس ويستمع إلى آراء المذاهب، ويَعجب لتفرقها وتخاصمها كما يعجب لطرائقها في البحث والجدل، ويَعجب أكبر ما يعجب لخلوِّها من الروح والإيمان.

وفي نيسابور شاهد الغزالي ولامس أخلاق العلماء والفقهاء فإذا هي ضروب عجيبة من الرياء والنفاق وألوان مبتكرة من الجشع والتهالك على متاع الحياة، فشك الغزالي في أخلاقهم كما شك في علومهم، وبذلك انتهى إيمانه بالعلم التقليدي فأقبل على الفلسفة ينشد لديها الإيمان ويرجو عندها متاع العقل والقلب والروح.

ولكن الفلسفة خذلته أكثر مما خذله العلم التقليدي، فهو ينشد إيمان الروح، إيمان القلب، والفلسفة وإن أرضت العقل الحر أو العقل المعتز بنفسه أو العقل الذي لا يطيق الخضوع ويتعالى بالكبرياء فهي لا ترضي القلب الذي ينشد السلام ولا ترضي الروح التي تنشد الاطمئنان، فأضاف الغزالي شكوكًا جديدةً في الفلسفة إلى شكوكه القديمة في العلوم التقليدية.

ومن هنا تحرر الغزالي من كل قيد فكري كما تحرر من كل قيد يقيني، فانطلق حرًّا طليق الفكر ينشد الهداية بين المذاهب والنِّحَل، ويتلمسها في الشك تارةً، وفي التأملات الغامضة أخرى، غير مثقل العقل بميراث يقيده ولا مشغول اليدين بعلم خاص يُجِلُّه ويُكْبِره.

وأمسى الغزالي وأصبح فإذا به المتهكم الأكبر في جيله، وعرفته محافل العلم أستاذًا بارعًا متعمقًا في كل بحث مغرمًا بالمجادلات والمناقشات، ومغرمًا أشد الغرام بالتحطيم والتجريح، فلم يغادر مذهبًا من المذاهب لم ينقضه، ولم يَدَعْ فرقةً من الفرق بدون تجريح وإيلام.

وقد أُوتِي أسلوبًا بارعًا وقلمًا ساحرًا وعرضًا عبقريًّا، وتلك أسلحة فكرية رهيبة عظيمة الخطورة إذا وُضِعت في يد متهكمة مغرمة بالقتال والصِّيال مغرمة بالبحث والجدال علَّها تُرضي صياح الشك في أعماقها أو ترضي الظمأ إلى اليقين في روحها.

فلا عجب إذا رأينا ملاحم متتابعة متلاحقة شديدة الأوار تنشب بين الغزالي وجيله، وهي ملاحم أضافت إلى التراث الفكري كنوزًا من المعرفة لا يزال شعاعها واضح النور والسناء.

ونحن ننقل من كتابه «المنقذ من الضلال» قطعةً توضح تلك الفترة الثائرة من حياته وتهدي إلى طريقته في دراساته للمذهب، ومهاجمته للنحل والأفكار والعقائد، قال:

ولم أزل في عنفوان شبابي من راهقت البلوغ، وقد أنَافَت السن الآن على الخمسين أقتحمُ لُجَّة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض الجَسُور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لِأَمِيز بين مُحِقٍّ ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كُنْهِ فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومحاولته، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدًا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقًا إلا وأتجسس وراءه للتنبه إلى أسباب جرأته في تعطيله وزندقته، وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان شبابي، غريزةً وفطرةً من الله وُضعت في جِبِلَّتِي، لا باختياري وحيلتي.

تلك هي صورة الغزالي العالِم الباحث، وذلك هو الوجه الذي عُرِف به في نيسابور التي ارتبط فيها بصداقة روحية مع أستاذه أمام الحرمين حتى رشحه ليقوم مقامه في التدريس.

ولكن أستاذه وصديقه لم يلبث أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ففارق الغزالي نيسابور حزين القلب والروح، فارق الغزالي نيسابور وقد فقد الشعاع الروحي الأخير الذي كان يحبسه عن المغامرة الكاملة في الحياة، فارقها إلى بغداد ينشد فيها مجد الدنيا ومتاع الروح وليقارن فيها حظه بحظوظ العلماء والدارسين.

كانت حياة الغزالي منذ شعاعها الأول، حياةً فكريةً خالصةً، حياةً عازفةً عن الجاه ومتاع الحياة، وكانت نهاية تلك المرحلة أيامه الأخيرة في نيسابور.

