الفصل السابع

الشحَّاذة الصغيرة

بعدما رحل الخادم وقفت سارا في منتصف غرفتها تغمرها الذكريات. وكان الخادم هو من أعاد ذكرياتها إليها، لا سيما عندما تحدث إليها بلطف شديد وكأنها لا تزال أميرة صغيرة، ولا تزال تتمتع بالحق الإلهي في الوجود في هذا العالم.

ومع أنها قد استعادت قدرتها على ابتكار القصص الخيالية في الأيام الأخيرة الصعبة مما أنقذ حياتها بحق، فكَّرت سارا أن هناك «تخيلًا» واحدًا ما زالت لا تستطيع أن تنعشه من جديد؛ وهو كونها أميرة. رأت سارا أنه حتى أعظم خبير في الخيال لا يستطيع أن يحيي هذا الأمر لديها في ظل أوضاع حياتها الحالية.

لكن رؤيتها للخادم والقرد قد شدت من عزمها من جديد. فكرت سارا في نفسها: «حتى إذا كنت أميرة وهمية ترتدي ملابس بالية ورثَّة، يمكنني أن أظل أميرة حقيقية في داخلي.»

ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، تعاملت سارا مع الآخرين على هذا الأساس؛ فكلما عاملها أحد بقسوة، ثبَّتت عينيها في عينيه، وابتسمت.

كانت تفكِّر في نفسها: «أنتم لا تعرفون أنكم تهينون أميرة. بمقدوري أن أزِجَّ بكم في السجن بإشارة من إصبعي، لكنني سأعفو عنكم فقط لأنني أميرة وأنتم كائنات بائسة حمقاء وضيعة لا تعرف أن تتصرف أفضل من ذلك!»

وفي إحدى المرات عندما كانت سارا مشغولة بتلك الأفكار، بدا أن الآنسة منشن تقرأ أفكارها؛ فلسبب ما (لم تعرفه الآنسة منشن نفسها)، اقتربت من سارا وضربتها بقبضة يدها على جانب رأسها على مرأى ومسمع من جميع الفتيات الأخريات.

قالت الآنسة أميليا في ذهول: «أختي!» فقد بدا لها أن سارا كانت واقفة لا تفعل شيئًا. علاوة على أن أختها لم تعتد ضرب سارا (وبيكي أيضًا) قط في الفصل المدرسي. قالت الآنسة أميليا: «لمَ فعلتِ هذا؟ هل تفوهت سارا بكلام مسيء؟»

اعترفت الآنسة منشن: «كلا، لكنها كانت تفكر في شيء ما، وأنا موقنة من هذا.» ثم ضيَّقت عينيها وهي تنظر إلى سارا شزرًا.

قالت الآنسة منشن: «كنتِ تفكرين في أمر وقح، اعترفي!»

أجابتها سارا بثبات: «أجل.»

صرخت الآنسة منشن: «وكيف تجرئين على التفكير؟»

كان سؤالها سخيفًا حتى إن عددًا من الفتيات ضحكن.

احمرَّ وجه الآنسة منشن خجلًا، فصحَّحت سؤالها: «أقصد فيم كنتِ تفكرين؟»

ظنَّت سارا أنه ربما يمثل خطرًا عليها أن تجيب الآنسة منشن، لكنها رأت أنه من واجبها أن تعطي إجابة أمينة.

استهلت سارا كلامها في تأنٍ وجديَّة: «كنت أتساءل عن شعورك إذا اكتشفتِ أنني أميرة حقًّا. أتساءل هل سيتملكك الفزع، أم ستندمين على أنكِ حبست أميرة حقيقية في عليتك، وكنتِ تسيئين معاملتها طوال الوقت.»

كانت جميع الفتيات الأخريات ينصتن عن كثب، لا يُسمع نفس إحداهن وهن يترقَّبن في شغف سماع رد الآنسة منشن.

صرخت الآنسة منشن وهي تلهث: «اذهبي إلى غرفتك الآن!» وشعرت وكأنها ستخرّ مغشيًّا عليها. كيف لمثل هذه الفتاة المغرورة الصغيرة أن تقهرها؟ اشتد غضب الآنسة منشن حتى إنها لم تعد تستطيع التحكم في أعصابها، فالتفتت إلى التلميذات، وصرخت فيهن: «وأنتن، أيتها الفتيات، انتبهن إلى دروسكن!»

همست جيسي إلى لافينيا التي بدت وكأنها دُهِشت من رد سارا مثل الآنسة منشن: «هل رأيتِ أمارات التشامخ على وجهها الصغير؟ لن أندهش على الإطلاق إذا اتضح أنها شخصية مهمة بالفعل! أكاد أتمنى أن تكون كذلك!»

