رسالة عشية يوم الكسوف
سيوة، ٢٥ مارس ٢٠٠٦
تلك الليلة التي قضيناها جالسين على السور الأبيض في القرية بعيدة جدًّا الآن، ومع ذلك فهي صورة لا تتزعزع؛ فهي ذكرى جميلة. ما الذي سأفعله بكل هذه الذكريات إذا كنَّا سنبقى إلى الأبد في أبعادٍ مختلفة؟
هل الذكريات حقًّا بهذه القيمة؟
لم أعُد شابة كما كنتُ في تلك الفترة، لكنني الشخص نفسه الذي يؤمِن بقوة المشاعر فوق كل مسافةٍ زمانية ومكانية، لكن في لحظاتٍ كهذه يبدو الأمر كما لو أن رياحًا قوية تُطيِّر بعيدًا، بشكلٍ مُربك، كلَّ المعنى الذي أجمعه في كل مرةٍ لتقبُّل حدود الأشياء ولأبنيَ آمالي. أجد المعنى دائمًا، لأنني لا أُحِب عدم التوازُن، لكن في بعض الأحيان تصِل إلى ذهني ومضاتٌ مثل ومضة الليلة، بينما أنا مُطلَّة على الشرفة، وكل شيءٍ يتطاير بعيدًا.
ما الفائدة من الانتظار طويلًا باسم حُب مُرتبط بلا شيء ملموس سوى الذكريات؟ ما الفائدة من قطع كل هذه المسافة عندما تكون المجازفة شديدةً، لدرجة أنني أُخاطر بأكبر خيبة أملٍ في حياتي؟ هل مِن المنطقي أن أطرح هذه الأسئلة بينما قد تكون أنت ببساطة نسيتَ حتى وجودي؟ هل مِن المنطقي أن أكون أنا فقط في النهاية من لديَّ ذكريات بهذه القوة، إلى حدِّ أنها تُؤثر على حياتي العاطفية؟ والأهم من ذلك، أنني بنيتُ عليها فكرتي عن الحُب، وهي تلك الأعوام الأحد عشر الماضية ومُستقبلي أيضًا؟ هذه هي زرزورة. هذا هو عدم التوازُن الذي يضيق من حولي مثل رباطٍ يلتفُّ حول عنقي ببطء، ومن غير المنطقي أنك لا تعرِف حتى أنك هذا الرباط، كما أنني لم أعرف أنك أردتَ العودة إليَّ عندما كان كل شيءٍ ممكنًا.
رياح الصحراء القادرة على رفع جدران من الرمال وتحريك الكثبان الرملية الكبيرة كالجبال ربما جرفت كلَّ كلماتي عن الحُب دون أن تترك أثرًا لها. ظلال؟ لقد احتفظتُ حتى بالظلال. أومن بالناس وتقاطُع الأقدار، وإلا فما كنتُ هنا الآن، وأنا على يقينٍ مِن أن لقاءنا كان له معنًى على أي حال، ولكن ما هو؟
هل وثِقتَ بي لدرجة أن تتذكَّر وتؤمن وترغب في أن أكون هنا غدًا، في انتظارك؟ هل آمنتَ بتفرُّد ما شعرنا به بعضنا تجاه بعض على الرغم من أنني لم أردَّ أبدًا على تلك الرسالة؟
هل تُحبُّني كما أُحبك؟ سأعرف غدًا، على أي حال، غدًا، سأبدأ في العيش مرةً أخرى؛ معك أو بدونك.
سيكون إما نهارًا أو ليلًا، لكن الحياة ستمضي قدمًا. إن شاء الله.
اليوم هو ذلك اليوم. ذلك اليوم. لا أحد يعرف شيئًا، لا أحد يرى الكون كلَّه يضطرب بداخلي، الجميع ينظرون إلى الكون في السماء. هذا أفضل.
على الرغم من كل شيء، نمتُ بعُمق واستيقظتُ وأنا في حالة فرح، وأنا أسمع الضجيج الذي يتصاعد من الشارع. أطللتُ من الشرفة ورأيتُ حشدًا مُلونًا من الناس من جميع أنحاء العالم، مُسلَّحين جميعًا بمناظير وتلسكوبات وآلات تصوير وأدوات من جميع الأنواع.
