أسطورة النهار والليل
يُحكى أن تلك التي أصبحت الآن الصحراء، كانت في يومٍ ما مساحة شاسعة من الأرض الخصبة تُغطيها الغابات والمراعي، وتجري فيها المياه المُنعشة التي تسكنها الأسماك، وكان يعبش فيها الرجال والحيوانات في تناغُم فيما بينهم.
في النهار تتلألأ الشمس وتمنح الحياة واللون لكلِّ شيء. تمنح السماء لونها الأزرق للبحار وأسطح المياه، الأشعة الذهبية تُفتِّح الأزهار وتُربِّت على الحيوانات والهضاب. في الليل تُزين الظلالُ والنعاسُ الأراضي، ويُغطي غطاء طازج من النجوم كلَّ شيء، ويتبادل النهار والليل دورَيهما بتناغُمِ وجهَين جميلَين لميداليةٍ ثمينة.
في أحد الأيام كانت الشمس حارقة وقوية، بينما يجلس أحد جامعي البلَح أسفل ظلال شجرة نخيلٍ يستريح. وبينما يتأرجح بحثًا عن بعض الانتعاش يتوجَّه إلى الشمس قائلًا: مِن المؤكد أنكِ أحيانًا تُبالِغين في حرارتك، عزيزتي الشمس! وبهذا الإيقاع ستشوينا جميعًا! أتمنَّى أن تغربي سريعًا، فالليل أحنُّ علينا جميعًا منك!
أجابت الشمس، وقد دهشها ذلك التطاول، لأنها تعتقِد أنها محبوبة بقدْر قُدرتها، وقالت بضيق: الليل؟ ولكن الليل مُظلِم! كيف تُقارنه بالنهار؟ كيف يُمكنك أن تُعجَب بكل جمال الطبيعة إذا لم أكُن موجودة لأنيرها لك؟
– هذا حقيقي بالتأكيد، ولكن أؤكد لك أن الليل أيضًا له سِحره، بالتحديد لأنه يُغلف كل شيءٍ في غموضه. عزيزتي الشمس، لا يرى المرء فقط بعينَيه! فالقلب لا يحتاج لضوئك، بل أحيانًا يُساعدنا الليل لنرى ما لا يمكن رؤيته بسبب ضوئك الذي يُغشِّي العينَين. في الليل نشعُر بحواسِّنا الأخرى، ونحلم، ويمكن أيضًا النظر إلى السماء. إن السماء في الليل يا صديقتي العزيزة، بهجةٌ مِن اللألأة لا يُمكنك تخيُّلها. ثم إن القمر موجود أيضًا! مَلِكٌ صدِّقيني، فهو الرفيق اللامع والعذب الذي يُمكنه أن يُخفف وطأة الليل على العطشان للسحر، لمن يُحب، لمن يشعر بالوحدة أو لمن يشعر بالتعاسة، ولِمن يشعر بالفرح أيضًا …
شعرت الشمس بالإحباط: ما هذا الذي تقوله؟ كنتُ أعرف أنكم جميعًا تنامون في حالة عدم وجودي: الناس والزهور والحيوانات! فأنا مَن أمنحكم الحياة، والضوء والحرارة، فأنا من يُضيء الألوان ويُوضح لكم كلَّ شيءٍ في السماء، وأجعل المياه شفَّافة! كيف يمكن أن تُفكر أن غيابي أمر جيد؟ إن الليل يُشبه الموت، على حدِّ عِلمي. ثم ماذا تعني كلمة «عاشق»؟ مَن هم أولئك العُشَّاق الذين يتحدَّثون إلى القمر؟ ولكن من هو ذلك «القمر»؟
– آه يا شمس! يُمكنني أن أُجيب عن كل أسئلتك تلك بإيماءة واحدة: أنا واثق أنك لو تعرَّفتِ على القمر، سيقع النهار أيضًا في حُب الليل، وستفهمين معنى هذا! ولكن لا يوجَد النهار في وجود الليل، ولا يوجَد ليل في وجود النهار.
– أريد أن أقابل القمر؟
– حسنًا، ولكن كيف؟
– لا أعرف … سأُحاول أن أغرب متأخرة، ربما أفاجئه لحظة حضوره …
في تلك الليلة حكى جامع البلَح للقمر أن الشمس ترغب في لقائه، وشعر هو برغبةٍ في ذلك، ولكن لم يكن يعرف ماذا يفعل. وحدث أن بدأت الشمس في التلألُؤ أكثر بقوةٍ لتُطيل النهار، وأصبح النهار والحرارة في الأرض غير مُحتملة. ثم كانت تُضطر لأن تترك الشمس فجأة. لم تستطع حتى أن تلمح القمر المُضيء. وأصبح واجب الليل أن يُعيد بعض الهواء المُنعش إلى الأرض القارصة الحرارة والجافَّة. ولمدةٍ طويلة بدأت الطبيعة الجميلة تُعاني من ذلك: فالنباتات بدأت تجف، والمياه تتبخر، والحيوانات تهرب بعيدًا، والصخور تتشقَّق، ولم تبقَ سوى بعض المخلوقات في تلك الصحراء.
إلا أنه أخيرًا حدث شيءٌ عجيب: جاء الليل بالنهار! كان وقت الخسوف! في ذلك اليوم قابلتِ الشمس القمر، في ذلك اليوم قابل النهار الليل، وانصهر الضوء في الليل، كانت النجوم تلمع في المساء في الليل، مجرد ثوانٍ، ولكن لم يعُد أي شيءٍ بعدها كالسابق.
لقد وقع النهار في حُب الليل، والليل في حُب النهار. منذ تلك اللحظة عاشا يجري كلٌّ منهما خلف الآخر، في انتظار لقاءٍ عابر آخر، يمنح معنًى لذلك الحُب. يُقال إنه في اللحظات الوجيزة للخسوف تعود الصحراء للازدهار والأنهار لتجري لامعةً بين التلال الخضراء. لثوانٍ قليلة، ثم يتوقَّف كل شيء. فحمية النهار العاشق تعود لتحرق مساحات الكثيب الذهبي وتُنعشها أمطار النجوم في الليل. سُمح فقط لأشجار النخيل أن تستريح، ولبلحها أن يحتوي على المذاق العذب لذلك العشق، ذكرى جامع البلح الذي حدَّث النهار عن الليل.
•••
دُهشتُ ولم أنطق. حكى الجد كريم القصة وهو يتوقَّف كل بضع عباراتٍ ليسمح لحفيده بأن يُترجمها لي، وتلك الوقفات الوجيزة المليئة بالكلمات العربية والتي يبدو لي أنني أُخمنها، مع تعبيرات الراوي، منحت للقصة تدفُّقًا شعوريًّا متزايدًا. وبالتدريج بدأ صوت بابلو يكشف المشاعر نفسها لدَيه، وبدأت القصة تزداد تأثرًا وبطئًا حتى بدا أنه لا يُريدها أن تنتهي. إذن كنَّا هكذا نبدو في عين الجد … مثل عاشقَين مصيرهما البحث الواحد عن الآخر دون أن يمكثا معًا. شيء بشِع.
لم أكن قد عبَّرتُ بعدُ عن رغبتي في الانضمام إلى الجمعية غير الحكومية، إلا أن الأسطورة تتحدَّث بوضوح: الوقت الذي تقابلا فيه، وقعا في الحُب، وهكذا، انتهى هناك: فالفنجان كُسِر. يبدو واضحًا أنني لن أتخلَّى عن طريقي هذا، ويبدو أيضًا واضحًا أن بابلو لن يتبعني. امتنعتُ عن التعليق، حيث سيكون على بابلو الترجمة … ببساطةٍ ابتسمت بحُزن للجد، ونهض هو ليُودِّعنا، أحنى رأسه قليلًا جانبًا بسلوكٍ أبوي وفاجأني بأن وضع يدَه على كتفي. تحدَّث معي بالعربية، ولكنني فهمتُ من عينَيه: سيسير كل شيءٍ على ما يُرام، رأيتُ ذلك في قاع فنجان القهوة، وسيعود الفنجان سليمًا. كل شيءٍ سيسير على ما يُرام، إن شاء الله. فترات الخسوف تحدُث. الله يباركك.
في تلك اللحظة اقترب بابلو من البيانو ودون أن يجلس عزف بعض النغمات الشديدة العذوبة: إنه لحنُك يا مايا. إنها مسيرتك، طريقك الجديد … هل تسمعينه؟
موسيقى عرفَتِ الإجابات. عرفَتْها أفضل منِّي.
•••
يثقل عليَّ التفكير من جديد في ذلك اليوم الذي بدأ رائعًا ثم أصبح بشعًا، تمامًا مثل البحر عندما يغضب فجأة، أو مثل الصحراء عندما تكتشف أن الواحة التي رأيتَها لتوِّك ليست سوى سراب.
أحتاج البقاء قليلًا بمُفردي لأُرتِّب أفكاري.
سرتُ بلا هدف، اللحن الذي عزفه بابلو على البيانو يدقُّ بعذوبته المُدمرة. كان تتابُعًا مُتبادلًا مِن الأحلام والكوابيس بعينَين مفتوحتَين، تتشابك فيما بينها مع ذكرياتٍ طازجة ورائعة لليلةِ الحُب. للأسف لم يبقَ في الوعي سوى الكابوس. ليس هناك الكثير لأفعله؛ فلستُ صاحبة الاختيار وحدي. لحقَ بي بابلو كريم برأسٍ مُنخفض. الأمر يثقُل عليه هو أيضًا، يُكلِّفه أن يقول ما يجب عليه أن يقوله لي، ولكنني من سأُعاني أكثر.
يُقال إن مَن يُحب كثيرًا قادر على ترك الآخر، إذا رأى أن الأمر لمصلحته. يُقال هكذا … ويُقال أيضًا إن من لدَيه حصافة أكثر عليه استخدامها، ويُقولون أشياء أُخرى كثيرة، ولكنَّني لم أكن مُقتنعة. كنتُ أفهم وأُدرك ما يقولونه، ولكنَّني لم أُوافق على أي شيء، على الإطلاق.
في الليلة التي فيها أصبحنا أنا وبابلو شيئًا واحدًا، تلك الليلة التي فيها كان الحُب الذي شعرتُ به يستحق السماء المُرصَّعة بالنجوم والصحراء العظيمة، كانت هي الليلة السابقة للتمزُّق والانفصال. وعلى ضوء الأحداث أعتقِد أنَّ الموت في تلك الحالة كان سيكون أخفَّ ألمًا، لأنه ربما لن يكون ثمرة اختيارٍ واعٍ؛ فالموت ينزع عنك الثمال، ويترك لك الذكريات الرائعة، والمشاعر المقدسة. الانفصال عن عمدٍ (وهنا أقصد من طرفٍ واحد) ينزع عنك ثِقتك بنفسك إلى الأبد، يُعذبك لأعوامٍ بأملٍ يبدو كمياهٍ ترتفع، ترتفع حتى تُغرقك وتقتُلك. ثم تُدرك أنك لم تمُت، لم تمُت فعليًّا، ولكنَّ شيئًا ما في داخلك مات إلى الأبد ومحله يبقى الغضب وعدم الأمان والإحباط.
كان بابلو أكبر سنًّا، وكان أكثر حكمة، قرَّر هو الشيء الأفضل لي. بكى بابلو أمامي، ولكنه كان مُقتنعًا أنه يعرف الشيء الأفضل لي. وعندما قلتُ له إنه منذ شهرَين لم يكن يعرف الشيء الأفضل لحياته، والآن فجأة فَهِم كل شيء، أخذ يقول: إنك صغيرة السنِّ جدًّا لتترُكي قلبك يُحدد لك اختياراتك؛ فالعالم ما زال عليه أن يُطلِعك على الكثير! والآن يُقدم لك الفرصة لتستفيدي من ثرائك الداخلي، من مشاعرك المُرهفة، ومن حُبك للقريب.
فقلت له: أنت لا تُقدِّر كثيرًا حُبي لك. ونسيتَ أن القلب لا يُسجَن ولا يُجبَر بالإقناع! لا أستطيع أن أستغني عن حُبك …
– لا يا مايا، أنا لا أُقلل من قيمة حُبك، على العكس، لا أُريدك أن تكرِّسي نفسك لأجلي على حساب كلِّ شيءٍ آخر. أُقدِّر قيمة حياتك، ونفسك الحُرة، أقدِّر حماسك في البحث واكتشاف الجمال، ودهشتك عند العثور عليه. العالم بأكملِه ينتظرك، خبرة غزة لن تكون سوى البداية.
ماذا يُمكنني أن أمنحكِ؟ لا شيء، طريق غير واضح، بعض الأمنيات القليلة، آلاف التساؤلات، أشياء كثيرة لا بدَّ من توضيحها داخلي وخارجي.
كم مِن الكلمات الجميلة التي يغرسها في قلبي مثل المسامير …
– مايا، أنت بالنسبة لي مثل أشعَّة الشمس في أعقاب التخبُّط طويلًا في الظلام، ولا أريد أن أكون أنا من يُطفئك، لستُ مستعدًّا، وليس لديَّ أي شيءٍ أُقدمه لك لأنني لا أعرف حقًّا مَن أنا. الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنك غالية جدًّا بالنسبة لي؛ ولهذا سأترُكك حرة. هل تفهمينني؟
– لا، لا أفهم، هذا شيء مُتناقِض، ولكنكَ تؤلِمني عن عمدٍ الآن!
– سأولمك بالفعل إذا أخذتُ على نفسي التزاماتٍ لن أستطيع الوفاء بها! إذا تركتُ نفسي ليَسحرني الطريق الذي يبدو أكثر سهولةً ومتعة، طريق الحُب، ولكن الأمر لا يسير هكذا؛ فأنا مُضطرب تجاه أشياء كثيرة، ولكنني أعرف يقينيًّا أن الطريق الأبسط ليس هو بالتأكيد الصواب، وفي حالة الحُب … حسنًا … كثيرًا ما يكون التخلِّي هو العطية الأعظم. فأنا أمنحك حُبي والحرية.
•••
أقسم أنَّني كنتُ أفضل ضرباتٍ بالهراوة. لم أُجبه. بدا لي كلُّ هذا الحديث شرًّا صرفًا، نفاقًا، وأخذتُ أبكي برأسٍ منخفضٍ مُستندة على صدره، كانت قبضتاي مُغلقتَين مضمومتَين. بدا كأنه يريد أن يقوم بالاختيار الذي لم تواتِ أباه الشجاعة ليُنفِّذه، في زمنِه مع آنا. إلا …
– إذا كان ذلك ما يُريده القدَر فإن تلك الشُّعلة لن تنطفئ ويومًا ما، من يدري، عندما يُغطي القمر الشمس، ستكون شعلة حُبنا ما يقشع الظلام مرة أخرى وتُنير حياتنا إلى الأبد.
– إذن عليَّ أن أنتظر خسوف الشمس؟ هل هذا وعدٌ أم موعد؟ تحدٍّ؟ أم مجرد سخرية من شخصية رومانسية؟
– ليس وعدًا يا مايا، لا بل وداع، ولكن إذا حدث ذلك الخسوف، سأكون أنا أيضًا موجودًا في ذلك اليوم. ذلك النهار الذي سيكون ليلًا أيضًا. وإذا عثرتُ عليك من جديد، سيكون ذلك للأبد.
لوهلةٍ شعرت بأنني مستريحة، أمام ذلك الاحتمال الظاهر، ولكنني بعدَها على الفور شعرتُ كم أنا غبيَّة أمام عبَث ذلك الأمل. كان يمكن أن يقول لي: لنتقابل يومًا في نهاية العالم، فذلك سيكون أضمن.
كل ذلك الحُب وتلك السعادة منذ تلك اللحظة تحوَّلت إلى غضبٍ ويأس. لم أرغب في أن أبكي ولكنَّني أردتُ البكاء لأعاقبه قليلًا وليشعر بالذنب بعض الشيء، ولكن في الوقت نفسه أرادت كبريائي أن تقوم، وأن تنتصِر. انفصلتُ عنه، واستمررتُ في النظر إلى الأرض، رجعت خطوات إلى الوراء بينما مكث هو ثابتًا في صمت. حاول بعدَها أن يمدَّ يدَه ليصل إلى شعري، ولكنني تراجعت، واستمررتُ في عدم النظر إليه. عندئذٍ أدركتُ الصوت البطيء لخطواته، والتراب الذي ارتفع، وصوت مُحرك سيارة جيب يشتغل، وهكذا رحلَ بلا شكٍّ ولا أي تردُّد. رحل بعيدًا. وأصبح بابلو كريم فصلًا مغلقًا. إلا أنه كان موجودًا، كان مرئيًّا في الأفق، وبدأت كلماته الأخيرة تتردَّد في ذهني: إنه الوداع. إذا عثرتُ عليك من جديد سيكون ذلك للأبد.
ولكن هل هو وداع أم لا؟ رحلتَ بحثًا عن نفسك، وإذا عثرتَ عليها هل ستعثر أيضًا عليَّ؟ ولكن ممَّن ترغب في السخرية؟ يا لك من إنسانٍ منافق! كان يكفي أن تقول: كان كلُّ شيءٍ جميلًا، ولكن شكرًا لديَّ مشاغل أخرى. ماذا يعني كلُّ هذا الحديث حول ما هو الصواب بالنسبة لي، وعن الفراق في سبيل الحُب … لترحمني إذن! ليس هذا مُمكنًا، تُرى هل سيلفُّ الآن ويعود إليَّ مرة أخرى، ليس هذا ممكنًا؛ فهو لم يكن ثمِلًا في تلك الأيام، ولا يمكن أن أكون قد أخفْتُه لهذا الحد … ولكن كيف استطاع أن يصِل إلى فكرةٍ بهذا الالتواء؟ كيف يُمكنه ترْكي هكذا وسط العالم، بعد أن أراني بوضوحٍ أن القمر الذي أبحث عنه موجود على سطح الأرض؟ ماذا سأفعل الآن وقد عرفتُ هذا؟ ماذا سأفعل بحبِّه هذا الكبير إلى هذا الحد؟ وببطءٍ وجدتُ نفسي وقد ربضتُ على الأرض ورأسي بين يديَّ، وأخذت أرتعش وأنا أبكي من الغضب وسط الميدان. لم أرفع نظري بعدَها، ولم أعُد أرغب في رؤية أي شيءٍ، ولا أن أسمع أيَّ شيء. إذن الشخص الذي قال إنه يُحبني هجرَني بهذه الطريقة، ماذا يجب عليَّ أن أتوقَّع مِن باقي العالم؟ وبعينَين أثقلتهما الدموع هُرعت لأحضر حقائبي، وضعتُ بعشوائيةٍ أشيائي في الحقيبة الكبيرة. مكثتُ في الفندق كل المساء دون أن أتناول العشاء، وفي صباح اليوم التالي كما قررت، وفي حالةٍ انفعالية لم أتوقَّعها على الإطلاق، سأترك سيوة بحافلة الساعة السابعة. أيقظتُ عبد الله وزوجته، وودعتهما بسرعة، دون أي تفسير. كانا يعرفان عن عرض المنظمة غير الحكومية، وتركتُهما يُفكران بأنني مُتعجلة لأن أبدأ حياتي الجديدة. أعطاني عبد الله كيسَ بلح وقال لي أن أعود لأن سيوة هي أيضًا منزلي، وتأثرت، لأنَّني كنتُ أشعر فعلًا أنني جزءٌ من ذلك المكان، ولأنه من الواضح، أنَّني لم أُنهِ دموعي كلها في الليل: بالتأكيد سأعود! وأثناء ذلك سأترك هنا بعضًا من نفسي، اعتنِيا بها، أنتما اللذان استطعتما رؤيتها وحُبها.
•••
يا للحزن الشديد!
عادة ما تُسبب العودة إلى القاهرة لي بعض الحُزن أعقاب زيارة سيوة، لأن ترك سيوة كان يُسبب لي حزنًا حقيقيًّا، ولكن في ظلِّ ما حدث، تفاقم الألم من التمزُّق الحادث بين الجسد والقلب. حيث رحل جسدي فقط تاركًا قلبي مُحطمًا هناك على الرمال.
يُداعبني هواء الصباح المُنعش محاولًا أن يُقنعني بأن حياتي بالفعل ممتلئة بالجمال وأسباب الفرح. اختار لي علوش مكانًا في الصف الأول خلف السائق. أعدَّ أحمد ومرعي، نادِلا عبده، شطائر للرحلة وغلَّفوها بورق الصحف، وأحضر لي عبده حقيبتي إلى المحطة. بدا رحيلًا مهمًّا، رحيل ذلك الصباح. ظلَّ حُزني في تناقُض عميق مع الجوِّ المُفرح والمُشمس المعتاد المُحيط بي. الشيء الوحيد الذي يُمكنني الاستغناء عنه بسرورٍ في سيوة هو الناموس.
رحلنا. كانت الحافلة مزدحمة. يضحك السائق مُستمتعًا حيث سقط المُفتش سقطةً قوية، أخرج فيها تُراثه الكامل مِن السباب. كدتُ أضحك بدوري ولكنني منعتُ نفسي بالكاد، وفوجئتُ بأنني ما زلتُ قادرة على الضحك على الرغم من الجحيم الذي أحمِله بداخلي. يضحك الجميع ويُدخنون بسعادة. قررتُ بأن أعتزل وأخذتُ أقرأ في كتابي الذي يتحدَّث عن الصحراء. أردتُ البقاء في الصحراء. أردتُ أن أعيش السلام للأبد. يُمكنني أن أقدِّم نفسي ذبيحةً للناموس ولا أترك ذلك الفردوس، على الرغم من كل شيء. ربما استطعتُ الاستمرار في تنفُّس الحُب إذا مكثتُ هناك، لأن كلَّ زاويةٍ من زوايا الواحة كانت مُتشبعة بها، ولا يُمكنه أن يختفي. فأنا على يقينٍ أنه بين أغضان آلاف أوراق النخيل سُجنت الأنغام التي خرجت من بيانو جدة بابلو مثل حبَّات الرمال التي ترفعها الرياح، وهكذا أيضًا كلمات الحُب التي تُولَد هناك، تتطاير إلى فوق، وتبقى هناك.