وها نحن أولاء نشاهده في طريقه إلى بغداد، يحدث نفسه بوداع حياة واستقبال أخرى، فهو لم يلقَ في حياته الأولى سوى عذاب فكري متلاحق، بل لم ينعم ولم يذق إلا مرارة المعارك والخصومات الحارة بأحقادها ومتاعبها، ولم يمتع إلا بلقيمات غير دسمة ولا سائغة.

فِكْر متوثب لا يهدأ ولا يطمئن ولا يشعر بلذة اليقين، وعلم لم يُكسِب صاحبه ما يكسبه العلم لأهله في عهده من متاع الحياة ومباهج السيادة والحكم، فلِمَ لا يقذف بكل هذا وجه الفضاء؟ وإذا كان هذا الفكر المُلِحُّ في شكه، المُلِحُّ في ثورته، المُلِحُّ في تهكمه لا سبيل إلى إمتاعه وإرضائه فإن قسوة الحياة يمكن أن تُبدل بطيب المتاع وجمال المظهر وعزة الاتصال بالولاة وما فوق الولاة من الأمراء والملوك.

وبغداد في ذلك التاريخ مهوى أفئدة رجال العلوم وطلاب المغامرة وعشاق المجد، وفي بغداد يسوس الملك مغامرة عالم «نظام الملك» الذي ابتدع المدارس النظامية وأسسها على علوم السنة لينافس بها أزهر الفاطميين وليطاول بها علوم الشيعة التي تلقى في أزهرهم.

ومثل هذا الأمير في حاجة إلى عالم متفوق بارع في الجدل، بارع في الخصومة بارع في دعم الحجج والبراهين، براعته في نقض الحجج والبراهين.

والغزالي اللماح يُدرك مطلب الأمير ويُدرك ما يمكن أن يظفر به لدى الأمير.

ومن أجل هذا اعتزم أن يكون قدومه ضخمًا فخمًا لا يُنسى، واعتزم أن يطلع الأمير في اللحظة الأولى على مقدار نبوغه وبراعته في الحوار والجدل وتفوقه في المذاهب والنحل.

هذا، والحديث عن آراء الغزالي يتصل اتصالًا تامًّا أو يكاد، بالحديث عن ترجمة حياته، لأنه واحد من المفكرين الذين يكون تسلسل ترجماتهم هو بعينه تسلسل حياتهم الروحية، ولأن هذا الحديث يعين على كشف الولائج التي كونت الأفكار الغزالية، كما يعين على تفهم موضع الرجل من معاصريه، بل موقفه من خصومه، ويوضح حاصل رأيه وحاصل الرأي فيه، وإذا كان هذا شأن ترجمة حياة الغزالي كان لا بد من عرض قصير يسير لحياته، وإذًا ففي عام ١٠٥٩م/٤٥٠ھ يُولد الغزالي بطوس، ويتوفى والده فيكفله صديق لأبيه متصوف يأخذه بتعاليم الفقه وغيره، ولكن الغزالي الشاب يضيق بتعاليم الفقه في هذه الحدود الضيقة التي تدفعه إلى إمام الحرمين في نيسابور يتعلم عليه «الكلام»، ويدرس عليه المذاهب واختلاف اتجاهاتها، كما يدرس المنطق والجدل مما يشيع في نفسه لونًا من ألوان الحيرة التي تنبعث في القلوب الخصبة والعقول الكبيرة، حين تريد هذه القلوب وهذه العقول أن تتفتح، وحين تريد أن تفلت من أخطاء الجبابرة وما في جبروت هذا الخطأ من استبداد بالأفكار، ثم تأتي مرحلة يموت فيها إمام الحرمين فيتعرف الغزالي على إمام الملك الذي يعينه أستاذًا في المدرسة النظامية، وينصرف الغزالي إلى التدريس، كما ينصرف إلى الدراسة القوية النشيطة المنظمة التي توفرها له هدأة يسيرة من الحياة، والتي لا بد منها لمن يشتغل بالمعارف المنظمة والعلوم الفلسفية، فيدرس الرجل مؤلفات الفارابي ونتاج الشيخ الرئيس ويؤلف ما شاء له التأليف، ثم تأتي فترة يلح عليه فيها الشك إلحاحًا يقض هذا الهدوء، بل هذا الاستقرار ويدفعه إلى اليأس الحزين من قدرة العقل كوسيلة تنال بها حقيقة الدين فيترك التدريس والدراسة، ويخرج من بغداد خائفًا يترقب كأنما هذه الحيرة تتربص به أينما كان، فهو شاك حائر خائف لا يعرف أين٤ يذهب فكل الأرض وِجهته، يجاهد نفسه ألوانًا من المجاهدة، ويتحمس لرياضتها ضروبًا من التحمس فينطوي على نفسه انطواء يوشك أن يعزله في روحه عن عالم الشهادة، وإذا هو حيال هذا الكون المشهود لا ينفي ولا يوجب، فهو في دمشق وهو في القدس وهو في الإسكندرية، لعله بهذا يتعلق بسبب من أسباب السماء غير العقل الذي أيس منه سبيلًا إلى قرار اليقين وإصلاح أمور الدين، وهو أبدًا مشوق لأن يُكتب في عداد المجاهدين، وهو دائمًا يرجو أن يكون ممن «يرسلهم الله على رأس كل مائة سنة من المصلحين.»