لم يكن هناك كرسي فارغ في مطعم عبده. تناولتُ الإفطار وأنا واقفة، ولكن في غضون فترة قصيرة انتقل كل هذا الحشد المُتنوِّع إلى الصحراء، حيث وُضِعت بالفعل مُعظم المعدَّات، وجلستُ، غير قادرة على إدراك ما إذا كان الوقت قد توقَّف أو إذا بدأ في الجريان.
جاء سلامة وعلوش وسائق الميكروباص ليُنادوني، كانوا على متن سيارة جيب ملك ابن عم عبد الله. أشعر الآن بأنني تحت رحمة الأحداث.
موعد يبدو مُحددًا في سياق العالم كلِّه والسنوات، عندما نصل إلى النهاية، لا يكون كذلك على الإطلاق: في أي ساعة من ذلك اليوم؟ والأهم من ذلك، أين؟
•••
قرر أصدقائي الذهاب نحو «بير واحد» ووافقت، إنه المكان الأكثر أهمية، ربما. إنه المكان الذي قضينا فيه الليلة الأولى عندما أخذ بابلو بيدي. قررتُ ألا أُرهق نفسي بالتفكير. هناك الكثير من الناس، لا يُمكنني أن أبقى قلقةً بشأن النظر إلى كلِّ وجهٍ مُحاولةً أن أُحدق في عينَيه الفضيتَين. ما كان بإمكاني فعله، فعلتُه. الآن أسترخي كخشبٍ يطفو ويُهدهده التيار ويُحركه حتى أصل إلى شاطئي، أو الهاوية.
مُبهجة كالعادة الرحلة صعودًا وهبوطًا على الكثبان الرملية الذهبية المهيبة، قبل الوصول إلى عين الماء الفيروزية في بئر واحد. من المُستحيل ألا تضحك بصوتٍ عالٍ في المنحدرات، وألا تصمت مُتجمدًا في أكثر النقاط انحدارًا. خلف الكثيب الأخير، كانت الخيام والأشخاص مرئيِّين من بعيد. العديد من الخيام الصغيرة وواحدة، مُنفصلة عن الجميع، ولكنها مرئية بوضوح، كبيرة وجميلة. ردًّا على دهشتي، أوضح علوش أنها لا بد أن تكون لشخصٍ سعودي ثري جاء للاستمتاع بالكسوف.
لم يتبقَّ الكثير على اللقاء الأول، لحظة اختراق ظلِّ القمر الأسود للقُرص الشمسي. أودُّ الابتعاد عن الناس، على الرغم من أن لا شيء أكثر من هذا الذي على وشك أن يحدُث سيجعلنا جميعًا نشعر بأننا تحت نفس السماء اللانهائية: صغار، صغار جدًّا. أنا، سكان سيوة، هواة الفلك، السعودي الثري، خدَمه، نحن جميعًا حُبيبات رملية مجهرية تحت هذه السماء العظيمة التي يبدو أنها تبتلِعنا. لا يُمكنني التوقُّف عن التفكير في مدى سخافة أن نتحارب، وأن ننقسِم، وأن نتصادم، وأن نسخر بعضنا من بعض، وأن يُهمِّش بعضنا بعضًا، والأهم من ذلك أن نشعر بالتفوُّق على إخواننا، عندما يكفي أن تصعد إلى قمة كثيب وتنظُر إلى الأسفل لترى أننا لسنا سوى العديد من الخلايا الصغيرة المُتحركة في الكائن الحي نفسه، ضيوف كوكب رائع لدَيه مكان للجميع، لدَيه عطايا وعجائب لنا جميعًا، حُبيبات رمل صغيرة تشعر بأنها جبال.
•••
الآن الساعة ١١:٢٠. أستطيع أن أرى من خلال الزجاج الداكن الذي اشتريتُه أن اللقاء الأول بين الشمس وظِل القمر حدث في الوقت المُحدد. يُعجبني أن أقول بين الشمس والقمر … رسالة أخيرة إلى والديَّ وعمِّي ميكيله ونورا وفرانشيسكا، نفس الرسالة للجميع: «اقتربنا … أشعر أنني في مركز الكون»، ثم أُطفئ الجهاز اللوحي. أُطفئ. أصمت. حان وقت الصمت. حان وقتُ أن تخترق الروح ما هو خارق. حان وقت الاستماع إلى الله والاستمتاع بعمله، داخلنا وخارجنا.
