العودة إلى سيوة
الليلة الماضية، لفَّني هواء الليل، الحار والأسود، كعباءة ثقيلة بمُجرَّد أن نزلتُ من الميكروباص، مُجسِّدًا على جلدي التعَب والغبار المُتراكِمَين في الرحلة الطويلة من القاهرة. تمامًا كما حدث في المرَّة الأولى التي أتيتُ فيها إلى سيوة، منذ سنواتٍ عديدة، كان الإحساس الأوَّل، عند الوصول ليلًا، هو أننا وصلنا إلى مكانٍ لا يوجَد فيه أحد، في وسط اللاشيء، أو على الأكثر في قرية أشباح! هذا إلى أن كسرَ النهيقُ القوي لحمارٍ الصمتَ، كاشفًا عن وجود حياة، حيوانية لكنها حياة. من الأفضل هكذا، لأنني لم أكُن أرغب في أن أجد نفسي على الفور أمام كلِّ ما جعل سيوة مختلفة عمَّا كانت عليه في الماضي.
كانت رحلة غير مُريحة ولا نهايةَ لها، يبدو أن السنوات لم تمرَّ في هذا الأمر. مُدَّة رحلة مِن هذا النوع، عبر الصحراء، تكون دائمًا مجهولةً بعض الشيء. غادرتُ القاهرة في الصباح حوالي الساعة السابعة، مُودِّعةً نورا في ميدان رمسيس، وأنا على يقينٍ أنه في حالة «الإخفاق» وقت العودة، ستكون هي مَن يستقبلني ويُواسيني، بلطفٍ وحزْم في الوقت نفسه.
بعد حوالي ٢٠٠ كيلومتر، كانت الاستراحة الأولى. كانت السماء ملبدة بالغيوم، من تلك الغيوم البيضاء الجميلة التي تأتي من البحر الأبيض المتوسط والتي غالبًا ما تراها عندما تقترِب من الإسكندرية. «الإسكندرية أخيرًا. الإسكندرية قطر الندى، نفثةُ السحابة البيضاء، مَهبِط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المُبللة بالشهد والدموع …» هكذا تبدأ قصة ميرامار، قصة الفندق الذي يتحدَّث عنه كتاب محفوظ الذي كنتُ أُمسكه بين يدي. كان الهواء منعشًا والرياح تهبُّ ولحظات خشيتُ أن ترفع نفحةٌ تنورتي بينما أمرُّ بين حوالي مائة جندي متوقِّفين … في الواقع، المكان الذي توقَّفنا فيه لم أكن أعرف إن كان يُمكنني تعريفه «استراحة على الطريق» أو ثكنة عسكرية. شعرتُ برغبةٍ فطرية في سحْب وشاحي لأضعه على رأسي وأتغطَّى كما جميع النساء الأخريات في هذه الحافلة مُغطيات. كنتُ الأجنبية الوحيدة وكنتُ وحيدة: تمنَّيتُ أن أندمج بينهن. على العموم كنتُ هادئةً وأكلتُ أحد سندويشاتي.
توقفنا مرةً ثانية في مكانٍ لطيف، يُشبه أماكن أخرى كثيرة، ولكنه مُرتَّب ونظيف. في تلك الساعة، حوالي الواحدة، كان الضوء المنعكس مُبهرًا حقًّا. واصلتُ الأكل والشرب، مُحاوِلةً الاسترخاء. في غضون ساعاتٍ قليلة، خرجت إيطاليا، وحياتي في المكتبة، والقاهرة، وجميع المخاوف من رأسي، حمَلَتْها الريح بعيدًا.
كان بإمكاني أن أقرأ، أو أنام، لو استطعتُ فقط وضع رأسي في مكانٍ ما دون أن أهتزَّ مِن الصدمات والارتجاجات. ولم تكن المسألة مسألة حفر على الطريق، بل إن السيارة تفتقر تمامًا مُمتصَّات الصدمات. في مصر توجَد سياراتٌ حالاتها عجيبة على الطريق.
كان يدخل، مِن كلِّ شق، الكثير من الغبار لدرجة أن نظارات رجلٍ جالس على الجانب الآخر، صفَّين أمامي، كانت تُغبَّر باستمرار، إلى حدِّ إخفاء عينَيه، فيخلعها بصبرٍ وينظفها بمنديل، ثم يُعيدها، ليُكرر العملية في كل مرةٍ تُصبح فيها سُوَر القرآن الخاصة به غير قابلة للقراءة خلف حجابٍ رمادي من الغبار.
كنتُ أتمنى ألا أُفكر كثيرًا في الماضي، وأُخفف من سقف التوقُّعات التي تُعيدني إلى سيوة، لكن أخذَتِ الذكريات والأوهام تتناوب في ذهني، مُندمجة ومُختلطة، تُعذِّبني بالقلق والتخيُّلات طوال الوقت. ما ظلَّ لسنواتٍ عديدة كتابًا ثمينًا، مُغلقًا بأمانٍ في قلبي، فُتح من جديد، وكنتُ خائفة من أنني سأجد الكثير من الكلمات التي محاها الزمن والواقع، صورًا بالأبيض والأسود لأشخاصٍ كبروا الآن، أصبحوا بعيدين ومنفصِلين عما كان ماضيًا مليئًا بالألوان. كل ارتجاج في الحافلة بدا وكأنه يُريد أن يُشقِّق ويُحطِّم الغلاف الذي حمى ذلك الكتاب حتى الآن، غلاف من الكريستال، لا يتناسب مع رحلةٍ على متن حافلة بدون مُمتصَّات صدمات، تتمايل عبر الصحراء.
في مرسى مطروح، حوالي الساعة الثالثة، كان من المُفترَض أن ننزل ونأخذ وسيلة مواصلاتٍ أخرى، ولكن كما كان يحدث غالبًا في الأزمنة القديمة، لم تكن هناك وسيلة أخرى جاهزة للانطلاق، وكانت الأصوات تقول إن «المواصلة» ستتأخَّر ساعة. جلستُ فيما يُشبه غرفة الانتظار، وبدأتُ في القراءة، وأنا مُبقية «هوائياتي» مرفوعة. قبل سنواتٍ كنتُ سأذهب للسؤال هنا وهناك والبحث عن ميكروباص أو سيارة أجرة جماعية لمحاولة الانطلاق قبل ذلك، أو ربما للدفع أقل. هذه المرة، بدلًا من ذلك، كنتُ أعرف جيدًا أن الجميع على الجانب الآخر من الطريق يعرفون بالفعل أنني مُتجهة إلى سيوة، لذلك إذا كان بإمكاني أن أخدم في إكمال العدد فسيأتون هم للبحث عني. كنتُ قد لاحظتُ بالفعل أن رجلَين قد لمحاني وتبادلا حوارًا، ثم اقتربا وبعد أن جلسا أمامي ثلاث ثوانٍ، سألاني بسلوك غير مبالٍ، عما إذا كنتُ مُتجهة إلى سيوة. فأومأت أنا برأسي، بلا مبالاة أكثر، بالإيجاب. وبعد ذلك ذهبا.