وهو ينتهي من هذا إلى أن يُنَصِّب نفسه داعيةً من دعاة الإصلاح القائم على العمل والتنفيذ، فيؤلف كتابًا من أكبر كتبه يرجو به أن يعود مجد الدين أو يرفو به ما خرقته ألسنة الزنادقة والملحدين، هذا الكتاب هو كتاب «إحياء علوم الدين»، ثم هو يرى أن يعود إلى نيسابور فيواصل الإرشاد والدعوة والعبادة حتى يدركه الموت في طوس سنة ١١١١م/سنة ٥٠٥ھ، فيقع في الميدان كأي بطل من أبطال الفكر المجاهدين، فيخلع عليه المسلمون لقب «حجة الإسلام وزين الدين».

أما موضع الغزالي من معاصريه فإن هذه ترجمة حياة الغزالي التي ثقفناها ما أمكن التثقيف الذي يوائم حياته الروحية بحياته الزمنية، ويبدو معها الرجل وهو يسير مع الحياة يلقى فقهاء يقفون من الفقه عند حد النصوص، ومتكلمين يحاولون جاهدين مزج الدين بالعقل، أو قل يصبون الإيمان في صور عقلية يبدو عليها القلق والصنعة؛ لأنهم فيما يُحْتَمل أرادوا أن يصطنعوا لهذه المادة الروحية قوالب نظرية، فتخطَّفوا وجوه المذاهب الفلسفية في غير حذق وتريث، فجاءت شائهة ضاق بها الغزالي كما ضاق بها المسلمون زمنًا ما، ثم أيضًا غير هؤلاء وهؤلاء تنشأ في محيط الغزالي طائفة تتمشدق بالرياضيات والطبيعيات وتأخذ بحظ ما من المنطق والفلسفة اليونانية ممثلةً في القدر الهزيل من فلسفة أفلاطون وأرسطو الذي أذاعه الفارابي وابن سينا.

وهناك أيضًا فرقة أو أكثر تهيئ نفسها بأنواع من السلوك والمجالدة على الرياضة الروحية في لون من الخفاء والتستر حينًا، أو الفوضى والإباحة أحيانًا رجاء أن تطمئن وتطامن غيرها من طريق أسمى وأرفع من العقل، ويمثل هذه الطائفة معظم الفرق الصوفية.

هذه أظهر التيارات التي كانت تجري في القرن الحادي عشر الميلادي وصاحبنا لا يكاد يتبين نفسه منها ولا يكاد يفاضل بينها، على أنه يرى من حق نفسه عليه أن يدرس كل هذه الدراسات فيندفع اندفاعًا قويًّا إلى الدرس والتحصيل يتمثل في قوله: «أتهجم على كل مشكلة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل.»