وهكذا تحقَّق التحليق البطيء للقمر نحو الشمس دقيقةً بدقيقة، وسحرَني لدرجة أنني لم أعُد أعرف ما إذا كان ما أعيشه حقيقيًّا أم من نسج خيالي. بينما تنتظر الشمس القمر، كانت تحترق بقوة، حتى على رأسي المُغطَّى بكوفية بيضاء.
أحتسي الشاي البارد، كان له مذاق مختلف، مثل رائحة النجيل …
أعبث بالرمال الشديدة النعومة وغير الملموسة، شعرتُ بأنني جزء منها. قبل نصف ساعة من لحظة اللقاء الأولى، كان لون السماء قد تغيَّر بالفعل، وانخفضت الإضاءة. كان القمر يُغطِّيها جزئيًّا، وبدا الهواء مختلفًا، وتغيَّرت وتيرة الوقت.
في الساعة ١٢:٣٠ كانت السماء زرقاء كوبالتية، بدت غير طبيعية. أحاسيس قوية، يقينيَّات تبدو مُتزعزعة لتفسح المجال لجميع الاحتمالات، بما في ذلك الاحتمال الذي طال انتظاره لليل يتحقَّق في النهار، لمصيرٍ يتحقق وفقًا لرغبة سخيفة، ولكنها عميقة.
•••
تألقَت كعيونٍ لامعةٍ الزُّهرة والمريخ وعطارد وأكثر النجوم سطوعًا. شعرتُ بالفعل بأنني سكرى من الإثارة، لكن الدمعة الأولى نزلت عند الساعة ١٢:٣٩ عندما تركَ قوسُ الضوء، الذي أصبح رقيقًا للغاية، نقطةً واحدةً مُتلألئةً تتألق لثانيتَين لا نهاية لهما في الظلِّ الذي يزحف: هذا ما يُسمُّونه «خاتم الماس» وأعتقد أنه أكثر جوهرة لا تُحصى ولا يُمكن تصوُّرها، التي يُمكن أن تُهديها لامرأةٍ مُحبة.
في تلك اللحظة، التي تسبق لحظاتٍ قليلة من الكسوف الكُلي، اعتقدتُ أنني مُستسلمة للإيحاء، لأنني بدأتُ في الاستماع إلى صوت بيانو.
ليس مجرد موسيقى، ليس مجرد بيانو، ولكن ما يصِلُني، حتى لو كان صدًى بعيدًا، هو موسيقاي، اللحن الذي ألَّفَه بابلو من أجلي منذ سنوات عديدة. أعتقد أنه يخرج من عقلي نفسه، من شدة الشوق، من شدة الإثارة. لديَّ دافع للوقوف والنظر إلى الأسفل، حيث يُوجَد المخيَّم، لكن الآن حان «الموعد»، إنه الليل، إنه العناق الكامل بين القمر والشمس!
أسقط على الأرض جالسة، فمي مفتوح، والدموع تسيل على وجهي: تاج من النور يُحيط بالقُرص الأسود للعاشقين، أخيرًا معًا. الليل يُعانق النهار وموسيقى بابلو تُعانقني، كحجابٍ مُستحيل من القشعريرة والدموع.
خيوط الهالة تَراقَصُ كألسنة اللهب وتُرسَم تطريزات في السماء الزرقاء الداكنة. الأفق مُطرَّز بألوان الشفق الدافئة التي بقِيَت على الأرض، كضوء يتسرَّب من خشبة المسرح تحت المخمل الأزرق لستارة مُغلقة.
أقل من أربع دقائق لا تُطاق استمرَّت خلالها الموسيقى في التحليق إليَّ، تُعذِّب قلبي وكل حواسِّي كعاصفةٍ تهبُّ بشكلٍ غير مرئي في لحظة بلا زمن وبلا يقين.