كانت الريح تُثير الرمال، وكان الهواء مُمتلئًا بها … لكنها لم تُزح الذباب! لماذا؟
كانت السماء رمادية، على الرغم من أن الشمس كانت تفتح ثغرات، وخشيتُ أن تكون هناك عاصفة رملية في مكانٍ قريب، وهو أمر غير جيِّد مع كل الطريق الذي لا يزال يتعين علينا قطعُه. أمر غير جيد لذكرياتي.
في مرسى مطروح، لم يكن هناك أثر لسائح. من موقعي، بعينٍ على الكتاب وأخرى في الاستطلاع، كنتُ أُراقب عائلة من سيوة: كانت المرأة مُحاطة بالشال الأبيض والأزرق التقليدي، المُطرَّز باللون البرتقالي على الحواف، بينما كان أطفالها جميعًا ملوَّنين. من بين حجابها، لمحتُ وجهها: شابة وجميلة. ينظر الطفل الأصغر إليَّ بفضول … كانت السماء تزداد رمادية، ويبدو أن الربيع لم يكن على الأبواب رغم أنَّنا في مرسى مطروح.
تشجعتُ وخرجتُ للحظة من القرن الحادي والعشرين، تاركةً حقيبتي أيضًا في عهدة رجلٍ مُسن لأذهب إلى الحمام، برفقة فتاةٍ لطيفة نزلت من نفس الحافلة التي كنتُ فيها. كان المصريون دائمًا مِضيافين للغاية، ولا شك في ذلك.
منذ أن كنتُ هنا المرة الأخيرة، حدثت أشياء كثيرة … انهيار البرجَين التوأمَين، الحرب المجنونة على الإرهاب، الهجمات في دهب، وفي شرم الشيخ، انفجارات الكنائس، الدمار بين غزة وإسرائيل، الوضع الرهيب في الشرق الأوسط … وفي كل مرة عشتُها كجروحٍ شخصية كانت تُقوِّض حقِّي في الاستمرار في حُب هذا البلد والعالم العربي كلِّه بشكلٍ غريزي. في كل مرة، أنا ونورا والأصدقاء الآخرون، مسيحيين ومسلمين على حدٍّ سواء، كنَّا نتجمَّع في أحضان افتراضية لنُكرِّر ونؤكد أن السلام والوئام مُمكنان، وأن عاطفتنا، واحترامنا، أصيلان وحقيقيَّان. إذا نجحنا نحن، فلماذا لا يستطيع الجميع أن ينجحوا؟ لدَينا أصدقاء إسرائيليون وفلسطينيون وسودانيون وعراقيون ويهود ومُسلمون سنَّة وشيعة، أشخاص من كل عرق ولون. إذا نجحنا نحن، فلماذا لا يستطيع الجميع أن ينجحوا على نطاقٍ واسع؟ لماذا كل هذه الكراهية التي بلا طائل؟
كل هذه الأفكار انبثقت ببساطة من لفتةٍ مجانية وعفوية ولطيفة من الفتاة التي رافقتني إلى الحمام، ومن استعداد أولئك الذين تركتُ حقيبتي في عُهدتهم. كم هو مُحرِّر أن تكون قادرًا على الثقة والاعتماد، دون خوف، دون شك، دون تحيُّز. والتفكير في المحنة التي يُعاني منها العديد من البلدان يكفي لتقليل مشاكل الفرد وهمومه التي تبدو على الفور غير ذات أهمية وقابلة للحل.
منذ الصباح في الساعة السابعة، كانت الكلمات الوحيدة التي قلتُها بلُغتي العربية الضعيفة، وكان أمامي عدة أيام أخرى لأقضيها في مكانٍ حتى اللغة العربية ليست اللغة الرسمية فيه! كنتُ سأُلقي خُطبًا عظيمة مع نفسي، كنتُ سأُغني وأكتب. لم يُخِفْني أبدًا السفر بمفردي.
بعد فترة قصيرة، أُبلغتُ بأن المواصلة تأخرت ساعةً ونصفًا أو ساعتَين! لكنني والتأخير لدَينا بالفعل معرفة سابقة، فلطالما كان له مكانه في مسيرة حياتي. بناء على ذلك أعادوا لنا أموال التذاكر. استنتج الناس المنتظرون أننا لن نصِل قبل الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ليلًا. كان أحد الأشخاص يلعب بعصبيةٍ وضوضاء بمجموعة من المفاتيح، ربما كان يحاول اتخاذ قرارٍ بشأن ما يجب فعله. قريبًا جدًّا ستغرب الشمس وسيُصبح الجو باردًا، فنحن في مكان شاطئ البحر، حيث لا ينقص النسيم أبدًا …
وهكذا أثناء الانتظار، ظهر الميكروباص المتَّجه إلى سيوة! جاءوا للبحث عني، كما توقعت، وبدأتُ التحرُّك ببطء: كنا بالفعل شِبه مكتمِلين وكنتُ المرأة الوحيدة التي تنطلِق في رحلةٍ في مقصورة ضيِّقة كهذه في ميكروباص لقَطْع مئات الكيلومترات من الصحراء وسط رجال لا يتحدَّثون إلا السيوي والعربية. أعترف، رغم كل حُسن نيتي، كنتُ متوترة.
انطلقْنا حوالي الساعة ٤ وكنتُ أتظاهر بتجهُّم وجهي. كنتُ متوترة للغاية لدرجة أنني بدأتُ في الصلاة، وهو ما يُريحني دائمًا. شاء الله أن نتوقَّف قبل أن نُغادر البلد لتصعَد معنا عائلة صغيرة مكوَّنة من أبٍ وأم وطفلة صغيرة جدًّا، وقد طمأنني ذلك، على الرغم من أن حجم السيدة، المُحجبة قدْر الإمكان، كان يُغطيني. على أي حال، حافظتُ على تجهُّم وجهي الذي ازداد حتى تعبيسًا في نقطتَي تفتيش حيث أنزل الجنود الجميع وفتشوا الحقائب وبين المقاعد بحثًا عن شيءٍ غير معروف. لماذا لا يثقون بي كما أثِق بهم؟ بقينا نحن الاثنتان والطفلة النائمة على متن الحافلة. كرهتُ فكرة أنهم يُدخلون أنوفَهم في حقيبتي، وعندما أوقفونا للمرة الثانية، تصاعد غضب شديد إلى عينيَّ لدرجة أنني بالكاد حبستُ دموعي. علامة على الرفض، بعد أن أظهرت أبشع نظرة تمكنتُ من التعبير عنها، لففتُ نفسي بالكامل في كفيتي وأرسلتُ أيضًا إلى الجحيم الكرةَ الحمراء الضخمة التي كانت تغرَق في الرمال عند الأفق دون أن تضع كلمة «نهاية» لذلك اليوم الذي لا يزال طويلًا وثقيلًا.