كان السائق مُهرجًا واستمرَّ في السخرية من المفتش. استمرَّ هو أيضًا في التدخين، مثل حيوانٍ يُحدد الجزء الذي يخصُّه من الأرض، ولم يتوقَّف عن البصاق من النافذة. كان الشريط الأسود الأسفلتي الذي يصِل بين سيوة ومرسى علَم ملوَّثًا ببلغمه. جبروت. شيء لا يُصدقه العقل قدرة بعض الرجال في سيوة على ارتكاب أشياء عجيبة. لا يوجَد ما يمكن عملُه، فهذه طبيعة أخرى. شعر المُفتش بالإهانة هو أيضًا بدوره. توقف عن الضحك على استفزازات السائق، الذي استمرَّ في البصق خارجًا، بل وصل به الأمر لأن يحرق له يدَه بالسيجارة! توقف المُفتش عن الكلام تمامًا. مسرح صغير!
إلا أن أهل سيوة أناس طيبون! نفوسهم بسيطة، رقيقة، عذبة … في حين أمام عيني كان المفتش ذو الضحكات المُصطنعة والعملية، والشوارب البشِعة، تقريبًا رجلًا يُثير الضيق، وخاصة عند مقارنته بالمُسنِّ السيوي الجالس خلفه، شخصٌ حادُّ الذكاء و… حكيم. ذكَّرَني بجد بابلو، بحنانه وحسمه.
فالشخص المدني سيأتي ليعيش في طقوسٍ ساحرة، مشاعر سحرية، ثم بعد ذلك سيجد نفسه فجأة (بلا مُقدمات) في واحدةٍ من تلك الحافلات المكتظة بالسائقين أو المُفتشين الفظِّين، الذين يُعيدونه إلى الحقيقة على الفور مثل صوت جرس المُنبه في منتصف حلمٍ جميل، مثل إيماءةٍ مفاجئة على وجهٍ سعيد، ومثل نغمةٍ خرجت عن التناغُم، ومعها البصقات التي لا تتوقَّف والتدخين الذي لا ينقطع، والأصوات الشاذة. مَن يدري إذا كان باستطاعتنا بصق الألَم.
ولكن سيوة ستظلُّ موجودة، حتى لو رحلتُ وتركتها. بل وضعوا الأسفلت أيضًا في الميدان والشارع المؤدي إلى فطناس، فهي موجودة وستظلُّ ومعها أيضًا أهل سيوة.
السلام موجود وسيستمرُّ في الوجود. وشعرتُ بالامتنان للسماء من أجل هذا.
بكيت في الصحراء، متأثرةً بسمائها وعظمتها والحب الذي ينبض بداخلي، وبكيتُ وأنا أسير بين أشجار النخيل العالية والخضراء، بجوار شخصٍ يُمكنه أن يفهم معنى البكاء تأثُّرًا. عشتُ كل لحظة هناك بعُمق شديد. وكرستُ كل ثانية للقيمة الوحيدة والتي لا يمكن تكرارها للحظة الحاضرة بعينَين تُحدقان وذراعَين مفتوحتَين. عانيتُ، ولكنني أحببتُ وشعرتُ أنني محبوبة. عثرت على جزءٍ منِّي لم أكن أعرفه، ولم أكن حتى أعرف أنه لي، وفهمتُ أنني يُمكنني أن أُحبه. وأحببتُ أكثر قليلًا جزءًا من نفسي سبق ووصمتُه أكثر ممَّا ينبغي ببعضٍ من عيوبي. تعلمتُ أن أمنح ما لم أكن أعلم أنني أملِكه، وأخذتُ الكثير، بل الكثير جدًّا. أحبُّ مصر وصحراءها، وبسبب تلك الكثبان (التلال) أدركتُ أنها ستظلُّ جزءًا مني حتى نهاية أيامي. ستكون الجزء الذي ازدهر والذي أتمنَّى ألا ينطفئ أبدًا.
•••
أثناء الرحلة كتبتُ ما يلي في مُفكرتي:
«الزمن، ماذا سأفعل أنا في تلك الفترة؟ أم هل هو الزمن الذي بداخلي هو ما يدور ويخلِط أفكاري؟ أريد أن أفهم ماذا وراء تلك الغمامة، وأسفل تلك المرآة اللامعة إلى هذا الحد؟ أتمنَّى لو أوقفتُ الرياح واستطعتُ أن أنظر إلى الأشياء الواحد بمنأًى عن الآخر. إلَّا أن نظرتي تدخُل وتخرج بيني وبين الأشياء وأتبع انفعالاتٍ ومشاعر على الآثار غير الواضحة التي تترُكها في الهواء، لا أستطيع أن أفهم رسائلها ولا طبيعتها ولا ترتيبها … أتمنَّى لو استطعتُ أن أتوقَّف للحظةٍ لأقرأ المناظر حولي، لأشعر بأنني واعية ومسئولة عن اختياراتي. تلك الصحراء مُترامية الأطراف، والينابيع القادمة من قلب الأرض، أعيُن الناس وصخب القاهرة، والحُب الذي يشتعل في أعماقي، غزة وفلسطين، تلك الأرض المُعذَّبة، وتلك المساحات المُمتدة من الرمال والشمس، ومن الشر والنقاء … كل شيء يدور وكل شيء يتداخل، وأنا فقدتُ سلامي لأني لا أعثر على جوهر الأشياء وألعب بالظلال، أسبح بين الخيال والذكريات والآمال. ربما لا أفهم بالفعل رغباتي. تطير جميعها على رأسي ولا أستطيع إيقافها. أحيانًا تسقط أرضًا وأدعسها. كم أريدُ أن أترُك نفسي ليهزَّني ذلك التبدُّل بين السماء والأرض، بعينَين مغمضتَين لأتمكن من قراءة ما بداخلي. لا أريد أن أُهدر وقتي ومشاعري. أنا متأكدة أن تلك الرحلة كان لها معنًى ما، ربما لا أراه الآن، لأنه ليس المعنى الذي اعتقدتُ أنني عثرتُ عليه. إلا أنني أعلم أن كلَّ شيءٍ سيظهر لي فجأة كمسرحٍ يُكشف مع فتح الستار، وسيظهر العرض أمامي ويطفو إلى وعيي. سأعود لأكون نفسي، وستعود إليَّ سعادتي، وبذلك سأختار نفسي. ولكن أثناء ذلك؟ هل سأقبل العمل الذي طالما بحثتُ عنه؟ ربما يتعلق الأمر فقط بالنظر إلى الواقع، وكل شيءٍ سيتَّضح، كما كان واضحًا قبل تلك الرحلة. كما كان واضحًا قبل الانغماس في تلك السعادة، وقبل الغرَق في الألم. ربما. فأنا لم أعد من كنتُه قبل ذهابي. أي مصير مُقدَّر لهذا الحُب يجب أن يختفي أو يغوص في عُمق النسيان مع ذلك الذي سحرَني، فأنا لم أعُد من كنتُه من قبل.»
نمتُ بمجرد أن رحلنا من مرسى مطروح. رؤية زرقة البحر الذي يحتلُّ الأفق فكَّرني بتقلُّباته، وكيف يعرف أن يكون مرآةً ثابتة للسماء في تحطُّمه وتهشُّمه إلى ملايين القطع والشظايا، بقوةٍ وغضب، من خلال العواصف والمعارك. فالبحر يعرف غناء المراثي العذبة، يعرف أن يُهدهد، أن يقلِب السفن وينزع الأشرعة، أن يُمزق الصخور صارخًا ومتوعدًا. إلا أنه يظلُّ البحر دائمًا. كنتُ أنا بحرًا عاصفًا، ولكنَّني لم أكُن حرة لأصرخ وأكسر كلَّ شيء. ركزتُ في فكرة تيار السحب، تلك الحركة المُنتظمة مِن المد والجزر، ونمت، مُتعبة من أفكاري نفسها.
استيقظت في الإسكندرية، الفترة الكافية لأُغير الحافلة مرة أخرى. استطعتُ أن ألمح البحر من جديد، البحر الذي يُمزق ويواسي. استطعتُ النوم مرةً أخرى حتى وصلت إلى القاهرة على الرغم من الاهتزازات العنيفة، والصخب الشديد لحركة المواصلات. بمجرد أن وصلتُ إلى ميدان رمسيس، في المدينة التي لا تنام، كانت رائحة العادم، وليس الصخب، هي مَن أيقظتني ونشَّطت حواسي. كان الشابُّ الذي جلس بجواري في المرحلة الأخيرة من الرحلة بطريقةٍ غريبة: أوقف لي سيارة أجرة وسألني إذا كنتُ بخير، وإذا كان كل شيءٍ على ما يُرام، وإذا كنتُ أحتاج لأن يصحبني أحدُهم أو إلى أي شيءٍ آخر. فهمتُ أنني بكيتُ أيضًا في منامي بينما أحلم، وأن هذا أقلقَه. أثر فيَّ كرمُه وشعرتُ ببعض الخجل أيضًا، شكرته وطمأنته ودخلت إلى ذلك التاكسي. فتَّشتُ في جيب حقيبة ظهري بحثًا عن منديل، ولكن شعرتُ بأصابعي بشيءٍ ما: جذبته خارجًا فوجدتُها ورقة مطوية أكثر من مرة. لم تكن تخصُّني، ولم أُدرك أن أحدهم وضعها لي في جيب الحقيبة. لا بد أنه علوش، فهو عندما ودَّعني قال لي: استمتعي بالحياة يا مايا، ولا تضيعي.
«استمتعي بالحياة يا مايا ولا تضيعي.» يا لها من كلماتٍ جميلة، أثرت فيَّ على الفور وأخذتُ أُرددها وأعيدها على نفسي كأنها المفتاح الذي أحتاج إليه. لم يكن علوش يخشى من أن أضلَّ الطريق لأعود إلى المنزل، وأنا أجلس على متن الحافلة الرائعة كالمُعتاد، ولكن عينَيه قالت لي بوضوح، مع تلك الكلمات القليلة ألَّا أفقد رؤية نفسي وجوهري وشغفي. وبدا لي للحظةٍ كلُّ شيءٍ واضحًا، من خلال وشاح الدموع الذي صعد مرة أخرى إلى عينيَّ.
ولكن ذلك الوضوح، الذي تفجر على الرغم من ساعات الرحلة الطويلة والنوم المُتعب، انطفأ على الفور بمجرد أن فتحتُ الورقة التي أعطاها لي علوش، وعندما فهمتُ أنه خطاب من بابلو. كان ذلك بمثابة لكمة خيانةٍ لم أكُن أتوقعها. يداي ترتعشان وتمزق وشاح الدموع، ويبس وجهي. أغلقتُه على الفور حتى لا أجد نفسي فريسةً لانفعالاتي في تاكسي انطلق في فوضى العاصمة، وفريسة لعيني السائق الذي كان يفحصني من المرآة الأمامية. كنتُ أحمل على كتفيَّ حملًا من الانفعالات المتضاربة، وليلةً بلا نوم، معاناة رحلة لم تنته، وتراكمت فوقي طبقةٌ ضخمة من الأتربة، في يدي حياة، وأمامي مفترَق طرق. الكثير جدًّا بالفعل لأواجهه في تاكسي قاهري، موسيقاه تعلو بصخب، تتدلَّى فيها الزينة، التابلوه مفروش بموكيت برتقالي، وسائق جاهز للتحدُّث. كان الإمساك بقطعة الورق بين أصابعي، وأنا أعرف أن بابلو سبق ولمسها، وأنا أرى خطَّه، اسمي مكتوب بيدِه كان أمرًا مُدمرًا: حيث جسد أمامي، ما سبق وتركتُه هناك في صخب الحياة التي تركتُها، حلمًا رائعًا كان يُمكنه أن يظلَّ محدودًا في الأبعاد غير الواقعية لفردوس سيوة. كان هناك بالفعل وكان حقيقيًّا. أي شيءٍ مكتوب هنا، كان بعضًا من بابلو الذي ظلَّ معي.
سيوة ٢٨ مايو ١٩٩٥م
هذه الليلة تبدو السماء في حداد، بلا نجوم، بين تلك الأسوار المصنوعة من الطمي، وفوق صدى نهيق الحمير أسمع نفَسي المُتقطع من الحزن.
لا أدري إذا كان لنا أن نتقابل مرةً أخرى يا حبيبتي، وإذا لم يحدُث هذا، فبالإضافة إلى الألَم سأشعر أيضًا بثِقل الخطأ. فهذا المساء لم تفهميني بالمرة، لم تفهي تصرُّفي، إلا أنك يومًا ما ستشكُرينني، في قلبك بأنَّني لم أمنعك مِن الرحيل، وأنك قمتِ باختيارك الخاص، وأنا سأعيش على أمَل تلك اللحظة، لأنه لو لم يحدث هذا … سأكون فعليًّا أهدرتُ أكبر عطيةٍ أهداني إيَّاها هذا الإله (الذي أعرف الآن بوجوده): وهي أنتِ.
ربما بالنسبة إليك لن أكون سوى مَن هجرك، ومن أحبطَك، إلا أنني سأكون لك إلى الأبد، لأنك أنتِ مَن منحتِني الحياة الجديدة، لأنك أنتِ نَبعي في الصحراء وشعاع الشمس الذي أبعد سنواتٍ من السُّحب السوداء!
كتب جبران: «… تعطون القليل جدًّا إذا أعطيتُم من خيراتكم. لكن تعطون حقًّا عندما تُقدِّمون ذواتكم.» أتمنَّى لو استطعتُ أن أمنحك جزءًا من ذاتي، تحت تلك السماء التي بالتأكيد ستُوحِّدنا إلى الأبد، أينما أخذتنا الحياة.
عطية لك، أنتِ مَن كانت بالنسبة لي إحدى هدايا سيوة، ثمرة من ثمار سيوة، زهرة مُغلقة تفتحت، وملأتني بالعطر والألوان واستمرَّت بضعة أيام … فهذا ما يحدُث للزهور كما هو معروف.
لقد تجوَّلت قليلًا في حياتي وشعرت بأنني أستطيع أن أفعل ذلك للأبد، بأنني يُمكنني أن أنتمي إليك كما ستنتمين أنتِ إلى كلِّ حلمٍ لي من الآن فصاعدًا. وما يُمكنني بالفعل أن أمنحك؟ لا شيء سوى كلماتٍ باطلة تتردَّد، تقول ولا تقول، تتمنَّى ولا تريد أن تتمنَّى، تريد أن تمنح ولكن في النهاية تسأل، تقريبًا تتوسَّل أن تعثر على تلك الرائحة أم تلك الحرارة … أم تلك الزهرة. أغمض عينيَّ وأستدعي «زهرتي».
ها أنا أتركك لترحلي يا مايا، ربما لستُ سوى شخصٍ مجنون! في عينيَّ زهرة سيوة ما زالت لي، ما زالت نضرة، ودون أن أتسبَّب في أي ضوضاء، ما زالت كلماتي تتجوَّل في حياتك، على شفتَيك، تحت السماء الجميلة المُرصَّعة بالنجوم. بعينَين مغمضتَين لديَّ البساط الطائر الذي بحثتِ عنه في الليلة التي تعبتِ فيها من السير عندما أخذتُكِ بين ذراعيَّ جزءًا من الرحلة، كنتِ حِملًا عذبًا وضعَ لي جناحَين … هل مِن الجنون الإيمان بهذا الحب أم لا، باسم كل ما هو عادل؟ ماذا يُمكنني أن أفعل لأفتح عينيَّ من جديد وأرى هذا كلَّه مرةً أخرى؟ أن أرى الحياة كما لم تواتِني الشجاعة بأن أحلم بها قط. ها أنا، أُقدم لك حلمي: في شهر مايو الصحراوي الغريب هذا، والذي تتطاير فيه الزهور والأبسطة، أُهدي لك حلمي. حلمي بأن يلتقي النهار بليلِه، ويصبحا شيئًا واحدًا، لأن الحياة في عُمقها من هذا جُبلت، من النهار والليل، مثل فصول الصيف والشتاء، والأرض والسماء، الموسيقى والصمت، مفاتيح البيانو البيضاء والسوداء … إن التناغُم فيما بينها جميعًا هو ما يخلق التكامل، مثلنا نحن الاثنين، يُكمل أحدنا الآخر، يملأ أحدُنا الآخر … إن هذا كل ما يُمكنني أن أتركه لك من نفسي، هذا الحلم، الحرية، أن تعيشي حياتك كما تمنَّيتِ، كما كنتِ تُخططين لها. ستعيشين في أنفاسي، وتسيلين في عروقي، ستكونين في صلواتي للإله الذي سمحتِ لي بمعرفتِه، ستكونين في الماء الذي سأشربه، في الشمس التي ستُدفئني، في الرياح التي ستعبُر بين شعري وستكونين في موسيقاي، في موسيقاكِ، فأنت مُلهمتي التي عثرتُ عليها! أشكركِ على الحياة التي وضعتِها مرةً أخرى بين يديَّ، على الأمل الذي علَّمتِني إيَّاه ببساطتكِ، وشفافيتكِ وحبكِ المُخلِص، على السلام الذي ساعدتِني على تذوُّقِه، على فرح وانفعال القبلات التي استمتعتُ بها كما لم أفعل من قبلُ في حياتي …
مايا، لقد وُلدتُ من جديد معك، وأقلُّ ما يُمكنني أن أُقدمه لك في المقابل هي تلك الحرية. وسأفعل الصواب.
أنت، يا مَن تعرفين أن تجلسي على شاطئ البحر، تعرفين جيدًا أن الحجارة الصغيرة المصقولة تلمع مثل الذهب والأحجار الثمينة، ولكن فقط إذا ظلَّت هناك، حيث تُربِّت عليها المياه التي تُنعش ألوانها، وتحت أشعة الشمس التي تجعلها تتلألأ. نرغب في أن نأخُذها، وأن نأخذ معنا جزءًا من تلك العظمة لنحتفظ بها. ولكن بمجرد أن ننزِعها من هناك، تفقد سحرَها ولا نتعرَّف عليها. ستلمع قليلًا بين يدَيك المُبلَّلتَين، ولكن سيخبو ذلك البريق كما تُطفأ نجوم الفجر. تقريبًا لا شيءَ على الإطلاق كما يبدو. ولكن هذا يعتمِد … يعتمد عادة على من ينظُر إليه. يعتمِد على الشوق.
أحيانًا نجِد الجمال إذا كنا مُستعدِّين للنظر إليه دون أن نمتلِكه، دون أن نتشبَّث به بين أيادينا. فالبحر والسماء والقمر كلها ملكٌ لنا فقط إذا قبِلنا أننا لا نمتلِكها. فالزهرة التي نقطفها، تموت، والحجارة الجميلة على الشاطئ، إذا ابتعدت من هنا، تخبو. وزرزورة … زرزورة تحت السماء الرحبة، أمام الجميع، لن تتلألأ كما تلمع في حلمِ مَن يبحث عنها.
الصحراء، مثل البحر، حنين يبتلِعنا، ذكرى للجسد، أغنية للذهن، مساحات لا مُتناهية للأعين القصيرة النظر والمُغمضة، في ظلام الشتاء وفي برد البعاد، في القلق من المساحات الشاسعة، سأحتفظ بكل شيءٍ بأن أترُكه.
تمنِّياتي لك بحياةٍ طيبة يا حبيبتي. كوني سعيدة يا زرزورتي للأبد: أنا أعلم أنك هناك، موجودة، تَلألَئي وانشُري ضوء أحجارك الثمينة في صحراء العالم. مجرد رؤيتك ومعرفة أنك موجودة في الحياة، يكفيني لأن أعتبر أن هذا العالم القديم صندوق يحفظ كنزي.
•••
قطعة الورق تلك، ما تزال موجودة، اهترأت من عدد المرات التي أمسكتُها بها بين يدي، مُغلقة أو مفتوحة مرةً أخرى، ومِن الدموع التي انسكبَت فوقها. قبل أن أرحل فتحتُها من جديد بعد أعوامٍ مثل الأثر الثمين. لا أحتاج أن أقول إنني يُمكنني أن أتلوها دون أن أفتحها مرةً أخرى، نظرًا لأنني حفرتُ تلك الكلمات بداخلي، كلمةً كلمة.
استمرَّت الحياة، وتلك التي بدت حياةً رائعةً ومُحققة، أصبحَت مجرد مُزحة، سلسلة مِن عثرات القدَر. الآن أنا بخير، سعيدة ومُطمئنة بوجودي مع الأعمام في فيليريو، بالقُرب مِن بحري، منغمسة في الحاضر وعطاياه، تُواسيني صفحات مئات الكُتب الجميلة، يُهدهدني الجمال المُحيط بي، حرة، هادئة ومنفتحة على الحياة. لديَّ إيقاعاتي البسيطة، لحظات الغروب، وابتسامات الأطفال الذين يأتون إلى المكتبة ليستمعوا إلى الحواديت. فعلتُ كل ما في إمكاني لأفهم ولم أفهم، لأعثر على بابلو من جديد ولم أعثر عليه. لم يرغب هو قطُّ في أن أعثر عليه، حيث كان في استطاعته أن يُرسِل أخباره عن طريق العديد من الأصدقاء المُشتركين. لهذا توقفتُ عن البحث عنه. ثم توقفتُ أيضًا عن انتظاره. وفي النهاية توقفتُ عن تذكُّره، وعقدتُه في أكثر الثنايا خفيةً في قلبي.
