النظريات الصوفية

ذكر الفرغاني أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية، وهما معًا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة ليس غير، ويسمي المتصوفة هذا الصدور «بالتجلي»، ويرى شهاب الدين السهراوردي أن العالم الروحاني صادر عن الملأ النوراني، عن الذات الأقدس، وهذا العالم النوراني مقابل لعالم الظُّلمة الذي هو عالم المادة، ويُعْرَف هذا المبدأ «بحكمة الإشراق»، وليس هذا الرأي ناشئًا عن نظر متصوفة الإسلام، بل وصل إليهم من الأفلاطونيات الحديثة التي تكونت نهائيًّا في مدارس أفلوطين وفروفريوس وجامبليكوس وأفروكلين، وذهب آخرون من المتصوفة إلى القول بالوحدة المطلقة؛ وذلك أنهم يزعمون أن الوجود له قوًى في تفاصيله، وبهذه القوى كانت الموجودات وموادها وصورها، والقوة الجامعة لتلك القوى من غير تفصيل هذه القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كليةً وجزئيةً، وأحاطت بها من كل وجه، وهذه العقيدة هي المعروفة باسم «البانتشم» أو وحدة الوجود التي أخذت مبدأها في الأساطير القديمة والحكمة الهندية.

اتفق المتصوفة والمتكلمون على أن الخالق له التأثير في الموجودات، ولكن أغلب المتصوفة أضافوا إلى ذلك قولهم: «وإن جميع الموجودات هي عين الخالق»، وهذا هو عين نظرية وحدة الوجود التي جعلت ذاتية الإنسان عين ذاتية الباري.

وقد تكلم المتصوفة في النفسيات؛ وإجمال رأيهم أنهم أهملوا الظواهر الخارجية المحيطة بالإنسان المُدْرَكة بواسطة المشاعر الخمس، وجعلوا طريق الإدراك الحقيقي من القلب، فالقلب هو الذي يفيض بالمعرفة الحقة، وما تحمله الحواس ليس إلا مجرد غلط وخداع.

وأخذ المتأخرون من الصوفية بعقيدة وحدة الوجود، وذهبوا أيضًا إلى القول بالحلول وأترعوا صحفهم بذلك، وفي كتاب المقالات للهواري كلام كثير، وتبعه في هذا الرأي ابن العربي وابن سيرين وابن العفيف وابن الفارض في قصائدهم المشهورة، وتطرَّق هذا الرأي إليهم من الإسماعيلية القائلين بالحلول وإلهية الأئمة، لذلك أخذ هؤلاء المتصوفة عنهم القول بالإمام وهو المعروف عندهم بالقطب، ومعناه رأس العارفين الذي لا يدانيه أحد في مقامه في المعرفة، وإذا مات ورث مقامه قطب آخر من رجال العرفان وغيرهم.١

وقد عد الفقهاء وأهل الفتيا أكثر آراء المتصوفة بِدَعًا في الدين يجب الرد عليها ودحضها، وقد انبرى لهذه المهمة كثير من الفقهاء والقضاة للرد على مقالات الصوفية، فحملوا عليها حملات شعواء بالنَّكِير سائر ما وقع لهم في طريقتهم، وقد رد عليهم ابن خلدون في مقدمته؛ وفصل القول في ذلك في أربعة موضوعات وهي: الكلام على المجاهدات، والكلام في الكشف، والتصرفات في العالم والأكوان، والألفاظ المشكلة. فتناول ابن خلدون كلًّا من هذه الموضوعات وناقشها ورد على الفقهاء.

وذكر الغزالي في كتاب الإحياء كثيرًا من البراهين الشرعية على صحة طريق أهل التصوف في اكتساب معارفهم عن طريق الإلهام؛ إذ قال: «إن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفًا بصحة الطريق، ومن لم يُدرك ذلك بنفسه قط ينبغي أن يؤمن به؛ فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جدًّا، ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات.» ويسوق الغزالي هذه الشواهد الشرعية والتجريبية والقصصية بما تراه مفصلًا في كتابه، من ذلك تعرف أن روح الدين الإسلامي لم يكن ضد المتصوفة في جهادهم وزهدهم ومحاسبتهم النفس، ولم يكن خصمًا لهم في مشاهداتهم وإدراكهم.

أما بروكلمن المستشرق الألماني فقد قسم المتصوفة في كتابه «أدب اللغة العربية» إلى عشرين طبقة مراعيًا في ذلك التقسيم الزماني والمكاني، وذكر في كل طبقة جميع التابعين لها ناصًّا على عدد مؤلفات كل متصوف مع بيان المطبوع والمخطوط وأماكن وجودها.

وتبدأ الطبقة الأولى من منتصف القرن الثاني الهجري إلى ابتداء القرن الخامس، وقد ذكر في هذه الطبقة أحد عشر صوفيًّا، وتبدأ الطبقة العشرون وهي آخر الطبقات من أوائل القرن الثالث عشر إلى الوقت الحاضر وهم متصوفة مصر وعددهم ستة.

أول المتصوفة من الطبقة الأولى هو الحارث بن سعد المحاسبي البصري ويكنى أبا عبد الله، وهو أول شخص عُرِف من المتصوفين الذين نسجوا على منوال التصوف المسيحي.

كان شديد الزهد والورع، وعُرِف بالمحاسبي لأنه كان يُحاسب نفسه، اجتمع له علم الظاهر والباطن فكان خاضعًا لربه ملازمًا على الدوام لمجاهدة النفس ورياضتها والزهد في ملاذِّ الحياة الدنيا، ومن زهده أنه ورث من أبيه ألف درهم فلم يأخذ منها شيئًا؛ لأن أباه كان قَدَرِيًّا، فرأى من الورع ألا يأخذ ميراثه، وقد مات وهو محتاج إلى درهم.

