الخاتمة
من الأشياء الجميلة في هذه المدينة الكبيرة أنه في أي مكانٍ وفي أي وقتٍ يوجَد تاكسي مُستعدٌّ لخدمتك مقابل مبلغٍ قليل من المال. الوقت الذي تُضيعه ليس في انتظار وسيلة مواصلات، بل في عبور الشارع! يبدو أن حركة المرور في القاهرة لا تخضع لقواعد، أو على الأقل، لم أرَ أي قواعد من قبل: السيارات تسير مُطلِقةً أبواقها في كلِّ مسار وفي كل اتجاه، ويتداخل بعضها مع بعض، وتندفع، ويحتكُّ بعضها ببعض، وتُطلِق جميع أنواع الانبعاثات السامة والأصوات الرهيبة. يتطلَّب عبور الشارع شجاعةً ومبادرة وسرعة وبراعة ووقاحة أحيانًا. أنا لستُ مُتمكنة تمامًا من كل هذه الصفات، لذلك، على الرغم من السنوات التي قضيتُها في القاهرة، ما زلتُ أستغرق وقتًا طويلًا للوصول إلى الضفة الأخرى من الشارع، خاصة في وسط المدينة. عبور ميدان رمسيس الكبير، حيث تصِل وتغادر الحافلات الصغيرة، هو حقًّا عمل طويل وصعب. عبور الصحراء من سيوة إلى الساحل أمرٌ شاق، ولكن التنقُّل في القاهرة، خاصة في ساعاتِ الذروة، يُمكن اعتباره كذلك! هذه المرة أيضًا نجحنا! أضغط على جرس باب نورا، يسأل صوتها في جهاز الاتصال الداخلي من بالباب. «نحن، يا صديقتي!» أُعلن بفارغ الصبر. الباب مفتوح بالفعل، يستقبلنا البواب بلُطف ويُرحِّب بنا. نصعد إلى الطابق الخامس، الباب مُوارب. «هل يُمكن الدخول …؟»
•••
لا أُصدِّق ذلك، يا لها من مفاجأة! أجد نفسي أمام الوجه البشوش والمُشمس لليدي شيرلي العزيزة وهي تتقدَّم بأذرُع مفتوحة. بينما أُعانقها بمودة صادقة، أرى خلفها أنطونيو المُخلص ونورا. ثم شريف، وبابلو يُصافح بالفعل الرجال ويُعرِّف نفسه، لكن …
من المطبخ يخرج، مُترددًا، ميدو! أنفصل عن حضن شيرلي، وأنا في شدة الانفعال وأبقى لحظة بلا كلماتٍ وأنا أواجه الشخص الذي وجهتُ إليه أسوأ أفكاري في الآونة الأخيرة. أُحاول أن أفهم، أنظر إلى نورا، وهي تهزُّ كتفَيها بنظرة تطلُب العفو. لكن بابلو اقترب منه بالفعل ويُصافحه بكلتا يدَيه.
تكسر شيرلي الصمت: مايا، آمُل ألا يُزعجك غزوُنا. لقد أخبرَتْني نورا عن الرسالة وتخيلتُ مشاعركِ تجاه ميدو، غضبك واستياءك. ومع ذلك، كان يجب أن يكون الأمر هكذا بالضبط. أنتِ وبابلو كريم معًا أخيرًا. وكان يجب على ميدو أن يعرف ذلك. بحثت عنه نورا، وكان على وشك المغادرة إلى فرنسا مع عبءٍ كبيرٍ يَثقُل عليه.
تُتابع نورا: أخبرتُه أنكما عثرتما أحدكما على الآخر أخيرًا فلم يتوقَّف عن شكر الله والتعبير عن ارتياحه، لدرجة أنني فهمتُ مدى مُعاناته عندما أدرك ما تسبَّب فيه. لذلك دعوتُه، فأجَّلَ سفره للقائكما. في بعض الأحيان تُصلح الأمور نفسها، مثل الكوب الأزرق للجد كريم.
يُضيف بابلو بينما يُعانق ميدو الذي لم يستطع حبس دموعه: أجل مثل الجروح ومثل العلاقات. يُمسك بابلو وجهه بين يدَيه ويقول: لكنني أراكَ مُسنًّا، يا صديقي!
– لقد هرمتُ في هذا الأسبوع أكثر مما فعلتُ في عشر سنوات!
وينتهي التوتر، نضحك، نسترخي.
– ميدو، كيف تنوي سداد دينِك؟ مع الأخذ في الاعتبار أنني جنَّبتُكَ بالفعل لكمةً في أسنانك.
يُجيبني: أنا في انتظاركما في باريس! أنتِ وبابلو ضيفاي في باريس طوال المدة التي تُريدونها!
– دعوة مُغرية! يُمكن قبولها بالتأكيد!
