المتصوفون وآراؤهم وطبقاتهم

كان للصوفية لغة خاصة بهم، وتعبيرات استقلوا بها في الإفصاح عن مذهب وحدة الوجود الذي كانوا يدينون به، ولكن هذه التعبيرات شاكت المسلمين وروَّعت الفقهاء وجعلتهم يحتاطون منهم، ويعتزلون مجالسهم، فلما رأى المتصوفون ذلك أعلنوا أن لهم حالتين مختلفتين؛ حالة الصحو،١ وحالة الغيبوبة، فأما الأولى فهم ينطقون فيها بالشريعة، وأما الثانية فهم يعبرون فيها عن الحقيقة، وقد سمى الفقهاء تعبيراتهم في الحالة الأخيرة بالشطحات، وغفروها لهم، لأنها تصدر عنهم في حالة الغيبوبة التي تشبه النوم أو السكر المباح، ولكنهم لم يقبلوا هذه التعبيرات منهم في حالة الصحو مطلقًا، بل عدُّوها جريمةً تستوجب القصاص، ولهذا أفتوا بقتل «الحلاج»؛ لأنهم أثبتوا عليه أنه نطق بهذه التعبيرات في حالة الصحو، ومن هذه التعبيرات قولهم مثلًا: «أنا الحق، أنا الأول، أنا من الكل والكل أنا، أنا العرش، أنا اللوح، أنا القلم، أنا منذ الأزل وإلى الأبد»، أو مثل قول الحلاج: «ما في الجبة غير الله.» إلى غير ذلك من الألفاظ التي تُوهم بظاهرها الكفر وتُعبر في حقيقتها عن فكرة وحدة الوجود، وقد روى ابن خِلِّكَان عن الغزالي أنه لما اطلع على كلام الحلاج وافق عليه وحبذه وقال: إنه من فرط الحب للذات العلية والتفاني فيها، فهو من قبيل قول القائل:
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا
نحن رُوحان حللنا بَدَنا
فإذا أبصرْتَنِي أبصرتَهُ
وإذا أبصرتَهُ أبصرْتَنَا

ومن هذا يبين أن الغزالي لم يكن ملاحظًا مذهب الصوفية المنطوي على حقيقته، ولا متنبهًا إلى أنه متأثر بوحدة الوجود، بل كان معتقدًا أن هذا المزج الذي كان الصوفية يحاولونه بين ذواتهم وذات الباري ناشئ من شدة الحب لا من فكرة وحدة الوجود، اللهم إلا أن يكون أبو حامد قد قصد أن يصرف الفقهاء عن اتهامهم المتصوفين بالقول بوحدة الوجود، وإن كان يعلم أنهم يقولون بها، وهذا ما نستبعده عليه.

أوصل بعض المستشرقين طبقات الصوفية إلى عشرين طبقة، وذكر أسماء أفراد كل طبقة ومؤلفاتهم، ولما كان ما يعنينا في هذا الفصل هو الطبقة الأولى التي عاشت في العصر الأول وهو يبتدئ بنشأة التصوف عند العرب، وينتهي بانتهاء القرن الرابع الهجري، وعدد أفراد هذه الطبقة هم أحد عشر صوفيًّا، وأشهرهم حسب الترتيب الزمني الأشخاص الآتية أسماؤهم:
  • (١)

    أبو هاشم، ولا يعرف التاريخ عنه أكثر من أنه كان أول من سُمِّيَ باسم المتصوف، وأنه بنى في سوريا ملجأً للصوفية، ولكنه ليس له في حركة التصوف العلمية شأن كبير، وأنه تُوُفِّي حوالي سنة ١٥٠ للهجرة.

  • (٢)

    سفيان الثوري، وهو من الفقهاء والمحدثين، بل إنه قد حاول أن ينشئ مذهبًا في الفقه، وكان معاصرًا لأبي هاشم، وكان يباشر التصوف العملي بين جماعة من رفاقه، منهم السيدة رابعة العدوية التي تُوُفِّيَت بالبصرة سنة ١٣٥ھ، وقد تُوُفِّي سفيان في سنة ١٦١ھ.

  • (٣)

    شيبة الراعي الدمشقي، الذي هجر العالم وتنسك في جبل لبنان، وقد نسب إليه معاصروه بعض الكرامات، كأن زعموا أن المطر كان يهطل إذا أراد أن يتوضأ، وأن أسدًا جاءه يومًا وركع أمامه فقبض على أذنه ثم أرسله بعد أن ألقى عليه خطبةً في الوعظ، وقد تُوُفِّي هذا الصوفي في سنة ١٥١ھ.

