لماذا الفلسفة بصيغة المؤنث؟

عديدة هي الكتب التي تحدَّثت عن موضوع المرأة والفلسفة من قبيل: نساء-فلاسفة، الفلاسفة والمرأة، نساء الفلاسفة … وأغلب الظن أنها تعالج علاقة الفلاسفة بالمرأة لبيان مواقفهم الحياتية من المرأة عامة، أو لإبراز دور بعض النِّسوة في حياة الفلاسفة، كما عالجت موضوع الحب من منظور الفلاسفة؛ ليقف البعض منها عند تجارب الحب التي خاضها بعض الفلاسفة مع النساء … وقليلة هي الكتب التي عالجت أفكار بعض النساء-الفلاسفة؛ حيث تم التركيز تحديدًا أغلب الأحيان على فيلسوفات بارزات من قبيل: هيباتيا، حنة آرنت، جوليا كريستيفا، سيمون دي بوفوار …

نذهب في هذا العمل إلى البحث في سيرة وفلسفة بعض النساء اللَّواتي دخلن عالم التفلسف من بابه الواسع، وتحملن عبء التفرغ للفكر الفلسفي تدريسًا وتأليفًا في مجتمعات ذكورية بامتياز؛ حيث جدَّدت الرأسمالية آليات السيطرة والهيمنة الذكورية على عالم الفكر. وخصصن معظم أوقاتهن للتَّنقل بين الجامعات، ومنهنَّ من تحملت ويلات الحروب والاضطهاد الفاشي والديني واللُّغوي والثقافي خاصة في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما نجد منهن من تخلين عن الحياة الأسرية وعزفن عن الإنجاب للتفرغ للفلسفة، إن لم نجد منهن من لها ميولات جنسية مختلفة ضدًّا على المجتمع الذكوري، وبحثًا عن اعتراف من نوع آخر.

من المعلوم جيدًا أن الفلاسفة-الذكور قد هيمنوا على تاريخ الفلسفة، فلاسفة-ذكور لم ينفلت منهم من سلطة المجتمعات الذكورية إلا النَّزر اليسير، ولكن مع تناسل مقاوِمات الحركة النسائية وانتزاعها لحق المساواة والحرية والإنصاف لولوج مجالات عمل كانت إلى عهد قريب حكرًا على الرجال، ومع الدور الذي لعبته الأنظمة الاشتراكية والحركات النسائية في العالم، سيتعزز دور المرأة في المجتمعات الغربية تحديدًا والتي أقرت أنظمة علمانية منحت للنساء حقوقًا لم يكن يُسمح بها من ذي قبل.

في مجتمعات اليوم لم يعد السؤال يتعلق بالحاجة إلى تحرير المرأة كما طُرح في القرن التاسع عشر (مع الموجة النسوية الأولى)، بل صار السؤال ينصبُّ حول مستقبل هذا التحرر، من جهة أن هناك مشكلات جديدة صاحبت الاعتراف بالمرأة ودورها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، من قبيل الحقوق الجِنسية، والاختلاف الجنسي والتحول الجنسي … ناهيك عن التَّعدد الثقافي والديني واللُّغوي.

ماذا لو قلبنا التاريخ رأسًا على عقب، فإذا كان تاريخ الفلسفة في مجمله تاريخًا ذكوريًّا بامتياز كتبه فلاسفة ذكور، فماذا عساه يصير لو كان تاريخًا نسويًّا؟ ماذا لو كانت النِّساء هنَّ اللَّواتِي لعِبن دورًا هامًّا في تاريخ الفلسفة؟ ألن نجد أنفسنا أمام قضايا فلسفية مغايرة، ومنهجيَّات فلسفية مختلفة، ولربما أمام فكر مختلف جذريًّا عن فلسفة الفلاسفة الذكور، وأمام فلسفة جديدة حتى لا نقول فلسفة نِسوية؛ لأن هذا النَّعت يضمر بين ثناياه نزعة ذكورية؛ حيث يتم التمييز بين فلسفة ذكورية ونسوية؟

ستكون لثورة المساواة في الحقوق ولولوج عالم الشغل والفكر والثقافة انعكاسات جديدة على بنيات التفكير، وعلى طبيعة القضايا الفلسفية كما نجد ذلك في عالم السياسة والاقتصاد. لذا نعتقد — دون الجزم في ذلك — أن التاريخ المقبل للفلسفة سيكون تاريخًا مغايرًا ومختلفًا، ليس بسبب ثورة المساواة والحقوق وحدها، وإنما بسبب اجتياح النساء لنسب الساكنة العالمية، وتفوقهن في مجالات التعليم والسياسة والاقتصاد على حد سواء، وبسبب ثورة الحب كما نظَّر لها لوك فيري وألان باديو.

