الفصل الثاني عشر

استعادة الثروة

في صبيحة أحد الأيام وفيما كانت سارا وبيكي تستمتعان بوليمة الصباح السرية، إذ بصوت خربشة واهنة على النافذة، تلاها ظهور وجه القرد الذي رفع زجاج النافذة كما فعل في المرة السابقة، ودخل إلى غرفة سارا.

عندما صرخت بيكي رعبًا، هدأت سارا من روعها: «لا تخافي، فما هو إلا قرد صغير لطيف من المنزل المجاور. ألا يبدو كالرضيع الصغير؟»

قالت بيكي وهي تقترب منه بتؤدة: «رضيع قبيح للغاية. ماذا ستفعلين به؟»

أجابت سارا: «حسنًا، أعرف أن رام داس والرجل الهندي سيقلقان عليه كثيرًا عندما يكتشفان غيابه. لذا لا بد أن أعيده إليهما في الحال.»

في المنزل المجاور، لم يكن أحد قد لاحظ غياب القرد بعد؛ إذ كانوا مشغولين جميعًا بالسيد كارميشيل الذي عاد لتوه من موسكو حاملًا أخبارًا سيئة؛ إذ لم يستطع العثور على ابنة كابتن كرو الصغيرة. وهكذا فإن السيد كاريسفورد — الذي أدخلت مهمة رام داس السرية في المنزل المجاور السعادة إلى قلبه فترة من الزمن — أصبح على الفور حزينًا وبائسًا للغاية.

قال كارميشيل بصوته المبهج: «لا تيأس، سنعثر عليها بكل تأكيد.»

قطع حوارهما الإعلان عن قدوم زائرة، وأخبرهما رام داس أن الطفلة التي تقطن المنزل المجاور جاءت كي تعيد القرد الذي قفز إلى غرفتها العلوية.

اقترح رام داس على سيده: «رأيت أنه قد يسرك أن تراها وتتحدث إليها.»

قصَّ السيد كاريسفورد في عجالة على السيد كارميشيل تفاصيل خطته هو ورام داس السحرية لمساعدة هذه الفتاة التي تقطن المنزل المجاور، فصاح أطفال السيد كارميشيل في ابتهاج لدى سماعهم القصة.

عندئذٍ أُدخلت سارا التي انحنت انحناءة احترام لدى دخولها.

قالت سارا بصوتها العذب الجميل للرجل الهندي: «فرّ قردك مرة ثانية، وخشيت أن تقلق عليه. هل أسلمه إلى الخادم الهندي؟»

تعجبت نورا: «وكيف عرفتِ أنه خادم هندي؟»

أجابت سارا: «إنني أعرفهم جيدًا، فقد وُلدتُ في الهند.»

اعتدل الرجل الهندي في جلسته فجأة حتى إن سارا فزعت لحظة.

وقال: «سلها أنت يا كارميشيل، فأنا لا أستطيع.»

كان والد أسرة لارج العطوف يعرف كيف يسأل الفتيات الصغيرات. ولأن سارا كانت تحب سرد القصص، أفصحت في دقائق معدودات بكل شيء عن نفسها؛ بدءًا من الخسارة التي مُني بها والدها في مناجم الماس بسبب صديق خذله ثم ولَّى الأدبار، ووصولًا إلى إجبارها على العمل خادمة في المطبخ في مدرسة الآنسة منشن الداخلية. وعندئذ وصلت إلى الفصل الأخير من قصتها؛ وهو السحر الذي أنقذ حياتها.

قال الرجل الهندي بصوت واهن: «ما اسم والدك؟»

قالت سارا في فخر: «كابتن رالف كرو.»

لهث الهندي العليل قائلًا: «كارميشيل! إنها الطفلة!» ولحظة بدا أن كاريسفورد السقيم سيخرّ مغشيًّا عليه، فاضطر رام داس أن يهرع إلى خارج الغرفة ليحضر زجاجة النشادر التي وضعها تحت أنفه ليعيده إلى الوعي.

سألت سارا في خجل: «أي طفلة أنا؟»

تكلم السيد كارميشيل في هدوء حتى لا يروعها.

– «السيد كاريسفورد هو صديق والدك، لكنه لم يخن والدك ولم يخسر أمواله. بل ظنَّ فقط أنه مُني بالخسارة لأنه كان مريضًا للغاية إثر إصابته بالحمى الدماغية. وفي الوقت الذي تعافى فيه، كان والدك قد مات، ومنذ ذلك الحين والسيد كاريسفورد يبحث عنكِ. لقد بحث عنكِ في كل أنحاء أوروبا — في فرنسا وموسكو — وأنتِ هنا طيلة الوقت!»