  • (٤)

    ذو النون المصري، وُلِد في أخميم، وقد اتُّهِم في حياته بالزندقة، وبلغ أمره إلى الخليفة المتوكل فاستحضره إلى بغداد وأدخله السجن، ولكنه لم يلبث أن تبين حقيقته وأعجبه صبره على المكاره وخلبه بفصاحته، فعفا عنه ومنحه حريته وردَّه معززًا إلى مصر، فعاد إلى حياته الصوفية الأولى، وكان له على مواطنيه أثر كبير، وأخيرًا تُوُفِّي في الجيزة سنة ٢٤٥ھ، وله مؤلفات كثيرة، منها: (أ) «المجربات»، ويحتوي على إرشادات طبية وتجارب كيميائية وتمائم سحرية وطلاسم وعزائم، ويوجد في مكتبة باريس. (ب) أشعار في حجر الحكماء، ويوجد في مكتبة باريس. (ﺟ) مناظرة بينه وبين تلميذه يعقوب في حجر الحكماء، ويوجد في مكتبة برلين.

  • (٥)

    المحاسبي، كان الحارس بن أحمد المحاسبي أحد كبار المتصوفين في عصره، ولكن تصوفه لم يمنعه من الاستزادة في العلوم الظاهرية والارتواء منها، وقد ألف في علم الكلام، وله فيه مجادلات مشهودة أسخطت عليه فقهاء عصره كما سخطوا على جميع علماء الكلام، أما زهده فقد بلغ حد النهاية في عصره حتى لقد قيل: إنه كان إذا اشتهى لونًا من ألوان الطعام ومد إليه يده تحرك في أصبعه عرق إنذارًا له فيمتنع عنه، وقد أُطْلِق عليه لفظ المحاسبي لكثرة محاسبته نفسه على ما يأتيه من أعمال، وقد تُوُفِّي سنة ٣٤٣ھ. ومن مؤلفاته ما يأتي: (أ) «مقاصد الرعاية» وهو كتاب في المبادئ التي يجب على المتصوفة اتباعها، ويوجد في مصر. (ب) رسالة في المبادئ العشرة الموصلة إلى السعادة، ويوجد في برلين. (ﺟ) «شرح المعادن وبذل النصيحة»، ويوجد في برلين. (د) «البعث والنشر»، ويوجد في باريس. (ﻫ) رسالة في الأخلاق، وتوجد في مكتبة محمد علي باشا الإسلامبولي.

  • (٦)
    أبو يزيد البسطامي، وقد تنسك في سوريا زمنًا ثم شُغِف برؤية العلماء والمطلعين حتى قيل إنه عرف جميع أكابر علماء عصره وقد بلغوا مائة وثلاثة عشر عالمًا، ولما عاد إلى بسطام لم يستطع مواطنوه فهم مبادئه فطردوه من بلده خمس مرات، وهو من كبار المتصوفين، لولا ما أُخِذ عليه من صفة الكبرياء، إذ إنه — فيما روى التاريخ — كان يتصور أنه أعلم أهل عصره بلا استثناء، وأنه أعلن أنه ظل أربعين سنة يطعم من طعام غير طبيعي، وأنه عُرِج به إلى السماء كمحمد، ولكن قد يكون كل ذلك مدسوسًا عليه ليبرر به مواطنوه طردهم إياه، لا سيما وأنه قد روى عنه مصدر آخر ما يخالف ذلك وهو قوله ما معناه: إنني فتشت في قلبي بعد أربعين سنةً فوجدت فيه أثر الوثنية، وهو الاتجاه إلى غير الله، وعكفت على إزالته. وأخيرًا تُوُفِّي سنة ٣٦١ھ.٢
  • (٧)

    الجنيد بن محمد القواريري، وقد وُلِد ونشأ بالعراق وكان تلميذًا للمحاسبي البصري، وكان شديد الورع ولم يمنعه تصوفه عن التمسك بأهداب الشريعة، لأنه كان يؤمن بالمبدأ القائل: المتصوف هو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله. وله تعبيرات صوفية شهيرة وشطحات معروفة. وقد تُوُفِّي في سنة ٢٩٧ھ، ومن مؤلفاته كتاب «السر في أنفاس الصوفية»، ويوجد في مصر.