فهو إذًا يدرس دراسة العارف المريد لا ليملأ نفسه إيمانًا على طريقة المقلدين الذين يعتقدون أن الإيمان تركة تورث ولا يتفيهق بالمنطق كالببغاوات، ولا يتفلسف ليملأ شدقيه تفخيمًا باسم أفلاطون الإلهي وباسم أرسططاليس المعلم الأول، إنما هو يدرس هذا وذاك ليتبين موضع الحق عند كل طائفة فيعينه، أو محلًّا للباطل فيحمل عليه، وهو حين يخاصم طافةً يحاربها بسلاحها ويقهرها على نفسها بأدلة من نوع أدلتها، أما هذه الطوائف فيدعوها بأصناف الطالبين وهي عنده أربعة أصناف:

(١) متكلمون يدَّعون أنهم أهل رأي ونظر. (٢) وباطنية يزعمون أنهم أصحاب التعليم المخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم. (٣) وفلاسفة يزعمون أنهم أهل منطق وبرهان. (٤) وصوفية يدعون أنهم خواص حضرة وأهل مشاهدة ومكاشفة ويقول: «إن الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة.» وأخذ يدرس معارف كل طائفة دراسةً أعانته على وسائل الخصام، بل جعلت للخصومة في حياة العقلية العربية قيمةً هامةً، ولكن ما مدى الخصومة وما حدود هذا الخصام؟!

الخصومة

… بل طريق الغزالي إلى المعرفة وسبيله إلى الحق كان يختلف اختلافًا بعيدًا أو قريبًا من هذه الطوائف ونظرتها إلى اليقين الديني، والسبيل التي يتأدى بوساطتها على نحو ما يعين مما أدى إلى أنه تارةً يقف مناصرًا لبعضها في ناحية من نواحي المعرفة، وتارةً نراه منازعًا، بل خصمًا مردًا عنيدًا لبعضها الآخر، مما جعل الخصومة تشتد تارةً وتفتر تارةً، ويفسر لنا هذا نظرة الغزالي إلى قيمة العقل واقتداره على معرفة الحق وهو يرتب هذه الطوائف على قدر نظرتها إلى العقل.

أما قيمة العقل في نظر الغزالي فيكفي أن يضعه في موضع أدنى من مرتبة الذوق والإشراق الذي بدونه يصبح اليقين الديني ضربًا من الاستحالة، بل هو يشك في قيمة العقل ويوجه إليه سهمًا لعله يصيب «عنده» العقل في المقتل وفي أعظم موضع يعتز فيه العقل بذاته وبطبيعته ما كشفه من قوانين، هذه الناحية التي ينقدها صاحبنا هي المعارف الضرورية، ويخص منها قانون السببية فيقول بالنص: «لعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل، فكذب الحس في حكمه وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته.» (المنقذ ص٧٢).

ومن هنا يمكن توقع نظرته إلى الطوائف السابقة «أصناف الطالبين» ومدى خصامه لكل منها.

فهو يرى أن المتكلمين كان غرضهم نصرة الدين والذب عنه بسلاح من البرهان والعقل، وعجز هذا العقل عن السمو بالعقائد الدينية إلى درجة اليقين، ولكنه رغم خصومته لهم كان يشفق عليهم، أليسوا مسلمين!

وهو أيضًا يقف للباطنية أصحاب الإمام المعصوم فيدرس آراءهم ويؤلف في عرضها والرد عليها، ويجود هذا العرض حتى يعاتبه أحد أصدقائه بأن هذا العرض يوقف الخصوم على ما غمض من مذهبهم في نظرهم، وطريقتهم في إبطال حجتهم هي طريقة مألوفة توسم بطريقة «الفناقل»، هو يزعم أن دعوى هؤلاء باطلة ضعيفة وإن عُدت قويةً، فهذه القوة ليست بالذات ولا من الذات، بل بالإضافة إلى ضعف حجة خصومهم فهي قوة معدودة وليست قوةً حقيقيةً، فينبري لهم هو خصمًا ألد يعرف كيف يقهرهم ويدل على فساد نظرتهم إلى معلم معصوم مزعوم، فليس هناك معلم غائب ولا هنا دعاة ينتظرونه، إنما المعلم هو محمد ودستوره كامل من يوم أن أنزل الله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وما يزال بهم حتى يشعر هو بالنصر ويقول في النهاية: «فلما خبرناهم نفضنا اليد عنهم.»