ولكن أعادني إلى الهدوء، جاذبًا انتباهي من طرف عيني، بريق النجم الأول للمساء، على يساري، هناك في السماء التي لا تزال صافية.
كنتُ أشعر بالبرد وقدرتُ حجم السيدة التي كانت تُدفئني بطريقةٍ ما من جانبٍ واحد. قرأتُ، وغفوتُ، وأكلتُ، وأثناء توقُّفنا عرضتُ رقائق البطاطس على جارَتي التي قبلَتْها وأخفتها خلف حجابها الأسود. لم تُصدِر حتى صوتًا، يا تُرى هل أكلتها حقًّا. على أي حال، لقد أعجبتها لأنها بادلتني على الفور ببسكويت هش، وبعد تلك الكلمات الأربع التي تبادلناها بعربية غير مُتقنة من كِلا الطرفَين، اكتسبتُ دعوة لزيارة منزلها! كنتُ سأقبل بكل سرور. ربما كنتُ سأرى وجهها … لكن ربما عليَّ أن أنتظر حتى تتعرَّف عليَّ، وعلى أي حال لم يكن لدَينا الكثير لتقوله إحدانا للأخرى حيث لا بد أن نكتفي بكلماتي العربية القليلة. يا تُرى هل كانت تبتسِم، هناك خلف عباءتها؟
كانت السيدة بمثابة تأكيدٍ آخر لنظريَّتي حول حُسن ضيافة المصريين. لفتة لطيفة واحدة تمحو على الفور عشر تصرُّفات غليظة وتُدفئ.
وصلتُ إلى وجهتي مُغطاةً بطبقة سوداء، تتناسب تمامًا مع الظلام الذي يُحيط بكلِّ شيء، مُنفعلة، مُنفعلة للغاية.
أتذكَّر أن المرة الأولى التي وصلتُ فيها إلى هذا المكان، مع صديقتَين إيطاليتَين، تملَّكنا إحساس خفيف بالإحباط ولم نتمالك أنفُسنا من أن نقول: «ولكن أين انتهى بنا المطاف؟!» ثم، جاءت بركة هطول أمطار مفاجئ في الليل إلى آذاننا كعلامةٍ على أن شيئًا سحريًّا يحدث، أو على وشك أن يحدُث، وكان الأمر كذلك بالفعل: مع المطر وصلتُ إلى الواحة التي بها وجدتُ مصيري، وسرعان ما تلاشى الظلام. أنا وصديقاتي وقعْنا في حُب هذا المكان، لكنَّني وحدي حالَفَني الحظ بالعودة إليه مرات عديدة، بعد ذلك.
وبالفعل، كنتُ الليلة الماضية وحيدة، لكنَّني لم أشعر بالوحدة: كان الأمر بمثابة عودةٍ إلى الوطن. قلبي بصمتٍ يصرخ: «لقد عدتُ!» وكل جزء مني يبتسِم. بعد كل هذا التوتُّر أشعر الآن فقط بفرحةٍ غامرة للعثور على نفسي مرةً أخرى في تلك الجنة حيث عشتُ سنواتٍ عديدة من السعادة، حيث التقيتُ وتعرَّفتُ على أجزاء من نفسي لم أكن أعرفها. تركنا قلوبنا هناك، والآن، أنا هنا لاستعادتها، بطريقةٍ ما.
بمجرد نزولي من الحافلة، توجَّهتُ مباشرة إلى فندق يوسف، ووعدتُ نفسي برؤية كل شيءٍ آخر بعد نومٍ جيد، مع ضوء الشمس، ولحُسن الحظ وجدتُ الغرفة التي طلبتُها من المالك عبر البريد الإلكتروني منذ أسابيع جاهزة. أصبح المبنى أكثر حداثةً عما تركتُه. قبل سنوات عديدة، خلال موسم الاحتفال السنوي الكبير بالمُصالحة الذي يُقام في أكتوبر، تكون جميع الفنادق القليلة في القرية مكتظَّة. تمكَّن سلامة من العثور على مكانٍ لي في الطابق الأول من فندق يوسف، فيما كان مخزنًا للأغطية، والذي اقتطع من الممرِّ وأُغلق بجدارٍ من الخشب الرقائقي يُغلقه باب بلا مفتاح … كان لديَّ كيس نومي، وحقيبة من القماش القوي وأكوام من الأغطية، لا شيء آخر. لكن كانت توجَد شرفة تُطلُّ مباشرة على مطعم عبدو: هل هناك منظر أفضل من هذا؟ استخدمتُ واحدة من تلك الأغطية لسدِّ الشقِّ الذي كان ينفخ منه الهواء البارد من النافذة المشقوقة في الشرفة، واستمتعتُ بالحرية. كانت الشرفة نفسها التي تمنَّيت العثور عليها عندما طلبتُ غرفة من سلامة منذ فترة. وبالفعل تحققت أمنيتي، على الرغم من أن الغرفة هذه المرة غرفة حقيقية، يوجَد بها سرير، وكومودينو، وطاولة، وكرسيان، ومرآة وخزانة صغيرة، والحمام في الممر. في غضون وقتٍ قصير ستمتلئ الفنادق بأشخاصٍ من جميع أنحاء العالم لرؤية الكسوف. لكن لا أحدَ منهم لدَيه توقعاتي، أنا متأكدة من ذلك. لا أحد يُمكن أن يكون قد وضع في هذا الكسوف، الذي وُلِد أولًا في حكايات حكيمٍ عجوز، ثم في أحلامها (الآمال) التي وضعْتُها أنا فيه قبل أن يولَد في السماء.
لم أكن أعرف الشاب الذي يعمل في الاستقبال، لكنه كان لطيفًا ويبدو أنه فهم من أنا: عميلة قديمة، صديقة سلامة. والذي كان خارج سيوة لأعمال. على الرغم من إثارتي، فقد نمتُ في غضون ثلاثين ثانية، مع صلاة شُكرٍ على شفتي، وفي الصباح كان الانفعال لا يزال موجودًا، حيًّا وحاضرًا، مما جعلني مُمتنةً وسعيدة ومتلهفة.
•••
كان لقاء عبد الله مرة أخرى تجربة قوية ومُمتعة. عندما نزلتُ لتناول الإفطار في مطعم عبده، فوجئتُ بخبرٍ سيئ: عبده لم يعُد بيننا. عبده في الملكوت الآخر، بالتأكيد في المكان الذي تحفظه الجنة لِمن فعل الخير للكثير من الناس بإطعامهم طعامًا جيدًا. المطعم لا يزال يحمل اسمه، وعلى الحائط صورة له مؤطَّرة. يا لها من خسارة …! تذكرتُ فورًا جد بابلو، الذي كان مُسنًّا أيضًا في ذلك الوقت. كنتُ أخشى أن أسأل، فقد مرَّ وقت طويل منذ أن تلقيتُ أخبارًا عنه، لكنني كنتُ أشعر أنني سأراه.