نجد أنفسنا في هذا العمل أمام فكر فلسفي يطرح قضايا سياسية راهنة تتصل بالفلسفة السياسية تحديدًا؛ حيث سنلتقي بوجوه بارزة لعبت أدورًا هامة في التَّنظير لقضايا لم تُطرح من قبل، كما هو الشأن بالنسبة للفيلسوفة جوديث بتلر Judith Butler أو سيلا بن حبيب Seyla Benhabib، أو نانسي فريزر Nancy Fraser، وبوجوه لم تلقَ كامل الحفاوة والاهتمام في الجامعات وكليات الفلسفة على الأقل في عالمنا العربي من قبيل سيمون فايل Simon Weill وصبا محمود Saba Mahmood وإديث شتاين Edith Stein وآين راند Ayn Rand، وبفيلسوفة نقدية معاصرة تنتمي إلى المدرسة الماركسية وتحاول إعادة النظر في موضوع البطريركية (الأبوية) وفق مستجدات البحث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي الراهن: نادية دو موند Nadia de Monde.
إذا كان اهتمام إديث شتاين ينحصر أساسًا في الفينومينولوجيا متأثرة بأستاذها إدموند هوسرل E. Husserl وفي الأنثروبولوجيا الفلسفية، وتكبَّدت عناء العيش في كنف حيث حرمتها الحياة من الأبوة، واختارت عنوةً حضن الكنيس هربًا من ويلات النازية التي لاحقتها إلى كرملية هولندا لتتخلص منها بمعية أختها روز في أبشع الصور في محرقة أشفيتز الغازية سنة ١٩٤٢، فإن اهتمام آين راند التي اختارت الهروب من الاتحاد السوفياتي في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، سينصبُّ حول النَّزعة الموضوعية حيث تبحث عن عالم خاص بجون غالت (بطل روايتها الإضراب): عالم فرداني بامتياز، حيث تُعلي قيم «فضيلة الأنانية» (عنوان كتابِها المُميَّز) بدل قيم كانط المتعالية، فعبارتُها المدوية: «امنحني الحرية أو الموت»، تقرُّ أن الفرد يمتلك قيمته في ذاته، من جهة أنه مكتفٍ بذاته ولا يتوجب أن تحبسَه الغيرية التي أفسدت على الفرد قيمه الأخلاقية النبيلة. ووراء السعي نحو التخلص من قيم الغيرية فإن من واجبات الدولة العمل فقط على حفظ مصلحة الأفراد الذاتية؛ لأننا «لسنا دولةً ولا مجتمعًا بقدر ما نحن تجمُّع بشري مبني على إرادتنا ويستجيب لمصلحتنا الفردية». وهؤلاء الأفراد يتقاسمون مجموعة من القيِّم خارج أية قوانين أو قواعد؛ لذا لا ينبغي أن نقبل إلا القيم الموضوعية الضامنة لروح الأنانية العقلية أو أنانية المصلحة الفردية التي تمثل نقيض الغيرية أو عقلية القطيع (الجماعية)، حيث الفرد هو أساس كل الأخلاق يوجد لذاته وليس لغيره.

ما يجمع هاته الوجوه في اعتقادنا هو ذلك الصوت النِّسوي النقدي الذي تغفله بعض الأقلام الفلسفية ولا تمنحه ما يستحق من اهتمام. فجميعهن رغم اختلاف مشاربهن واتجاهاتهن الفلسفية وانتماءاتهن العَقَدية واختياراتهن السياسية تركن أثرًا فلسفيًّا عميقًا، ناهيك عن الخيوط الناظمة لبعض المفاهيم التي نحتناها حيث التداعي قائم: الحق في كافة الحقوق، الشَّر، التوتاليتاريا، الاعتراف والرغبة (حيث التوليف بين اسبينوزا وهيجل كما فعلت بتلر) …

لا يسعنا في مجتمعاتنا الذكورية بامتياز رغم الكليشيهات التي تظهرها بعض الأنظمة السياسية في هذه الرقعة من العالم، إلا أن نُعلي من شأو التفكير الفلسفي الذي تركته هاته الوجوه النقدية وغيرها (وأغلبهن لا يزال على قيد الحياة) في سبيل الدفع بتفكير من هذا النوع في مجتمعاتنا؛ حيث لا تزال النساء عرضة لكل أنواع الاضطهاد والتهميش والتحقير بفضل بنيات التسلط الذكورية المتعششة في تربتنا، والتي ترسخها في عالم اليوم تيارات محافظة لن تزيدنا إلا انتكاسة نحو الوراء (الماضي الذهبي الذي يحلمون به وينادون به حيث تُطالَب المرأة بالخنوع والطاعة والخضوع لسلطة الرجل بدعوى «ناقصة عقل ودين»). فالتنوير يقتضي أول الأمر الخروج من حالة الوصاية والخضوع، فكيف يمكن قبول ما نشاهده يوميًّا من مآسٍ وجرائم في حق النساء، والدَّعوة إلى جهاد النكاح، وإلى حق سبي نساء العدو (هذا إذا صحَّ فعلًا أنه عدو؟) … كيف لنا السكوت عن أنظمة الذل التي تبتغي إبقاء الوضع على ما هو عليه؟