•••
عدتُ في أسرع وقتٍ إلى إيطاليا لأُنجز بسرعة كل الإجراءات البيروقراطية الضرورية لأُقنن وضعي في فلسطين. نوع العَقد الذي قدمَتْه لي المنظمة غير الحكومية التي وافقت على مشروعي لا بدَّ من توقيعه في الجهة المرسَل إليها، بعد تقديم المستندات المطلوبة، إلا أن أمي سمِعتني أسعل ولم تُعجبها سعلتي. اعتقدتُ أن الأمر يتعلق فقط بقلق الأم أثناء الاستعدادات للرحيل، ولكنها لم تهدأ إلا بذهابي إلى الطبيب. قلق الطبيب وطلب أشعةً واتضح أنني مصابة بالتهابٍ رئوي. ارتفعت حرارتي بالفعل بضعة أيامٍ ولكنني اعتقدتُ أن الأمر لا يتعدَّى تغيير الجو، فقد تركتُ أجواء مصر الصيفية ووصلتُ إلى روما بينما كانت تُمطر بغزارةٍ في نهاية الربيع، وجو مختلف تمامًا. صُدمت، ثم هدأت، واعتقدتُ أنه سيُعالجني وأنني سأرحل بعد ذلك، كما هو مُخطط، إلا أنني ظللتُ في المستشفى للعلاج ولم يتوقَّع أحد فترة العلاج. لم أستطع تصديق نفسي: فقد هويتُ من السماء إلى الأرض في بضعة أيام، كما يقولون، بل وهويتُ بقوةٍ حتى إنني غرست في الوحل! فخلال أيامٍ قليلة سحبتِ المنظمةُ غير الحكومية عرضَها، وقيَّمت مشروعَ شخصٍ آخر، بينما أتأمَّل أنا كيف تتساقط حياتي قطعةً تلوَ الأخرى من على فراش المُستشفى. أخذ الجميع يقولون إنني محظوظة جدًّا لأننا اكتشفنا هذا المرض قبل رحيلي، لأنه لو حدث هذا في غزة لكانت مشكلةً عويصة، بدا أن الجميع يعرفون ما هو أفضل لي ولمُستقبلي، بينما أنا في ضربةٍ واحدة لم أفقد فُرصتي في الذهاب إلى فلسطين فحسب، ولكنني تركتُ مصر أيضًا، وعملي هناك لمهلةٍ غير مُحددة، وغير متوقعة، لأُصبح تحت جناحَي «ماما إيطاليا» الحامِيَين.
في الفترة التي قضيتُها في المستشفى بسبب الالتهاب الرئوي لم يُحالفني الحظ بعقد أي صداقاتٍ ولم أكن حتى مُستعدة للتواصُل مع أحد. كنتُ محبطة للغاية. أعتقد أنني استبعدتُ تلك الفترة تمامًا جزئيًّا من حياتي، حيث إنها كانت الأسوأ في حياتي. بعدها استسلمتُ للأمر الواقع بعض الشيء، ودفعني لذلك رغبتي في حماية نفسي خوفًا من العودة للألم، وأيضًا لانعدام الدوافع.
كان فقدان منصب المنظمة غير الحكومية بمثابة صفعةٍ شديدة، وخاصة لأنني حصلتُ على تلك الفرصة في لحظةٍ خاصةٍ جدًّا وعذبتُ نفسي طويلًا وأنا أسألها ماذا لو كنتُ أكملتُ قصتي مع بابلو، وماذا إذا لم يُهاتفوني بالتحديد في تلك الأيام. أعرف أنه حينئذٍ قد بدأ يستعيد لتوِّه مسيرته في استعادة ثِقته في الحياة، وفتح عينَيه قليلًا لينظر إلى نفسه وإلى جذوره. بل إنه استطاع أن يفهم أنه يمكنه الصلاة، وأن الله موجود للمسيحيين وللمسلمين ولأي شخصٍ آخر، وأن علاقته به مُمكن أن تكون خاصة به وحدَه. ولكن ربما كنتُ سأتمكن من أن أمكث بجواره ونستكمِل طريقَنا معًا، يدانا مُتشابكتان، وكنتُ أنا أيضًا سأنضج معه. لم يكن عمري في نهاية الأمر سوى أكبر مِن العشرين بقليل، وكأن أمامي أنا أيضًا مسيرتي الخاصة.
لكن يبدو أنني توقفت. لم تكن لدي قصص بناءة. لم أبحث عنها، ولم أُرِدها، ولم أعُد أَصدُق فيها.
إلا أنني مؤخرًا استعدتُ بعض الثقة في نفسي. عندما أخذتُ محلَّ ابنة عمي لورينا، والتي هربت إلى قبرص مع صديقها صانع الوشوم، وبدأتُ أعمل في المكتبة، ملأني ذلك بأفراح صغيرة حقيقية ورغبة في آفاق مفتوحة. عرفتُ أناسًا جددًا، وعقدتُ صدقات، وحكيتُ حكايتي لعمِّي الذي استطاع أن يُساعدني على أن أواجه مرةً أخرى الذكريات المؤلِمة، وبطريقةٍ ما استطعتُ أن أواجِهها. أفادني ذلك كثيرًا. لولا هذا لما كنتُ هنا الآن.
•••
وبهذه المناسبة. كم الساعة الآن؟
ألا يمكن أن أكون قد فاتتني الطائرة ولم أُدرك حتى هذا؟
أنظر إلى الهاتف لأرى إذا كانت هناك أي مكالمات. لا توجَد. أتَّصل أنا بشيرلي، أشعر أنني مكثتُ هنا بالخارج عمرًا بأكمله!
– شيرلي، أنا مايا … هل توجَد أخبار؟ سأعود حالًا، أين أنتما؟
– آه يا مايا! كنتُ على وشك الاتصال بك! تعالي إلى بوابة ٢١، جمعونا وننتظِر منهم إشعارًا فوريًّا، أسرعي!
كمن استيقظ من سباته أعود إلى عام ٢٠٠٦م، وإلى ممرَّات مطار ليوناردو دا فينشي لأصِلَ إلى بوابة ٢١ جريًا. وها هما عزيزاي أنطونيو وشيرلي.
– مايا، يقولون إن رحلتنا أُلغِيَت، ربما لا يمكن لطائرتنا أن تُحلق … وأنهم سيقسموننا على الطائرتَين المباشرتَين المُغادرتَين إلى القاهرة، حسب الأماكن المُتوفرة. يبدو أنهم سيُصعدون العائلات التي تصحب أطفالًا وكبار السن، ثم الآخرين.
تُخبرني السيدة ذات الرداء الوردي وتُضيف: في هذه الحالة سيفرقوننا، يا للخسارة! هذا يؤسِفني كثيرًا حقًّا! لقد تركتِني في منتصف قصتك ولا أعتقد أنني أنوي البقاء تشغلني التساؤلات يا فتاتي! ثم كيف يُمكنني إذن الاستمتاع بثمار رحلتك إلى مصر؟
أضحك وأنا أُفكر في كل ما دار في ذهني خلال تلك الساعة التي قضيتُها بمفردي في الخارج ولا يُمكنني قطُّ أن أُعيدها على شيرلي الآن. لا أعرف متى ستصعد هي وزوجها على متن طائرتهما، ربما لا بد أن يظلَّا في وضع الاستعداد. ثم إننا يُمكننا أن نتقابل مرةً أخرى في القاهرة، فذلك سيُسعِدني كثيرًا، وبلا شكٍّ يُمكننا أن نتقابل مرةً أخرى هنا في إيطاليا. بغضِّ النظر أنَّنا ما زلنا في إيطاليا. في المنطقة المُعلقة، تلك التي تُدعى المطار، أبدأ من جديدٍ في إرسال رسائل هاتفية للأطراف المَعنية لأنقلَ إليهم التطوُّرات (أي أنني ما زلتُ حيث أنا) بعضهم تعصَّب. ولكن ليس أنا. فهذا الوضع من الثبات الإجباري يُنقذني من بعض التوتُّر.
ألخِّص سريعًا القصة لشيرلي. أقول لها عن الأيام الرائعة التي قضيناها أنا وبابلو في القاهرة، والعودة إلى سيوة، وليلة الينبوع الساحرة، والتي أثناء حكيِها أكاد أقسم أن وجهها اكتسى باللون الأحمر، صديقتي الرومانسية، على الرغم من أنني لم أدخُل في التفاصيل! أحكي لها عن أسطورة النهار والليل، وكلمات الجد كريم. أتوقَّف عند حكاية شُرب القهوة وقراءة الفنجان، وعند كسر الفنجان الأزرق الفاتح، وكيف أن الشيخ أصلحه وهو يدهنه بمادةٍ تُشبه الخزف. تُبهرها حكاياتي، وأحاول أنا أن أفصل نفسي عن تلك الحكايات، أن أتحوَّل لمُستمعة تمامًا مثلها، ولكن دون أن أستخدم الكثير من علامات التعجُّب. أحد مَن ينتظرون معها، ينظر إليها بفضول، وبالتأكيد يتساءل ما الذي أحكيه لها يُسبب لها كل تلك الدهشة. ولكن الأفضل أن أقول إن الدهشة الحقيقية، وعدم التصديق يحدثان عندما أصل إلى الشيء الذي حدث بعد ذلك: مكالمة المنظمة غير الحكومية، قطع العلاقة والانفصال والخطاب، وأخيرًا الالتهاب الرئوي! لم يكن لدى شيرلي أي تعليق. كدت أضحك وأنا أراها مندمجة عاطفيًّا إلى هذا الحد، تلك السيدة الرقيقة … يبدو أنها لم تستطِع استيعاب كل هذا.
– شيرلي، تخيَّلي أن الأمر احتاج مني سنواتٍ لاستيعابه! إلا أنني حتى الآن لم أستطع أن أُنحِّيه جانبًا.
– لهذا إذن تذهبين، في انتظار خسوف الشمس. أليس كذلك؟ نحو نهاية الشهر سيحدُث الخسوف! يا إلهي! لا بد أنها ستكون لحظة الحقيقة!
– أجل يا ليدي شيرلي. الأمر كذلك. عندما كان عمِّي ميكيله يتقاسم غرفة المستشفى مع أستاذٍ جامعي مُولَع بعلم الفلك، ويشعر بالحنين مثله، سمع القصة عن الموعد البعيد الذي افترَضه بابلو، ونظرًا لأنه يعرف عن الاقتران الوشيك للخسوف، أصرَّ على عودتي بأي شكلٍ إلى سيوة. الجميل أنني عندما كنتُ أروي حكايتي لعمِّي، وكأنني أُمارس سِرَّ الاعتراف مع الكاهن، كان هو يحكي قصتي بكلِّ انفعالٍ لرفيق الغرفة، بالإضافة إلى الأطباء والمُمرضات والذين لم تكن لديهم حيواتهم الخاصة التي عليهم الاهتمام بها! وكانا هما من ساهما بالنقود لأبتاع تَذكرتي إلى القاهرة، حتى لا أتذرَّع بأي شيءٍ وأرفض تلك الفرصة. شعرتُ بالإحراج الشديد.
تضحك شيرلي وتُصفق مثل طفلة سعيدة على تلك الفقرة المرحة «من كتاب القلب» والتي تُوافق عليها وتؤيِّدها.
– يا لحظِّ أن تكوني مُحاطة بشخصياتٍ جميلة هكذا يا مايا! يا لها من هدية رائعة! حتى إن لم يكن بابلو في سيوة للخسوف، يُمكنك على كلِّ حالٍ أن تُقابلي أصدقاءك من جديدٍ والصحراء محبوبتك. لا بد أن تنتفضي في كل الأحوال يا فتاة، أليس كذلك؟
– أجل يا شيرلي. يُمكن العيش بسلام وسعادة أيضًا دون التورُّط الذي يجلبه الحُب، ولكن لا بد أن نتحلَّى بالأمانة: صباح اليوم نظرتُ لنفسي في المرآة وقلتُ لنفسي، أجل، ما زلتُ أريد أن أُحب وأن أكون محبوبة، أريد أن أعود لأشعر أنني حيَّة مِن أعماق قلبي، أريد أن أجد نفسي مرةً أُخرى في قصيدة حُب رائعة!
ولكن هل تعلمين أمرًا يا شيرلي؟ أعتقد أنني قابلتُ بابلو كريم مرة بعد تلك الليلة المنكوبة التي تركني فيها. بل إنني متأكدة، حتى وإن لم يرَ أحدُنا الآخر. أو الأفضل أن نقول إنه لم يراني. وأطلقتُ على ذلك اللقاء «الخسوف الجزئي».
بعد تشخيصي بالالتهاب الرئوي، مضت ستة أشهر قبل أن أتحرَّك مرةً أخرى من منزل أبويَّ.
في تلك اللحظة لم أكن أحتاج إلى وثائق ولا تطعيمات، لا شيء. وانتهزتُ الفرصة. بالتأكيد وضعتُ نفسي في قائمة الانتظار، ومكثتُ في انتظار الفرصة الثانية. في القاهرة كنتُ قد تركت بالفعل العمل في الجامعة الأمريكية. وهناك تركتُ كل أشيائي لدى نورا. حيث إن عودتي كان لا بدَّ وأن تكون مؤقتة: وعند عودتي من إيطاليا كنتُ سأمرُّ على مصر وأُنظم كل شيء. إلا أنها مرَّت ستة أشهُر، ستة أشهر من الجحيم، وما يزال كل شيءٍ معلقًا.
كانت صديقتي نورا هي مَن دفعني على العودة إلى القاهرة، بعد الالتهاب الرئوي وكل ما حدَث. كانت تعرِف كل شيء، الوحيدة المُطلعة على التفاصيل كلها، وتُدرك أيضًا أنني بحاجةٍ إلى العودة لأماكن تركتُها وأنا نادمة بشدة. كنتُ أحتاج إليها وإلى العثور على نفسي هناك حيث كانت حياتي قبل المرَض.
رحلتُ في فبراير، بمجرد انتهاء شهر رمضان. أتت نورا لتستقبلني في المطار، وكان عناقنا جميلًا. كان يُمكنني أن أمكث بين ذراعَيها في صمتٍ تامٍّ وأنا أعرف أنني مفهومة تمامًا ومحبوبة، يا له من علاجٍ شافٍ للنفس! ترتدي المدينة ملابس العيد وتشعُّ الفرحة في الطرقات. تحتفل العائلات بصخب بنهاية الشهر الكريم والأضواء تتلألأ من المنازل والبنايات. إلا أننا خطَّطنا للبقاء في القاهرة أقلَّ وقتٍ ممكن، بسبب الهواء الذي لا يمكن تنفُّسه، وأن نقضي بعض الأيام في واحةٍ ما، ولكن نورا رأت أنه من الأفضل ألا نعود إلى سيوة. قرَّرنا إذن الذهاب إلى الواحة البحرية، مكان آخر رائع، به ينابيع مياه ساخنة وساخنة للغاية ويمكن السباحة فيه أيضًا في الليل، أسفل النجوم، مع الحرارة الخارجية القاسية في ذلك الموسم: ركن آخر من أركان الفردوس الصحراوي، بالتأكيد كانت فكرةً رائعة. اتصلت بعبد الله ورويتُ له عن أخباري، وبينما أتحدَّث كنتُ أعرف أن تلك الأخبار يمكن أن تصِل إلى أُذنَي بابلو، بطريقةٍ ما. تساءلت: ترى هل سيحدُث ذلك عن طريق جدِّه، أو ربما عن طريق عبد الله نفسِه. أعترف أنني سألتُ لو كان بابلو في سيوة، ولكن قيل لي إنه قد رحل بعدي ببضعة أيام، وأنه عاد ليزور جدَّه قبل شهر، ومكث يومَين فقط. يرى عبد الله أنه لا بدَّ وأن يكون في القاهرة، وأن زيارته الوجيزة جعلته يفترِض أنه وجد عملًا، ولذلك ليس لدَيه الكثير من وقت الفراغ. حقًّا، ولكن أين؟ إلَّا أنه لم يعرف أي شيءٍ آخر. قال لي فقط إنه في تلك الزيارة السريعة عزف البيانو طويلًا، وتحدَّث الجميع في القرية عن ذلك وابتسامة تعلو شفاههم. يا لجمال الموسيقى … إنها كالرياح التي تُداعب الجميع.
تلك الأخبار القليلة كانت كافيةً لتُثير انفعالاتي بشدة. إذا كان بابلو في القاهرة يُمكنني أن أُقابله صدفةً في الشارع! تُفكك نورا افتراضاتي الطفولية، وهي تُذكرني بأن المدينة بها حوالي سبعة عشر مليون نسمة، وأنه ليس مُستحيلًا لقاؤه فحسب، بل احتمالات حدوثه أيضًا مستحيلة. بالإضافة إلى أنَّنا خطَّطنا بأن نبقى في القاهرة ثلاثة أيام فقط قبل رحيلي، بسبب مشكلة التلوُّث وحالة رئتي. أمسيةَ أحد تلك الأيام الثلاثة سنُنظم حفلًا لنجمع كل الأصدقاء الذين يمكن رؤيتهم مرةً أخرى، وفي مساءٍ آخر سنذهب إلى مسرح الأوبرا كما اعتدْنا أن نفعل عندما عشتُ هناك. وابتاعت نورا بالفعل تذاكر عرضٍ إيطالي أيضًا. عنوان العرض «العثور على المُلهمة»، وبمجرد سماعي تلك الكلمات فكرتُ على الفور في بابلو، عندما كان يقول إنني أنا الملهمة التي أعادت إليه الوحي، التي عثر عليها ليعود مرةً أخرى للعزف، وكتب ذلك أيضًا في خطابه. في الحقيقة، كل زاويةٍ وكل كلمة، وكل انفعال، وكل نجمةٍ في السماء تدفعني للتفكير فيه. فعندما نكون عاشقِين، كل ذرة موجودة تكون ذريعةً للتفكير في المحبوب، ويكون الأمر غايةً في العبث عندما نُسميها مصادفات. كل هذه مصادفات؟! فنحن نرى في الخارج ذلك الذي يكمُن في داخلنا.
نتسلَّى أنا ونورا ونحن نرتدي ملابس السهرة، وهو أمر لا يحدُث في القاهرة إلا إذا كنَّا ذاهباتٍ إلى المسرح أو إلى حفلٍ من حفلات السفارة الإيطالية، وكان هذا جزءًا من جمال الأمسية. وضعنا الماكياج بوضوح، وكأنَّنا المُمثلات اللاتي سيظهرنَ في العرض.
كان عرض «العثور على المُلهمة» عرضًا مسليًا، رحلة خيالية ورائعة بين ألحانٍ مُنتقاة من أكثر أعمال الأوبرا والأوبريت شهرةً، يختارها جواكينو روسيني ومعه امرأة شابَّة تتولَّى أعمال النظافة في المسرح. في العرض يفقد روسيني الوحي ويعثر في تلك الخادمة الشابَّة على إلهامه، أثناء حكيِه لها أكثر قصص الحُب ألمًا والتي يحكيها بالموسيقى والكلمات والرقص. تنجح الشابَّة أنجيلينا، بأساليبها الشائكة وذكائها العملي وثقافتها الضئيلة، على الرغم من كلِّ شيءٍ، في الاستحواذ عليه ببساطتها ودهشتها التي لا بد أنها قد ظهرت عليها أثناء استماعها لحكاياته. تتراوح الحوارات بين روسيني وأنجلينا من الباليه إلى أغاني الأوبرا، وكل شيءٍ يجري بشكل مُمتع في ثورة من الانفعالات. ربما راكمتُ أنا كمًّا من التوتُّر والهشاشة التي لم أستطع التعبير عنها بعد، لأنني أعتقد أنه لا أحدَ مِن الحضور ذرف مثلي كميةً من الدموع بين الضحك والبكاء!
هي، التي في سبيل الحُب تركت حُبها الوحيد والحقيقي، ألفريدو، جعلتني أفكر في تصرُّف بابلو تجاهي. فهي، فيوليتا، تركته وكذبَت عليه لتحميه وتحمِل هي الذنب حتى لا يتألَّم كثيرًا. فعلَت ذلك عندما أدركَت أنها لن تستطيع أن تمنحه ما أرادت، بحريةٍ وبلا همٍّ، ما يُمكن أن يتطلَّبه حبهما، وبأنها لن تستطيع أن تكون على قدْر منحِه مستقبلًا رائعًا، بسبب ماضيها …
على الأقل اتَّسم بابلو بالصِّدق. لم أُقدر ذلك، ولكن يبدو لي تصرُّفه الآن أقلَّ بشاعة، بينما أتماهى الآن في ذلك الجو المُدمِّر. بالإضافة إلى أن فيوليتا كانت مريضةً وشارفت الموت، مأساة داخل المأساة، فهي في سبيل الحُب تتخلَّى طواعيةً عن الحب، بينما الحياة تبتعِد عنها.