ظهر عبد الله فجأة خلفي، تعرفتُ على صوته الذي يُحييني بالاسم السيوي الذي أطلقه عليَّ: «كوكا». قدَّم لي وردةً وردية، وقلتُ له إنني ما زلتُ أحفظ الوردة التي قدَّمها لي في إحدى الليالي منذ سنواتٍ عديدة. تبادلنا التحية ونحن نُحاول العثور على أنفسنا تحت قشرة الزمن. لكنَّنا لم نتغيَّر كثيرًا. أصبح لدَيه بعض الشعر الأبيض، لكن بشرته شابة، لا تتوقَّعها على رجلٍ يعيش في الصحراء. قال إنني جميلة ورائعة مثل الوردة التي أهداها لي.
الكثير من الأشياء لأقولها، لأرويها، وفي الوقت نفسه يبدو الأمر كما لو أنَّنا افترقنا للتوِّ. هكذا يحدُث بين الأصدقاء. بعد وجبة فطورٍ شهية، ذهبنا في جولةٍ طويلة حول سيوة على متن سيارة جيب كبيرة، وأعترف أنني شعرتُ عدة مراتٍ بضيقٍ في حلقي عندما رأيتُ مقدار ما قاموا بتغطيتِه بالأسفلت، ومقدار ما بنَوه، وشوَّهوا جماله بحجةِ ما يُسمى «التقدُّم». لكن الضيق في الحلق كان أمرًا لا مفرَّ منه حتى في اللحظات التي تعرفتُ فيها على الزوايا والمناظر الثابتة في ذكرياتي. «شالي» المدينة القديمة، قلعة ضخمة من الرمال تقاوم على الرغم من مرور الزمن وقوة الظروف الجوية القاسية. شالي هي سيوة. مساحات النخيل المُحملة بالتمر، صوت الحمير، السوق الملوَّن بسلال الخضروات والفواكه، العربات، الفتيات ذوات الضفائر، الجمال، السلام، الأفق الذهبي، كل هذا هو سيوة.
أشعر بسعادة غامرة لدرجة أنني لا أعرف إذا كان يمكن أن تزيد سعادتي عن ذلك. ربما قليلًا فقط.
•••
أنا سعيدةٌ بأنني وجدتُ هذه الغرفة: المساحة التي حولي تستوعب كل أفكاري، لا ينقُصني شيء. استمتع بالشمس أيضًا … الشرفة هي بمثابة منصَّة ملَكية أمام خشبة المسرح، وأنا في مُشاهدةٍ وشخصيةٌ في المسرحية في الوقت ذاته. يُحييني الناس في الشارع ولا يُمكنني أن أشعر بالوحدة حتى وأنا داخل الغرفة. أعشق كل صوتٍ والأصوات الهادئة للسكان، أعشق ابتساماتهم وصرير عرباتهم، أعشق عيونهم الصافية العميقة وأطفالهم المرِحين. صوت المؤذن الذي يُنادي للصلاة. أعشق الريح المُنعشة وأشعة الشمس التي تُدفئ وجهي عبر النافذة، وتُضيء لوحة مفاتيح حاسوبي بينما يتسلَّل الرمل ويصرُّ. يا له من سلام رائع! مرة أخرى أنا مُقتنعة بأن كلمة «سلام» هي حقًّا واحدة من أجمل الكلمات، وأن سيوة هي مرادف لها. سلام سُكانها الممزوج بسلام المسافرين من جميع أنحاء العالم الذين يلتقون هنا ويندمجون، في البساطة، وفي الجوهر، وفي التناغُم. أنا فخورة بأنني واحدة من هؤلاء المسافرين. مهما حدث أو سيحدُث، لا يُمكن لأحد أن يسلب منِّي هذا السلام. ويا له من أمرٍ مُدهش أنني كنتُ أحرم نفسي من متعة السفر! لا توجَد أي سعادة في حرمان الذات.
•••
أريد أن أرى الجميع مرة أخرى، وألتقي بهم، وأعرفهم، وأخشى التغييرات، لكنَّني أعلم أيضًا أن التغييرات جزءٌ من الحياة. لا يمكن لأحدٍ أن يتمنَّى حياةً ثابتة في مكانٍ ثابت.
كنتُ أخشى أيضًا تغيُّراتي الخاصة، كنتُ أخشى أن أفقد صفاء العشرين من عمري، وإثارة الاكتشاف. لقد كبرت، علَّمتني الحياة الكثير من الأشياء وكنتُ أخشى أن أكون غير قادرةٍ على الغَوص في الجمال كما اعتدت. طوال هذه السنوات كنتُ أفكِّر في سيوة بطريقةٍ معينة؛ كان لديَّ الكثير من الصور والتخيُّلات في ذهني وكنتُ أتساءل عما إذا كانت الواحة موجودة كما كانت في الواقع أو كانت فقط في ذهني. بغض النظر عن مدى تغيُّرها، لم تُخيب سيوة ظنِّي. الصحراء لن تُخيب ظنِّي أبدًا. كيف تُغير الصحراء في عشر سنوات؟ لا يمكنك تغييرها، ولا يُمكنك تدميرها، يمكنك فقط العثور عليها مرة أخرى، والانحناء أمام عظمتها. تتغيَّر ببطءٍ شديد، تتحرك كثبانها الرملية الضخمة ببطءٍ وأفكر في الوقت الذي ستُغيَّر فيه سيوة. حبة تلو الأخرى، كثيبًا تلو الآخر، ستُغطَّى سيوة بالرمال، مثل زرزورة، وستختفي مياهها وتتشتَّت، وسيبحث المسافرون عن كنوزها. كم من الكنوز تُخبئها الصحراء … لا أستطيع ولا أريد أن أُفكر في متى سيحدُث ذلك. الحياة هي ما نحن فيه الآن وسيوة مفعمة بالحياة، ومياهها النقية هي عصب هذه الطبيعة الخصبة والغنية. أشعر بأنني حيَّة بقوة وأنني غنية، مثل نخلة خضراء مُحملة بالتمر.
بدأ هواة الفلك في الوصول، يحملون آلات التصوير حول أعناقهم، وتلسكوبات، وحوامل ثلاثية، ومعدَّات مِن جميع الأنواع. أنا أهرب. بغض النظر عن موعدي مع القدَر، أعتقد أن حدثًا مثل كسوف الشمس الكُلي يجب أن يُعاش تقريبًا بشكلٍ روحاني، في تأمُّل، دون قلق التصوير. الصحراء تسمح بذلك، لديها مساحة للجميع. سأحتاج فقط إلى اختيار كثيبي الخاص والتمركُز فيه.