وما يؤثر عنه أنه كان إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك على أصبعه عرق فيمتنع عنه.

أما مؤلفاته فمنها: (١) مقاصد الرعاية: وهو كتاب في المبادئ التي يجب على المتصوفة اتباعها. (٢) رسالة في الفضائل العشر الموصلة إلى السعادة. (٣) شرح المعارف وبذل النصيحة. (٤) رسالة في الأخلاق.

ومن تمام المعرفة بالذات الإلهية — أي بالله — تمام إنكار الذات، وهي الحالة التي يُعَبَّر عنها بالفناء، وهو على ثلاثة درجات: (١) فناء أهل العلم المتحققين به. (٢) فناء أهل السلوك والإرادة. (٣) فناء أهل المعرفة المستغرقين في شهود الحق. فأول الأمر أن تفنى قوة علمه وشعوره بالمخلوقين في جنب علمه ومعرفته بالله وحقوقه، ثم يقوى ذلك حتى يغيب عنهم، بحيث يكلم ولا يُسمع، ويُمَر به ولا يُرى، وذلك أبلغ من حال السكر، ولكن هذه الحال لا تدوم هكذا. وفناء أهل المعرفة على ثلاث درجات: (١) فناء المعرفة في المعروف، وهو الفناء علمًا. (٢) فناء العيان في المعاين، وهو الفناء جسدًا. (٣) فناء الطلب في الوجود، وهو الفناء حقًّا. فالأول وهو غيبة العارف بمعروفه عن شعوره بمعرفته ومعانيها، فيفنى به سبحانه وتعالى عن وصفه هنا وما قام به؛ فإن المعرفة فعله ووصفه، فإذا استغرق في شهود المعروف فني عن صفة نفسه وفعلها. ولما كانت المعرفة فوق العلم وأخص به كان فناء المعرفة في المعروف مستلزمًا لفناء العلم في المعرفة، فيفنى أولًا ثم تفنى المعرفة في المعروف. والثاني هو فناء العيان في المعاين، فالعيان فوق المعرفة، فإن المعرفة مرتبة فوق العلم ودون العيان، فإذا انتقل من المعرفة إلى العيان فني عيانه في معاينته كما فنيت معرفته في معروفه. والثالث وهو فناء الطلب في الوجود، فهو أن لا يبقى لصاحب هذا الفناء طلب؛ لأنه ظفر بالمطلوب المشاهد، وصار واجدًا بعد أن كان طالبًا، فكان إدراكه أولًا علمًا، ثم قوي فصار معرفةً، ثم قوي فصار عيانًا، ثم تمكن فصار وجودًا.٢

هذه أقوال الصوفية في نظرية المعرفة، ظهرت واضحةً في الدور الثالث من أدوار التصوف الإسلامي ما بين سنة ٢٠٠ھ وسنة ٣٠٠ھ حين أصبح الزهد فيه لا غايةً، بل وسيلةً للوصول إلى المعرفة والإشراق، وإذا أردنا أن نذكر تلخيصًا صغيرًا لهذه النظرية لا نرى في الواقع أحسن من رأي الأستاذ نشلسن حين قال: لقد ميز الصوفية بين ثلاثة أشياء؛ أي بين القلب والروح والسر؛ فالقلب يستطيع أن يتعرف كل الأشياء وماهياتها، وإذا أُضِيء بالإيمان والمعرفة استطاع أن يعكس على صفحته كل ما يحويه العقل الإلهي، ويتنازع القلب قوتان: إحداهما المعرفة التي تفيض من الله على العبد، والأخرى هي أوهام الحس، والمرء لا يعرف الله بالحس؛ لأنه لا مادي، ولا بالعقل والمنطق؛ لأنهما لا يخرجان عن دائرة المتناهي، بل بالفيض والوحي والإلهام، فالقلب يضم بين جوانحه العالم كله، والله وحده هو الذي ينير القلوب، ويزيل ما يغشيها من شوائب الحس؛ وذلك بتآزر العبد مع الرب في ذلك، أعني بالمجاهدات والرياضات، والأفعال التي لا تصدر عن الله أفعال باطلة، وكل ما يعمله الصوفي لا يبتغي وراءه أجرًا، بل إن مطلبه الوحيد هو رضاء الله عنه، ومعرفة الصوفي معرفةٌ مباشرةٌ؛ لأنها تستند على الوحي، أو على الرؤية المباشرة، فهي ليست نتيجةً لأية عملية عقلية، وإنما تعتمد كليةً على إرادة الله ومحبته وفيضه على من اصطفى من عباده، ومع اتفاق المسلم العادي والصوفي في أن الله واحد؛ فإن الأول يعني بذلك أنه واحد في ماهيته وصفاته، أما الثاني فيرى أن الله هو الواحد الحقيقي الذي لا يوجد غيره في الكون، فهو يتضمن كل الظواهر الأخرى، ولما كان الصوفي لا يعرف الله وكل أسرار الوجود إلا إذا وحدها في نفسه، فهو بذلك يعد عالمًا صغيرًا، فمعرفة الصوفي إذن هي اتحاد.

١  التصوف والمتصوفة، للمرحوم الدكتور علي العناني.
٢  مدارج السالكين: نظرية المعرفة، سعيد زايد، مجلة الأزهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