أكملت سارا كلامه: «أجل، أنا هنا طيلة عامين في المدرسة المجاورة.» لم تستطع سارا أن تصدق كم طال انتظارها. وعندئذ راودتها فكرة فقالت له: «انتظر لحظة من فضلك، هل رام داس هو من جلب الأشياء إلى غرفتي عبر السطح؟»

أجابتها جانيت: «أجل! لقد كان السيد كاريسفورد صديقك الخفي الثري.»

طوَّقت سارا بذراعيها النحيفين الرجل الهندي وعانقته بكل ما أوُتيت من قوة.

قال كارميشيل في سعادة: «هذا هو الدواء الذي يحتاجه صديقي.»

وفجأة جاءت الآنسة منشن مندفعة إلى داخل الغرفة وخلفها إحدى الخادمات تلتمس العذر من الجميع؛ فقد رأت إحدى التلميذات سارا وهي تدخل إلى المنزل المجاور.

نهضت سارا من مكانها وقد ازداد وجهها شحوبًا، لكن السيد كاريسفورد وضع يده على رأسها ليهدئ من روعها.

قالت الآنسة منشن في ضجر: «آسفة على إزعاجكم، أنا الآنسة منشن مديرة مدرسة الفتيات الداخلية المجاورة. أعتذر بشدة عن الإزعاج الذي صدر عن هذه الطفلة.» ثم التفتت إلى سارا وقالت: «وأنتِ، عودي إلى المنزل في الحال! سوف ينزل بكِ أشد العقاب.»

لكن الرجل الهندي أمسك سارا بجانبه، وقال: «لن تذهب إلى أي مكان. إنها في منزلها الآن.»

ارتدَّت الآنسة منشن إلى الوراء في ذهول، ثم قالت لاهثة: «ماذا تعني؟»

لم يشأ السيد كاريسفورد أن يضيع المزيد من الوقت مع الآنسة منشن.

وعندئذ روى السيد كارميشيل القصة بأكملها؛ وأخبرها بأن كاريسفورد كان شريك كابتن كرو في مشروعه التجاري في مناجم الماس، وشرح لها كيف أن الثروة التي ظُن أنها فُقدت لم تعد فحسب وإنما عادت أضعافًا مضاعفة.

والآن ستئول جميعها إلى سارا.

وكانت الآنسة منشن، التي تفتقر إلى الذكاء، حمقاء للغاية حتى إنها سعت للقيام بمحاولة أخيرة من أجل الاستحواذ على ثروة سارا.

قالت الآنسة منشن: «لقد ترك كابتن كرو ابنته تحت رعايتي. ولن أسمح لها بالرحيل، سوف يقف القانون في صفي. وإذا مكثَتْ هنا، فلن أسمح لها برؤية صديقاتها مجددًا!»

صحح كاريسفورد كلامها: «القانون سيقف في صف سارا. ولا أظن أن آباء صديقات الآنسة سارا كرو سوف يرفضون دعوتها لهم لزيارتها في منزل حاضنها الجديد.»

ارتاعت الآنسة منشن؛ إذ كانت تعلم أن السيد كاريسفورد على صواب. ومن عساه أن يمانع في أن تلعب ابنته مع الوريثة المستقبلية لمثل هذه الثروة الهائلة؟ وهكذا بعد أن انحنت على نحو أخرق وهي تدمدم إلى نفسها، تسللت إلى الخارج.

وعندما وصلت منزلها، كانت الآنسة أميليا في انتظارها وقد جن جنونها.

انفجرت الآنسة أميليا في شجاعة غير معهودة: «لقد فاض الكيل. عادة ما كنت أفكر في أنكِ تعاملين سارا معاملة سيئة، لكنني لم أعترض قط. كانت سارا شجاعة بارَّة، وكانت ستجازيكِ عن أي معروف تصنعينه معها. لكنكِ لم تقدمي لها أي معروف قط، أليس كذلك؟ أنتِ امرأة أنانية متحجرة الفؤاد!»

قالت الآنسة منشن وهي تلهث: «أميليا!»

استرسلت الآنسة أميليا: «ومع ذلك كانت تتصرف دائمًا كأنها أميرة صغيرة بغض النظر عن سوء معاملتنا لها. والآن قد فقدِتها، وسوف تستحوذ عليها وعلى أموالها مدرسة أخرى. والأدهى من كل ذلك أنهم سيخبرون الجميع عن معاملتنا لها. وسوف يعرفون بأمر ملابسها الخفيفة البالية والفتات الذي كنا نرميه لها، والعمل الشاق الذي كنا نضعه على عاتقها. إذا تركت كل تلميذاتنا المدرسة وفقدنا كل شيء، فنحن نستحق ذلك عن جدارة!»

لم تعرف الآنسة منشن بم تجيبها، فكان صمتها اعترافًا منها بأن الآنسة أميليا على حق. والحقيقة أنه منذ ذلك الحين باتت الآنسة منشن تخشى أختها.