كيف تمكَّنتُ مِن ألا أدمِّر ما وضعتُه من مساحيق التجميل؟ مكثتُ منفعلةً قليلًا، بينما أنجيلينا وجواكينا يتبادلان النِّكات اللطيفة في أوبرا كارمن ليبزيه، ثم جاء المصير البشِع لمداما باترفلاي، ثم المُهرجين، وبعدها الريجوليتو … وتتوالى مأساة بعد الأخرى، تحدُث كلها باسم أسمى المشاعر التي تتصادم مع الخسَّة الإنسانية، لتُذكرنا أننا نعيش ونموت من أجل الحُب، ولا يمكن لشيءٍ آخر أن يمنح المعنى لأي حياةٍ على الأرض سوى الحُب، سواء كان مُتبادلًا أم لا، مكتملًا كان أم ناقصًا، مفهومًا أم غير مفهوم، مشروعًا أم غير مشروع، طالما كان حُبًّا كاملًا مُطلقًا.
عندما أُضيئت الأضواء مع بداية الاستراحة، انفجرت نورا في ضحكةٍ عالية وصادقة، رغم أن عينَيها كانتا دامعتَين ووجنتَيها حمراوَين، ونظرت إليَّ مباشرة. ثم مدَّت يدَها إلى حقيبتها لتُصلح بعناية ما دمَّرتُه من مكياجي. قالت مازحة: لقد تحوَّل مكياجك إلى كارثة! لكنها أعادتني إلى حالتي الطبيعية في لحظة.
في المقصورة معنا، كان هناك زوجان في منتصف العمر وشاب آخر؛ جميعهم من الشمال، بشعر أشقر وباردون، ولم نتبادل معهم أي حديثٍ سوى التحية المُعتادة. لم ينخرطوا في ضحكاتنا ولا تعجُّبنا. وبينما كنَّا نجلس في أماكننا نُعلق على الأداء، كان الموسيقيون يضبطون آلاتهم، فتصدُر تلك الأصوات غير مُلحنة، التي عادة ما تخلق أجواءً سحريةً خاصة بالحفلات والعروض. فصوت الكمان الذي يبحث عن الانسجام يُعطي شعورًا بالانتظار وبدايةً وشيكة، مما يزيد من الإثارة ولا يُزعج على الإطلاق، على الرغم من أنه ليس موسيقى حقيقية.
إلَّا أنَّ ما أزعجني حقًّا، أو بالأحرى أثر في أعصابي، كان ذلك اللحن القصير على البيانو. أعتقد أن أحدًا لم ينتبِه إليه وسط الضوضاء وصوت آلات الكمان التي تبحث عن الانسجام، ولكنَّني سمعتُه بوضوحٍ وكأنه سهمٌ اخترق قلبي. لم تكن سوى بضع نوتات، ربما مقطوعة موسيقية قصيرة، لكنها كانت كافية لتجعلني أقفز من مكاني كالمجنونة سألتني نورا عما حدث، فلم أجد جوابًا سوى أنني قلت: بابلو هنا!
فتلك هي النغمات الافتتاحية للحن الذي ألَّفه لي، والذي لم أسمع نهايته أبدًا لأنه لم يُنهِه عندما افترقنا. لكن ظل اللحن محفورًا في ذهني، يُؤرِّقني ليلًا أحيانًا، يُذكرني بأنَّنا أحبَبْنا حقًّا وأنني لم أكن مُخطئة. هو وحدَه يعرف هذا اللحن. آه! الموسيقى والحب! ما أجمل هذا الاقتران! لا بد أنه هنا. سأذهب!
– أين تذهبين؟
هكذا سألتني نورا، محاولةً إيقافي، وسط الوجوه الشقراء الجامدة لرفاق المقصورة.
– بابلو هنا، نورا، هل تفهمين؟ لقد ناداني، أراد أن أعرف، يجب أن أجده!
هُرِعتُ دون أن أعرف وجهتي، وكانت فترة الاستراحة على وشك الانتهاء. بدافع الغريزة، حاولتُ الوصول إلى الأوركسترا، لأن اللحنَ جاء من هناك. أخذتُ أركض كروحٍ مُعذبة وسط نظرات الناس الغاضبة الذين بدءوا في العودة إلى مقاعدهم. دفعت بعضهم عن غير قصد، كنتُ أرتدي حذاء بكعبٍ عالٍ، كنتُ أتحرك بشكل سيئ، ولكن بسرعة، دون أن أعرف كيف أصِل إلى الموسيقيين. توقفتُ فجأة، فقد تذكرتُ أنه بما أنه لم يعزف سوى بضع نوتات، فربما انتقل إلى مكانٍ آخر، وربما كان يبحث عني أيضًا … لكن دار الأوبرا في القاهرة واسعة للغاية، وفي تلك الليلة بدت وكأنها متاهة خطيرة. كنتُ أشعر بالذُّعر الذي يُشبِه نوبات الهلع مع كلِّ لحظةٍ تمر. خفت الأضواء، ودعونا للعودة إلى مقاعدنا بسرعة. لم أستطع العودة إلى مقعدي وكأن شيئًا لم يكن. هل كان كلُّ هذا يحدُث بالفعل أم أنني كنتُ أحلم بسبب مزيجٍ غريب من النغمات؟ شعرتُ بالغباء واليأس والسعادة في الوقت نفسه، ولكن الأضواء خفَّت ودعاني موظفو المسرح للعودة إلى مكاني.
كان الرد الأكثر واقعيةً واطمئنانًا الذي يُمكنني تقديمه لنفسي هو أنني أخطأتُ، وأن بابلو لا يمكن أن يكون هنا. لو أراد رؤيتي أو لقائي لفعل ذلك بطريقةٍ أكثر «تقليدية» وآمِنة من خلال الأصدقاء المشتركين.
عُدت إلى نورا، واستؤنِف العرض، وهدَّأتني الموسيقى كما تُهدئنا القطة الحنونة، وشعرتُ وكأنني جزءٌ من هذا العالم العاطفي الذي يُعاني ويُحب في نفس الوقت. وعنوان العرض «الموسيقى المفقودة والعائدة» يحمِل في طيَّاته نهايةً سعيدة، حيث فقد جواكينو روسيني مُلهمته ثم وجدَها في أنجيلينا التي ألهمت أوبرا «سندريلا». وانتهى العرض ﺑ «نخب» من ترافياتا، كأنه نشيد للحياة والحُب المنتصِر، وأخذت هذا النخب كأمنيةٍ طيبة، وشعرتُ بحرارة في يدي كما أشعلَتِ الموسيقى قلبي. أما الشماليون فقد شاهدوا عرضًا مجانيًّا داخل العرض ولم يُدركوا ذلك.
خرجنا أنا ونورا صامتَتَين، تستند كلٌّ منا على ذراع الأخرى حتى لا نتعرقل بالأحذية ذات الكعب العالي على أرصفة الزمالك غير المُستوية. واستقللنا أول سيارة أجرة مُتجهة إلى المنزل. ولكنني لم أكُن أرغب في البقاء في المنزل، فقد عُدت إلى القاهرة، المدينة التي لا تنام أبدًا، وكنتُ أشعر بحماسةٍ لا توصَف. غيَّرنا ملابسنا وخرجْنا مرة أخرى.
كنتُ سأعرف طريق خان الخليلي، حتى لو مُغمَضة العينَين. الجسر العلوي ورائحة التوابل النفَّاذة دلَّاني على أننا وصلنا. أتذكَّر جيدًا ذلك المزيج من الروائح القوية التي تُغطي التلوُّث والغبار وتأخُذنا إلى تلك الزاوية السحرية من القاهرة، حيث الشوارع الضيقة المُتشابكة مثل المتاهات، المُزينة بالذهب والأقمشة الملوَّنة والبرديَّات والهدايا التذكارية، والسياح والحشود البشرية.
ذهبنا إلى قهوة الفيشاوي، ذلك المقهى العريق الذي زاره العديد من الكتَّاب والشعراء، وهو مكان كلاسيكي حيث يشرب مُرتادوه الشاي بالنعناع ذو المذاق القوي، ويُدخنون الشيشة بنكهة التفاح فتفوح رائحتها وتُغطي المكان بضبابٍ أبيض، وتعكس المرايا الضخمة على الجدران هذا الدخان ممزوجًا برائحة النعناع والحياة النابضة.
هناك، اختلط ارتباكي الداخلي بكلِّ شيءٍ آخر ووجد توازُنه. كان فقط البقاء في هذا المكان، ولم يكن ذلك مُمكنًا، ولكن الفترة القصيرة التي قضيناها كانت حلوةً كالمرجوحة، مُهدئة وعذبة. حتى الزمن، على طاولات الفيشاوي، يتمدَّد ويأخُذ قسطًا من الراحة. تمكنتُ من نسيان المسرح، وقبلتُ هذا الحاضر المِثالي ونمتُ ليلة هادئة.
ثم رحلنا إلى الواحات.
قضينا أنا ونورا أيامًا هادئة، نتحدَّث بِحُرية، نسترجع الذكريات، نضع افتراضاتٍ وحسابات ومشاريع، ونضحك كثيرًا! كم كنتُ بحاجةٍ إلى الضحك وتخفيف آلام قلبي! ما أجمل الأصدقاء! وكانت المفاجأة السارَّة هي لقاء صديقي أمير، «أمير الصحراء»! أخبره عبد الله بأنني سأكون في الواحة البحرية فجاء من سيوة لرؤيتي. شعرتُ بسعادةٍ غامرة! حاولتُ ألا أتحدَّث عن بابلو، لكنَّه نظر إليَّ ذات مساء وقال: «ذلك الموسيقار … هو الوحيد الذي وجد زرزورة ثم تركها تذهب …» شعرتُ بقشعريرة، لكني حاولتُ التقليل من الأمر قائلة: أمير، أنا متأكدة أنك فعلتَ الشيء نفسه … أنت تعرِف أين تقع زرزورة، أعلم ذلك، إنها تلمع في عينَيك، ومع ذلك لا تكشف عنها، لا تكشف عنها للجميع … هكذا تكون لك وحدَك، ولكن يمكن للجميع أن يحلموا بالعثور عليها بين الرمال، وأن هذا مُمكن حقًّا.
وأدركتُ وأنا أتحدَّث أن ما قُلته ينطبق عليَّ أيضًا: يمكن لشخصٍ آخر أن يفوز بقلبي، على الرغم من أن بابلو يحتفِظ بي في قلبه. ابتسم أمير دون أن يقولَ أيَّ شيء. استلقَينا على ظهورنا لنستمع إلى أنفاس الأرض وننظُر إلى النجوم، وتحوَّلنا إلى رمالٍ ونجوم … وشعرتُ حينها أنني شُفيتُ تمامًا، شُفيتُ من كل شيء، وأصبحت ذرةً من الكون في انسجامٍ تامٍّ مع الطبيعة.
•••
عُدنا إلى القاهرة ونحن نشعر بالراحة التامة، على الرغم من طول الرحلة. نوم هانئ ووجبة إفطار شهية أزالا كلَّ أثرٍ للتعب، وبعد ذلك حان الوقت للقيام بالمهام العملية: فرز الأشياء والاحتفاظ بما أُريد، وتوزيع ما سأتركه على أصدقائي، سواء كان مُقتنيات أو ملابس. كانت مُهمة صعبة بالنسبة لي. فأنا أريد الاحتفاظ بكلِّ شيء، أريد نقل عالمي المصري الصغير إلى إيطاليا، أكوابي، سجَّادتي، إبريقي، ستائري، مصابيح الطين الجميلة التي اشتريتُها من أفران الفسطاط … كل شيء، أردتُ أن آخُذه معي، على الرغم من أنني سافرتُ كثيرًا وأعرف من التجربة أن أيَّ شيءٍ «ننقله» يفقد سحرَه، وأن الحنين لا يزول بالأشياء، بل بالعكس. حتى الشاي لا يملك المذاق نفسه عند نقلِه، على الرغم من أن الفارق الوحيد هو الماء. قالت لي نورا مازحة: وهل المياه شيء هيِّن؟ في إشارة إلى اسمي الذي يعني «ماء»، وأكملَت: المياه تصنع كل الفرق! ثم غمزت لي صديقتي الحنونة، ذلك الجزء الخاص بي الذي سيبقى في مصر. أحببْنا بعضنا البعض كثيرًا وما زِلنا، ومعرفتي بوجودها في مصر يعني وجودي أنا أيضًا قليلًا، وهذا يُريحني كثيرًا. تكبُرني نورا بسنةٍ واحدة فقط، لكنها أكثر حكمةً وعملية، كانت تعيش بمفردها منذ خمس سنوات، وتعتمد على عملها. تعيش أُسرتها القبطية المُتديِّنة في حيٍّ بعيد جدًّا عن المدينة، يُسمى «ستة أكتوبر» بالقُرب من عمل والدها، لكنها فضلت الدراسة في الجامعة الأمريكية ومن وقتِها عاشت بمفردها في الزمالك، تلك الجزيرة الراقية في القاهرة.
كنتُ أختار وأتذكَّر وأروي قصصًا. أضع الأشياء جانبًا، ثم أعود إليها، وأُفكر مليًّا. كانت نورا تُدللني، فتُعد لي أم علي والسحلب، وتقول لي إنني بحاجةٍ إلى التغذية جيدًا. وفي الصباح تُحضر لي طبق «القشدة-الكريمة» للإفطار، وهو أمر يستحقُّ في حدِّ ذاته الاستيقاظ من أجله. وبضعة أيام في مصر كانت كافيةً لزيادة وزني ثلاثة كيلوجرامات! صحيح، كان عليَّ العودة إلى إيطاليا، ولكن هذه الفترة كانت بمثابة نقطة تحوُّلٍ في شفائي، على الأقل جسديًّا.
•••
بينما أستمتِع بكوب السحلب الكثيف والمُعطر، مزينًا بشرائح الموز والقرفة وبذور السمسم والمكسرات، وأنا جالسة على الأرض محاطة بالأمتعة والصناديق، تلقَّت نورا مكالمة هاتفية مفاجئة من ميدو. بالطبع، أجابت نورا على كلماته باللغة العربية، ولم أستطِع فَهم أنهم كانوا يتحدَّثون عنه. ثم قالت: «انتظر دقيقة، سأسألها.» وغطَّت سماعة الهاتف بيدِها وهمست لي بسرعة: «اسمعي يا مايا … كان بابلو في منزل ميدو الأسبوع الماضي، ربما عندما كنَّا في الأوبرا، وكتب لك رسالة، ولكنه ألقاها في سلَّة المهملات. وجدَها ميدو اليوم في السلة، وفهم أنها لك، وبالرغم من أن بابلو ربما لا يريد أن تعرفي، إلا أن ميدو يعتقد أنه من حقِّك أن تعرفي. ماذا أقول له؟ هل تُريدين الرسالة؟ هل أنت مُستعدة لذلك؟ لكنَّنا لا نعرف المكتوب فيها …
كانت هذه الكلمات سريعة لدرجة أنني احتجتُ إلى بعض الوقت لترتيبها في ذهني. مجرد سماع اسم «بابلو» كان كافيًا لإرباكي. ثم «رسالة»، «منزل ميدو»، «ألقاها»، «هل تُريدينها؟» أدركت نورا حيرتي وقالت لميدو: معذرة، لتصبر معنا قليلًا، سأتَّصِل بك مرةً أخرى.
ربما كانت تلك هي المرة الوحيدة في حياتي التي لم انتَهِ فيها من كوب سحلب. فقدتُ شهيتي فجأة، عندما تخيلتُ أن بابلو كان بالفعل في دار الأوبرا، وأنني كنتُ سأجده وأنا على وشك المُغادرة، ثم فكرتُ فيما قد كتبَه لي. بالطبع، ظننتُ أنه أخبرَني أنه خطب أو شيئًا من هذا القبيل، بالتأكيد لم تكُن أخبارًا جيدة، وإلا لما ألقي الرسالة. اتصلت نورا بميدو وطلبت منه الحضور بأسرع ما يمكن لإحضار الرسالة، وكان لطيفًا جدًّا وأتى إلينا على الفور. كان قلبي يدقُّ بسرعة، لقد رآه، ويُمكنه أن يُخبرني كيف حاله، وما إذا كان يعمل، وما إذا كان يعيش في مصر أم في مكانٍ آخر. كنتُ متوترةً قبل أن أرى ميدو، ولا أستطيع وصف حالتي بعد أن قرأتُ الرسالة.
«كم كنتِ جميلة يا حبيبتي … كنتُ أعرف أنني سأراكِ هناك، أخبرني جدِّي بذلك قبل أن أُغادر القاهرة لأذهب إليه في سيوة، ولم أستطع مقاومة ذلك. نظرت إليكِ طوال الوقتِ ورأيتُ في عينيكِ كل المشاعر. كان الأمر كما لو أن الموسيقى تمرُّ عبر جسدي لتصِل إليكِ، حاملة معها كل أفكاري. لم أستطع مقاومة الإغراء، وتوجَّهت إلى بيانو جانبي قابع في مكانه وكأنه يُناديني، وعبَّرتُ عن مشاعري لكِ في تلك النغمات القليلة. وأنا أعرف أنها وصلتك، بل ومتأكِّد من ذلك، وتلك الثقة لوهلة، أشعرَتْني بأنني فريد في هذا العالم، ولكن في الوقت نفسه شعرتُ بالندم أيضًا لأنني خُنت وعدي بأن أتركك حرة … حرة حتى في أن تنسيني. يا لحسنِ حظِّ الجالس بجوارك، فهو محظوظ لأنك منحتِ له قلبك: أتمنَّى أن يُدرك قيمة الكنز الذي منحَتْه إيَّاه السماء ليحرسه. وأتمنَّى لكِ السعادة أكثر، لأن أسوأ شيءٍ بالنسبة لي هو أن أعرف أنك حزينة. فتقديم الإنسان حياته لشخصٍ آخر لا يعني بالضرورة أنه يُحبه.
لكنكِ تبقين أول ما أُفكر به عند الاستيقاظ، كشمس الصباح، حمراء برتقالية في ضباب الفجر الساحر. أنت البداية والنهاية، وغروب أفكاري عندما يترك النهار مكانه لليل، مُفلتًا أصابع يدَيه الواحدة تلوَ الأخرى، ويُقبل عينيَّ النائمتَين، راقصًا على أنغام الموسيقى وعلى نبضات قلبي. مايا … أنتِ حقيقية، لم تكوني مجرد حلمٍ في سراب سيوة، أنتِ تمشين على طرقات العالم نفسه الذي أعيش فيه، وتجعلينه مميزًا وغاليًا، مثل اللآلئ التي زيَّنت رقبتك في المسرح، مثل قطرات السيليكا التي سقطت من السماء لتُقبِّل رمال الصحراء الذهبية، مثل الماء الذي يروي النخيل ويجعل التمر حلوًا. كم كنتِ جميلة يا حبيبتي …»
كانت تلك الرسالة المُمزقة بمثابة صدمة مطرقةٍ على رأسي. صحيح تألمتُ حيث إنني فقدتُ إمكانية رؤية بابلو في المسرح، لكنني صُدمت عندما علمتُ أنه اعتقد أنَّ الشابَّ الأشقر المُحنَّط الجالس بجواري هو رفيقي! بابلو يعتقد إذن أن رجلًا آخر في حياتي! لكن كيف يُمكنني هذا؟ ألا يفهم حقًّا حقيقة مشاعري نحوَه؟ هل اعتقد حقًّا أنه يمكن أن تتغيَّر مشاعري بهذه السرعة؟ ولو لم يكن ذلك الشاب موجودًا هل كان سيُحاول الوصول إليَّ؟ أم سيكتفي أن نلتقي في ممرٍّ ما؟ لقد رآني، وكنتُ أستطيع رؤيته.
بدلًا من كتابة الرسالة، كان يمكنه الاتصال بي، أو إيقافي، أو العودة، كان يُمكننا أن نتحدَّث كشخصين بالغين، لكنه لم يفعل ذلك. وفي الوقت نفسه، وبكتابة تلك الكلمات التي اعتقد أنه تخلَّص منها برمْيِها في سلة المهملات، تمكن من وضع ختمٍ شمعيٍّ على قلبي، لأنه من الصعب نسيان محبوب لا يُريدني، ولكن من المُستحيل عمليًّا نسيان شخصٍ لا يزال يُحبني بهذه الطريقة، ولكنه يعتقد أنني أُحب شخصًا آخر. في ذهني، تحوَّلت أيامنا في سيوة إلى فيلمٍ أشاهده مرارًا وتكرارًا، وأتوقَّف عند أجمل اللحظات، عند العناق والقبلات، بما في ذلك القبلة الأخيرة، عندما لم أكن أعرف أنها ستكون الأخيرة. لا بد أن يعرف أنني لم أرتبط بآخر، وأنني لا أُحب سواه، لا بد أن أقول له إنني ما زلتُ أُحبه من كل قلبي! وهل يعني هذا أنه بينما كنَّا في الواحات البحرية كان هو في سيوة؟
وبدأتُ أعاتب ميدو، وأُمطره بالأسئلة التي لم يكن لدَيه إجابة عليها: فهو لا يعرف أين يعيش بابلو، أو إلى أين ذهب، أو إذا كان لدَيه رقم هاتف … قال إنه عاد إلى خيوس وأنه مرَّ بالقاهرة فقط لزيارة جدِّه في سيوة. وقال إن زياراته دائمًا قصيرة. وأضاف إنه لم يُخبر بابلو أنه سيأتي إلى الأوبرا ولم يذكُرني له. بل ذكر إيليني، وخلال لقائهما القصير، كان ميدو هو من تحدَّث عن نفسه وعن دراسته للدكتوراه وخُططه المُستقبلية. في تلك اللحظة أدركتُ أنني أتعامل بقسوةٍ مع شابٍّ فعل كلَّ ما في وسعه من أجلي، أي إنه أحضر لي الرسالة.