لكن كيف سأعرف ما إذا كان بابلو موجودًا؟ وإذا كان يبحث عني، فكيف سيجِدُني؟ في الأحلام والأفلام، تكون بعض اللقاءات دائمًا في الوقت المناسب ومثالية، ولكن في الواقع، ستغزو الحشود سيوة والمساحة المحيطة بها. عند سفح تلِّ دكرور، على أطراف القرية، تنمو الخيام مثل الفطر. المنتجعات الجديدة بالقُرب من البحيرات المالحة مليئة بالنزلاء. أنا مشوَّشة بعض الشيء، لكنني هادئة.
شجعتُ نفسي وذهبت لرؤية حديقة عبد الله. نمت النباتات، وازدادت الزوايا المُظلَّلة، وأصبح الجناح مَخفيًّا تقريبًا خلف الخضرة وأزهار الكركديه. كان الأمر ساحرًا. قوة ذكرياتي مُذهلة. سألت عن جدِّ بابلو وأخبرني عبد الله أنه على قيد الحياة وبصحَّةٍ جيدة نسبيًّا بالنسبة لعمره. فرِحتُ وشعرتُ بوخزةٍ صغيرة في قلبي عند التفكير في أنني قد أراه. لكن هل سيتذكَّرني؟ يا له مِن أملٍ أن يتذكَّر!
استغرق الأمر بعض الوقت وقضيت بقية الظهيرة مع علوش اللطيف؛ ذهبتُ إلى منزله ومتجره. يبيع أشياء نموذجية في سيوة، ورأيتُ والدته وأخواته وربما خالاته في المنزل، يُخرجنَ إبرةً ويَحيكون أشياء جميلة. قدَّموا لي كركديه باردًا وحُلوًا جدًّا، واختفوا بخجلٍ في الغرف الداخلية.
أنا جالسة الآن في مطعم عبده ومعي التابلت، لأكتُب يومياتي وأرسل رسالة إلى نورا. أكلتُ أرزًا ممتازًا بالخلطة وأنا أنتظر الباتيه والخضراوات. ثم سأحتاج إلى قهوة. أودُّ أن أصف مائة ألف إحساس، لكنني لا أفعل ذلك. ربما لأنني حتى لو كنتُ جالسةً هنا على الطاولة، فإن عينيَّ وأُذنيَّ تلتقطان باستمرار كل ما يحدُث حولي. إنه عالم صغير مُفعم بالحركة وأنا لا أريد أن أفقد منه أي جزء. يقول علوش، الموجود هنا معي، إنني أعرف الكثير من الناس، ويرى ابتسامات الترحيب التي يمنحها لي المارة، ولكنه بالأحرى هو الذي يُحيي كل من يراه. لقد حيَّا للتوِّ بحماسٍ رجلًا مميزًا، لا أعرف كيف أُحدد عمره، يبدو أنه عاد لتوِّه من الصحراء حيث يُقيم عادةً لمدة شهرين أو ثلاثة أشهر لرعاية قطيع من الإبل، ويعود فقط من حينٍ لآخر لزيارة أُسرته. أنا مذهولة، لكن علوش يبتسِم بحقٍّ ويقول إن هذا طبيعي بالنسبة لبدوي. الطبيعي نِسبي للغاية! في نظر الراعي، أنا بالتأكيد أغرب، فأنا أعيش في عالم يُستعبَد فيه المرء للساعة والتكنولوجيا والموضة، ويحشو نفسه بالطعام ولم يعُد قادرًا على الاستماع إلى الصمت.
أريد أن أستخدم كلمة «استثنائي» لأن كل ما أعيشه لا يُمكنني وصفه إلا بذلك، ليس فقط لعدم دخوله في المألوف، ولكن لكونه مُدهشًا وفريدًا. حتى الكسوف، الذي سيتكرَّر مُطابقًا في عام ٢٠٦٠م، لن يكون استثنائيًّا لولا أنه مُصاحب لأحد عشر عامًا من الحُب «المحفوظ» وموعد كاشف.
أعترف أنني أشعر ببعض الانزعاج من رؤية سيوة تمتلئ بكل هؤلاء الناس، لكنني في الوقت نفسه أعتقِد أنني إذا وجدتُ نفسي خالية الوفاض، مُحبطة ومتروكة نهائيًّا، فإن هذه الحشود المُتنوعة من الناس ستُساعدني على تشتيت انتباهي.
فجأة نهضتُ من الكرسي وقلتُ لعلوش الذي كان يُدخن الشيشة غير بعيدٍ عني: «سأذهب لزيارة كريم العجوز، جد بابلو». - «هل تُريدينني أن آتي معك؟» أجاب. ربما كان يعتقِد أيضًا أنه سيكون مُفيدًا لي كمُترجم. قلتُ: لا، سأذهب مع عربة علي وسينتظرني هو وحماره هناك. سأبقى قليلًا، كنتُ أرغب فقط في رؤيته والعثور فيه على القليل من بابلو والسحر النائم.
كانت الرحلة على متن العربة مُمتعة للغاية كالمعتاد على الرغم من أنها كانت مليئةً بالصدمات، وقد صرفتني عن الشعور بالقبضة في معدتي بسبب القلق من اللقاء. يبدو أن كلَّ شيءٍ بقِي كما هو في هذا الجزء من الواحة. عند الوصول إلى أشجار النخيل الكبيرة أمام الجدار الأبيض لحديقة الجد، أوقف علي العربة وقال لي: «سأنتظِرك هنا». ابتسمتُ، وأخذتُ نفسًا عميقًا وأطللتُ من خيمة المَدخل، مُحييةً دون أن أرى أحدًا في الشفق الداخلي. بقيتُ لحظةً في الانتظار وجال نظري إلى باب غرفة البيانو، المُغلق. ابتلعتُ، كأنني سأستأنف التنفُّس، لكنَّ قلبي توقَّف حقًّا عندما سمعتُ صوتًا يقول بالعربية: «يا شمس، كنتُ أنتظركِ، الحمد لله، لقد وصلتِ».
بعد تلك الصدمة الأوَّلية، أعتقدتُ أن كريم العجوز، لأن الصوت كان صوته بالتحديد، قد أخطأ في هويتي. على أي حال، لقد وصلتُ إلى هنا بعد أحد عشر عامًا، فجأة، لا يُمكن أن يكون يَقصدني! لكن … صوت الخشب تحت خطواته سبق لحظةَ ظهوره أمام عينيَّ ووجهه المُتجعِّد والمُبتسِم لم يتغيَّر تعبيره عند رؤيتي: «اتفضلي، أهلا أهلا أهلا، يا مايا!» في هذه اللحظة فغرتُ فمي وأخذَتِ الأفكار تتدفَّق كالنهر من رأسي مُتداخلة، ولكن كلها بالإيطالية، بينما أُتمتم بشيءٍ مُحاوِلةً أن أسأل كيف ولماذا كان ينتظرني.