يزداد لدي اليقين أن ثورة الحقوق والمساواة قد أدت فعلًا إلى تحولات عميقة بدأت تظهر بوادرها في مجموع الكوكب الأزرق. ورغم أن هدف الليبرالية السياسية والرأسمالية العالمية هو إدخال النساء في إطار أسطورة «مقاربة النوع» إلى عالم المال والأعمال بهدف تلطيف الاستغلال وترسيخ الاستعباد الجديد للنساء، فإنها في حقيقة الأمر تحفر قبرها بنفسها؛ لأن الفردانية كمبدأ قد يؤدي بالمجتمعات المعاصرة إلى نتائج عكسية. يتم تبرير الفردانية بدعوى الحرية الفردية التي هي شرط الديمقراطية الليبرالية، لكن يتم تناسي أن الحرية في شموليتها والسياسية تحديدًا هي شرط لا مناص منه؛ لأن منح الاستقلالية المادية للمرأة هو مفتاح تحررها الشامل. هكذا ترى نادية دو موند أن «النساء تُستعمل كجيش احتياطي للصناعة (ماركس) في الاقتصاد الرأسمالي، يُدمَج في فترات التوسع الاقتصادي ولكنه يُسرَّح في فترة الانكماش الاقتصادي أو فترات الأزمة … ويتم تبرير هذه الممارسة بفكرة أيديولوجية مفادها أن الرجل هو من يلبِّي أساسًا حاجيات الأسرة، وأن المكان الطبيعي للمرأة هو المنزل كربَّة بيت. وتُستخدم النِّساء مكان قوة العمل الذكورية لإضعاف الطبقة العاملة وتقسيمها. كما تستعمل النِّساء بطبيعة الحال في أقسام «ضعيفة» و«هامشية» من الطبقة العاملة كما هو حال المهاجرين والمهاجرات.» لذلك تذهب نانسي فريزر في كتابها: حظوظ النسوية Fortunes of Feminism إلى ضرورة قطع الصلة مع النيوليبرالية لبناء مجتمع متضامن؛ حيث تقول «تتيح الأزمة الحالية الفرصة لتولي زمام الأمور وربط حلم تحرير المرأة برؤية لمجتمع متضامن. ولكي تتحقق هذه الغايات، تحتاج النسوية لقطع علاقتها باللِّيبرالية الجديدة، واعتماد «ثلاث مساهمات» لخدمة أغراضها الخاصة:
  • أولًا: يجب علينا أن نقطع الصلة الزائفة بين نقد مستوى دخل الأسرة والرأسمالية المرنة، والعمل لخلق شكل من الحياة لا يركز على أسعار/أجور العمل وتعزيز الأنشطة غير المأجورة، بما في ذلك أعمال الرعاية.
  • ثانيًا: علينا أن نغير مسارنا من السِّجال حول اقتصاد السوق إلى الهوية السياسية، بحيث يتم دمج النضال لتقديم شكلٍ يُناهض القيم الذكورية ويسعى لتحقيق العدالة الاقتصادية أيضًا.
  • أخيرًا: علينا قطع الصلة بين سجالنا حول البيروقراطية وأصولية السوق الحر من خلال استدعاء عباءة الديمقراطية التشاركية كوسيلة لتعزيز السلطات العامة اللَّازمة لتحجيم رأس المال من أجل عدالة اجتماعية. هكذا «ظهرت موجات النسوية كنقد للرأسمالية في شكلها الأول، إلا أنها أصبحت خادمة للرأسمالية في ثوبها الجديد الذي ظهر بعد الحرب.»

تجد الفلسفة بصيغة المؤنث شرعيتها في طبيعة الموضوعات التي تناولتها الوجوه المنتقاة في هذا العمل بقليل من التفصيل، ولكن بعمق فلسفي حي يروم إبراز دورها في تاريخ الفلسفة المعاصر. وفي انتظار وجوه أخرى في نفس المجال فإننا نتقدم بالشكر الجزيل لكل الصديقات والأصدقاء اللَّواتِي والذين قدموا ملاحظاتهم في مناسبات مختلفة، دون أن ننسى الدكتورة الفاضلة رجاء بن سلامة التي وفرت من وقتها الكثير للاطلاع على هذا العمل ومراجعته، وتجشمت عناء التقديم له، فألف تقدير واحترام لها على جهودها في سبيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