مع ظهور الشمس مرة أخرى من بين الحشود المُجتمعة في بئر واحد، يرتفع تصفيق مُؤثِّر لا يُغطِّي الموسيقى. الآن بعد أن أصبحتُ قادرة على رؤية أين أضع قدمي، حتى لو كان العرض مستمرًّا، أخذتُ أغراضي وأسرعتُ على طول جانب الكثيب للبحث، لأفهم … يجب أن يكون بابلو هناك، في مكانٍ ما، مع جهاز ستريو أو مُشغل أقراص مضغوطة، وإلا فمِن أين تأتي الموسيقى التي أنا مُتأكدة من سماعها؟ يبدو الأمر وكأنني أعيش للحظةٍ ما حدث في دار الأوبرا، لكنني لا أريد أن ينتهي الأمر كما حدث آنذاك، هذه المرة يجِب أن أجِدَه، يجب أن أراه! وتوقفتُ فجأة، حيث فوجئت بشيءٍ لم يكن موجودًا من قبل. أنا مُتأكدة تمامًا، قبل أن تُظلِم السماء لم يظهر أي شيءٍ من هذا القبيل على الرمال عند سفح كثيبي.
•••
إنها كتابة، مصنوعة من أوراق النخيل الطويلة الموضوعة لتشكيل الحروف. من الأعلى يُمكنني أن أُميِّز الكلمات بوضوح:
«ومنذ ذلك الحين أنا موجود لأنك موجود.
ومنذ ذلك الحين أنت موجود، أنا موجود، ونحن موجودان.
ومن أجل الحُب سأكون، ستكون، سنكون.»
(بابلو و) نيرودا
•••
لا، هذا كثير جدًّا على رأسي وقلبي. إنه كثير جدًّا، يجب أن أستعيد إحساسي بالواقع وأفهم أنني لا يُمكنني أن أُصدِّق كل هذا. وأفكر أنهم ربما خدَّروني. ربما خدَّروني، بالشاي. لا يُمكن أن يكون أيٌّ من هذا صحيحًا، لكنني أعود إلى الركض، يجب أن أصل إلى النهاية.
الرمال تبتلِع قدميَّ وتجعل نزولي صعبًا. أسقط، وأنهض، وأواصل الزحف، وأقف على قدمي، وأتلوَّى، وأصل إلى الأسفل كالمجنونة. درجة الحرارة، التي انخفضت قليلًا خلال الكسوف، عادت إلى الارتفاع والجو حارٌّ بالتأكيد. أحاول أن أفهم مصدر الموسيقى، التي تستمر، مُؤثِّرة، بينما تعابير وجوه الحاضرين هادئة، شِبه مسحورة.
في هذه المرحلة، يقع نظري على الخيمة البيضاء الكبيرة التي نسبناها إلى سعودي افتراضي. أذهب مباشرةً إلى هناك، وأثناء اقترابي، تُصبح الموسيقى أكثر وضوحًا وقوة. ترتجف ساقاي لكنني أشعر بكل قوة ذلك الكون الذي تخلَّلني للتو. أرفع الستارة التي أمام المدخل، وأجد نفسي أمام مشهد لم أتخيَّله أبدًا: بيانو كبير! بابلو كريم، يرتدي ملابس بيضاء، حُب حياتي موجود هنا، في وسط الصحراء، ويعزف على بيانو كبير حقيقي، لا يعلم أحد كيف تمكنوا من إحضاره إلى هنا!
لا بدَّ أن يكون هذا حلمًا، سرابًا، لأنه غير معقول. لا بد أنه تأثيرٌ من الارتباكِ الناتج عن الكسوف، ففي نهاية المطاف، عبر التاريخ، نُسِبت إلى هذه الظواهر أكثر التأثيرات تبايُنًا وكارثية، ربما أُصِبت بالجنون.
ومع ذلك، بابلو والبيانو موجودان هنا. يُمكنني أن أرى فيه علامات الزمن والنضج، لكن الجمال لم يتغيَّر. لا أعرف ما إذا كان عليَّ أن أتحدَّث أو أن أُناديه أو أن أستمرَّ في الاستماع إليه وهو يعزف، بينما يحاول عقلي أن يتصالح مع حواسِّي ومع قلبي المُضطرب. لكنه يرفع نظره، لقد رآني!
