الفصل الأول

الحضارة الإسلامية

ظل الناس حينًا من الدهر يطلقون اسم «الحضارة العربية» على المدنية التي ازدهرت في ربوع الأمم الإسلامية، ولكن كثيرين من العلماء يبالغون بعض الشيء فيرون أن هذه الحضارة لا تصح نسبتها إلى العرب؛ لأنها لم تقم على أكتافهم، فهي تمثل عصبة الأمم الإسلامية كلها، وقد كان من بين هذه الأمم عرب وفرس وترك وبربر وهنود وصقالبة، فجمعهم العرب وطبعوهم بطابع الدين الإسلامي الجديد، وفرضوا عليهم حروفهم الأبجدية، بل نجحوا في أن يفرضوا على أغلبهم اللغة العربية نفسها، حتى قامت هذه اللغة بين الأمم الإسلامية مقام اللغة اللاتينية بين الأمم المسيحية في العصور الوسطى.١
ويقول هؤلاء العلماء تأييدًا لرأيهم هذا إن المشاهد في تاريخ الأمم الإسلامية أن أكثر رجال العلم والأدب والفن كانوا من الفرس٢ أو السوريين أو المصريين الذين اعتنقوا الإسلام أو ظلوا على أديانهم القديمة، ولكنهم ازدهروا تحت لواء الإسلام، واشتغلوا للمسلمين الفاتحين. فهذه المدنية إذن مدنية إسلامية، ولكنها ليست عربية خالصة، وهي على كل حال الحلقة الأخيرة في تطور مدنية الشرق الأدنى التي نمت وترعرعت بين الفرس والبابليين والآشوريين والفينيقيين والآراميين والمصريين واليهود.

وقد يكون في الأخذ بهذه النظرية ظلم للعرب واستهانة بتراثهم في بعض ميادين الحضارة، فقد كان للعرب شعر وأدب ونظم اجتماعية، ولكننا لا نستطيع الشك في أنها نظرية صحيحة في ناحية خطيرة الشأن من نواحي المدنية، وهي ناحية الفنون.

فالمعروف أن العرب لم يكن لديهم قبل الفتوحات الإسلامية عمارة وفنون صناعية يمكن مقارنتها في الرقي والتقدم بفنون الأمم المتحضرة التي كانت تحيط ببلادهم، وليس هذا بضائرهم أبدًا؛ فالأمم كالأفراد لا تستطيع أن تحيط بكل شيء، وحسب العرب فخرًا ما قاموا به من فتوحات عظيمة وما خلفوه من تراث جليل.

١  كانت اللغة العربية أوسع اللغات انتشارًا بين اللغات الثلاث التي استخدمت في الكتابات على الأبنية والتحف الأثرية الإسلامية، وهي العربية والفارسية والتركية.
٢  كما كتب ابن خلدون من ألف من المسلمين في فلسفة التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