وهو مع المتصوفة يدرسهم ويدرس طريقتهم التي هي تصفية النفس وإرهاف الذوق بالعمل حتى يحصل الحال، فهو يدرس هذا ويعرضه، ويعيب عليهم بعض سلوكهم، ولكنه بعد هذا يأخذ مبادئ السالمية والكرامية ويزيل عنها بعض الغموض ويوسع جنباتها حتى تصبح عند أهل السنة دعامةً يمكن أن يقوم عليها صرح العلم في نظرهم، هذا شأنه مع المتصوفة ومسالكهم، أما شأنه مع التصوف فله معه حال بعد أن تتم جنبات الخصام، يعرض خصومته في أعلى صورها عند الفلاسفة وهم صنف من «أصناف الطالبين»، ولكن موقفه معهم وموقفهم معه لم يكن من السهولة واليسر كما كان مع بقية «أصناف الطالبين»، إنما هنا الخصام يتسع اتساعًا قويًّا حتى يكاد يلون أفكار الرجل جميعًا، ويستغرق معظم تفكيره، وهذه الفترة الحية من تفكير الغزالي حافز يستغرق الماضي من طرف، فهو ينازع أفلاطون وأرسطو من قبل وينازعه ابن رشد من بعد.

وعندنا أن لهذا الخصام في جملته غرضًا واحدًا له مظهران: فأما الغرض فهو أن يتزعم الغزالي حركةً قويةً ضد جملة المذاهب الفلسفية التي قامت في الشرق على أصول يونانية فيكسب بذلك نصرًا للدين ويُكتب في عداد المصلحين والأبطال المجاهدين، أما أن الغرض أخذ مظهرين، فذلك يبين من أسلوبه في النضال، فمن الناحية الأولى يدرس الغزالي المسائل الرئيسية التي يدور حولها حديث الفلاسفة عادةً ويعرضها عرضًا علميًّا رائعًا، يدل على دقة الفهم لما يقرأ، وقدرة العرض لما يفهم، فأنت تقرأ في «مقاصد الفلاسفة» فكأنما تطالع لمؤلف في الجيل الحاضر، فهو يعرض المنطقيات والطبيعيات والإلهيات كأحسن ما يكون العرض، ثم هو بعد أن ينتهي من هذا يشرع في تنفيذ الجزء الباقي أو المظهر الثاني لغرضه، وهو مناهضة هؤلاء الفلاسفة بالفعل، فيحاول أن يكشف عن تهافت حجتهم وفساد أدلتهم في كتاب قيم هو «تهافت الفلاسفة»، وطريقته في ذلك لبقة حقًّا فهو يصطنع لهم ما يصطنع القائد الماهر، فيحمل سلاحًا من جنس أسلحتهم «المنطق»، ويحصر موضع النزاع، ويقسم ميدانهم «طبيعيات ورياضيات وإلهيات ومنطقيات، ويضيف في المنقذ السياسة والأخلاق» ويتوزع — إن جازت الاستعارة — هذا الجيش على جناحين وقلب؛ أما الجناحان فهم طائفة الدهريين وطائفة الطبيعيين، وأما القلب فهم طائفة الإلهيين؛ والطائفة الأولى تُنكر الله وتزعم أن الوجود موجود بالذات ومن الذات، والطائفة الأخرى لا تجعل للصانع إلا مكانًا ضيقًا في فلسفتها.

وطائفة القلب مثال — سقراط وأفلاطون وأرسطو — هم شر من سابقيهم؛ لأن موضوعهم هو بالإلهيات وتلك حظ مشترك بين الكفر والإلحاد ليس بالإضافة إليهم وحدهم، بل ويتدرج معهم من تناول هذا الموضوع على طريقتهم، «ففي الإلهيات أكثر أغاليط الفلاسفة» فقد خانوا فيما يزعم طريقتهم البرهانية التي يصطنعونها في المنطق والرياضيات وبنوا معرفتهم في هذا النوع من المعرفة على ضرب من التخمين والظن، فالجيش كله إذًا — سواءً منهم من في القلب ومن في الجناحين — زنادقة ملاحدة، فيحشد لهم من قلبه عواطف ومن عقله أفكارًا ليرد عارمهم عن حوزة الدين، ولكن العواطف لن تفعل في هؤلاء فأصبحوا لا ينفعلون، وهم بهذه الوسيلة لا يرتدون، ولكنه يستفيد من هذا السلاح كشارةِ تَراجُع يأمر بها المسلمين أن يرتدُّوا عن هذا الحصن، حصن الفلسفة، فيحرض المسلمين على مقاطعتها، ويحذرهم ألوانًا من التحذير، وينشأ يصور لهم آفاتها في أبشع تصوير، فهي قد تعدو على التوحيد من طريق مباشر أو غير مباشر، ويتدفق الرجل في التخويف والتحذير حتى يبلغ حدًّا من التصوير شائقًا حقًّا، يقتنع معه هو بتراجع الإسلاميين عن هذا الخطر، فإذا هو اطمأن إلى هذا ونال بسلاح القلب ما أراد اندفع بمفرده كالسيل يقابل أعداءً وخصومًا لا يعرف طريقةَ نزالهم وعدَّتها عامةُ المسلمين، فينفرد لهم هو واحدًا في ميدان العقل فيصاولهم بالمنطق فيبني أدلته على قانون التناقض، ويفسد عليهم رأيهم في قانون السببية، ويأخذهم من طريقة أخرى هي طريقة الإلزام، فيقول: «فألزمهم تارةً مذهب المعتزلة وأخرى مذهب الكرامية، ولا أنتهض ذابًّا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفِرَق إلْبًا واحدًا عليهم، فإن سائر الفِرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد.» (التهافت ص١٣-١٤).