•••

برحيل سارا أصبحت إرمنجارد بدورها راوية القصص؛ لقد عرفت بكل ما حدث من الخطاب المطول الذي بعثته سارا إليها.

أخبرت الفتيات الأخريات: «كانت هناك مناجم ماس يعج كل واحد منها بملايين الماسات. والآن ستصير سارا أميرة أكثر من ذي قبل بكثير! أرأيتن، كما كانت تتخيل بالضبط!»

لم تكن سارا قد كتبت إلى بيكي بعد، لكن بيكي سمعت مصادفة بحديث الفتيات الأخريات. ومع أنها كانت في قمة السعادة من أجل سارا، خشيت من أن يفارقها السحر الموجود في حياتها برحيل سارا.

وعندما بلغت درجات السلم الأخيرة المؤدية إلى غرفة سارا القديمة، توقفت وأخذت تفكر في أنه لن توجد نيران في المدفأة الليلة، ولا مصابيح وردية، ولا عشاء، ولا أميرة تروي قصصًا خيالية رائعة.

لكنها أقرت بأنها لا بد أن تواجه الواقع، ثم حبست دموعها، ودفعت الباب.

كانت بيكي محقة في شيء واحد فحسب؛ لم تكن هناك أميرة، لكن كانت هناك مصابيح وردية، وعشاء، ورجل داكن البشرة يعصب رأسه بعمامة بيضاء ويبتسم لها.

قال رام داس: «بيكي، سارا لم تنساكِ. لقد أخبرت السيد كاريسفورد بكل شيء، وهو يدعوكِ أن تأتي إليه غدًا، سوف تصبحين وصيفة الآنسة سارا.» ثم لوح بيديه إلى كل الأشياء الجميلة التي كان قد جلبها على مدى الأسابيع الماضية، وقال: «الليلة سوف أعيد كل هذه الأشياء إلى بيتي عبر السطح.»

وبعدها انحنى لها في احترام وتسلل عائدًا على ضوء السماء. عرفت بيكي من خلال خفة حركته ورشاقته كيف أنه تسلل إلى هنا كثيرًا من قبل.

وما أشد السعادة التي كانت تغمر أطفال أسرة لارج! فالصعاب والمغامرات التي مرت بها سارا جعلتها محل اهتمام الجميع. أراد الجميع سماع ما حدث لها مرارًا وتكرارًا، وكانت قصتهم المفضلة هي قصة المأدبة الملكية والحلم الذي اتضح أنه حقيقة.

ابتسم الرجل الهندي الذي كان يجلس إلى جانب سارا بجوار المدفأة؛ إذ كان هذا هو الجزء المفضل لديه من القصة أيضًا.

قالت سارا: «أنا في قمة السرور، أنا في قمة السرور أنك كنت صديقي الخفي!»

ربطت بينهما صداقة قوية، وبالطبع لم تعوضها هذه الصداقة عن فقدان والدها، لكنها كانت أفضل شيء بعده. وبدا أن سارا والسيد كاريسفورد متناغمان معًا. ومثلما كان والدها يفعل تمامًا؛ سُر السيد كاريسفورد بأن يهبها الأشياء ويعد لها المفاجآت السارة. وقد رأى أنه لا خوف من فساد أخلاقها من التدليل المفرط، لا سيما بعد الأحداث المروعة التي تعرضت لها.

وقد كانت سارا عند حسن ظنه بالفعل؛ إذ أخبرته بكل جرأة عن خطة تحتاج إلى مساعدته فيها.

سألها: «وما هي أيتها الأميرة؟ كيف لي أن أساعدك؟»

أخبرته سارا عن المرأة في متجر بيع المخبوزات، والشحَّاذة الصغيرة الجائعة التي تجوب الشوارع، وطلبت منه: «إذا كنت أملك وفرة من المال، فهل يمكنني أن أخبر هذه المرأة أنه في أيام البرد القارس يمكنها أن تطعم كل الأطفال الشحَّاذين الذين يتضورون جوعًا، ثم ترسل الفواتير إليّ؟»

وافق الرجل الهندي، وقال: «سوف نعد العدة لهذا الأمر صباح الغد.» وتعهَّد الرجل بينه وبين نفسه أن يسدد كل الفواتير بالفعل.

وفي صباح اليوم التالي، وبينما كانت الآنسة منشن تنظر بمرارة عبر النافذة، صعدت سارا إلى عربة أسرة لارج متدثرة بمعطف جديد من الفرو. وفي هذا اليوم، نفذت سارا أولى خططها المتعددة لمساعدة الآخرين. لقد ذاقت «السيدة الصغيرة» الكثير من الحرمان والحزن، لكنها اجتازتها وهي تعرف أن العالم لا يزال يعج بالسحر.

وأدركت سارا أن هذه ليست سوى بداية رحلة حياة جديدة رائعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