كم استرجعتُ، على مرِّ السنين، تلك النظرة الفضية!
أشعر أنني أكاد أفقد الوعي. وجهه أضاء، ووجهي اشتعل، وبقيَ الوتر غير مُكتمل بين المفاتيح، على الرغم من أنني ما زلتُ أسمع في داخلي ذلك اللحن الشديد العذوبة. ينهض من مقعده ويتقدَّم على ألواح الخشب التي تُشكِّل منصةً للآلة، ثم يتوقَّف على بُعد خطوة مني: مايا … إذن صحيح أن النهار والليل يُمكن أن يلتقِيا!
– نعم، لكن الكسوف يستمرُّ بضع دقائق فقط، لن أدعك تذهب هذه المرة، حتى لو كلَّف ذلك شفقًا أبديًّا!
حيثما استطاعت الموسيقى، حيثما استطاعت القصيدة والطبيعة، لا يُمكن لأي كلمةٍ أن تقول ما يكفي. وهكذا نتعانق بقوة، بكل الحُب المكبوت في القلب لسنوات، مع الرغبة في عدم ترك قبضة اللمس التي تجعلنا أخيرًا شيئًا واحدًا، ليس فقط في القلب والذكريات المباركة، ولكن أيضًا جسديًّا. تعود المفاتيح البيضاء والسوداء لأصابعنا للبحث بعضها عن بعض والتشابُك، وتتداخل الأنفاس وتُخصِّب دموع الفرح صحراء حياتنا القديمة، المُقدَّر لها الآن أن تُصبح واحة مُزدهرة.
•••
– بابلو، رسالتك … لم أحصل عليها في وقتها، سامحني إن لم أرد عليك، كان ذلك خطأ ميدو! حتى آنذاك كنتُ سأقول لك إنني أُحبك وأريدك بجانبي!
– حقًّا؟ ميدو؟ لهذا السبب لم تردِّي؟ لكن قولي لي الحقيقة، أريد أن أسمعها منك: هل أتيتِ من أجلي؟ من أجل أسطورة النهار والليل؟ هل تُحبينني يا مايا؟ هل ما زلتِ تستطيعين أن تُحبيني؟
– لم أتوقَّف أبدًا عن حُبك ولن أفعل ذلك إلى الأبد. أتيتُ لاستعادة حياتي، على أمل أن تكون جزءًا منها أيضًا. أرغب في الحاضر والمستقبل، لقد تمسكتُ بالماضي لسنواتٍ طويلة جدًّا! حان وقت التطلُّع إلى الأمام. معًا!
لا تُرخَى قبضة العناق، ولا تتوقَّف القبلات بين الكلمات، وفجأة يبدو أن كل تلك السنوات لم تكن سوى دقائق، رمل بين الأصابع. للحُب أوقاته الخاصة. ليس مبكرًا أبدًا للقاء جديد. ليس متأخرًا أبدًا. قبلة واحدة تُبيد أيام الانتظار، وأيام الانتظار تشتاق لمزيدٍ من قبلات مَن ينتظر. هكذا هو الأمر، إنه إعصار، زوبعة، قوة قادرة على كل شيء. صحراء يجِب ملؤها، معجزة يجِب تحقيقها. نحن هنا. المنطق لم يكن ليُريد ذلك: الحقائق تقول إن تلك الرابطة لم تعُد تجمعنا. القلب، الذي يتحدَّث لُغته الخاصة والذي يبدو الآن أنه سينفجر، اعتمد على النجوم ودوراتها ونحن هنا، حيث بدأ كل شيء، حيث اصطفَّت النجوم ذات يوم بطريقةٍ سمحت بلقاءٍ بين شابَّين ينتميان إلى عالَمَين بعيدَين، كالنهار والليل.
والآن؟ الآن أرغب في أن أصرخ للعالم بأنني أُولَد من جديد، كما يصرخ طفلٌ يولد.
– لنبقَ هنا، اعزف لي مرةً أخرى، لنبقَ في بئر واحد حتى الغد، لنحبس أنفاسنا قبل العودة إلى العالم … أريد أن أعرف كل شيءٍ عن هذه السنوات، أريد أن أعرف من أصبح الرجل الذي أُحبه.