  • (٨)

    الحلاج، هو الحسين بن منصور، وُلِد في فارس وكان جده مجوسيًّا ثم اعتنق الإسلام، وقد شب الحلاج في واسط ثم رحل إلى بغداد، وفيها التقى بكثير من المتصوفين من بينهم سفيان الثوري، ثم سافر إلى الهند فأقام بها زمنًا، وبعد عودته أدى فريضة الحج، ثم مكث زمنًا بمكة راضَ فيه نفسه على الزهادة والتنسك، ثم رجع إلى بغداد، وكان ذلك في عهد الخليفة المقتدر.

    كان الحلاج شغوفًا بكثرة الاطلاع، وكان عقله سهل الانتقال من رأي إلى رأي، فإذا ثبت لديه صحة الرأي أسرع إلى اعتقاده وإعلانه، ولذلك قال له أحد أساتذته يومًا ما معناه: يا أبا منصور، ليس بعيدًا ذلك الوقت الذي يحمر فيه النطع من دمك!

    اشتهر الحلاج وعلا صِيته، ونُسِب إليه في خراسان وبغداد كلام يُخالف ظاهر الشريعة، فأثار ذلك عليه حقد العلماء، فأبلغوا عنه الخليفة، واستشهدوا على كفره بمستند موقع عليه من عدد كبير من القضاة والفقهاء، فأمر الخليفة بالقبض عليه وألقى به في السجن ثمانية أعوام، وفي نهاية هذه المدة جدد العلماء الشكوى في حماسة أعظم من الأولى وطالبوا بقتله، فأجابهم الخليفة إلى سؤلهم وأمر بتسليمه إلى الجلاد.

وقد سرد فريد الدين الفارسي قصة تعذيبه، ولعلها من موضوعات المتصوفة الكلاميين ليشنعوا بها على علماء الدين الذين يحافظون على آداب التعبير في الأمور الاعتقادية، قال: «أَصعد الجلاد الحلاج فوق منصة عالية تحوط به الجماهير الغفيرة من عامة الشعب ملقية عليه الأحجار والأوحال، وهو لا ينفك عن تكرير تلك الكلمة التي كانت السبب في قتله وهي: «أنا الحق والحق أنا.» ولما طُلِب إليه أن ينطق بالشهادة صاح مخاطبًا الإله قائلًا: «إن وجودًا أنت فيه غير محتاج إلى مشعل ينيره.» ولعل معنى هذه الكلمة أن وجود الله واضح وليس محتاجًا إلى أن يؤيده الحلاج بشهادته، ولما سُئِل: ما هي الصوفية؟ أجاب بقوله: «هي ما لا تستطيعون أن تفهموه.»

فأخذ الجلاد يضربه بالسوط وهو يبتسم، فلما فرغ من ضربه قطع يديه ورجليه فقابل ذلك بالابتسام، وجعل يلطخ وجهه بدم ذراعيه المتدفق، ولا يدري أحد ما حكمة ذلك عنده، ثم فقأ الجلاد عينيه، وفي اللحظة التي هم الجلاد فيها بقطع لسانه كان هذا اللسان ينطق بالاستغفار لذلك الجلاد ومن اشتركوا معه في تعذيبه، وبعد موته أحرقوا جثته وألقوها في نهر دجلة، وقِيل إن رأسه أُرسِل إلى خراسان.» وقد صور الأستاذ الدكتور العناني الحلاج بصورة أنزل كثيرًا من الصورة التي يرويها الأستاذ «كاردي فو».

أما مذهبه فكان وحدة الوجود بعد أن اختلطت بشيء من تعاليم الإسماعيلية، وكان الحلاج يصرح بهذا كثيرًا، فيقول: «أنا الأول والآخر والظاهر والباطن، أنا الحق والكل، ووجودي غير محتاج إلى دليل؛ لأني في كل شيء مقيم.» إلى آخر ذلك.

ومن هؤلاء المتصوفة الذين عاشوا في العصر الأول غير من ذكرنا: محمد بن علي الحسين وأبو بكر دلف بن جحدر الشبلي ومحمد بن الجبار النفاري.

أما الطبقة الثانية من المتصوفة فقد عاشت فيما بين القرنين: الخامس والسابع.

١  حالة الصحو في رأينا عن أكذوبة العقل الباطن، هي حالة اليقظة الاعتيادية، أما حالة الغيبوبة فهي كالنوم والأحلام.
٢  انظر كتاب الغزالي للبارون «كارادي فو»، صفحات ١٧٩ وما بعدها، الدكتور محمد غلاب، مجلة الأزهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