فهل عاد إذن إلى إيليني؟ وما الهدف من مجيئه إلى الأوبرا لرؤيتي وأن يُسمِعني لحنَنا؟ هل لا يزال مُقتنعًا برغبته في الانفصال عنِّي كما أعلن منذ تسعة أشهر؟
أحيانًا تنتهي قصة حُب بليلةٍ من العشق بدلًا من كلمة «النهاية»، وعلى الرغم من حلاوتها وسموِّها، إلا أنها تُشبه طعنة سكين بطيئة، مثل الموت الذي لا يستطيع أن يكتمِل، وكأن الروح تريد أن تموت والجسد يصِرُّ على البقاء على قيد الحياة، يُعذبها حتى لا يتركها تموت.
هل أتمنَّى لو لم أعِش تلك القصة؟ هل أتمنَّى لو عدتُ بالزمن شهرًا إلى الوراء لأتجنَّب عبور تلك العتبة، وكشف ذلك السر؟ لا، لا يُمكنني أن أشعر بالندم. بل سأشعُر بالندم طوال عمري لو لم أقبل هذه الدعوة الجميلة للوقوع في الحُب في تلك اللحظة بالذات.
لفترةٍ طويلة، استمرَّ جسدي في العيش بينما كانت روحي مُمزقة ومُحطمة. ظلَّت جروح روحي تنزِف لفترةٍ طويلة، حتى تحوَّلت إلى ندبةٍ جميلة، أصبحت جزءًا لا يتجزَّأ منِّي، أساسيًّا كالصخرة التي تقوم عليها حياتي، واعتمدتُ عليها كلَّ لحظةٍ من حياتي، حتى إنني حاوطتُها وحاولتُ حمايتها، وتجاوزتُها في كل علاقةٍ جديدة، وفي كل شعورٍ جديد. لا أعرف كم من دموعٍ سقت تلك الزهرة، ربما قدْرَ نهر النيل في موسم الفيضان. ولكن كما يجلب النيل الحياة إلى الأرض، جعلت دموعي ذلك الحُب خالدًا، على الرغم من أنه أصبح ذكرى. لهذا السبب، لا يزال الحديث عن ذلك يؤثر بي كثيرًا؛ فأنا أحكي عن ولادة جزءٍ منِّي لا يزال حيًّا، رغم كلِّ شيء، ولا يُؤلمني كثيرًا، رغم كلِّ شيء.
في البداية، كانت شظايا تلك التفجُّرات الساحرة تغرس نفسها في جسدي، وكان غياب بابلو أمرًا لا يمكن تصوُّره بالنسبة لي، كنتُ متأكدة من أنه سيعود. كنتُ أنتظِر أن أراه مرة أخرى، وأن أسمع صوته عبر الهاتف، وأن أتلقَّى رسالةً أو خبرًا، أو حتى رسالةً من حمامٍ زاجل. كنتُ أعتقد أنني سألتفتُ وأجدُه هناك، بابتسامته الحزينة ونظراته العميقة … كثيرًا ما شعرتُ برائحته، وسمعتُ صوته يحمِلُه لي الريح، لطالما شعرتُ بقربه، كنتُ أومن أنه لا يُمكن أن يتحوَّل كل هذا إلى لا شيء في لحظة، في يوم، في عام. لم يكن ميتًا، إذن كيف يمكن أن يختفي هكذا؟ لا، لم أُصدِّق ذلك، لم يكن منطقيًّا. ربما أقنَعَه كلامه في تلك اللحظة، ولكنه بالتأكيد يفتقِدني، وبالتأكيد فكَّر فيَّ كثيرًا وأنه بالتأكيد سيعود … فهو يعرف، بل يجِب أن يعرف أنني سأرحِّب به، لا بدَّ أنهم قالوا له إنني لم أكن مع ذلك الأشقر البارد، لا بدَّ أن يتخيَّل أنني لم أُصدِّق أنه تركَني، وأن يفهم أن ما بيننا أقوى من أن ينتهيَ بهذه السهولة. ولهذا انتظرت. وخلال الانتظار، عشتُ حياتي.
كنتُ أستيقِظ في الصباح سعيدةً بأمل يومٍ جديد، وكل دقيقة كانت تمرُّ أسرع، لأنني كنتُ على يقينٍ بأن لحظة رؤيته تقترِب. كنتُ آكُل، أعمل، أسير في الشارع، في المترو، في الزحام، تحت جسور تيفيرى، في منزلي … كل شيءٍ كان يبدو مختلفًا بعد سيوة وبعد بابلو، وكل شيءٍ خافت، يترقَّب. وفي المساء، أنظُر إلى السماء قبل أن أنام، وأُرسِل نداء صامتًا إلى النجوم، متأكدةً أن تلك السماء تراه أيضًا، ويومًا بعد يومٍ زادَ صمتُه والفراغ وأصبَحا أكثر ألمًا ويأسًا. بإمكانه أن يَجِدَني لو أراد، فلدَيه عنواني في روما، ومعارف يُمكنه أن يسألهم، لكنه لم يفعل. كنتُ أتصل بعبد الله بين الحين والآخر، وأسأله لو عاد بابلو إلى سيوة، أو لو ذكَر جدُّه شيئًا عنه، أو لو ظهر أحدُ أفرادِ عائلته. يقول إنه يذهب إلى هناك أحيانًا، ويبقى لبضعةِ أيام، لكنهم يعرفون ذلك بعد أن يرحل. كان أشبَهَ بالشبَح، اختفى. كنتُ أتذكر العاصفة الرملية البشِعة، واللحظة التي بدأتُ فيها أرى خيالَه وسط تلك الدوَّامة المظلمة، شعرتُ بالراحة والسعادة في تلك اللحظة، اختفت مخاوفي وعادت شجاعتي لمواجهة المِحنة. كنتُ أتخيل الشعور الذي سأشعُر به عندما أراه يعود، أو أتلقَّى رسالةً منه، أو يتَّصِل بي، أو تُخبِرني أُمي أنه بحث عني وأنها أعطتْهُ رقم هاتفي. كنتُ أُفكر في تلك اللحظة كثيرًا، وأحاول تخيُّل تفاصيلها، وعندما يرنُّ الهاتف، يقفز قلبي من مكانه. وعندما أفتح الكمبيوتر أشعر بقلبي يدقُّ سريعًا وأنا أبحث عن اسمه بين الراسلين.
كنتُ أتابع برامج كلِّ حفلات البيانو في أوروبا وخارجها، لكن اسمَه لم يكن يظهر بين العازفين. مرَّت الشهور ثم السنوات، واستبدلت بالثقة الأمل الأقل، ثم استسلم الأمَل للحقيقة ثم ترك مكانه للاستسلام، وطلبتُ ضارعةً النسيان لكي يُخفف من آلامي. أردتُ أن أنسى أنَّني وضعتُ أمَلي في ذلك الأمر وأنني انتظرت. وكما قلتُ لكِ يا شيرلي، وضعتُ حُبي كجوهرةٍ في صندوقٍ خفيٍّ في روحي، لكنَّني أُدرك أنه على الرغم من ذلك، لم يفقد بريقَه وقيمته، كالجمر الذي يحتفظ بالنار تحت الرماد.
هذه هي القصة بأكملها. ربما أفادني الآن أن أرويها لنفسي من جديد، كحكايةٍ من الحكايات التي أقرؤها في المكتبة في الأيام التي تحملني فيها الرياح من البحر حُزنًا. أحيانًا يبدو أن الأمواج تصِل إلى الشاطئ حاملةً حزنًا خفيًّا، بلا ضجيج ولا رغوة بيضاء، وكأنها أغنيةٌ حزينة. تدخُل نسمة هواء دافئة إلى المكتبة وتُداعب شعري. أُغلق عيني وأترُك الصفحات تتقلَّب بين يدَي. أنا سعيدة لأنني عشتُ حُبًّا كهذا، حبًّا لا يُحالف الحظ الكثيرين في العثور عليه، مثل لهيب شمعةٍ مهما كان قصير العمر، فإنه يبقى نارًا ونورًا.
حانت ساعة الرحيل! هل كنتم تنتظرون أن أُنهي قصتي؟ لقد انتهيت، نحن مُستعدون، هل حان وقت مغادرة أحدِنا؟
ما زالت شيرلي مُشتتةً بسبب حديثي وتجد صعوبةً في فهم الأمر. وضع أنطونيو ذراعَه حول كتفِها ليُهدئها ويُعيدها إلى الواقع: «هناك طائرة قادمة من باريس بها حوالي أربعين مقعدًا فارغًا سنقوم بملئها نحن كبار السنِّ والآباء الذين لدَيهم أطفال صغار. ومِن المتوقَّع أن يُغادر الآخرون مع الرحلات الأخرى القادمة من فرانكفورت خلال ساعتَين.»
يا إلهي، ساعتان أُخرَيَان! يبدو أننا سنقضي ليلةً بيضاء وسنصِل إلى القاهرة في وقتٍ غير مناسب على الإطلاق. ولكن إذا صعد أصدقائي أنطونيو وشيرلي إلى الطائرة الآن، فسيمرُّ الوقت ببطءٍ شديد …
– لا تقلقي، لن ننطلِق على الفور: فالطائرة القادمة من باريس تتوقَّف في مكانٍ ما، وسيتعيَّن على الركَّاب قضاء ساعةٍ على الأقل في المطار. وأعتقد أن هذا سيستغرق وقتًا أطول لو لم تتزامن الرحلتان. أخبرَني أنطونيو الذي تابع كلَّ تفاصيل هذه الفوضى من الرحلات والتأخيرات.
شاهدنا مجموعةً كبيرة من الركاب يدخلون وهم يتحدَّثون بلهجةٍ فرنسية مُركبة وينظرون إلى ساعاتهم. ليس كلهم فرنسيين، فقد رأينا العديد من العرب والنساء المُحجَّبات وأمريكيين مُميزين … ورأيتُ شابًّا وسيمًا يرتدي بدلةً وربطة عنق، ذا بشرة سمراء وشعرٍ أشعث قليلًا، وعينَين عميقتَين … لقد لفت انتباهي! لكنني شعرتُ أنني رأيتُه من قبل! يا إلهي، هذا الوجه مألوف! قالت لي شيرلي وهي تنظر إليه بنظرة مُتواطئة: «شابٌّ وسيم، أليس كذلك؟» قلت: «نعم، بالتأكيد! لكن وجهه يبدو مألوفًا، لا أستطيع أن أتذكَّر …» وبينما كنتُ أنظر إليه، الْتقى نظري بنظره، وعقد حاجبَيه قليلًا كما لو أنه يُحاول تذكُّر شيءٍ ما، ثم ابتسم ابتسامةً واسعة أضاءت وجهه. قال: «مايا! أنتِ! نعم، أنتِ، لم تتغيَّري على الإطلاق!» قلت: «لا أُصدق! ميدو! ميدو! كيف حالك؟ ماذا تفعل؟ يا إلهي ما هذه المفاجأة! لقد مرَّ وقت طويل!» كانت شيرلي مصدومةً مِثلي، وقدمتُ كلًّا منهما للآخر. وبدا لي أن رحلتي بدأت للتو، على الرغم من أنني كنتُ في مطار ليوناردو دا فينشي! تحدَّثنا باللغة الإنجليزية، وشرحنا له الموقف، وعرف أنه سيُغادر مع صديقيَّ على متن الطائرة نفسها، وذهب أنطونيو بالفعل ليضع الأسماء في قائمة ركاب المجموعة الأولى مُمسكًا الجوازات بين يدَيه.
– لا بدَّ أن أنتظِر تلك القادمة من فرانكفورت، ما زال أمامي بعض الوقت. سعيدة جدًّا أنني رأيتُك! أراك في أحسن حال.
كنتُ أشعر بأنني في أرضٍ محايدة، كان يُمكنني أن أُعانقه على الفور، فقد كنتُ بالفعل سعيدةً جدًّا لرؤيته، ولكن حتى إن «كنتُ ألعب في أرضي»، فهو لا يزال شابًّا مصريًّا مُسلمًا، ولا بدَّ لي من أن أتحفظ. سألني إذا كان أنطونيو وشيرلي أبويَّ، أهزُّ رأسي نفيًا، وأشرح مأساتنا الصغيرة. يطلب منِّي أن أنتظره لحظة. يتوجَّه نحو منضدة الإقلاع، وأراه يتحدَّث مع موظفٍ في الشركة يبدو فرنسيًّا. يُشير إلى التذكرة وينظر للساعة، يتناقش الموظف مع زميلٍ له سريعًا. يبتسِمان، ويستدعِيان شخصًا يبدو مُهمًّا ويبدو متوترًا. يبتسم هو أيضًا، ويشدُّ على يدِ ميدو. يبدو الجميع مسرورين، وأشعر بفضول. عاد ميدو إلينا وهو يبتسِم ابتسامةً عريضة تُناسب بدلته الزرقاء الأنيقة. قال: «كل شيءٍ على ما يُرام، مايا، سأنتظِر معكِ: لقد طلبتُ تغيير مقعدي إلى رحلةٍ أخرى، وكان هناك رجل مسافر إلى القاهرة على عجلةٍ من أمره ولم يتمكَّن من الحصول على مقعدٍ في الرحلة الأولى، فرحَّب بالفرصة. سننتظر معًا وسنسافر معًا، وآمُل ألَّا يُزعجك ذلك!» قلت: «يا إلهي! هذا تصرُّف لطيف جدًّا! شكرًا لك، أنا سعيدة جدًّا بذلك».
أشعُر بالارتباك. لا أزال أُحاول فهم مكان ميدو في كل هذه المشاعر. لم أتوقَّع أن أراه، ولا أستطيع فصلَه عن ذكرياتي لكي أراه كما هو الآن: حاضرًا ولطيفًا، وجميلًا ونشيطًا، يرغب في البقاء معي لفترةٍ أطول. قادمًا من باريس، أنيقًا ورجلًا. طالما كنتُ أنا من يحكي قصتي لعمِّي ميكيله أو للسيدة شيرلي، كان الأمر كله وكأنه صوتٌ يخرج من خزانة مُغلقة مليئة بالمعاطف. أما الآن فقد انفتح باب الخزانة وخرج صوتي بصوتٍ عالٍ. كان هو هناك، وقد رأى وسمِع وعرف كل ما مررتُ به، وكان صديقًا لبابلو. أنظر إليه الآن وأتساءل كيف لم أقَع في حُبه من قبل.
أنظر إليه وأريد بشدة أن أسأله عن بابلو. قال لي: هل نذهب لتناول العشاء؟
نظرتُ إلى شيرلي وعانقتْني بقوة وقبَّلتني وقالت: اذهبي يا عزيزتي، سننتظرك هناك، وسنستقلُّ الطائرة قريبًا. أنا سعيدة لأنكِ لستِ وحدَك هنا، وأنكِ لن تَصِلي إلى القاهرة في منتصف الليل أو في وقتٍ متأخر. لقد كان هذا حظًّا سعيدًا! أتمنَّى لكِ كل الخير. سأراكِ في مصر، إن شاء الله.
قلتُ لها: شكرًا لكِ يا سيدتي شيرلي، لقد كان من دواعي سروري أن ألتقيكِ. رحلة سعيدة، وسأراكِ قريبًا.
وقمتُ بتقبيلها مرةً أخرى وشددتُ على يدِ أنطونيو، ثم افترقنا.
شعرتُ بالارتباك. أريد أن أعرف كلَّ شيءٍ عنه، عن حياته، عن سبب وجوده هنا. أريد أن أسأله عن بابلو، لكنَّني خائفة من أن أُفسد اللحظة. أريد أن أستمتِع بكلِّ دقيقةٍ معه.
يبدو ميدو مُشرق الوجه، وأنا مليئة بالأسئلة. قال لي: تعالي، لنبحث عن مطعم. لم أُرد أن أُزعجه، كان من الواضح أنه يستمتع بدور فارس، وأنا أيضًا كنتُ سعيدة بالجلوس والاسترخاء قليلًا. كان هناك الكثير من الضوضاء والأضواء. شعرتُ بالتعَب، لكن هذا كان مجرد بداية لِما ينتظرني في القاهرة.
سألَني: كيف حالك يا عزيزتي؟ منذ متى وأنتِ لم تذهبي إلى القاهرة؟ وكيف حال عائلتك؟
قلتُ له: لقد غادرتُ مصر منذ عشر سنوات، أتذكُر؟ التقَينا في ذلك الوقت. ولم أعُد إليها منذ ذلك الحين. يُمكنني القول إن حياتي تغيَّرت تمامًا.
قال بفخر: نعم، أعرف! أنا أيضًا، منذ أن بدأتُ العمل، تزوَّجتُ، وانتقلتُ إلى بلدٍ آخر … وأصبحتُ أبًا أيضًا!
ولكن هناك شيءٌ ما لم أفهمه.
قلت: تَهنئتي! إذن أنت تعيش في فرنسا؟
قال: نعم، أعيش في باريس، وأعمل مُحاميًا. لكنَّ زوجتي مصرية. الآن أنا ذاهب لزيارة والديَّ، فأبي مُسن، وأزوره كلما استطعت. وأنتِ، ماذا عن زوجك؟
ابتسمتُ وأخفضت عينيَّ: لا، لست متزوجة.
– لقد تغيَّرت حياتي، نعم، بمعنى أنني توقفتُ عن السفر حول العالم. التقَينا آخِر مرة عندما عدتُ إلى القاهرة لترتيب بعض الأمور. لقد شُفيتُ من الالتهاب الرئوي الذي حرَمني من العمل في المنظمة غير الحكومية، ثم استقررتُ في مكانٍ على البحر في إيطاليا، وأعمل في مكتبة أعمامي. أشعر بالسعادة، حياة هادئة وهواء نقي …
وبينما أتحدَّث أشعر بأنني مُملة وغير جديرة بالاهتمام. كل ما فهمه ميدو هو:
– أوه … فهمت … فالزواج لم ينجح؟ متى حدث ذلك؟ ولكن لربما كنتُ أعرف هذا بالفعل …
لماذا يُصر على هذه القصة عن الزواج؟ أنا لستُ كبيرة في السن لدرجة يفترِض فيها أنني متزوجة!
قلت: لا، ميدو، لم أتزوَّج قط. هيَّا، لدي الوقت الكافي للزواج، أليس كذلك؟ هل أبدو عجوزًا؟
قال: لا يا مايا، أنتِ جميلة كما كنتِ دائمًا، لم تتغيَّري على الإطلاق … لكنني كنتُ أعتقد أنك تزوجت!
سألته: من أخبرَك بذلك؟
أجاب: أخبرَني بابلو بذلك، أعتقد. ثم ربما أخبرَني أيضًا أنكِ لم تعودي كذلك؟ لا أتذكَّر بالتحديد …
شعرتُ بالغضب الشديد. تساءلتُ كيف يُمكنه أن يقول مثل هذا الشيء؟ كيف يُمكنه أن يربط بيني وبين رجلٍ آخر هكذا؟ شعرتُ بالإهانة. حاولتُ أن أتحكَّم في غضبي وطلبتُ بعض الطعام، رغم أنني لم أشعر بالجوع.
قلتُ له: كيف يُمكنه أن يقول هذا، هو أو أي شخصٍ آخر، بما أن هذا لم يحدُث أبدًا؟
وأنا أُمسك بالمنديل بيدي وأحاول كبح غضبي.
قال: ولكن عندما زرتِ القاهرة آخِر مرة بعد مرضك، ألم تكوني مع شاب؟ من شمال أوروبا، أعتقد … ألم تكونا معًا في الأوبرا؟
تذكرتُ الرسالة المُمزقة التي تركها بابلو، وربما قرأها ميدو وفهم الأمر خطأ …
قلت: بالطبع لا! من أين أتيتَ بهذه الفكرة؟
كان الرجل الذي كان معي في الأوبرا مجرد صديقٍ لنورا، وكنَّا خمسة أشخاص في ذلك المكان …
قال: أوه! اعتقدتُ أن الأمر كذلك، لأن بابلو أخبرَني بذلك عندما رآكِ في إيطاليا، عندما كنتِ في المُستشفى.
قلت بغضب: ما الذي تتحدَّث عنه؟ بابلو لم يزُرني في إيطاليا ولم يرَ أي رجلٍ معي لأنني لم أكُن مع أي رجل، لا في المستشفى ولا في أي مكانٍ آخر!
هل يسخر منِّي؟ هل يمزح معي؟ كانت هذه مزحةً شديدة السخافة منه؟ لم أعُد متأكدةً من أنني مُستمتعة بصحبة هذا الشاب الوسيم الذي يستمتع بالسخرية منِّي. بل وسنجلس متجاورَين في الطائرة. أو على الأقل، هناك احتمال كبير أن يحدُث هذا.
قال: هدِّئي من روعك، هدئي من روعك! لا أعرف … اعتقدتُ أنكما عاودتُما الاتصال. لم أتحدَّث مع بابلو منذ سنوات، بالتحديد منذ أن ذهبتُ لأعيش في باريس، ولكن كان هو الذي حكى لي تلك القصة عندما تقابلنا في إحدى تلك المرات الأخيرة. ولكنَّني لم أُخبره قط أنني وجدتُ الرسالة وأعطيتُها لكِ لأنني لم أجد الشجاعة لأفعل ذلك.