– نعم، مايا. نعم. أريد أن أستعيد كل لحظةٍ ضائعة بعيدًا عنك.
توقَّف الزمن على الرغم من أن السماء غيرت لونها مرةً أخرى ومن الأزرق أصبحت وردية، ثم برتقالية، بنفسجية، زرقاء، سوداء، مُرصَّعة بالنجوم، سامية، ثم حمراء، صفراء وسماوية، لامعة، مُبهرة، كالحُب الذي تعتقِد أنه ضاع وتجِده، طازجًا، جديدًا، ولكنه قديم، كالسماء عند كل فجر.
– مرحبًا، نورا … هل تسمعينني؟ أهلًا يا صديقتي، هل تعلمين مع من أنا؟ نعم. مع بابلو!
تضحك نورا بصوتٍ عالٍ من الفرح وتترك كلماتها تنزلق بالعربية تعبر عن السعادة وتُبارك لنا.
– لقد فعلناها، يا صديقتي! أترَين؟ القدَر يفعل ما يريد، ولكنه يتحقَّق في النهاية! أخبريني، وماذا عن الكسوف؟ هل كان هناك؟ هل رأيتم بعضكما هناك؟
– بالطبع، يجِب أن أُخبركِ بكلِّ شيء، لقد كان الأمر يفوق كل تصوُّر.
– حسنًا! وأنا التي لم أسمع أخبارك بالأمس، خشيتُ أن تكوني مُحبطة وحزينة للغاية لدرجة أنكِ لا تستطيعين الكلام … يا للسعادة يا مايا، كم أنا سعيدة! متى ستعودين إلى القاهرة؟ هل سيأتي هو أيضًا؟
– سوف نُنظم الأمر الآن، ثم سأخبرك، لا تقلقي.
– آه! بالمناسبة! لقد بحثتْ عنكِ الليدي شيرلي، أرادت معرفة أخبارك، وأخبرتُها أنكِ في سيوة.
– كانت تعلم أنني سآتي إلى سيوة، ربما أرادت أن تعرِف ما إذا كان اللقاء قد تم، يا لها من سيدة لطيفة …
– نعم، بالفعل. كانت محادثة لطيفة، إنها ودودة للغاية!
– يا لها مِن شخصٍ رائع حقًّا! اصنعي لي هذا المعروف يا نورا: اتصلي بها وأخبريها أن بابلو قد جاء وأننا أخيرًا معًا، أعلم أنها ستكون سعيدةً بذلك، والأشياء الجميلة يجِب مشاركتها، أليس كذلك؟
– بالتأكيد، سأتَّصل بها على الفور، وإذا عدتِ إلى القاهرة قبل أن تُغادر، سندعوها وزوجها لتناول الغداء عندي، أليس كذلك؟
– نعم! بكل سرور! سأُخبركِ نورا، شكرًا لكِ على كل شيء.
– مع السلامة يا جميلة، شكرًا لكِ على هذه السعادة.
رسالة نصية إلى فرانشيسكا، واحدة إلى أُمي وواحدة إلى العم ميكيله: «جهِّزوا الشمبانيا، لأننا سنحتفِل بمجرد عودتي! أنا سعيدةٌ بجنون! سعيدة وعاشقة».
اتصل بابلو بوالدَيه، مبتهجًا، وأشعر بالتأثر عند سماعُه يتحدث عني مع عمر وآنا، اللذين يبدو أنني أعرفهما منذ مدة طويلة. يبدو أننا بالإضافة إلى مشاركة فرحتنا مع مَن يعرف كم تمنَّيناها، نبحث عن تأكيدات للواقع، لأن كل شيءٍ جميل لدرجةٍ يصعب تصديقها.
نعود إلى القرية، يُحيِّينا الجميع بابتسامات عريضة. الجميع يعلم. أولئك الذين ساعدوا بابلو في تجهيز الخيمة، وحمل البيانو، وكتابة اللافتة من أوراق الشجر، شاركوا الانتظار في صمت، لكنهم كشفوا بعد ذلك وحكوا. فقط أولئك القلائل يعرفون، من بينهم أسامة، وقد تم تجنيدهم في الإسكندرية. وصلوا في الصباح نفسه مع بابلو. لم أقابل أسامة، للأسف. لو لم أكن حاضرة، لكانوا سيُخفون كل شيءٍ في غضون دقائق قليلة وسيختفي بابلو دون حتى أن يُعلِم جدَّه بأنه كان في سيوة.
