الفيلسوفة السينمائية آين راند: ما نوع العالم الذي نعيش فيه؟

في مقدمة كتاب «في سبيل نخبة جديدة»، تقول آين راند: «يطلبون مني (أن أجيب) ما إذا كنت روائية أو فيلسوفة، أجيب: الاثنين معًا، وبمعنًى من المعاني، فكل روائية فيلسوفة؛ لأننا لا نستطيع أن نقدم صورة عن الوجود البشري من دون إطار فلسفي؛ فقبل أن أحدد وأشرح وأقدم تصوري للإنسان، عليَّ أن أكون فيلسوفة بالمعنى الدقيق للكلمة.» وآين راند (١٩٠٥–١٩٨٢) هي الكاتبة الروائية والسيناريست أليسا زينوفيفنا روزنباوم، التي اهتمت كثيرًا بالتقاليد الفلسفية، واشتهرت في عالم الأدب والفن السابع أكثر مما اشتهرت في عالم الفلسفة، على الرغم من كتاباتها الفلسفية الكثيرة، وأفكارها حول مذهب الموضوعية والنزعة العقلانية.

وُلدتْ آين راند في سانت بطرسبرغ في روسيا في ٢ فبراير (شباط) ١٩٠٥ من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى. وقد ساندت في هذه المدينة العمالية (الشهيرة كمعقِل للاشتراكية الديمقراطية الروسية بتقاليدها البلشفية) حكومة كيرينسكي البرجوازية، وسرعان ما كرهت الحكم البلشفي بعد ثورة أكتوبر ١٩١٧ وإسقاط حكومة كيرينسكي، وأعلنت عداءها للشيوعية وللثوريين؛ إذ صادر الثوريون صيدلية والدها؛ ما أجبرها على الرحيل إلى أوكرانيا. عُرفت آين منذ سن مبكرة (السابعة من عمرها) بمحاولاتها كتابة الرواية. وفي ربيعها التاسع، قررت أن تكون كاتبةً محترفة. وفي المدرسة الإعدادية، ستكتشف فيكتور هيغو ملهمها الحقيقي في عالم الأدب. وبعد عودتها من أوكرانيا، ستحصل على شهادة التعليم الثانوي في يونيو (حزيران) ١٩٢١، وتنتقل إلى جامعة بتروغراد، حيث تدرس الأدب والفلسفة وتكتشف أرسطو، وفريدريك فون شيلر، ودوستويفسكي. وسيتغير مسار الفيلسوفة آين راند سنة ١٩٢٤، بعد حصولها على شهادة الإجازة، حيث ستَلِجُ، في السنة نفسها، معهد الفنون السينمائية لاستكمال دراستها المحبوبة، بعد بحث استجاب لميولها: «هوليوود: مدينة الأفلام الأمريكية»، الذي يعبر عن استلهامها لروح المجتمع الأمريكي، وكانت لم تزل في روسيا. وفي سنة ١٩٢٦، حصلت على تأشيرة لزيارة أمريكا حيث استقرت إلى يوم وفاتها ٦ مارس (آذار) ١٩٨٢، في نيويورك التي ألهمتها بعمرانها وحضارتها الصاعدة آنذاك، بعد صراع مرير مع سرطان الرئة (عرفت بكونها مدخنة شرهة للغاية).

رافقت آين الكثير من نجوم وكتَّاب عالم السينما والفنون في هوليوود، وتركت أثرها في أعمالهم؛ بفضل خيالها الواسع، وأسلوبها المختلف عن السائد. وناقشت أفلام الويستيرن، ودعت إلى تجديد أسلوب العروض الفنية ومضمونها بما يتماشى ومتطلبات الحضارة الصاعدة. وبفعل عوامل كثيرة، صاحبت ثلة من النخب الأمريكية لتؤسس حلقة «الموضوعية» التي توِّجتْ بصحيفتها الشهيرة بالتسمية نفسها، والتي واظبت على إصدارها من ١٩٦٢ إلى ١٩٧١.