قلتُ له: اعذُرني يا ميدو، هل يُمكنك أن تُخبرني بالتحديد ما قاله لك بابلو؟ لأنني بصراحة، أحببتُه أكثر من أي شخصٍ آخر في حياتي، وهو أحبَّني أيضًا.
– بالطبع أعرف ذلك.
– لكنه تركني فجأة دون سببٍ واضح، واخترع أعذارًا لم أُصدقها أبدًا. لقد عانيتُ كثيرًا. انتظرتُه وبحثتُ عنه، واستمررتُ في حُبه، وفي النهاية استسلمت. لكن ما تقوله الآن يجعلني أشكُّ في أن هناك شيئًا ما لا أعرفه.
قال: ربما كانت آخِر مرة أرى فيها بابلو، بعد أن رحلتِ أنتِ بسنة. اتصل بي كما يفعل دائمًا عندما يكون في مصر لزيارة جدِّه. ذهبنا في نزهةٍ بالسيارة في صحراء سيوة، وكان معنا أسامة أيضًا. كانت رحلة مُمتعة … أفتقد تلك الأيام.
يُفكر قليلًا في الماضي، كما نفعل جميعًا عندما نتذكَّر أيام شبابنا. نعم، ما زلنا نحن نفس الأشخاص الذين كانوا يستمتعون بالانزلاق على الكثبان الرملية الذهبية، ثم نجلس حول النار نشرب الشاي ونحكي القصص، كنَّا أحرارًا، بعيدًا عن قيود الوقت والمكان. أحرار لنتخلَّى عن الساعة والحذاء والملابس الأنيقة، دون خجلٍ من أن نُغني بأعلى صوتٍ تحت السماء. نظرت إلى ساعته الذهبية وربطته، ولكنني رأيتُ في عينَيه إثارة تلك الرحلات بالسيارة الجيب على الرمال وعثرتُ على الشابِّ الذي أعرفه. عاد ليتحدَّث من جديدٍ ونظرته ما زالت بعيدة.
– في سيوة، لم نستطع ألَّا نتذكَّرك عندما تَحدَّثنا عن العاصفة الرملية وعن الخوف الذي شعرنا به في ذلك اليوم. سأل أسامة إذا كان أحدُنا يعرف أي أخبار عنكِ، فقال بابلو إنك بخير وإنكِ ربما تعيشين في إيطاليا وإنكِ تزوجتِ وإنك لم تستطيعي الذهاب للعمل في فلسطين بسبب مرضك. فوجئتُ عندما سمعتُ أنه قال إنك متزوجة، فقد رأيتُك في القاهرة قبل عامٍ بعد مرضك ولم تُخبريني بشيء. لكنه أكد ذلك وقال إنه عندما علم بمرضك الشديد سافر على الفور إلى إيطاليا، وذهب إلى روما، ولا أعرف كيف عرف المُستشفى الذي كنتِ فيه، ربما بحث حتى وجدَك!
قلت بصوتٍ مُرتجف: ولكنه لم يحضر لزيارتي على الإطلاق!
– لكنه قال إنه وجدك، وأنه رأى رقم غرفتك وتوقَّف على بُعد بضعة أمتار من الباب لأنه رأى شابًّا أشقر يحمل باقة وردٍ حمراء يدخل الغرفة وهو يقول «صباح الخير يا حُب حياتي!» ولم يرَ ما بداخل الغرفة، ولكنه استنتج أن الورد كان لكِ، ثم رحل دون أن يظهر نفسه. ثم رأى الشابَّ الأشقر نفسه معكِ في الأوبرا، فكان متأكدًا من أنه زوجك.»
قلت: زوجي! بسبب باقة ورد! وكأنني كنتُ وحدي في الغرفة! كنا ثلاثة أشخاصٍ في تلك الغرفة! كيف يُمكنه أن يكون غبيًّا وجبانًا إلى هذا الحد. كنا ثلاثة في تلك الغرفة والورود لم يكن لي في ذلك الصباح! يا للهول … ولكن هل تُصدق هذا؟ أتذكَّر هذا الصباح جيدًا جدًّا، ووصول خطيب تلك الفتاة زميلتي في الغرفة، أتذكَّر غيرتي منها، هي التي لم تستقبل بحماسٍ كبير باقة الورود. أتذكَّر كم كنتُ أشعر بالوحدة والحزن … لا أستطيع أن أُصدق أن بابلو كان قريبًا جدًّا منِّي في تلك اللحظة.
يا إلهي، أقسم أنني على وشك البكاء. ولكن كيف يكون ردُّ فعل ميدو؟ ينفجر في الضحك. وأشعر بأنني أكرهه.
– لا يمكن؟ هل كان بالفعل خطيب تلك الأخرى؟ هاهاها! إذن، كنتُ أنا على حق، عندما قلتُ إن مَن كان في الأوبرا لم يكن على صِلةٍ بك! كم هو عنيد بابلو هذا، يا له من شخصٍ غريب!
•••
مزقتُ منديلِي الورقي تمامًا. يستمتِع ميدو بتناول ستيك الفلفل الوردي بينما لم أستطع تناول أي شيء. يبدو أنه لا يُدرك ما أشعر به. بل يبدو أنه يستمتع بمُعاناتي. لا يعرف كم عانيت، لا يعرف شيئًا. إنه شخصٌ غير متعاطف. وأنا هنا أعاني من انهيارٍ عصبي وهو يضحك. يجب أن أتنفَّس بعُمق وأهدأ وأُقنع نفسي أن كل شيءٍ كان مُقدرًا أن يحدث هكذا. يجب أن أكون هادئة.
قال: مايا، سامِحيني على الضحك، ولكن الأمر مُضحك جدًّا: شخص يسافر من اليونان إلى مصر ثم إلى إيطاليا، ويُنفق الكثير من المال، ويظهر وكأنه عاشِق شجاع، ثم يرتكِب مثل هذا الخطأ السخيف! ويعود دون حتى أن ينظر إلى عينَي حبيبتِه. لا أعرف، ولكن بمجرد أن قلتِ لي هذا وأنا شعرتُ برغبة في الضحك، ولكن الآن وأنت تحكين لي أن الخطيب لم يكن خطيبك، وأنه كان يُمكنه أن يدخل إلى غرفتك بكل هدوء، سامِحيني، أشعر برغبة شديدة في الضحك.
أمامي الآن حلَّان، إما أن أخنقه أمام الجميع أو أحاول أن أتعامل معه بكل أساليب الفلسفة التي عرفتها. أبتسِم ابتسامة خفيفة وأقول وأنا أنظر إلى شريحة اللحم التي قطعت منها قطعةً لأذوقها رغمًا عني: يبدو أن هذا ما حدث.
– مايا هل معقول أنك لم تفهمي قط؟ إذن فأنت عنيدة بعض الشيء مثله، لقد وقعتُ أنا أيضًا في حُبك في تلك الفترة.
– نعم!
فوجئتُ بكلامه بالفعل. لا بدَّ أن شريحة اللحم تلك لن تجد طريقها إلى معدتي بسهولة، ولا فائدة من ذلك! فتوقفتُ عن الأكل. قرَّر القدَر أن يضحك في وجهي واضعًا أمامي سلسلةً من المصادفات التي بدأت تساعد على توضيح الماضي المدفون، ماض مختلف عن ذلك الذي عرفته واجتررتُه إلى ما لا نهاية.
– نعم يا عزيزتي، أحببتُك، ولكنك لم تكوني حتى ترينني، فأنت لم ترَي سواه، وأنا لم أقُل لك ذلك أبدًا. ولماذا أقول؟ لم يكن هناك مجال للمنافسة. عادة أحصل على إعجاب الفتيات دون أدنى مجهود، ولكنكِ أنتِ، أنتِ من أُعجبتُ بها، لم تنظري إليَّ حتى. أو ربما حقدتُ على النظرة التي بها اعتدتِ النظر إليه، تلك النظرة الحالمة والعاشقة التي نادرًا ما يراها المرء. أجل، ربما كنتُ أشعر بالحقد أكثر من الغيرة. فقد كنتِ جميلة جدًّا، وجمالك جمال طبيعي وبريء، مختلفة عن النمط المعتاد للغربيَّات الباحثات عن المغامرة! لم أفعل أي شيء، والتزمتُ مكاني، وعندما تركك بابلو، تقريبًا شعرتُ بالسعادة. كنتُ أعرف أن ذلك لن يجعلك متاحةً لي، ولكن شعرتُ بالتحسُّن عندما عرفتُ أن ذلك الكمال لم يؤدِّ إلى شيء. كل هذا الحُب! وماذا حدث بعد ذلك؟ كلٌّ منكما ذهب إلى حال سبيله. إذن، لم يكن الحُب ما يمكن أن يُعوَّل عليه في نهاية الحال. أو ربما لم يكن حُبكما حقيقيًّا.
– لا أعرف ماذا أقول لك. يؤسِفني هذا. لا يؤسِفني أنكَ عانيتَ من الحقد. ولكن يؤسِفني أن أعرف أنكَ لم تكن قادرًا على أن تُحبنا وتفرح لنا. على الأقل لبابلو، نظرًا لأنكما كنتما صديقَين. يؤسفني أيضًا أنه هو أيضًا اعتقد أنني مخطوبة أو متزوِّجة، ببساطةٍ لأن هذه لم تكن الحقيقة. ويؤسِفني أسفًا شديدًا أنني لم أرَه في روما، ولم أعرف حتى أنه أتى لزيارتي.
ثم لأنزع عن نفسي فضولي سألته: ماذا عن زوجتك؟ هل تُحبها؟ هل استطعتَ أن تفهم ما هو الحب؟
– بالتأكيد أُحبها! فهي شابَّة ماهرة، تطهو جيدًا جدًّا، تعرف كيف تعتني بالمنزل وكيف تُربي الطفل. تهتمُّ بي وبعائلتي، وهي أيضًا جميلة ورقيقة، مُتخرجة في الجامعة ووالدَاها مُثقفان.
– آه، فهمت إذن … هذا هو حُب فعلًا. هل تعرف شيئًا يا ميدو؟ إذا أصبحتَ أنت سعيدًا يُصبح الجميع سعداء، لأنك أنت سعيد. أليس كذلك؟ فأنت لديك كل ما تتمنَّاه.
– أجل، الحمد لله. لديَّ كل ما يمكن أن أتمناه.
لم أعُد أستطيع أن أتحمَّل أكثر من ذلك. أرغب في الرحيل فورًا من هنا وأن أستوعِب كل تلك المفاجآت الجديدة. تتصل بي نورا قلقة.
– أجل يا صديقتي العزيزة! ما زلتُ في مطار فيوميتشينو، شيء عجيب، ولكن هذا ما حدث. أعتقد أنهم يتحدَّثون الآن عن الصباح الباكر … نامي الآن، ولا تُفكري حتى في أن تأتي لتأخُذيني … لا، أنا مُصرة، حقيقي! بعد قليل سأدقُّ جرس بابك … هل تتذكَّرين ميدو؟ أجل، هو بنفسه. نحن مسافران معًا … أجل، أجل … أنا سعيدة. سأحكي لك فيما بعد. ليلتك سعيدة، يا نورا. شكرًا على المكالمة!
– نورا … كيف حالها؟
– بخير، شكرًا. أشتاق كثيرًا لرؤيتها. سأتعرَّف أيضًا على خطيبها، ربما أعود مرةً أخرى إلى القاهرة لأحضر زفافها.
أخيرًا أبتسم وأستطيع أن أتطلَّع للمستقبل. أشعر بالألم من أجل هذا الشابِّ النفعي الذي لدَيه كل شيءٍ بالفعل، ولكن تنقُصه الحساسية والمشاعر النبيلة. على الأقل هذا هو الانطباع الذي تركه لديَّ. أشعر بالفعل برغبةٍ شديدة الآن للصعود على متن تلك الطائرة المباركة وأترك خلفي هذا المطار الذي أشعر أني قد قضيت فيه حياةً بأكملها!
– اسمع، إذا أردتَ يُمكننا أن نخرج من هنا، لن آكُل أي شيءٍ آخر، لم أعد جائعة، اعذرني.
كانت ذكرياتي رائعة. أحفظها عن ظهر قلب. كل حدثٍ فيها وكل حوارٍ وكل لحظةٍ من ذلك الماضي المُتبلور، تنتمي إليَّ. الآن يأتي هو، والذي كان في ذكرياتي رائعًا ومحددًا، ليجرح صورةً حتى يُشوهها، كما يحدُث عندما يصطدم حجر بلوحٍ زجاجي. كل هذا وقد تقابلنا للتوِّ! الصبر جميل، والاستمرار في العيش يتضمَّن أيضًا هذا. سأتعامل أيضًا مع هذا الموقف. أنا أيضًا أحطتُ نفسي بطبقةٍ من البلُّور. أقلعت طائرة شيرلي وأنطونيو منذ فترة، ونحن نُحاول معرفة ما إذا كانت الطائرة القادمة من فرانكفورت قد هبطت، وأي بوابة سنستقلُّها منها. أشعر بأنني مُستعدة بالفعل، حان وقت النمو.
أخيرًا حان الوقت! مررْنا بجهاز الكشف عن المعادن وصعدنا إلى الطائرة! كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً، وقد قضيتُ يومًا طويلًا في مطار ليوناردو دا فينشي. لم أحصل على مقعدٍ بجوار ميدو، كما توقعت، وكنتُ سعيدة بذلك. قررتُ أن أسترخي، شددتُ حزام الأمان، واستمعتُ إلى تعليمات المُضيفات، لقد مرَّ وقتٌ طويل منذ آخر مرةٍ استمعت فيها إلى هذه التعليمات! استندتُ إلى مسند الظهر وأغلقتُ عينيَّ للاستمتاع بالإقلاع بينما تبدو روما صغيرة جدًّا من الأسفل. فتحت عينيَّ مرة أخرى عندما ارتفعت الطائرة في الجو وأعلن الجرس أنه يُمكننا فكُّ أحزمة الأمان. وضعتُ سماعات الرأس واخترتُ الموسيقى الكلاسيكية، كما أفعل دائمًا. قدَّموا لنا المشروبات، وشعرتُ بتحسُّن، وتذكرتُ أنني لم أتناول العشاء. عادة ما تكون وجبات الطائرة غير مُستحبَّة، ولكن الأمر يعتمد على الحالة المزاجية. كنت مُتعبة جسديًّا، لكنني شعرتُ بطاقةٍ كبيرة داخلية.
– وجدتك.
– أهلًا ميدو … بدأتَ تتجوَّل بالفعل.
كنت بخير، ولكن حضوره فجأة أزعجَني. أجلس بجانب النافذة والمقاعد بجانبي مشغولة، وآمُل ألا يبدأ بالحديث عن أمورنا الشخصية أمام هؤلاء الناس. لكنه بدأ يسألني: «أخبريني، ماذا قال لك بابلو في الرسالة الأخرى؟» بدأ محادثة حميميةً للغاية وسط الناس، وكأنني لا أريد أن أسمع! قلت: «أي رسالة؟ تلك الرسالة المُمزقة التي وجدتها وقرأتها وأعطيتني إيَّاها؟» قال: «لا، أعرف ما كان مكتوبًا فيها. لم تكن مُغلقة، وكانت في سلَّة المهملات في منزلي، لذلك كان من حقي أن أقرأها، أليس كذلك؟ لكنها كانت مكتوبة بالإيطالية، وأنا فرحتُ لأنني فهمتُ أنها لكِ! لا أقصد تلك الرسالة، أقصد الرسالة المغلقة.»
– لم أتلقَّ أي رسائل مُغلقة من بابلو. عثرتُ على ورقة مطوية في جيب حقيبتي عندما عدتُ من سيوة، ولم تكن في ظرف.
لا أريد أن أجيب وأنا أجيب في الوقت نفسه. علاوة على ذلك، أشعر بالغضب لأننا نتحدَّث عن أمور حساسة وهو يتحدَّث عنها بوقاحة شديدة. قال ميدو: لا، لا أقصد تلك الرسالة. أقصد الرسالة التي كان يجب على نورا أن تُرسلها إليك، إلى عنوانك في إيطاليا.
– نورا؟ لم ترسِل لي أي رسائل من بابلو! هل تمزح معي يا ميدو؟ هذا ليس مضحكًا. أرجوك، احترم مشاعري واتركني وشأني. بالإضافة إلى ذلك، نحن نزعج الأشخاص الآخرين هنا.
لا أعرف جنسيات الأشخاص الجالسين هنا، ربما هم ألمان. نحن نتحدَّث باللغة الإنجليزية، وبالتأكيد يفهمون ما نقوله، وهذا يجعلني أشعر بالحرَج أكثر. بدأ ميدو يُمسك ذقنه وينظر إلى نقطةٍ ما، وكأنه يحاول تذكُّر شيء ما: «أنتِ تعرفين، لا أتذكَّر إذا أعطيتُ الرسالة لنورا أم لا. ربما نسيتُ أن أعطيها إيَّاها.»
في هذه اللحظة، تمنَّيتُ لو أن هذا الأحمق يسخر مني، لأنه إذا كان صادقًا، فإن هذا يعني أنه بسبب خطئه لم أتمكن من معرفة الحقيقة كاملةً عن علاقتي ببابلو. أردتُ أن أقف وأخنقه، ثم أرميه على الأرض وأدوس عليه، وأُلقي به خارج الطائرة، هو وأي شخص يحاول الدفاع عنه. قبل أن يأتي كنتُ أشعر بتحسُّن حتى إنني أردت أن أتذوق العشاء الذي يبدو كالبلاستيك ولا يتمتَّع بأي رائحةٍ للشركة الألمانية، وها هو يأتي ليُشعرني بالاضطراب من جديدٍ ويقلب توازُني العاطفي.
– ما الذي تُلمح إليه يا ميدو؟ دعني أفهم بوضوحٍ ولا تمزح.
لا أريد أن أغضب بشكلٍ واضح حتى لا أعطيه الشعور بأنه يُمسك بزمام الأمور.
– مايا، سامِحيني، لا بد أنني نسيتُ الأمر. الآن، رؤيتكِ مرةً أخرى، والحديث عن بابلو ورحلتنا مع الشباب إلى سيوة، أعاد إليَّ هذه الصورة: هو يُعطيني ظرفًا ويقول لي أن أُعطيه لنورا لكي تُرسله إليكِ في إيطاليا لأنه لم يكن لدَيه عنوانكِ، وكان عليه البقاء في سيوة قبل العودة إلى خيوس، بينما أعود إلى القاهرة. أراد أن يصِل إليكِ في أقرب وقتٍ ممكن.
بدأتُ أصدق ذلك وأشعر بقشعريرة واضحة.
– ثم؟ سألتُ بإلحاح.
– ثم … أعتقد أنني لم أعطِ ذلك الظرف لنورا أبدًا!
يقول بنبرة شِبه منتصرة، واثقًا الآن من وضوح ذاكرته التي عادت إليه.
– وتقول لي هذا بكل بساطة؟
– وكيف يجب أن أقول؟ تذكرتُ الظرف وفكرتُ أنك استلمتِه، لذلك سألتُك عن المكتوب فيه! مَن يدري أين وضعته …؟
معذرةً، يجب أن أترك مكاني، مِن فضلكم اصبروا معي … معذرةً. فهذه محادثة لا يمكن أن تستمرَّ وأنا جالسة في مكاني وهو واقف في الممر، واثنان من الغرباء في المنتصف.
يتراجع ميدو، أعتقد أنه بدأ يُدرك حالتي. بالتأكيد لا يمكن أن أضع يديَّ حول عنقه، ولكنني أريد بنظرتي أن أنقل له ذلك تمامًا.
– حاوِل أن تتذكَّر وأخرِج من هذا المخيخ غير المُفيد أين وضعت، منذ عشر سنوات، ظرف بابلو. انظُر، أُحذِّرك، سأفعل كارثة. كن حذرًا للغاية لأنني سأجعلك تدفع الثمن، وقد بدأَت بالفعل تتبادر إلى ذهني بعض الطرُق. هل كنتُ واضحة؟
آه لو رأتني السيدة شيرلي الآن! لقد تركتني مع ميدو وهي في غاية السعادة، لكن لو علِمَت بما يحدُث من هذا اللقاء، لكانت وقفت هنا بجانبي مسلحةً ببعض الأدوات الصلبة ونظرة تهديدية. يبدو الشاب أخيرًا في مأزق، وفي ممرِّ طائرة لا يوجَد الكثير من المخارج. يبدأ في المشي للخلف نحو مقعدِه وهو يُتمتم: نعم، انتظري، سأُفكِّر الآن …
وأنا أتقدَّم إلى الأمام، مُصمِّمة. الغضب يُساعدني على عدم الاستسلام لليأس. مِن المُمكن أن تلك الرسالة كُتبت بالأسلوب نفسه مثل الرسائل الأخرى، أي مليئة بكلمات الحُب ولم تكشف عن أي شيءٍ مُهم، لكن، حتى لو الأمر كذلك، أريد ويجب أن أحصل عليها. ربما كان ينتظر إجابة، ربما كان سيُخبرني أين أجِدُه، أو ربما سيسألني إن كنتُ حقًّا مع الأشقر. أيًّا كان ما كتبَه، من حقي أن أقرأه، لكنني لم أستطع بسبب هذا الشخص السطحي والحسود الذي نام قرير العين بينما أُغرِق وسادتي بدموع الألم، جاهلةً بشيءٍ ربما كان مُهمًّا. لكنني لا أستطيع أن أتخيَّل أن ميدو قد أخفى الرسالة بنيَّة إيذائي. آمُل أن يكون الأمر مجرد نسيان حقيقي، ربما زلة فرويدية، لكن بحُسن نية. أُفضِّل أن أعتقد أنه أحمق ومُهمل بدلًا من أن يكون خبيثًا وشريرًا إلى هذا الحد.