لكن الجدَّ كان يعلم ذلك على أي حال. نذهب بسرعة إليه الآن، وهو ينتظرنا. ينتظرنا منذ الأمس. يُعانقه بابلو بقوة وينظر إلينا مُتأثرًا ويقول: «الآن يُمكنني أن أموت في سلام!»
– لا، يا جدِّي، الآن ستتمكن من العيش بسلام، وحاول أن تعيش طويلًا، فالأشياء الجميلة بدأت للتو، أليس كذلك يا مايا؟
– كان يعلم كلَّ شيءٍ يا بابلو، كان يعلم ذلك منذ اليوم الأول … ويتَّجِه نظري إلى الكوب الأزرق، الموضوع جنبًا إلى جنبٍ مع كوبَين آخرين على الصينية فوق الطاولة في ظلِّ النخيل، ثم التمور الحمراء والبسكويت بالعسل. في الهواء رائحة القهوة والهيل: الجد كريم كان ينتظرنا، وأنا لم أعُد أتفاجأ.
– ابنك وزوجته يُسلِّمان عليك، تحدثتُ معهما منذ قليل. قالا لي أنْ أقول لكِ إنهما سيأتيان لزيارتكِ قريبًا جدًّا.
يُجيب الشيخ بهدوء: أعرف كيف أنتظر. انتظرتُ دائمًا. كلُّ شيءٍ يعود. عندما يكون الحُب هو المُحرك، كل شيء يعود.
أستمتعُ مع القهوة بالصفاء الذي يلوح في الأجواء ويتجسَّد في موسيقى بابلو التي تخرج من البيانو وتخترقنا وتجتاحنا كروحٍ خفيفة، ثم تُحلِّق وتنتشِر على أجنحة الهواء نحو القرية.
حان وقت الغروب تقريبًا، الآن، عندما نعود نحو شالي. تُضاء المصابيح، وتمتلئ الشوارع بالمسافرين الفلكيين الذين بقوا بعد الكسوف. يقترب مني وجهٌ مألوف، نعم، إنه هو بالتحديد! أمير! أمير، يا أمير الصحراء العزيز!
يجري نحوي مُشرقًا ويقول: سمعتُ الموسيقى، وفهمتُ أنه هنا وكنتُ أعرف أنكِ أيضًا هنا! ما أجمل رؤيتكما معًا بعد سنواتٍ طويلة! أشعر بصدقِه، أراه في عينَيه الزرقاوَين وفي العناق العفوي لبابلو: لقد فقدتَها ووجدتَها، زرزورة الخاصة بك، يا صديقي. لا تدع رمال العالم تُبعِدها عنك مرةً أخرى. بعض المعجزات لا تحدث مرتَين.
– لن يحدُث ذلك، كن متأكدًا.
يقول بابلو ذلك وهو يُمسِك بيدي بقوة.
– في بعض الأحيان يبدو لنا أنَّنا ارتكبنا أخطاءً كبيرة، خيارات خاطئة، ولكن الله يعلم أننا لم نكن مُستعدِّين وأن الحياة لا يزال يتعيَّن عليها أن تُعلِّمنا شيئًا مهمًّا. عند هذه النقطة، تُتاح الفرصة مرة أخرى.
– صديق حكيم، هذا صحيح. وماذا عنك؟ هل أنت مُستعدٌّ لزرزورة الخاصة بك؟
يبتسم أمير وينظر بعيدًا. عصفور أبيض وأسود يستقرُّ على كتفِه، يبدو أنه وصل من العدم: واحد من أولئك الذين يُسمُّونهم زرزور. ثم يُحلِّق ويختفي. تلتقي عيناي بعينَي أمير وأشعر بأنه يعرف أين هي. كنتُ أظن دائمًا أنه وجد زرزورة، لكنني لم أرَ هذه النظرة من قبل. أبقى عاجزة عن الكلام وأراها في تلك العينَين الشفافتَين والعميقتَين: أرى المدينة البيضاء التي تتألَّق بالذهب والأحجار الكريمة، والقباب اللامعة، والأقواس، والنوافير. أنا مُندهشة وغير مُصدِّقة. لا أعرف كم استمرَّت هذه الرؤية السحرية لكنها كانت رائعة. أُمسك بيد بابلو مرةً أخرى ودون حتى كلمة واحدة كشفنا نحن الثلاثة عن شيءٍ مُذهل ولن يخرج أبدًا من أفواهنا؛ سيبقى محفورًا في القلب.