•••

في إحدى الأمسيات حدث أمر غريب للغاية. كان أطفال أسرة لارج في طريقهم إلى إحدى الحفلات. وفيما كانوا يستقلون عربتهم، مرت سارا بهم. صعدت فيرونيكا أوستاسيا لارج وروزاليند جلاديز لارج (كانت سارا هي من اختلق هذه الأسماء) اللتان ترتديان ثوبين جميلين ووشاحين حول خصريهما إلى العربة، يتبعهما جاي كلارنس لارج البالغ من العمر خمس سنوات.

وكان كلارنس طفلًا جميلًا ذا وجنتين ورديتين نضرتين وعينين زرقاوين، حتى إن سارا نسيت أمر السلَّة التي بيدها وهيئتها الرثَّة الغريبة. وبدلًا من أن تسرع في طريقها، كما كانت تفعل مؤخرًا لدى وجودها وسط العامة، توقفت لحظة لتنظر إلى جاي كلارنس.

كان اليوم يوم عيد الميلاد، فأخذ جاي كلارنس يسترجع ما أخبره به أبواه من أن هناك أطفالًا فقراء في العالم لا يحظون بهدايا عيد الميلاد الجميلة، أو بعشاء عيد الميلاد الدافئ الشهي. وقد أحزنت هذه الأقوال جاي كلارنس وكدرته للغاية حتى إنه أقسم أن يعثر على أحد هؤلاء الأطفال الفقراء — مثل تلك الفتاة التي تقف أمامه — ويعطيه كل النقود التي يحتفظ بها في جيبه. لم يكن جاي كلارنس يدرك الكثير عن النقود، وقد ظن أن كنزه الصغير قد يثري أحدهم. ولأنه كان يتمتع بنفس كريمة، فقد سُرَّ بأن يفعل هذا، وبدت سارا الاختيار الأمثل.

ناداها جاي كلارنس: «يا صغيرتي المسكينة!» ثم وضع يده في جيبه ليُخرج نقوده وقال: «إليكِ مدخراتي، سوف أعطيكِ إياها.»

طرفت سارا بعينيها، وأدركت على الفور أنها بدت كالأطفال المتسولين المساكين التي كانت تراهم عندما كانت تعيش أفضل أيامها، فاحمر وجهها، ثم شحب.

ردت سارا: «لا، لا! أقصد، شكرًا لك، لكنني لا أستطيع أن أقبلها.»

لم يكن صوت سارا كصوت شحاذة صغيرة مسكينة حتى إن فيرونيكا أوستاسيا (التي كان اسمها الحقيقي جانيت) وروزاليند جلاديز (التي كان اسمها الحقيقي نورا) مالتا إلى الأمام كي تنصتا.

ترجاها جاي كلارنس: «أرجوكِ اسمعيني أيتها الشحاذة الصغيرة المسكينة.» وكانت شفته السفلي ترتجف، فكانت تشبه إلى حد ما شفة لوتي وهي ترتجف، وبدا أنه سوف يهم بالبكاء. قال الصبي: «بمقدورك أن تشتري طعامًا بهذه النقود. ألستِ جائعة؟»

لم يكن الصبي يعرف أن سارا تحتاج إلى الدفء والحياة السعيدة التي ينعم بها أطفال أسرة لارج أكثر من حاجتها إلى الطعام. لكن سارا كانت جائعة أيضًا، وكان جاي كلارنس حسن النية وطيبًا للغاية، فأدركت أنه ليس من دماثة الخلق أن ترده. لذا مدت يدها، وأخذت العملات، ووضعتها بكبرياء في جيبها.

عانقته سارا قائلة: «شكرًا لك يا جاي كلارنس. يا لك من فتى عطوف لطيف!» ثم أسرعت في طريقها مبتعدة عنهم وعيناها تزرف الدمع.

سأل الفتى: «لماذا نادتني باسم جاي كلارنس؟» (كان اسمه الحقيقي دونالد).

سألت جانيت: «ولماذا كانت تتحدث برقي جمّ؟ فلو كانت شحاذة لقالت: «أشكرك يا سيدي»، ولكانت انتزعت العملات، وربما انحنت تعبيرًا عن امتنانها.»

قالت نورا: «أظن أنها خادمة في هذه المدرسة الواقعة في الميدان، لكنها ليست متسولة بالطبع على الرغم من هيئتها الرثَّة.»

ومذ ذلك الحين فصاعدًا، باتت أسرة لارج شغوفة بشأن سارا تمامًا كما كانت هي شغوفة بشأنهم. ولمّا لم يكونوا يعرفون اسمها، صاروا يلقبونها: «الفتاة الصغيرة التي ليست شحَّاذة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