– لا بدَّ أنها كانت بين صفحات كتاب، كتاب كان معي في سيوة وكنتُ أقرأه في تلك الأيام. ما هو، دعيني أفكر … كتاب لنجيب محفوظ، ميرامار! من يدري؟ ربما لا يزال لديَّ، في بيت أهلي، إذا لم تأخُذه أختي معها …
ومضة أمل.
– حسنًا. بمجرد وصولنا سآتي معكَ إلى بيتِ أهلكَ لتبحثَ عن ذلك الكتاب. أدعو أن يكون موجودًا.
– مايا، كوني عقلانية! سنصِل في منتصف الليل، لا يُمكنني أن أُحضر معي فتاة، ثم إن والدي ليس على ما يُرام، على أي حال، سيكون لدَينا وقت. كنتُ أفكر في أن أوصلكِ إلى فندق هيلتون لهذه الليلة، أو إذا كنتِ تُفضلين فندق فلامنكو، لتكوني قريبةً من بيت نورا، ما رأيكِ؟
– آه! أنتَ تتذكَّر حتى أين تسكن نورا! حيث كان من المُفترَض أن تُسلم الرسالة، أليس كذلك؟ ما الذي منعك من ذلك، يا ميدو العزيز؟ هل كان عليك أن تلعب الجولف في نادي سقارة الريفي؟ كنتَ مشغولًا؟ لن أتركك. هذه الليلة سآتي إلى بيت أهلكِ ولن أُغادر حتى نتأكَّد من مكان ذلك الكتاب.
– حسنًا يا مايا، اهدئي الآن. عودي إلى مكانكِ، أنتِ تُزعجين المارة في الممر، ألا ترَينهم يمرُّون بعربات العشاء؟ هيا، سنتحدث لاحقًا، حسنًا؟
لم يعُد يتصرَّف بتبجُّح، المحامي الذي يرتدي ملابسه والذي يتمتع بحياة مُرضية وكاملة. أعود إلى مكاني وأبتسم للسيدَين الجالسين بجواري واللذين يتزاحمان قليلًا ليسمحا لي بالمرور. حتى إنني أكلتُ تلك الأشياء الملوَّنة ذات الأشكال الهندسية التي يسمُّونها «عشاء» وشربتُ معها القليل من النبيذ الفوَّار الذي ساعدني على الاسترخاء قليلًا. يجب أن أعثُر على ذلك الظرف.
كان هذا اللقاء مصادفة ملحوظة. من الواضح أنه بمجرد أن نقبل تنشيط حياتنا مرةً أخرى، تأتي هي لمُلاقاتنا وتُعطينا دفعةً إضافية لكي نفهم أنها تُشاركنا.
أخيرًا بدأت عمليات الهبوط: ربطنا أحزمة الأمان بعد رحلةٍ هادئة للغاية. كنَّا نُحلق بالفعل فوق كيلومترات وكيلومترات من الأضواء الصغيرة التي تُحدد اتساع القاهرة، وكدتُ أتأثر بالاقتراب من هذه الأرض التي أشعر أنها أرضي والتي أعطتني الكثير. تأثرتُ لكن يجب ألا أغفُل عن ميدو: لا أريد أن يستغل الفوضى عند النزول ويهرب. ربما لا يتعيَّن عليه الوقوف في طابور فحص الجوازات وليس لدَيه حتى حقيبة ليستردَّها من السير المُتحرك، وقد يتمكن من مغادرة المطار قبلي. نعم، سيكون قادرًا على ذلك.
عند الإشارة التي تدلُّ على الإذن بفكِّ الأحزمة، قفزتُ على قدمي ونظرتُ أين هو. كان لا يزال هناك، عالقًا بين الأشخاص في الأمام. للخروج، يجِب عليه المرور من هنا، وسأُمسك به. رأيتُه محرجًا وكنتُ متأكدةً أنه فكر في الهروب دون انتظاري.
– ألستَ تُفكر في المغادرة بدوني …
– لا لا، يا مايا …
– حسنًا، هكذا ستُساعدني أيضًا في حمل الحقيبة. في هذا الوقت لا ينبغي أن يكون هناك الكثير من الطابور عند فحص الجوازات.
خرجتُ من الطائرة واجتاحني الهواء الدافئ الذي تفوح منه رائحة دخانٍ مثل كلِّ مرةٍ أصل فيها إلى مصر. ليس شيئًا مُمتعًا، ومع ذلك يُعجبني. لو لم يكن لديَّ هذا القلق الشديد، لاستمتعتُ بعودتي إلى القاهرة بشكلٍ مختلف.
لقد تجاوزنا الساعة الثالثة صباحًا، مع أخذ فارق التوقيتِ في الاعتبار. لحُسن الحظ، في أقل من نصف ساعة تمكنَّا من الخروج من المطار. عادةً ما كنتُ أصعد إلى الحافلة المُتهالِكة الأولى التي كانت تُقلُّني إلى المدينة مقابل ٤٠ قرشًا، لكن ميدو يتَّجِه مباشرةً إلى سيارة أجرة. وكسائر المصريين المُساوِمين، انتزع سعرًا جيدًا من سائق التاكسي، على الرغم من أن الوقتَ كان ليلًا. بالتأكيد لا يوجَد الازدحام المروري للنهار. لم أشعر بالنعاس، ومع ذلك غفوتُ على المقعد، حتى إنني عندما فتحت عينيَّ كنَّا بالفعل قريبين من وسط المدينة. يا له من شعورٍ رائع!
– أين قلتَ إنك ستقودنا؟
– إلى الزمالك.
– إذن لم تفهم!
رفعتُ صوتي. كان لسائق التاكسي ردُّ فعلٍ طفيف.
– مايا، لا يُمكنني أن أوصلكِ إلى أهلي في هذا الوقت!
– اسمع، سأسمح لك بهذا: لن أدخل معك. سأنتظِرك في التاكسي بالأسفل. ستصعد، وتبحث، وعندما تخرج ومعك ظرفي، سأُغادر. إذا لم يكن الكتاب موجودًا، وصادف أن أخذتْه أُختك، ستصعد أنت أيضًا ونذهب إليها. أعطِ العنوان لسائق التاكسي.
– سيطلب المزيد من المال.
– بالطبع. ستُعطيه إيَّاه.
فهم ميدو. ربما هو لا يخافني، لكنني آمُل أن يكون الشعور بالذنب هو ما يجعله يستسلِم. يشرح لسائق التاكسي أنه يجب أن يعود أدراجه، نحو جاردن سيتي، يجب أن ينتظِر بضع دقائق ويُعيدني إلى الزمالك. إذن هو متفائل، ولا يذكُر احتمال الذهاب أيضًا إلى أخته، وأنا حتى لا أملك الشجاعة لأسأله أين تسكن هذه الأخت. يقول سائق التاكسي إنه سيطلب المزيد من المال، ويقول له ميدو ألَّا يقلق، فسوف يحصل عليه. بقينا صامتين. كنا متوترين كلانا. لم أكن أتخيل أبدًا أن أعود إلى القاهرة في هذه الظروف، لكن هذا جزء من اللعبة: يجب إغلاق الحسابات المفتوحة مع الماضي للسماح للمُستقبل بالبدء من الحاضر. يبدأ حاضري بيومٍ في المطار، وليلة بلا نوم، وسلسلة من التهديدات. في غضون ربع ساعة، نكون تحت المبنى الذي يعيش فيه والدا ميدو. يبدو عليه الارتباك واضحًا.
– سأعود على الفور.
يقول مُخاطبًا سائق التاكسي، وآمُل أن يُصدِّق هو كلماته أولًا. أتخيل دخوله إلى المنزل النائم. سبق وأخبر والدَيه عن تأخُّره، ترى هل انتظره أحدُهما مستيقظًا؟ لا أرغب في التحدث مع سائق السيارة الأجرة وأغلقتُ عينيَّ متظاهرةً بالنوم. غفوتُ حقًّا، لا يوجَد شيء يُمكنني فعله في هذه اللحظة، سوى الانتظار.
أيقظتني صرخات ميدو المُتداخلة مع صرخات سائق التاكسي: إنه الفجر! أنا هنا منذ ساعتَين! أريد الكثير من المال!
– مايا، وجدتُه! وجدتُه! ها هو الظرف! الحمد لله! الحمد لله! نعم، ستحصل على نقودك!
لم يستطع مُعانقتي، فذهب إلى السائق وهو مُنفعل وعانقَه، أخذ يقفز ويشكر الله. فوجئ سائق التاكسي. أدركتُ أنني نمتُ لساعتَين وأن السماء قد أصبحت صافيةً الآن. لكنني أدركتُ قبل كل شيءٍ أنه بعد تسع سنوات، ذلك الظرف على وشك أن يصِل إلى يدي. إنه شعور لا يمكنني وصفه. ملأ ميدو يد سائق التاكسي بالمال، والذي بادله العناق الآن وشكره.
– أتدرين أين كان الكتاب؟ في صندوق كبير في العليَّة! لكن عليَّة المبنى، وليس شقَّتي. في البداية فتشتُ كل المكتبات في المنزل. كانت والدتي مستيقظة تنتظرني واعتبرتني مجنونًا. شرحتُ لها بإيجاز وساعدتني في البحث عن ميرامار. لم نجد شيئًا، فاضطُررنا للصعود إلى السطح، ومن هناك إلى جزء العليَّة الخاص بنا. لا توجَد كهرباء هناك، يجب إصلاح الشبكة. عُدنا إلى الأسفل لأخذ كشَّافَين وبحثنا في الغبار. ظنَّ البعض في المبنى، عند سماع حركة وضجيج، أن هناك لصوصًا واتصلوا بأشخاصٍ آخرين. واجهنا أشخاصًا فجأة، مُسلَّحين بالعصي، وكدنا نصاب بصدمة قلبية حقيقية! تمكنَّا من تعريف أنفسنا قبل أن يضربونا، لكننا لم نكن مُقنِعين عندما قُلنا إننا نبحث عن كتاب.
– لديَّ هذا الكتاب! إنه جميل جدًّا، في الواقع. يُمكنني إعارته لكما! قال ساكن الطابق الخامس.
– يا له من لُطف، شكرًا لك، بارك الله فيك … لكن كما ترى … أحتاج هذه النسخة تحديدًا.
نظرَت إليَّ والدتي نظرة استسلامٍ بعد أن توهمَتْ للحظة أن الإعارة قد تكون حلًّا.
– هذا هو، كما ترَون … منذ مدة طويلة تركتُ فيه نقودًا، نعم، نقود في ظرف، ولم تكن لي. يجب أن أُعيدها
– يا بني، كان بإمكانك أن تُخبرني أنك بحاجة إلى نقود، كنتُ سأعطيك إيَّاها!
– شكرًا يا أمي، معذرةً، لكن يجب أن أجد ذلك الكتاب وذلك الظرف. ذلك الظرف تحديدًا. اعتقدتُ أن البحث عن المال سيُبرر أي تصرفٍ غريب، بالتأكيد أكثر من قصة حُب، لكن الأمر لم يكن كذلك. على أي حال، في تلك اللحظة كنا أربعة نبحث، وكانت الفرحة جماعية عندما هتفت والدتي: «وجدتُه!» نفخَتْ عليه وقدَّمَتْه لي. لم يكن الكتاب كافيًا. كنَّا بحاجةٍ إلى الظرف. وكان موجودًا! الحمد لله كان موجودًا. انظري، يا مايا، انظري إلى الأعلى، الثلاثة في الشرفة ينظرون إلى الأسفل.
يا له من أمرٍ سخيف! نزلتُ من سيارة الأجرة ورأيتُ امرأةً مُحجَّبة ورجُلَين يلوِّحان من الشرفة في الطابق السادس! يا لها من ليلةٍ مجنونة. رددتُ التحية وحاولتُ أن أشكرهم، كدتُ أضحك.
كانت السماء وردية. نظرتُ إلى ميدو وقلت:
– شكرًا لك. لن أفتحه هنا أمامَك، قد لا يكون من الحكمة من جانبك أن تكون حاضرًا. الآن استمتِع بوالديك واختفِ من نظري. ربما، يومًا ما، نبدأ كل شيءٍ من جديد. الآن سأُكمل وحدي.
– سامِحيني يا مايا. أنا آسف حقًّا. آمُل أن تُصدِّقيني. إذا رأيتِ بابلو مرةً أخرى، يومًا ما، أخبريه أنني آسِف. وداعًا.
أطلق سائق التاكسي تنهيدةً عميقة وسأل: الزمالك؟
– نعم، من فضلك.
لكنني لن أذهب إلى فندق فلامنكو، فقد أصبح الصباح الآن. أرسلتُ رسالة إلى نورا: أنا قادمة! أحتاج إلى حمَّام وسرير، وإليكِ يا صديقتي.
– صباح الخير يا جميلة! لا أطيق الانتظار لأُعانقك! الفطور جاهز، في حال احتجتِ إليه أيضًا.
أعرف أن أي شيءٍ مكتوب في هذه الورقة سيُسعدني. فأنا حيَّة ومتعطشة للحياة.
سيوة، ١٩٩٧م
مايا، حبيبتي، أحتاج أن أتحدَّث معكِ. وددتُ لو فعلتُ ذلك وأنا أنظر إلى عينَيكِ الجميلتَين، لكنَّنا بعيدان وأشعُر بضرورة ملحَّة لأكشف لكِ الحقيقة أخيرًا. عودي بذاكرتكِ إلى اليوم الذي وُلد من الليلة الرائعة التي شهِدَتْنا سعداء ومُحبين كما لم نكن من قبل، هنا في سيوة. لم يكن ذلك اليوم جديرًا بهذا الأصل النبيل، فكما كانت الليلة ساحرةً ومثالية، كان النهار فظيعًا. كان ذلك عندما انتُزعت حياتنا وفُصلتْ بألَم.
ربما تُفكرين أنني كنتُ المسئول عن ذلك، وأنني، حتى لو كنتِ قد تلقيتِ اتصالًا من المنظمة غير الحكومية، كان بإمكاني أن أتبعكِ أو على الأقل انتظاركِ. بدلًا من ذلك، تركتُكِ حرةً وخاطرتُ بأن أبدو مكروهًا بسبب خيبة الأمل والألم الذي تسببتُ فيه لكِ فجأة. وأنتِ على حقٍّ وكنتُ على استعدادٍ لتقبُّل ذلك، لكن حان الوقت لأُخبركِ بما دفعني حقًّا لاتخاذ ذلك القرار الذي فضلتُ ألا أخبركِ به حينَها. أنا في سيوة مع الشباب، مع ميدو وأسامة، ولم أُخبرهم بذلك قطُّ خوفًا من أن أخون، بطريقةٍ ما، الصورة التي يتذكَّرونها لنا معًا.
حسنًا، في صباح ذلك اليوم من ٢٨ مايو، تلقيتُ أنا أيضًا مكالمةً هاتفية مُهمة. جاء علوش ليُخبرني بالذهاب إلى مركز الهاتف لأن إيليني ستُعاود الاتصال بي قريبًا. شعرتُ بالقلق وظننتُ أن شيئًا ما حدث لوالديَّ اللذَين لم أسمع عنهما منذ بضعة أيام، لكن معرفة أنهما بخير لم يُسبب لي أي راحةٍ عندما سمعتُ ما كان على حبيبتي السابقة أن تُخبرني به: قالت إنها حامل وأنني والد الطفل. بقيتُ صامتًا، متجمدًا هناك، وسماعة الهاتف في يدي. انفصلتُ عنها منذ حوالي ثلاثة أشهر، في اللحظة التي استقلتُ فيها أيضًا من وظيفتي لأرحل وأُغادر خيوس. ربما حدث ذلك بالفعل. يمكن أن يكون صحيحًا. قالت إن الحمل في شهرِه الرابع وأنها لم تُعلِمني من قبل لأنها في البداية لم تكن تعرِف ما إذا كانت ستواجِه الإجهاض أم ستحتفظ بالطفل. ثم قررتْ أن تستمرَّ فيه ورأت أنه من المناسِب أن أتحمَّل أنا أيضًا مسئولياتي، على الرغم من أننا لم نعُد معًا. شعرتُ بالغرور في صوتها، لكنني استطعتُ أن أفهم حالتها النفسية جيدًا. قلتُ لها إنني سأفعل الصواب وإنني سأعود في أقرب وقتٍ ممكن.
لم أكن أُحبها قط، ولم تكن تلك الأخبار هي التي وضعتها قبلكِ في قلبي. بل عقلي هو الذي تدخَّل، عقلي المليء بالعُقَد التي تعرفينها. قال لي، عقلي المُفكر المُتغطرس، إن الحياة تسخر منِّي بهذا الشكل وتُذكرني بأنه ليس الحُب هو ما يجب اتباعُه، بل الواجب والالتزام والمسئولية. ذكَّرني بالعار الذي جلبه والدي لعائلته بالتراجُع عن خطوبةٍ مُتَّفق عليها منذ سنوات، وكل الألم الذي زرعته أنانيتُه من حينها وكنتُ أنا أيضًا مِن ضحاياه. لم يُحب والدي فاطمة، ولم تُحبه هي، ويعرفان بعضهما بالكاد. ومع ذلك، خطَّط الأهل للزواج كما لو أنه الأمر الأكثر عدلًا وطبيعية. ألا أُحِب إيليني؟ إلا أن الأمر يمكنه أن ينجح، يُمكننا أن نجعله ينجح.
فجأة، عدتُ بذاكرتي إلى لحظاتنا الساحرة في الإسكندرية وشعرتُ بالخجل، خجلتُ من أنني صدقتُ أنَّ الأمر يُمكنه أن يختلف عما اعتقدتُه دائمًا، وبكيتُ من الغضب وقلتُ لنفسي إنني لن أرتكب خطأ والديَّ. اعتقدتُ أن هذه التضحية مطلوبة منِّي تكفيرًا عمَّا فعلاه وأن كلَّ شيء سيعود إلى مكانه: سيكون لابني حياة طبيعية مُحاطة بوالدَين وأقارب وفقًا لتقاليد وقواعد العائلة.
كنتِ تُحبِّينني، كنتُ أعلم ذلك، ستُعانين، لكنكِ أنت أيضًا على وشكِ تحقيق رغبتكِ، مشروع حياتكِ، والأمر حدث في اللحظة نفسها: فلم يُساورني أي شكٍّ حول الطريق الواجب اتباعه. كانت الإشارات واضحةً للغاية.
قلتُ ذلك لجدِّي، واثقًا من أنه سيكون فخورًا بي، أكثر من أي شخصٍ آخر. لكنه هز رأسه وقال إن الأمر لن يسير على هذا النحو. لم يقُل الكثير. فهمتُ وجهة نظره عندما قصَّ علينا أسطورة النهار والليل، وعندما قال لكِ إن الكأس التي انكسرت بين يدَيه ستُصلَح. بدا أنه قلق عليكِ، لكنه استمر في التأكيد على أننا نحن الاثنين، المُختلفين جدًّا، ولكننا يُحب بعضنا بعضًا، سنحظى بمُستقبل معًا. هذه أمور فكرتُ فيها فيما بعد، لأن رأسي في تلك الساعات كان يسير في اتجاهٍ واضح ودون تردُّد.
وهكذا عدتُ إلى خيوس، قويًّا بإحساسي المُكتفي بالعدالة. بدت إيليني سعيدة، لكن كمن حصل على انتقامه أكثر منها كأمٍّ تنتظر بمحبَّة أن تؤسِّس عائلة. تعرفتُ على والدَيها وإخوتها، وقدَّروا حُسن نيَّتي، وكان هذا عزاءً لي، لأنني لم أستطِع أن أشعر بالترحيب من إيليني: كانت تذهب لشراء ما سيحتاجه الطفل، ثم تتَّصل بي وتُخبرني بالذهاب للدفع. لم يكن والداي مُقتنعَين للغاية، وأصرَّا على أن أنتظر قبل الزواج، رغم أنهما قبِلا وشاركا قراري بالاعتناء بإيليني وابنِنا. لكنهما لم يعرفا عنكِ. لم يعرف أحدٌ عنكِ. لحُسن الحظ، عدتُ للعمل في الشركة التي تركتُها وركزتُ على مستقبلي كأبٍ أكثر من كوني زوجًا أو شريكًا. علمتُ من جدي أنكِ مرضتِ وأنكِ لم تُسافري إلى غزة. انهار جزء من نظامي الدفاعي وشعرتُ بالخوف. شعرتُ بالحاجة لرؤيتكِ ومعرفة أنكِ بخير، شعرتُ بذلك لدرجة أنَّني سافرتُ وجئتُ إلى إيطاليا. مكثتُ هناك أقل من ٤٨ ساعة بينما كانت إيليني تعلم أنني في مصر. لم يُحالفني الحظ، أو على الأقل، لم يُحالف قلبي، لأنني لم أركِ. لكنَّ عقلي كان راضيًا لأنني علمتُ أنكِ في طريقكِ للشفاء ومع رجلٍ مُحبٍّ بجانبكِ. شعرتُ بألمٍ شديد، لكنني علمتُ أنه يجِب أن أكون سعيدًا من أجلكِ ومن أجل حياتكِ التي كانت يُعاد تنظيمها. كنتُ في حاجةٍ ماسَّة لمعرفة أنكِ سعيدة. كان وقت الولادة يقترب بينما شعرتُ بحبلٍ يلتفُّ حول رقبتي، كنتُ آمُل أن يزيل إحساسي بأن أصبح أبًا ذلك الشعور بالضيق والشوق إليكِ. اشتقتُ إليكِ بشدة، يا مايا، رغم كل شيء.