كما ينهض لرد الإلهيات من طريق لا يقل حصافةً عن سابقه، فهو لا يدخل لهم إلا دخول مطالب منكر لا دخول مُدَّعٍ مُثبت، وهو يلجأ إلى هذه الطريقة فيما يبدو لغرضين؛ لأن ذلك المبدأ يجري مع أصل من أصول الإسلام، يقول: «البينة على من ادعى»، والغرض الآخر ينكشف فيه وجه الطرافة ذلك أنه — فيما يبدو — يحرص على هذا المبدأ يأخذ منه ستارًا يقف من ورائه حذر أن يخوض مع الفلاسفة مسائل قد يعتاص عليه حلها، ومن ناحية أخرى قد يكشف الحديث فيها عن خبرته ومدى معرفته بالفلسفة وخصوصًا مسائلها الدقيقة، فلِمَ لا يأتي من أخصر الطرق فيجادلهم في المسائل المعروفة، ويُعارض مسائلهم بإشكالات مثلها، ويلزمهم على أصولهم إلزامات لا يقبلها العقل، فيوقفهم منه موقف الإحراج.

وكتاب «تهافت الفلاسفة»، ليس إلا مجالًا لهذا النزاع بينه وبين هؤلاء «الملاحدة» ويعيي الرجل الجهد فيتصور أن هذا الجيش قد أكل قلبُه الجناحين، ثم بعد أكل هذا القلب بعضه بعضًا، ويُظهر هذه الصورة وهذا الأمل فحوى هذا النص: «الصنف الثالث: الإلهيون: وهم المتأخرون، منهم: سقراط وهو أستاذ أفلاطون، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس، وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ بتقاتلهم، ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين، ردًّا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم، إلا أنه استبقى أيضًا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزول عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وغيرهما.» (المنقذ ٨٥-٨٦)، وإلى هنا يعيننا الحديث على أن نكشف صورتين يبين بهما مدى تفاعل هذا الجهد العنيف ومبلغ أثره وتأثره في المحيط والوسط وفهم الصور الباقية لحياة الرجل الروحية، وليست هاتان الصورتان إلا الصورة المنطقية للخصومة والصورة النفسية لها.
  • الصورة المنطقية: إن النظرة العقلية المتتبعة للذهن الإسلامي في مراحل نموه وترقيه وملاحظة الخصومة في وضعها المتجرد بين الخصم والخصوم وانتقال الخصم في ميادين الخصام، وعلى الأصح ترقيه من مجال إلى مجال فوقه ليظهر أن التطور المنطقي للفهم النوعي للتفكير الإسلامي هو التطور المنطقي للخصومة، وهو أخيرًا التطور الفردي للتفكير الغزالي، فالعقلية الإسلامية تقف عند المسلمات في طورها الأول ممثلةً في النصوص الدينية من قرآن وحديث، وهي بعدُ تريد أن تمس العقل من بعيد فيكون لها ذلك على يد فقيه كبير هو أبو حنيفة النعمان الذي فتح بالقياس مسربًا يسيل منه الدين إلى العقل حتى يكاد يوازيه عند المتكلمين، ثم بعدُ يريد الذهن الديني أن يصعد عند متفلسفة الإسلام إلى موضع يكون أو ينبغي أن يكون عنده قواعد اعتقادية مجردة منضبطة بضوابط منطقية، هذا تطور الذهن الإسلامي إلى القرن الخامس الهجري، ويوازي هذا تطور الخصومة، وليست فترات النضال إلا فترات الانتقال من مرحلة إلى مرحلة حتى بلغ النضال مرحلته الأخيرة في النضال الفلسفي، وواضح من إضمار الخصومة للفرد العقلي الفردي أن الغزالي آثر محاذاة هذا العقل المفرد وتلاحقه بالصور والأطوار السابقة، والتي استبقينا عندها الذهن الغزالي في مرحلته هذه عند آخر مراحل للذهن النوعي الإسلامي، والتي استبقينا عندها الغزالي يدرس الفلسفة ويخاصم الفلاسفة ويعرض مشكلاتهم، هذه هي الصورة المنطقية التي تبين بما يوازيها من الصورة النفسية الآتية.
  • الصورة النفسية: لكن هذه الصورة عسيرة، لأنها دقيقة، ولأنها لا تستلزم من الباحث وحسب الملاحظة المباشرة لمادة اللفظ وضوابط المعنى، بل تلزمه التمرس بالحياة الإسلامية من ناحية ومعاشرة الغزالي إن صح هذا التعبير فيكسب بذلك ألفةً، يفهم منها مكنونات الذهن ومضمرات الحديث ومراميه، ويكاد دارسو هذه الناحية لا يتفقون عند صفة نفسية واحدة للروح الجمعي الإسلامي وإن كانوا قد وقفوا على بعض الصفات للنفسية الغزالية.