– مرحبًا، نورا! أنا وبابلو سنُغادر غدًا صباحًا، وإذا سارت الأمور على ما يُرام سنكون في القاهرة مساءً. هل يُمكنه المبيت عندكِ أيضًا؟ ثم سنُرتِّب الأمور …
– بالطبع! ستجدون كل شيءٍ جاهزًا ويُمكنكم البقاء طوال الوقت الذي تريدونه.
نورا لطيفة ومُستعدَّة لاستقبالنا دائمًا. نُغادر الواحة حيث تعيش الملائكة، ولكن هناك الكثير منهم مُنتشرون في جميع أنحاء العالم وأعتقد أن نورا يُمكن تعريفها على أنها كذلك.
غربت الشمس بالفعل عندما وصلْنا مُرهقين إلى الزمالك. الحافلة التي انطلقت من ساحة سيوة تركتْنا في مرسى مطروح بعد رحلةٍ سلسة. كنتُ أعتبر هذه المدينة دائمًا نقطةً لتغيير الحافلات على طول طريقي من القاهرة إلى سيوة والعكس، دون التفكير في مدى روعة شواطئها البيضاء المُطلَّة على البحر الأبيض المتوسط. حسنًا، مع بابلو كان الأمر لحظة، لحظة خاطفة من النافذة حيث لمحتُ جزءًا من اللون الأزرق ضيقًا بين المنازل، في نهاية شارع. بمُجرد وصولنا إلى المحطة، قبل حتى أن نبحث عن الحافلة المُتجهة إلى الإسكندرية، استقللنا أول سيارة أُجرة وطلبْنا من السائق أن يُوصلنا إلى البحر. تركنا حقائبنا وأحذيتنا تحت قاربٍ مُقلوبٍ وبدأنا في الركض كالأطفال على الرمال. يا له من إحساسٍ بالحرية الجديدة، والحياة، والسعادة! كانت الشمس دافئةً لكن المياه المُتجمدة في أواخر مارس أوقفت جرياننا بمُجرَّد أن وصلتْ أقدامنا إلى الماء. تقدمتُ خطوة. أمسكَ بابلو بيدي ليمنعني.
– إنها باردة جدًّا. رئتاكِ …
– لكنَّني شفيتُ منذ سنوات!
لقد فاجأتني رقَّتُه وأثرَت فيَّ. مشينا طويلًا جنبًا إلى جنبٍ على الشاطئ، تاركين تلك اللمسة البلورية تصِل إلينا، واستنشقنا رائحة البحر، وشعرنا بأننا في منزلنا. استلقَينا على الرمال للاستماع إلى ذلك اللحن، للاستمتاع بتلك اللحظات المثالية. قد يبدو الأمر غير رومانسي، لكنَّ الجوع هو الذي أعادنا إلى الواقع. بعد أن استعدْنا حقائبنا، عُدنا إلى محطة الحافلات، واشترَينا فولًا وطعمية على طول الطريق. لحُسن الحظ، كانت هناك حافلة متجهة إلى الإسكندرية على وشْك المغادرة، فاستقللناها على الفور، سعداء، نضحك وأفواهنا مُمتلئة وأيدينا مُلطَّخة بالزيت!
من الإسكندرية، دون توقُّفٍ للتفكير أو استعادة الذكريات، ألقَينا بنفسينا بسرعة في أول حافلة صغيرة منطلقة نحو القاهرة. أشعر أخيرًا بأن ذلك الغلاف المصنوع من الذكريات الذي عزَلني عن العالم لسنواتٍ طويلة يتحطَّم وينزلق بعيدًا ليترك بشرةً جديدة تتنفَّس، قادرة على القشعريرة واللهب، متوقدة.