اشتقتُ إلى بهجة الحياة التي اختبرتُها معكِ، اشتقتُ إلى الرغبة في الاقتراب منها، واحتضانها، وتقبيلها. ذات ليلة حلمتُ بوالدي الذي كاد يتزوَّج فاطمة، وفي اللحظة الحاسمة بدأ يصرخ كالمجنون وهربَ مُطيحًا بكلِّ ما يُصادفه في طريقه. في الحلم أقِف مُختبئًا خلف عمود، أُشاهد وأُصفق. لم يكن الأمر يتطلَّب عبقريًّا لتفسير حلمٍ كهذا: كان اللاوعي لديَّ يُرسِل إشاراتٍ واضحة، وجسدي يُظهر أعراضًا تجعل حياتي صعبة. أصبح انزعاجي يُثير غضب إيليني التي تُعامِلني ببرودٍ مُتزايد، وفي يومٍ جميل من أيام أكتوبر، وأمام حالة من حالات اختلالِ تنفُّسي التي أصابتني، وأمام شقيقها الذي تدخَّل لمساعدتي، بدأتْ بالصراخ: «كفى! ارحل! هذا الطفل ليس ابنك! ارحل، لا أُريدك، يا حُطام رجل! لقد خنتكَ، نعم، خنتكَ لأنك كنتَ رجلًا حزينًا وما زلتَ كذلك. الأب الحقيقي هو شخص آخر، ولكنه مُتزوِّج. ارتحتُ لرحيلك، لكنني الآن احتجتُ إلى شخصٍ يتحمل نفقات هذا الطفل، وكنتُ أعرف أنك ستقبل ذلك. حزينٌ وغبي! لكنني لا أُطيقك، لا أستطيع تحمُّلك، لا أريدك قريبًا منِّي، لا أريدكَ أن تكون أبًا لابني، عُد من حيث أتيت، اختفِ من حياتي!»
اعتقدْنا أنها أزمة هستيرية، أو تقلُّبات هرمونية، أو نوبة ذُعر. لم أقُل شيئًا، كنتُ أجد صعوبة في التنفُّس بالفعل. استمرَّت هي في الصراخ، واتصل شقيقها، الذي بدا متوترًا للغاية، بالطبيب. غادرتُ، ورحلتُ سيرًا على الأقدام، بلا وجهة، بينما بدأ الرباط المُلتفُّ حول رقبتي ويمنعني من التنفُّس يرتخي، وامتلأت رئتاي بهواء جديد، وفير ومُنعش. مشيتُ ومشيتُ، أستنشِق من فمي وأنفي، وأسمح للأكسجين بالدخول إلى دماغي. احتجتُ أن أتأكَّد ما إذا كان ما قالته إيليني هو الحقيقة أم أنها أرادت ببساطة التخلُّص مني، قبل أن أشعر بالحُرية حقًّا، ومع ذلك شعرتُ بأن قلبي بالفعل أخف. يؤكِّد لي العقل على خُبث المرأة التي كنتُ سأُضحي بحياتي من أجلها، وعلى حقيقة أنها خانتني، وأنها فعلت ذلك مع رجلٍ مُتزوج، وأنها استخدمت طفلًا بريئًا من دمِها للاستفادة منِّي ومن أموالي … ومع ذلك … ومع ذلك شعرتُ أن رئتيَّ وكأنهما بالونان على وشكِ الطيران. كانت مُحقَّة في شيءٍ واحد، كنتُ حزينًا، قبل أن ألتقي بالحُب، وأضحيتُ أكثر حزنًا لأنني تخلَّيتُ عنه. فجأة بدأتُ في الركض، أركض وأضحك حتى لم أعُد أستطيع، وتوقفت: كنتُ أمام البحر. أعتقد أن تلك واحدة من أجمل لحظات حياتي، واحدة من اللحظات التي شعرتُ فيها أن الحياة ملكي، شعرتُ أنها ثمينة ومُهمة ومقدسة. بقيتُ هناك حتى المساء أستمع إلى الأمواج، وأفكر فيكِ، وفي جمال ما عشناه معًا، وفيما علَّمْتِني إيَّاه، والذي كنتُ أُجاهد لعدم تقبُّله. نعم، كنتُ أعلم أنني لن أستطيع استعادتكِ لأنكِ مع رجلٍ آخر، لكنني في تلك اللحظة شعرتُ بالسعادة، سعيد لأنني أحببتكِ بحُرية، حتى بدون أن أمتلككِ، طالما كنتِ سعيدة ومُحققة. لم أعد مُضطرًا للتظاهُر. كان بإمكاني أن أعيش حياتي. حتى ذلك الحين كنتُ أُهينها، طلبتُ المغفرة من الله على ذلك وشكرتُه على تلك الفرصة الثانية. جاء ذلك بشكلٍ عفوي، فاجأني وذكَّرني بما شعرتُ به في الصحراء والتي ربما لم أفهمها حقًّا من قبل. ضحكتُ وبكيتُ، ثم بقيتُ هادئًا أتنفَّس على إيقاع الأمواج التي تصِل على بُعد خطوات مني وكتميمةٍ تُردِّد أغنيتها. أعجبتُ بالشمس التي تغرب وهي تأخُذ معها، خلف الأفق، حياتي القديمة، وحُزني، وضيقي. عند الفجر ستُشرق شمس جديدة وهكذا سيكون كلُّ يومٍ قادم، دون أن نعتبر أي يومٍ أمرًا مفروغًا منه.
عدتُ إلى والديَّ وأخبرتُهما أنهما لن يُصبحا جدَّين بعد الآن، لكنهما في المقابل استعادا ابنهما. عانقتُ والدي، ثم والدتي، وقلتُ لهما إنني أُحبهما وإنني أخيرًا تمكنتُ من فَهم خياراتهما وأصبحتُ فخورًا بهما، بكوني ابنهما ومُمتنًّا لحصولي منهما على الحرية والدعم غير المشروط على الرغم من خلافاتنا.
رويتُ لهما عنكِ، عن لقائنا، عن الإسكندرية وقصتنا. كانت المرة الأولى التي أروي فيها لأهلي شيئًا شخصيًّا وحميميًّا كهذا. لسوء الحظ، لم يكن من الممكن أن تكون النهاية كما كنَّا نتمنَّاها، لكنني كنتُ أستعيد نفسي وعائلتي. خرجنا معًا في الصباح التالي وذهبنا لشراء بيانو ذي ذيلٍ مثل بيانو جدَّتي، لكنه أبيض! المال الذي ادخرتُه لولادة طفلٍ ليس ابني استثمرتُه في ولادةٍ أخرى: ولادة بابلو كريم، جذُورِه وأجنحتِه.
أصبحتِ الموسيقى هكذا، منذ تلك اللحظة، رفيقتي، صديقتي، علاجي. أنتِ، مُلهمتي. البيانو، الوسيلة لإعطاء صوت للحُب الذي بداخلي.
اتصلتُ بجدِّي وأخبرته بكل شيء، فكانت إجابته الوحيدة: «الحمد لله! الخطوة الأولى قد تمَّت!»
انغمستُ في الموسيقى، كنتُ أقضي ساعاتٍ كلَّ يومٍ أمام البيانو، بعد العمل، وكانت آخر معزوفة، كل مساء، بمثابة صلاة، ترنيمة، نداء، هي الموسيقى التي كتبتُها لكِ، «سوناتا من أجل مايا، ماء في الصحراء».
في نهاية شهر رمضان، العام الماضي، جئتُ إلى سيوة لقضاء بضعة أيامٍ مع جدي والعزف له. قبل وصولي، أخبرني جدي كريم أنكِ كنتِ في القاهرة. كان يجلس يُدخن الشيشة في القرية عندما اتصلتِ بعبد الله لتقولي إنكِ عدتِ لترتيب الأغراض التي تركتِها لدى نورا وللقيام بجولة في الواحات البحرية. تحدثتِ عن العرْض في الأوبرا. تخيلتُ أنكِ برفقة أحد، لكنني لم أستطِع المقاومة: كنتُ بحاجة لرؤيتكِ. في روما لم أستطع، في القاهرة كنتُ سأراكِ، كنتُ سأنظر إليكِ مرةً أخرى، دون إزعاجك.
وجئتُ، يا حبيبتي، جئتُ وتركتُ نفسي تُحمَل على أجنحة تلك الموسيقى الرائعة وجمالكِ الساطع. كان بجانبكِ على المسرح، الرجل الأكثر حظًّا، شريككِ. لكنني متأكِّد من أنكِ إذا كنتِ قد تمكنتِ من مُسامحتي، الآن وأنتِ سعيدة معه، فلا يزال هناك مكان صغير في قلبكِ لي، لأنني لن أُصدِّق أبدًا أن ما تقاسمناه يُمكن أن يختفي. حينها كان الأمر أقوى منِّي: خلال الاستراحة لمحتُ بيانو خلف بابٍ شِبه مفتوح ووضعتُ لحننا على المفاتيح على أمَل أنه حتى في ضجيج الأصوات والكمان، سيصل إليكِ إلى أُذنكِ وقلبكِ. لا يُمكنني معرفة ما إذا كان هذا قد حدث. منذ أن عرفتكِ أعتقد أن السحر موجود وأنه بين شخصَين يمكن أن يصنع المعجزات، لذلك يُعجبني أن أعتقِد أنكِ شعرتِ بي في تلك الليلة. ثم هربتُ دون حتى انتظار معرفة ما إذا كان جواكينو قد وجد مُلهمته. لم أرغب في خلق أي عوائق في حياتكِ الزوجية أو مواقف مُحرجة. هربتُ. كان لديَّ مرة أخرى إغراء لترْك رسالةٍ لكِ، عندما مررتُ بمنزل ميدو، ثم لم أفعل: لقد تركتكِ حرةً ويجب أن تظلِّي حرة.
قد تتساءلين عن سبب كلِّ هذا الحوار الداخلي الطويل. الأمر هو … أنه في دقائق قليلة انهارت كل قناعاتي واضطربت كل خليةٍ من خلايا جسدي مرةً أخرى. قبل قليل كنتُ أشرب الشاي مع جدِّي. أثناء وجودي في الكثبان الرملية مع الشباب، كان هو ينتظرني عند عبده، وأثناء الدردشة مع أمير، الذي كان محظوظًا برؤيتكِ في الباحرية العام الماضي، تبيَّن أنكِ لستِ متزوِّجة ولا مخطوبة، أو على الأقل لم تكوني كذلك عندما اعتقدتُ أنكِ كذلك. أخبرَني جدي بذلك بوجهٍ راضٍ ولم أفعل شيئًا سوى أن طلبتُ منه ورقةً وقلمًا لأكتب لكِ على الفور. سيرحل الشباب غدًا صباحًا وسأعطي ميدو هذه الرسالة ليطلُب من نورا إرسالها إليكِ في أقرب وقتٍ ممكن. يقولون إنكِ لم تعودي تعيشين في روما، وهي ستعرف أين تُرسِلها. أنا بحاجة لأن تعرفي أنني أُحبكِ، أحبكِ كما كنتُ من قبل وأكثر، وأنني آسِف على كلِّ ما فرَّق بيننا. صحيح أنكِ شابَّة ويجب أن تختاري ما تفعلين بحياتكِ.
لا أعتقد أنكِ ستتخلَّين عن رغبتكِ في العمل في البلدان المُعذَّبة، لكنني أريدُكِ أن تعلمي أنني في هذه المرحلة سأكون مُستعدًّا لاتِّباعكِ إلى أي مكان. يكفي أن تُخبريني أنكِ تُريدينني بجانبكِ، وأنكِ ما زلتِ تُحبينني، وأننا ما زلنا نستطيع السير جنبًا إلى جنب، وسأكونُ هناك. أنا حُرٌّ الآن، الحُب جعلني حُرًّا حقًّا، أعرف ما أريدُ الآن، ما أشتهي أكثر من أي شيءٍ آخر في العالم: فرصة جديدة لأكون معكِ. حتى صمتكِ سيتحدث معي، وسأفهمه، صدِّقيني.
هذا هو رقم هاتفي المحمول، وهذا هو عنوان بريدي الإلكتروني. في غضون أيامٍ قليلة سأعود إلى الجزيرة. من الآن فصاعدًا، سأكون في انتظاركِ.
قبلة لكلِّ حبةِ رملٍ تُحيط بي،
شمس مارس دافئة والهواء تفوح منه رائحة الزهور على شُرفة منزل نورا. لقد وضعتْ أرجوحةً وغطتها بوسائد ناعمة مُطرزة بألف حرفٍ عربي بألوان زاهية. مكان جيد للاسترخاء، على الرغم من أنني في هذه اللحظة أُفضل حفرةً في قلب الأرض المُظلمة لأُغطيها بالتراب على الفور، ومعي فيها: أنا، وتوقعاتي، ودموعي غير المُجدية، وأحد عشر عامًا من الطريق الخاطئ والقلب المَفطور. حفرة أخرى، عميقة جدًّا، أودُّها لميدو، الذي تسبَّبت سطحيته وقلة فهمه في فقدان تسعة أعوام على الأقل من هذه الأعوام الأحد عشر. حفرة لتلك المجنونة إيليني. أمكث هنا، بين هذه الوسائد، وكأنني فارغة، عاجزة، والأوراق لا تزال في يدي، ويدي تتدلَّى من جانب الأرجوحة، بلا حراك. بلا أنفاس. تُطلُّ صديقتي العزيزة: إذن؟ ماذا تقول الرسالة؟ كم هي طويلة!
لا أُجيب، فقط أبذل جهدًا هائلًا، وأنا فاقدة الروح، لمدِّ يدي والأوراق إليها، لتقرأ وتفهم. تستغرق وقتًا، وتُرافق القراءة بصرخاتٍ خفيفةٍ ومقاطع تكفي لجعلي أستعيد ذلك التسلسُل من المشاعر. عندما تصِل إلى السطور الأخيرة، تحبس صديقتي أنفاسها، ثم تُطلِقها مع تنهيدة طويلة بعد أن انتهت من قراءة الرسالة وطوتها. ماذا يمكن أن تقول لي؟ «لو كنتُ أعرف …»
= الأمر ليس خطأكِ بالتأكيد، يا نورا. لقد خسرتُ، يا نورا العزيزة. خسرتُ حتى دون أن أُحارب.
•••
تظل صامتةً لبعض الوقت، بجواري، تُداعب رأسي، بحنان الأم. ثم تتفاعل. نورا هكذا، حكيمة، شُجاعة، إيجابية.
– ألم تقولي: أيًّا كان ما هو مكتوب في هذه الورقة، سأكون سعيدة. أنا حيَّة ومتعطشة للحياة؟
– من، أنا؟ هل قلتُ هراءً كهذا؟ ربما أكون متعطشةً للفلافل، لكن للحياة لا، لم يعُد لها معنًى.
– ما الذي تقولينه؟ هيا! من الواضح أنكما لم تكونا مُستعدَّين. كان ميدو مجرد أداةٍ في أيدي مصيركما. كان عليكما أن تسلكا طريقًا. ليس من المؤكد أن هذا الطريق يجِب أن يتقاطع. أنتِ الآن هنا، في غضون أيامٍ قليلة سيكون الكسوف، على الأقل انتظري إذا لم يظهر بابلو هناك، قبل أن تيئسي!
– أترَين؟ حتى أنتِ تقولين إنني قد أيئس. تخيَّلي لو جاء إلى سيوة من أجل الكسوف … بعد كل هذه السنوات من الصمت.
– لم أقُل أنكِ قد تيئسين، ولكن قبل أن تُنهي هذه الصفحة نهائيًّا، يُفضَّل أن تنتظري حتى يوم السادس والعشرين. على أي حال، أليس هذا هو سبب مجيئكِ؟
– نعم، لكنني لم أكن أعرف …
– هذا لا يُغير شيئًا. ما حدث قد حدث. الآن يكفي هذا العويل، تماسَكي فبعد قليلٍ سيصل شريف ليتعرَّف على صديقتي الإيطالية وأُريدكِ مبتسمة. هيا أُحاول إقناعه بقضاء شهر العسل في إيطاليا!
– لكن … شهر عسل؟ هل حددتما موعدًا وأنا لا أعرف؟
– من يدري …؟ أنتِ استعيدي عافيتكِ وابتسمي، لدَينا الكثير من الأشياء لنفعلها قبل أن تذهبي إلى سيوة.
أخرُج من الوسائد، وما زلتُ غير مُقتنعة بما تقوله صديقتي الصبورة، وأسمع هاتفي المحمول يرن: إنها شيرلي!
– آه يا ليدي شيرلي اللطيفة! كم هو جميل سماع صوتكِ، كيف حالكِ؟ … نعم، لا تقلقي، كل شيءٍ على ما يُرام، أنا في الزمالك في منزل نورا. وصلتُ متأخِّرة جدًّا، في الواقع هذا الصباح، لكنكِ لا تتخيَّلين لماذا! … لا لا، لا يوجَد تأخير آخَر … نعم، ميدو أوصلني بالتاكسي … لكنَّني سأُخبركِ، سأُخبركِ. ستسافرون فورًا إلى صعيد مصر؟ حسنًا، رحلة سعيدة ورحلة بحرية مُمتعة، ستكون رائعة! … سأكون في سيوة يوم السادس والعشرين من أجل الكسوف، ثم ربما نتحدَّث مرةً أخرى. بالتأكيد، سأُخبركِ، حتى برسالة، لا بأس … شكرًا لاهتمامكِ، وأطيب التحيات لأنطونيو!
•••
أسعدتني تلك المكالمة. نعم، الحياة تمنحني الكثير من الأشياء التي تجعلني مُبتهجة، يجِب أن أنظر إلى الأمام بثقةٍ وامتنان.
•••
تعرفتُ على شريف، خطيب نورا. انطباع ممتاز، شخص لطيف، حيوي، ودود، رجل وسيم، ومُحب. معًا يشعَّان، أنا سعيدة جدًّا من أجلهما! قالا إنهما سيتزوَّجان الخريف القادم، وليس فقط أنني مدعوة لحضور حفل الزفاف: نورا تُريدني كشاهدة! لا أعرف إن كان هنا يُقال وصيفة أو شاهدة، لكنَّني تأثرتُ للغاية بهذا الإعلان الرسمي عن المودة والصداقة. سأفعل كلَّ ما بوسعي لحضور حفل الزفاف، وآمُل أن يأتيا حقًّا في شهر العسل إلى إيطاليا لرؤيتهما مرة أخرى. من يدري كيف سأكون في الخريف، وما الذي سأكون قد قررتُ أن أفعله بحياتي.
•••
كانت هذه الأيام الثلاثة في القاهرة رائعة، رغم الرسالة، رغم الشكوك. ربما كانت التأكيدات أقل، لكن ما أهمية هذا الآن. ليست كل الصداقات مُميزة مثل تلك التي مع نورا أو مع فرانشيسكا، في إيطاليا، لكنني استعدتُ أشخاصًا أعزاء جدًّا، زملاء سابقين، أصدقاء من الماضي، خاصة من المصريين والذين استقبلوني بحرارة شديدة جعلتني أنسى الشخص الذي أصبحتُ عليه وتُذكِّرني بالشخص الذي أردتُ أن أكونه. نحن نكبر. يحدث أحيانًا أن نتوقَّف، ثم إذا كنَّا محظوظين يُمكننا أن نبدأ في النموِّ مرة أخرى، دون أن نتخلص تمامًا مما أوقفَنا.
لقد غادرت. أنا في رحلة نحو سيوة ونحو نفسي. لا مفرَّ من موجة الذكريات، والفرضيات التي لا إجابةَ لها، لكنني أنظر إلى الأمام.
في الحافلة تنتشر موسيقى عربية جميلة بدون كلماتٍ تجعل رؤية الصحراء أكثر سحرًا. أتصفَّح ميرامار، الكتاب الذي احتفظ بكلمات حُبي لسنوات.
تتطاير حُبيبات الرمل بين صفحاته، تتسلَّل الرياح الفضولية تحمِلها معها.
اليوم، بعد أن تصفحتُ العديد من الصفحات الباهتة من حياتي، أريد أن أعود لتكثيف ألوان قِصتي، ها أنا أرحل مرة أخرى نحو سيوة لقراءة وتفسير نهاية فصلٍ مُهم ثم الانطلاق من هناك من جديد.
أنا مدينة بذلك لنفسي وأيضًا لِمن يُحبني ويؤمِن بي وبقوة ما حلمتُ به. أنا مدينة بذلك لعمِّي ميكيله وأصدقائه في المُستشفى الذين ساهموا في دفع ثمن تذكرة الطائرة لي، وإلى صديقه ورفيقه في الغرفة، الأستاذ ذي الشارب، المُتحمس لعِلم الفلك، الذي أعلن لنا لأول مرة عن كسوف الشمس. كنتُ سأعرف ذلك بالتأكيد، لكنني لا أعتقد أنني كنتُ سآخُذه في الاعتبار كما فعل هو وعمي.
وهكذا يرتبط مصيري بواحة، بالشمس والقمر، ومجموعة من الأشخاص يرَونني كشخصيةٍ في مسلسلٍ تلفزيوني يرغبون بشدة في نهايته السعيدة.