يفهم ذلك، ويُشير إلى السماء ويُكرر: «الكسوف! الكسوف!»
لا يُمكنني أن أُصدِّق أنه يُشير إلى وعد بابلو. لا يُمكنني أن أُصدِّق أنه كان ينتظرني حقًّا، لكن مِن فمي المفتوح على اتساعه يخرج اسم بابلو من تلقاء نفسه، كما لو كنتُ أرغب في السؤال عما إذا كان هناك رابطٌ بين الأشياء المختلفة. في هذه الأثناء، تسارَع نبض قلبي بشكلٍ ملحوظ. يُجيب الجد كريم بوجهٍ ملائكي أكثر من كلماته. أفهم أنه لا يعرف شيئًا عن بابلو، لكنه يقول إنني يُمكنني الذهاب إلى معبد آمون للسؤال عنه. أتنهَّد وأبتسِم، يا له من أمرٍ مُضحك، معبد آمون … مثل قدماء المصريين. عندما رآني مُحبطة، أشار إليَّ بالانتظار ودخل المنزل. عاد بعد ثوانٍ قليلة وبيدِه الكوب الأزرق. ذلك الكوب الأزرق؟ صدمة أخرى، ثم قلتُ لنفسي ربما يُريد فقط أن يُقدِّم لي قهوة. «لا لا، شكرًا»، وأشرتُ إلى الساعة لأُفهِم أنه عليَّ الذهاب. لكنه هزَّ رأسه وأشار إلى نقطةٍ مُحددة في الكوب مُشيرًا إلى الكسر. لا يُمكنني أن أُصدِّق: أخذتُ الكوب ونظرتُ إليه جيدًا في الضوء. يُمكن رؤية خطٍّ خفيفٍ جدًّا يتوافق مع النقطة التي انكسر فيها، بين يدَيه. سبق أن قال إنه سيعود سليمًا، جديدًا، وهذا ما حدث. نظر إليَّ بتمعُّن. كان يُشير إليَّ أنا وبابلو، أعرف ذلك، أقرؤه في عينَيه، لكنني أخشى بجنونٍ أن أُصدق ذلك وأعرف أن هذه المرة لكن أكون مُحبطة وحدي، ولكن هو أيضًا معي، كريم المسكين، ضحية خيارات ابنه وحفيده الطائشة.
أبتسم وأخفض نظري. لم أسأله حتى عن أحواله ولم يُقدِّم لي لا شايًا ولا أي شيء، بل دفعني إلى الخارج مُشيرًا إلى اتجاه معبد آمون. ربما لا يتعدَّى الأمر سذاجة رجلٍ مُسن، لكنني في الوقت نفسه أتمنَّى بشدة ألا أكون قد حلمتُ لمدة أحد عشر عامًا لدرجة أن أُغيِّر حُكمي وأقول لنفسي إنني بالتأكيد أمام شخصٍ حكيم جدًّا وساحر أيضًا، قليلًا كما هو الحال في الواقع مع جميع كبار السن، لكنَّنا ننسى ذلك غالبًا بسبب غطرستنا المُتغطرسة كشباب. تذكرتُ قصته عن الشمس والقمر وثقته في إخباري، في ذلك الوقت، بأنني وبابلو سنلتقي مرةً أخرى.
الخلاصة، في النهاية أُحييه بكلماتٍ قليلة ونظرات طويلة وأقول لعلي: بسرعة! لنذهب إلى معبد آمون! لا يُمكنني أن ألتقط ردَّ فعل سائقي، لكنني أُقسِم أنه هزَّ رأسه. على أي حال، فإنه وحماره شديد اللطف يُوصِّلانني إلى حيث طلبتُ، في دقائق قليلة. يبدو لي، في بعض الأحيان، أنني فقدتُ عقلي، تحولتُ لطفلةٍ تلعب لعبة البحث عن الكنز، وفي أوقاتٍ أخرى أشعر وكأنني داخل فيلم. في كلتا الحالتَين، حلَّت الابتسامة محل قلقي وبدأت أضحك على نفسي، وأنا أتمايل نحو معبد آمون كما فعل الإسكندر الأكبر والعديد من الشخصيات التاريخية اللامعة قبلي.
•••
كم مرة مررتُ مِن هنا بالفعل، مع كم مِن الأشخاص، في كم مِن اللحظات المختلفة مِن شبابي! ومع ذلك لم آخُذ قوة العرافة على محمل الجد. لا أعرف كيف أشرح لعلي. سألتُه كيف يعمل، إذا كان هناك إجراء يجب اتباعه، أو طقوس. أجابني، بهدوء غامض، «اسألي فقط»، وهكذا أفعل، على أمل ألا يكون هناك أحدٌ في الجوار بينما أنفصِل للحظة عن الحياة الواقعية. أنزل من العربة، علي يحترمني وأُحب أن أعتقد أنه لا يحكُم عليَّ. أتقدم بضع خطوات وأشعر أنني خارج الزمن. أحاول تفريغ ذهني لكنه يزدحم بالتاريخ وبالقصص، برجال أقوياء للغاية لم يخجلوا بالتأكيد من سؤال العرافة بتواضُع عما سيكون مصير تلك المُهمة، أو تلك المعركة أو ذلك الحُب. أشعر أنني مجرد إنسانٍ آخر يعترِف بحدوده ويطلُب المساعدة، كما في الكنيسة، كما في المسجد، كما كان يفعل البشر الأوائل تحت السماء المُرصعة بالنجوم إلى ما لا نهاية، كما نفعل جميعًا، عندما نكون مليئين بالرغبات والمخاوف، والآلام، والآمال، والمجهول. هل يجب أن أبقى أمام تلك الأحجار المكسورة وأُكرر السؤال الذي عبرتُ عنه للسماء لسنواتٍ وسنوات؟ حسنًا، حسنًا، سأفعل هذا أيضًا. لا أتلقَّى أية إجابات، ولكن يتبادر إلى ذهني صورة، لأنه عندما يفرغ المرء نفسه ويُعريها، فإنه يرى الإجابات والإمكانيات في نفسه: كتاب الذكريات في فندق يوسف! سأجد الإجابة هناك! أنا في سيوة منذ يومَين، وأُقيم في ذلك الفندق ولم يخطر ببالي حتى أن أنظر!
«علي، لقد انتهيت … لنعد إلى وسط المدينة، من فضلك!» لا أعرف كم من الوقت مر، سواء كانت ثواني قليلة، أو دقائق، أو كم؛ أعرف أن عليًّا ملاك صبور كان يحرسني دون قيدٍ أو شرط.