– نورا وشريف، أنطونيو وشيرلي، هذا ينطبق عليكم أيضًا! أنا مدينٌ لكم بالكثير، لقد أدفأَتْ لفتَتُكم هذه قلبي المُتحجِّر منذ مدة طويلة جدًّا، والمتشكك دائمًا في قيمة العلاقات الإنسانية. أنتم لا تعرفون ماذا يعني كل هذا بالنسبة لي، حقًّا، شكرًا أيها الأصدقاء، سأكون أفضل، بفضلكم. شعرتُ بعبء الندم، وشعرتُ بفرحة المغفرة، والقبول، وشعرتُ بروحي تنتفض بعد أن اعتقدتُ أنني لا أملك روحًا، حيث انهمكت في العيش دون أن أرى الآخر حقًّا، دون أن أستمع، دون أن أتألَّم ودون أن أفرح. الآن فقط أُفكر في ابني وأعلم أنَّني لا أريدُه أن يكبر هكذا. ربما لم تكونوا مُستعدِّين لتكونوا معًا، لكنني بالتأكيد كنتُ أنا من يحتاج إلى هذا الدرس، يا شباب.
ثم تعود الدموع لتمتلئ بها عيناه.
أنا سعيدة.
تريد شيرلي تنظيم حفلٍ موسيقي خيري كبير في توسكانا وتودُّ أن يُحييَ بابلو الحفل. في صعيد مصر، تعرفتُ على راهبات يعتنينَ بالأطفال الأيتام ووعدتُ بمساعدتهن. هؤلاء هم أصدقائي.
أجري لأتحمم، فنحن جائعون!
•••
ارتديتُ فستاني الأجمل، الحريري الأزرق المُطرز بلآلئ صغيرة للغاية. أضواء القاهرة مُضاءة بالكامل الآن؛ الشموع المعطرة لنورا مُضاءة أيضًا على الشرفة مع الأرجوحة والياسمين. المائدة مُعدَّة. مِن هنا يُمكن رؤية النيل يُعانق جزيرة الزمالك، والأضواء تومِض على تلك المياه المُظلمة: النجوم لا تظهر هنا، لكنني أعلم أنها موجودة. الحُب يكون حتى دون رؤية، والإيمان يكون حتى دون معرفة، والذهاب إلى الجنة يكون حتى دون موت.
مايا العزيزة
أكتب إليكِ مِن جهاز الكمبيوتر الخاص بمكتبة «فيلييرو» بينما تساعد عمتكِ ميريام السيدة بوزولينو في اختيار رواية لتقديمها هدية لحفيدها.
إنه يوم ربيعي جميل هنا في سان جايتانو؛ الشمس تُدفئ ظهري وهو أمرٌ مُمتع حقًّا بعد الشتاء الطويل والشاق الذي مرَرْنا به للتو. لكن لا يُمكنني الشكوى، سواء لأن الأسوأ قد مضى، أو لأنني أُبارك سقطتي التي خلقتِ الظروف لذهابكِ إلى موعدكِ. لو لم يكن كلُّ ما حدث، بما في ذلك حديثي عن أمورك الخاصة مع أصدقاء المستشفى، لربما استمررتِ في التراخي والتخلِّي عن جزءٍ منكِ، ذلك الجزء المُتعطِّش للعالم والحياة والحب. يجب علينا دائمًا أن نجعل البذور التي تنثرها الحياة أمامنا تُؤتي ثمارها، حتى تلك التي تبدو نكباتٍ وصلبانًا، حتى لو بدت وكأنها حجارة حادة تُعيق الطريق. نحن أنفسنا بذور في حياة الآخرين ونحمِل إمكاناتٍ هائلة. لنُعطِ أفضل ما لدَينا، ولنؤمن، ولنُكرم هبة الحياة التي مُنحت لنا!
أنا سعيد. قريبًا سأضع قبعتي المصنوعة من القش وأنطلق إلى المنزل مُستندًا على عصا المشي التي، على الرغم من خطوتي غير المؤكدة، تمنحني هالةً أنيقة وأرستقراطية. كالعادة سأمرُّ على طول الشاطئ لأتبادل أطراف الحديث مع بحرنا، وسأُحيِّي رفاقي القدامى الجالسين أمام المقهى، وبعد الغداء سأجلس تحت شجرة الزيتون القديمة. نعم، تلك التي سقطتُ منها. يُمكنني أن أعتبرها بوابة كشفت لي صفحةً مُهمة عن معنى الحياة.
غدًا ستصل لورينا من قبرص مع صديقها رسام الوشوم، وأعتقد أنني سأُضطر إلى البدء في تسميته «صِهري»، حيث إنها قررت أن تُقدِّمه لنا كخطيبٍ لها. نعم، يبدو أنهما يرغبان في الزواج وربما ستكون هذه فرصةً للقاء حبيبك بابلو أيضًا، الذي يبدو أنني أعرفه منذ مدة طويلة!
لقد تحدَّى النهارُ والليلُ الكونَ لتعودا معًا.
وما هي الحياة إن لم تكن التعايش بين النهار والليل؟ النور والظلال، الفرح والحزن، الواحات الخضراء والصحراء …
الحُب هو المفتاح. الحُب هو الطريق والقوة للتغلُّب على كل تحدٍّ، بتواضُعٍ وشجاعة.
مايا العزيزة، لقد أبحرتِ على متن سفينة حياتكِ، أتمنَّى أن تكون الريح مُواتيةً لكِ والبحر هادئًا، هنا في مكتبنا، في «فيلييرو»، مكانك محفوظ دائمًا، لكن الرواية الأجمل بين هذه الرفوف أهديتِها لنا أنتِ.