خامسًا: الواجبات العقلية

لما كان العقل أساس النقل سواء قبل البعثة أو بعدها، تظهر الواجبات العقلية من طبيعة العقل؛ ومِنْ ثَمَّ كان الوجوب عقليًّا وليس عاديًّا يتم بجريان العادات وبتكرار المجريات.١ فماذا يعني الوجوب؟ إن تحليل اللغة المستعملة في التعبير يكشف مستويين؛ المستوى الإنساني حيث تكون فيه اللغة تعبيرًا عن موقفٍ إنساني ثم مستوًى إنساني أيضًا يقوم على ادَّعاء أن اللغة تُعبِّر عن موقفٍ غير إنساني، موقفٍ مطلقٍ مشخص.٢ ومِنْ ثَمَّ فالواجب ليس صفة لوجود مشخصٍ ضروري بل صفة لمعنًى إنساني، وجوب القيم وموضوعاتها واستحالة عدمها. ليس الوجود الضروري وجودًا صوريًّا ولا يتحدَّد بالاستحالة المنطقية ولا وجودًا ماديًّا يتحدد بالاستحالة الطبيعية، بل هو وجوبٌ إنساني يتحدد باستحالة غياب القيمة. الوجوب هو الباعث على الفعل والإحساس بالدعوة وتحقيق الرسالة. الوجوب هو الوجود، والوجود هو الوجوب.٣ يطلق الواجب إذن على مستوياتٍ أربعة: الأوَّل الواجب الإلهي بمعنى واجب الوجود، وهو افتراض وجود القيمة وجودًا موضوعيًّا ومشخصًا تعبيرًا عن وجودها الذاتي في الأفعال. الثاني الواجب الطبيعي بمعنى ضرورة الظواهر الطبيعية وحتمية قوانينها، وهو يقابل الوجوب الأوَّل. قد يتَّحدان معًا في وجوبٍ واحد كما هو الحال في وحدة الوجود أو قِدَم العالم، وقد ينفصلان في وجودَين مستقلَّين كما هو الحال في نظرية الخلق أو حدوث العالم. والثالث الواجب الإنساني، أي ما يترجح فعله على تركه بناءً على جلب المنافع ودفع المضار. وهي ليست الأفعال الطبيعية البدائية مثل شرب العطشان وأكل الجائع، سواء كان ذلك في هذا العالم أم في عالمٍ آخر، بل الأفعال الإرادية القصدية التي تكون نتيجة لممارسة الحرية. والرابع الواجب المنطقي الذي يؤدي وقوعه إلى أمرٍ محال أو انقلاب الشيء إلى ضده. ولما كان الوجوب في الطبيعة ضرورتها وحتمية قوانينها، والوجوب في العقل الضرورة المنطقية، بقي الوجوب بمعنى واجب الوجود، أي الله، والوجوب بمعنى الواجب الأخلاقي في الأفعال. وهما في الحقيقة وجوبٌ واحد ووجودٌ واحد. وليس الإشكال في الوجوب الطبيعي مثل الحجر الساقط أو وجوب الشمس أو الوجوب المنطقي وهو ما يلزم من فرض عدمه المحال، ولكن الإشكال في الوجوب الإلهي والوجوب الإنساني، في وجوب الله ووجوب القيمة، إلى أي حد يتحدان وإلى حد يتمايزان؟ وإن كان من الجائز أن يطلق الوجوب على الإنسان، فهل من الممكن إطلاقه على الله؟ ولما كان الوجوب الإنساني يتحدد بجلب المنافع ودفع المضار، فإنه لا يُطلَق على الله، فالله لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة عن نفسه. وإن فعل ذلك فإنما يفعله من خلال الشريعة لصالح الإنسان ومن خلال الوجوب الإنساني. فالغاية أساس الوجوب الإلهي أو الإنساني بناءً على تحقيق المصالح ودرء المفاسد من خلال تحقيق مقاصد الشريعة التي يتحدد فيها القصد الإلهي والقصد الإنساني، وإن كان الوجوب الإنساني يعني ما يستحق تاركه الذم، فذلك مستحيل في حق الله لأنه المالك والمتصرف. وإذا كان الوجوب يعني ما تركُه مخلٌّ بالحكمة، فإن ذلك أيضًا مستحيل على الله لأن أفعاله كلها حكمة ومصلحة. وإذا كان الوجوب يعني ما قدر الله على نفسه ألا يفعله ولا يتركه وإن كان تركه جائز فإنه أيضًا لا يجوز على الله لامتناع صدور خلافه عنه.٤ فالوجوب إذن إنسانيٌّ محض يتم من خلال الحرية والاختيار ومن خلال الترجيح والمقارنة بين البواعث قوة وغلبة. ليس المطلوب إذن المزايدة في الإيمان والتمحُّك بالألفاظ وتملق شعور العامة وإيمان البسطاء بأن هناك من يقول: «يجب على الله أن يفعل كذا!» وهو المجنون المأفون! فكيف يجوز أن يحكم العقل أو العاقل على الله أو الخالق؟ وكيف يوجب الله على نفسه بعد أن لم يزل غير موجب وكأنه كان مباحًا له أن يعذب؛ فأوجب على نفسه غير ذلك؟ وكيف يكون الله موجبًا ذلك على نفسه منذ الأزل وهو قول الدهرية؟ ليس الأمر في صياغة الألفاظ. فما من أحد يرضى أن يُقال يجب على الله، بل ولا حتى على الإنسان؛ فالوجوب من العقل ومن الطبيعة، من الحكمة ومن الأشياء، وجوب الحقائق العامة الذاتية وليس الوجوب الخارجي. وكأن المزايدة تهدف إلى استدعاء الشرطة وخفراء الدرك للقبض على المجرمين الخارجين على القانون الذين يُشكِّكون في سلطة الحاكم ويدبرون مؤامرة لقلب نظام الحكم.٥