•••
عندما عدتُ إلى القرية، حَييتُ عليًّا وشكرته، وفي هذه الأثناء جاء علوش ليقترح عليَّ الذهاب لمشاهدة غروب الشمس في جزيرة فطناس، وسط البحيرة المالحة الكبيرة، كما فعلنا مراتٍ سابقة، في أزمنة أخرى. أودُّ أن أقول له إن المعبد أوحى لي بتفقُّد كتاب الذكريات، لكنني أشعر أنه سيكون من غير اللائق، بالإضافة إلى صعوبة شرح ذلك، لذلك تركتُه يُقنعني وأجلتُ بحثي. غروب شمسٍ خلَّاب مع الأصدقاء أفضل من كتاب ذكرياتٍ قد يحتوي أيضًا على إجابةٍ سلبية أو حتى لا يحتوي على أي دليلٍ مُثير للاهتمام. غروب الشمس في فطناس والشكوك التي تُراودني منذ ساعاتٍ أفضل من خيبة أملٍ عشية الكسوف.
•••
يُرافقنا إلى جزيرة فطناس سائق الميكروباص الذي أتيتُ معه من مرسى مطروح إلى سيوة. يُوصلنا إلى هناك بلا أي مقابل، على سبيل الصداقة، وهو أيضًا مُشاهد أمام الجمال الذي تُقدمه الطبيعة الأم بسخاء. لكن … بمجرد أن نصل، يبدأ المطر في الهطول! لا يُمكنني أن أُصدِّق ذلك، ومع ذلك ليست هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها المطر يَهطل في سيوة. أقول لنفسي «لو غامت السماء غدًا، أعتقِد أن هواة الفلك الذين هرعوا إلى هنا سيَقدرون على إزالة السُّحب بأيديهم، إذا لم يفعلوا ذلك بشتائمهم!» لكن الأمر لا يسير على هذا المنوال في الصحراء. احتمَينا تحت أشجار النخيل وابتللنا رغم ذلك. الجو جميل. لا نشعر بالبرد. وصل أيضًا بعض السيَّاح ذوي الشعر الأحمر، أكثر احمرارًا من شعري، رأيناهم يمرُّون بالدراجة، جميعهم مُبتلُّون ومُندهشون من المطر غير المُتوقَّع. تجعل الريح أشجار النخيل تُغنِّي: شيء رائع، صوت يشبه صخب البحر البعيد. أشعر بالسعادة أنني أعيش هذه اللحظة ولأنها بالفعل لحظة مُميزة حتى بالنسبة لسكان سيوة والمصريين. مطر في الصحراء! ذلك أن سيوة لها ألف وجه، كلها وجوه مختلفة جدًّا، ولكنها كلها مُبتسِمة!
جئنا لمشاهدة غروب الشمس، ويبدو أن الجميع يقولون لنا: «ألم ترَوا أن السماء مُغطاة بالغيوم؟ لن ترَوا أي غروب.» ونحن أيضًا نقول ذلك لأنفسنا، هنا تحت الفروع. ثم تشرق الشمس وتُقدم لنا عرضها، الذي يزداد إثارة من لحظة إلى أخرى. لقد أصبحت كبيرة وبرتقالية مثل البرتقالة التي قدَّمَها لنا شابٌّ من جنوب أفريقيا، جاء بالدراجة؛ برتقالية مثل لون شعره. تخترق الشمس سحابة وتغرق ببطء خلف التلال، مصحوبة بصمتِنا الديني.
في هذه اللحظات، يعيش كلٌّ منَّا بمفرده مع شمسه، أمام إلهه الخاص، وأعتقد أن للملائكة أيضًا حضورًا خاصًّا في صمتنا. في الواقع، أنا مقتنعة أكثر فأكثر بأن الملائكة تسكن في سيوة، لأن هذا المكان يبدو وكأنه الجنة.
طالت الأيام بشكلٍ ملحوظ، ولكن حتى اليوم غربت الشمس بعظمة وتأمَّلتُها. تُرى هل تُدرك ما ينتظرها غدًا.
أودُّ أن أعتبر ذلك بمثابة بروفة عامة في انتظار العرض الاستثنائي الذي سيُفاجئها فيه القمر بعِناقه.
•••
أكلتُ بسرعةٍ هذا المساء. أعتقد أن قلبي بدأ بالخفقان. كنتُ بحاجةٍ إلى الركض إلى سلامة وسؤاله عن كتاب الذكريات. لقد أشار إليه، بالقُرب من مكتب الاستقبال ولا أعرف كيف لم أُلاحظه من قبل. مُحاولةً عدم إظهار رغبتي في تصفُّحه عكسيًّا دون معرفة ما الذي أبحث عنه بالضبط، بقيتُ واقفةً أتصفَّحه لأرى متى يبدأ.
يعود تاريخه إلى أربع سنواتٍ مضت. مهمة شاقة وغامضة. وماذا عن السنوات السابقة؟ أين احتفظ سلامة بالكتب السابقة؟ في أحد عشر عامًا، كم مرةً عاد بابلو إلى سيوة؟ وإذا كان قد أقام مع جدِّه، فلماذا كان عليه أن يكتب في الكتاب الكبير للفندق؟ يمرُّ من هنا سلامة بالذات بينما أواصل تصفُّحه بعصبية هنا وهناك ويسألني عما إذا كنتُ أبحث عن شيء ما.
أقول له: نعم، لكنَّني لا أعرف ماذا.
يضحك ثم يسألني: هل يُمكنني مساعدتك؟
– لا أعرف. متى رأيتَ بابلو كريم لآخِر مرة؟
في كل هذه السنوات، لم يُصادف أن نطقتُ باسمه بصوتٍ عالٍ إلا مرات قليلة جدًّا، صوتي نفسه يُفزعني وأنا أسأل عنه. ينظر سلامة إلى الأعلى ويخدش ذقنه كما لو كان يبحث في زاوية من الذاكرة، وهو ما يُوحي بالفعل بأن اللقاء الأخير لم يكن قريبًا.
– بابلو كريم … الموسيقي، بالطبع … أعتقد أنه يأتي مرةً واحدة في السنة تقريبًا لزيارة جدِّه. في بعض الأحيان يأتي في أكتوبر، من أجل المصالحة، كما تعلمين، لتكريم المصالحة مع جدِّه ومع نفسه، على ما أعتقد. ولكن أيضًا في فتراتٍ أخرى. منذ سنواتٍ جاء مع ميدو وأسامة للقيام بجولة في الصحراء، ولكن بالتأكيد قبل أكثر من أربع سنوات.
– وأنا أعلم ذلك …
أفكر بيني وبين نفسي، بينما تظهر لي كذكرى كابوس صورة الرسالة التي لم تُرسَل.