درَّست آين في ستينات القرن الماضي، في عددٍ من الجامعات الأمريكية: يال، برينستون، كولومبيا، هارفارد، وجوناس هوبكنز، حيث وضعت أهم أفكارها الفلسفية والسياسية والأخلاقية. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من سنة ١٩٦٣ حصلت على الدكتوراه من جامعة لويس وكلارك، ونشرت بحثها سنة ١٩٦٤، تحت عنوان فضيلة الأنانية The Virtue of Selfishness، الذي لخصت فيه فلسفتها الإثيقية والسياسية. تركت آين راند في عالم السينما، الكثير من رواياتها التي تحوَّلت إلى أفلام شهيرة: «نحن الأحياء» ١٩٣٦ (الترجمة الفرنسية ١٩٩٦)، وأخرجه الإيطالي غوفريدو اليساندريني سنة ١٩٤٢، كما هو الشأن بالنسبة لروايتها «منبع العيش» ١٩٤٣ (الترجمة الفرنسية ١٩٩٩)، و«الإضراب» في العقد نفسه (الترجمة الفرنسية ٢٠١١). ينضاف إليها مسرحية «ليلة ١٦ يناير» سنة ١٩٣٣.
ويعبر كتابها «فضيلة الأنانية» ١٩٦٤ (الترجمة الفرنسية ١٩٩٣)، إلى جانب «مدخل إلى الموضوعية الأبستمولوجية» ١٩٧٩، عن مجمل فلسفتها ومذهبها الأخلاقي في الموضوعية والعقلانية. غير أن محاضرتها البالغة الأهمية، التي ألقتها يوم ٦ مارس ١٩٧٤ أمام جمع من رجال السياسة والأعمال، والمعنونة ﺑ «فيم نحتاج الفلسفة؟» (أخرجها ووضبها ليونارد بيلكوف سنة ١٩٨٤)، ستلخص بإيجاز طروحاتها حول الإنسان. يعتبر «قاموس آين راند: الموضوعية من الألف إلى الياء»، الذي كتبه سنة ١٩٨٦، المتخصص في فكرها السيد هاري بينزوركر، أهم مرجع يؤسس ويؤرخ لطروحاتها حول مذهب «الموضوعية»، ناهيك بالكثير من المؤلفات حول سيرتها وأفكارها. ويذهب الفرنسي سيباستيان كاري، إلى أن فلسفة آين راند، تشمل أربعة مجالات كبرى: الميتافيزيقا، حيث نحتت مفهوم «الواقع الموضوعي» من منطلق أن الفكر ليس جامدًا ولا متعاليًا يسبح في سماء المعقولات، بعبارة سارتر، وإنما هو محايث لواقعٍ موضوعي بعيد عن تصورٍ قبلي، وهو ما تلخِّصه عبارتها الشَّهيرة: «لفهم الطبيعة عليك الامتثال لها». ولا يعني الامتثال هنا، الاستسلام المطلق، إنما يفيد بأن في الطبيعة ما يجعل الأشياء كما هي، ولكون الإنسان جزءًا منها، فهو «غاية في ذاته». وهي العبارة التي تلخص مذهبها في الأخلاق، حيث وضعت مفهوم «المصلحة الفردية» من منطلق أن نزعة الإيثار التي تعود إلى الوضعية والفلسفة الحديثة مع كانط وهيغل، قد أفسدت الحضارة البشرية، ومحت الأنا-وحدي Solipsisme الديكارتي، الذي مهَّد لفهمٍ عميق للذات الإنسانية بعد أن أخرجها من جحور العصور الوسطى. وضعت في كتابها «مدخل إلى الموضوعية الأبستمولوجية» أسس فلسفة العلوم (الأبستمولوجيا)، بفضل تصوُّرها الجديد لمفهوم العقل الذي يختزل فكرها في العبارة النيِّرة: «لا يمكنك أكل كعكتك والحفاظ عليها في الوقت نفسه.» لأننا بحاجة إلى تخليص المعرفة — كل المعرفة البشرية — من الخطأ.