    ونستطيع أن نقول: إن الذي يُراقب النفس الغزالية عن كثب يلحظ صورًا روحية قد تُخالف في الظاهر ما يعرضه الرجل منضبطًا في صور وقوالب منطقية، ولكنها في الحق تلتقي معها عند أصل واحد بعيد، هذه الصور الروحية التي تستجيب الواحدة للأخرى استجابة التأثير للمؤثر لا الاستجابة المحتومة بالقيد العقلي بين النتيجة والمقدمة، والفرق واضح بين منطق القلب ومنطق العقل.

    هذه الصور التي تستجيب الواحدة منها للأخرى تلاحظ بينها وبين الطموح والوثوق القلبي لا «العقلي» نسبةً وعلاقةً، ومرد هذا طغيان السمة الشعورية على السمة العقلية وانتشار المجال الذاتي وتقلص النظر الموضوعي، مما لا نكاد نجد له شذوذًا في أي من الظواهر الجمعية الإسلامية بل لا نكاد نسمع له نشوزًا عند أية عبقرية إسلامية، والعبقرية الغزالية عبقرية تجمعت لها بما هي به عبقرية نداءات الروح الإسلامي الموزعة في جيله وصدرت عنه هذه النداءات كلها في صوت موحد وفي نفس منفرد، ولكنه انسجام للروح الجمعي واتساق للفكرة الإسلامية، وليست ألوان التحمس التي كانت تفلت من يده أحيانًا في ميدان المعقولات فيعرض بالفلاسفة في مناسبة وغير مناسبة إلا أطراف الطبيعة الذاتية والشعرية في هذه النفس الفردية، تصلها بأصولها الكامنة أطرافها الأخرى في طبيعة العقل الجمعي الإسلامي.

    وبعد هذه الموازنة بين العقل الجمعي والعقل الفردي نستكمل الصورة الأخيرة من نفس الغزالي، والتي يبلغ بتمامها تمام الصور الروحية له، إذ هذه الصورة تضع نفسها فوق مرحلة النضال الفلسفي وتتوجها.

  • أعلى الصور: والوثبة التي تلي هذا النضال الفلسفي أو الصورة التي تعلو عليه والتي نجدها عنده هي حالة الشك، والحق أن هذه المرحلة لا تزال «غُفْلًا» مع سمو منزلتها، فإن علة هذه الحال لا تفسر فقط تمام الحياة الغزالية إنما قد تنفض بعض الغبار عن حواشي التفكير الإسلامي، ويرجع في نظرنا من بين ما يمكن افتراضه للتعرف في هذا المجال العلي على السبب الذي يشرح هذه الحال، فرض أن الغزالي كان عليه بعد الوقوف على الاتجاهات الفلسفية وفهمها نوعًا من الفهم معارضتها نوعًا من المعارضة.
١  الأستاذ عبد الحليم محمود، الثقافة.
٢  الغزالي، للأستاذ طه عبد الباقي سرور.
٣  مجانية التعليم وإطعام التلاميذ بالمجان سبق بها المسلمون العالم أجمع، ومن بقايا ذلك التعليم المجاني بالأزهر الشريف، بل منح الطلاب فيه إعانات مالية شهرية.
٤  رأي الغزالي، حسن أنيس، المقتطف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