– ربما لم يتمكَّن من المجيء كل عام، أو ربما لم أعلم أنا بذلك. نحن في سيوة نعرف دائمًا من يصِل ومن يرحل، لكنه يبقى قليلًا جدًّا. يُمكن سماع عزفه، إذا كانت الريح تهبُّ من هناك. عزف جميل جدًّا.
أشعر بالضِّيق عند التفكير في أن شخصًا ما كان يُمكن أن يُخبرني، عامًا بعد عام، بأن هذا الرجل كان حيًّا وبصحَّةٍ جيدة. ولكن ما يُزعجني أكثر هو أنه طوال تلك الفترة كان يرى أصدقائي في سيوة ولم يسأل عنِّي أبدًا. كان من الأسهل تقريبًا التفكير في أنه اختفى من بُعدي وأنه لا يُوجَد أحد في العالم على اتصال به. ربما، نظرًا لأنني لم أردَّ أبدًا على رسالته، حذفني هو من مجاله. ولكن إذن، هل أنا متأكدة من أنني أرغب في الحصول على أخباره أو حتى رؤيته مرة أخرى؟ وماذا لو دمرتُ إلى الأبد ذكرياتي المثالية ورؤيتي للحُب بحروف بارزة؟ هل أنا متأكدة من أنني أرغب في خوض هذه المخاطرة أيضًا؟
– ألم يسأل عنِّي أبدًا؟ أو في أي حديثٍ لم يظهر اسمي، أو كما أعرف، إشارة إلى العام الذي جاء فيه إلى سيوة لأول مرة؟
– مم … لا يبدو لي ذلك، كنتُ سأتذكَّر ذلك. لكن لم يُصادف أن تحدَّثت معه.
يبتسِم سلامة عند التفكير في الموسيقى في الهواء، وأنا أيضًا، أتخيل ذلك مع شعورٍ بالضيق في حلقي وأتذكَّر ذلك المقطع الصوتي المؤثر مع السحر الذي كان يملأ الصمت بين حفيف النخيل وأصوات الحيوانات. وإذا كانت الريح تهبُّ في الاتجاه الآخر، فإن الصحراء كانت تبتلِع نغماته.
كل شيءٍ جميل جدًّا، كل شيءٍ مُثير للاهتمام للغاية، ولكن … لماذا قال لي العراف أنْ أنظر في كتاب الذكريات؟ وما الذي أقوله؟ العراف لم يقُل لي أي شيء! يا لخيالك الجامح!
أنظر بتنهيدةٍ إلى الصفحات التي لا تزال يدي متردِّدةً عليها، وعندها يقول سلامة، الذي لا يُدرِك القوة التي يمتلكها على جهازي العصبي في هذه اللحظة:
– آه، لكنه كتب شيئًا هنا أيضًا ذات مرة! هل كنتِ تبحثين عن ذلك؟ كيف عرفتِ؟
– لا …! لم أعرف! كان الأمر كذلك، مجرد فرضية … لم أسمع عنه طوال هذه السنوات، أنا سعيدة بمعرفة أنه بخير. رأيتُ جدَّه، منذ قليل.
أنا أُصدق الصوت الذي سمعتُه في المعبد، لكن الجد كريم يعتمد على الكوب الأزرق: لستُ الوحيدة التي تُصدق الحكايات الخرافية.
أنا أرتجف بالفعل، مُتظاهرةً بالطبيعية، وأُقلِّب الكتاب الكبير. وأنا على وشك أن أُصاب بالذُّعر، أنظر إلى سلامة وأتوسَّل إليه: ساعدني يا صديقي! أتتذكَّر أنني وبابلو كنا نُحب بعضنا بعضًا؟ لم أنسَهُ أبدًا، أنا بحاجةٍ إلى معرفة ما إذا كان لا يزال يتذكَّر ما عشناه. أعترفُ يا سلامة، لكن من فضلك، لا تُخبر أحدًا: أنا ما زلتُ أُحبه، لقد جئتُ من أجل هذا … الكسوف، الوعد، لم يتبقَّ الكثير، لكنه كتب لي رسالة، كان يرغب في العودة إليَّ، ولم أتلقَّها أبدًا، أو بالأحرى، لم أحصل عليها إلا قبل أيام قليلة، بعد تسع سنوات، ولم أردَّ عليه أبدًا … أشعر أنني حمقاء، فلماذا سيأتي إذا لم أردَّ عليه أبدًا ولم أقُل له أبدًا إنني أُحبه كثيرًا؟ سأعرف غدًا! سأعرف غدًا … ولكن إذا كان بالفعل في سيوة، فربما كنتَ ستعرف، أليس كذلك؟ لا توجَد موسيقى في الهواء هذه الأيام …
أُناوِب بين النظرات المتوسِّلة والقراءات السريعة لإهداءات المسافرين وصديقي يبتسِم في صمت. أعتقد أنني أُثير شفقتَه، أو ربما حنانه، أو سيظنُّ أنني مُختلَّة بعض الشيء. يُمسك الكتاب الكبير بلُطف من يدي، ويركز، ويبدأ في تصفُّحه للخلف. ليس كثيرًا، ستة أشهر: نحن في مارس، لقد عاد في أكتوبر الماضي وهنا يتوقَّف سلامة بمزيدٍ من الانتباه. في هذه المرحلة، أنا من الخلف ألاحظ شيئًا مُميزًا بين الكتابات بلُغاتٍ أجنبية مُختلفة: انظري! مدرج موسيقي! هل يُمكن أن يكون هو؟
– نعم، بالطبع، يُمكن أن يكون …
أقترب وترتجِف قشعريرة في ظهري بينما أضيع في ذلك الخط من الحبر، وأتخيَّل حبيبي مُنحنيًا على تلك الورقة نفسها قبل أقل من ستة أشهر. مفتاح صول ومقطع قصير من المدرج الموسيقي. نغمة واحدة فقط، مُكررة: صول.
أنا في طريق مسدود. ما الذي سأفعله بنغمة واحدة، مع كل الاحترام للموسيقى ومُتعة رؤية علامة حياة؟
أُكررها تقريبًا بيني وبين نفسي بحثًا عن مفتاح للقراءة. يُردد الشاب الواقف في مكتب الاستقبال وهو يسمعني أُكرر «صول»، وهو يلحِّن ويتحرك خطوات راقصة:
يُغني ويرقص ثم يسألني: هل تتحدَّثين الإسبانية؟
هذا هو المفتاح إذن! إل صول! الشمس! الجد كريم حيَّاني مُخاطبًا إياي ﺑ «شمس» وقال إنه كان ينتظرني!
•••
هنا يُصبح الأمر في غاية الخطورة، هنا ينتهي الأمر بزيادة توقُّعاتي وأخاطر غدًا بتلقِّي ضربة قوية، خيبة أمل القرن.