وفي مجال السياسة تحدَّث سيباستيان كاري عن مفهوم «الرأسمالية الفوضوية»، حيث دعت آين راند لتصور بديل للدولة يقترب كثيرًا من الفوضوية الروسية، لكنه بعيد جدًّا عن التيارات السياسية الفوضوية التي تُنكر وجود الدولة، وعبارتها المدوِّية: «امنحني الحرية أو الموت»، تعني أن الفرد يمتلك قيمته في ذاته، من جهة أنه مكتفٍ بذاته ولا يتوجب أن تحبسه الغيرية التي أفسدت على الفرد قيمه الأخلاقية النبيلة، ووراء السعي نحو التخلص من قيم الغيرية فإن من واجبات الدولة العمل فقط على حفظ مصلحة الأفراد الذاتية؛ لأننا «لسنا دولةً ولا مجتمعًا بقدر ما نحن تجمُّعٌ بشري مبني على إرادتنا ويستجيب لمصلحتنا الفردية». وهؤلاء الأفراد يتقاسمون مجموعة من القيم خارج أي قوانين أو قواعد؛ لذا لا ينبغي ألا نقبل إلا القيم الموضوعية الضامنة لروح الأنانية العقلية أو أنانية المصلحة الفردية التي تمثل نقيض الغيرية أو عقلية القطيع (الجماعية)، حيث الفرد هو أساس كل الأخلاق يوجد لذاته وليس لغيره. وهنا تنفتح الفيلسوفة على مفهوم «الإنسان الأعلى» كما بلوره نيتشه، وعن مفهوم إرادة القوة وهو ما بلورته في كتابها: «في سبيل نخبة جديدة»، حيث راجعت أرسطو وأفلاطون وهيوم وكانط وهيغل.

من الأسئلة الفلسفية التي شغلت بال الفيلسوفة: ما نوع العالم الذي نعيش فيه؟ كيف يمكن إقامة حدٍّ فاصل بين المعرفة والخطأ؟ ما الشَّر؟ وما الخير؟ وهي الأسئلة التي وضعتها أساسًا لكتابها النَّيِّر: «فيمَ نحتاج الفلسفة؟» حيث دافعت في ١٨ مقالة عن الحاجة إلى وجود الفلسفة في كل مكان؛ لأن الحضارة الغربية قد أفلست بسبب فشل الفلسفة والفلاسفة في الدعوة إلى تقعيد وتشييد فلسفة العقل؛ فالفلسفة لا يجب أن تكون من اختصاص من يسكنون في البرج العالي؛ لأنها فلسفة للعيش على الأرض؛ عيش الفرد من أجل ذاته لا من أجل الآخرين. فكل كائن يعيش بطبيعة تحدد له الشروط الضرورية للحفاظ على بقائه، والناس بحاجة إلى منظومة أخلاقية؛ لأن محيطهم لا يمنحهم الأجوبة المباشرة على حاجاتهم. وفي هذا تردُّ على كانط الذي ارتكز جهده، بحسبها، على وضع أخلاقية غيرية قوَّضت النهضة الحديثة، ودمَّرت أسس الذاتية العقلانية؛ لأن الفرد يمكن وفق الواجب الكانطي، أن يكون شرِّيرًا أو خيِّرًا؛ لأنه يؤمن بالأساس الذاتي للقواعد الأخلاقية كقاعدة عامة للتصرُّف والسلوك البشريَّيْن. فهذا «الفيلسوف الكسول» (كما نعتته) دمر النَّزعة الفردية التي هي قوام الحياة وأساس البقاء، معتبرة إياه «أكبر شخصٍ سيئ في تاريخ الفلسفة». أبدى الكثير من المهتمين بالفلسفة المعاصرة، شكَّهم حول كون آين راند فيلسوفة، واعتبروها روائية وكاتبة سيناريو. غير أن هذا الاعتراف الذي كتبته في مقدمة كتابها «في سبيل نخبة جديدة»، يمكن أن يغيِّر التحفظ حولها: «يطلبون منِّي ما إذا كنت روائية أو فيلسوفة! وأجيب: الاثنتين معًا. وبمعنًى من المعاني، فكل روائية فيلسوفة؛ لأننا لا نستطيع أن نقدِّم صورةً عن الوجود البشري من دون إطار فلسفي؛ فقبل أن أحدِّد وأشرح وأقدم تصوري للإنسان، عليَّ أن أكون فيلسوفة بالمعنى الدقيق للكلمة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