(١) الخلق والتكليف

وأول الواجبات العقلية هما الخلق والتكليف. وهما إن بدوا لفظين إلا أنهما يدلان على واجبٍ عقليٍّ واحد هو التكليف. ولا تكليف بلا خلق؛ فالتكليف يتضمن الخلق بالضرورة. ولا يجوز أيضًا خلق بلا تكليف؛ لأن التكليف غاية الخلق، والخلق بلا تكليف خلق بلا غاية، وبالتالي يكون عبثًا. يستحيل إذن الخلق ابتداءً لمجرد الخلق، بلا غاية أو هدف وبلا تكليف.٦ الخلق بلا تكليف إنكار للغائية. وما الغاية من خلق غير مكلف وما الهدف منه؟ وكيف ينكر التعليل بالغائية، والتعليل أساس الشرع، والعلة الغائية عند القدماء هي العلة الفاعلة الحقة؟ لا تعود الفائدة على الله، وليس جلب المنافع لله ودرء المضار عنه. الفائدة للإنسان وجلب المنافع له ودرء المضار عنه.٧ فلا خلق بلا حرية وعقل وهما مدار التكليف. وإذا ما تمنى الإنسان أن يخلق في الجنة متنعِّمًا من غير ضرر وغم وألم، وإذا ما تمنى العقلاء أن يكونوا في هذا العالم عدمًا وأن يكونوا نسيًا منسيًّا أو أن لم يكونوا شيئًا، فإن ذلك إنكار للوجود وتمنٍّ للعدم ومحو للحياة وللإنسان، بل ولله؛ لأنه حينئذٍ لن يعرفه أحد. ويكون إلغاءً للوجود وتدميرًا للذات ونهاية لكل شيء ونتيجة للإحساس بالغثيان وبالعبث وباللاغائية واللاهدف. وقد يأتي ذلك نتيجة للأعمال السيئة التي يقترفها الإنسان، ونتيجة لعدم القيام بالواجب ولعدم إعمال الحرية والعقل. والكافر وحده هو الذي يقول: «يا ليتني كنت ترابًا»، ولكن المؤمن يجد ما وعده ربه حقًّا. ويتمنى الشهيد أن يُقتَل ويحيا ويقتل ويحيا حتى لا يحرم من لذة الشهادة. وقد يكون هذا التمني صورةً مجازية للإحساس بالمسئولية والتبعة والخوف من عدم تأديتها ومحاسبة النفس محاسبةً دقيقة، وذلك مثل: «ليتني ما ولدتني أمي». وكيف يأتي هذا الإحساس للأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين وهم أرباب الرسالات وأصحاب الدعوات؟٨ لا يعني وجوب الخلق إيجاب شيء على إرادةٍ مطلقة، بل الإيجاب في الحياة الإنسانية حفاظًا على عنصر الثبات فيه.
وقد يؤدي رفض الواجبات العقلية، أي الوجوب الإنساني، إلى صياغة الأمر المُطلق والحاكم المُطلق والسلطان المُطلق الذي لا يراجعه أحد. العدل في طاعته والجور في عصيانه. هو الذي يحدد مقياس العدل والظلم لا مراجعة عليه ولا قانون يخضع له.٩
ولا يجوز الخلق ثم تخلية العباد بلا تكليف.١٠ ولا يعني قول الكل بخلق الله وإرادته التكليف؛ فالتكليف جوهر الخلق، والخلق مرتكز على التكليف. الخلق مجرد إشارة إلى معنى، ودليل إلى مدلول. وما دام كل معلوم موجودًا فالتكليف هو السبيل لتحقيق العمل وتحويله إلى موجود. وفي التكليف لا يستوي الفعلان؛ لأن حرية استواء الطرفَين غير موجودة؛ نظرًا لوجود البواعث. وترجيح فعلٍ على آخر لا يمنع التكليف بل يؤكد حرية الاختيار وقدرة العقل على التمييز؛ لذلك يوجد تفاوت في الأفعال بين المثال والواقع أو بين العزيمة والرخصة كما يقول الأصوليون. ولذلك أيضًا كان موضوع الإيمان والعمل من موضوعات علم أصول الدين، وقد يكون التكليف أحد أسباب الترجيح عن طريق الفكرة الموجِّهة للفعل. لا يقع التكليف مع الفعل أو قبله، فتلك هي الاستطاعة. التكليف مقرون بالخلق. بمجرد الخلق يحدث التكليف؛ فالخلق تكليف. ليست القضية حجةً عقلية ووقوعًا في تناقضٍ منطقي، بل القضية تأسيس مشروعٍ إنسانيٍّ وجوديٍّ فعلي يشكل العقل فيه أحد الوسائل لتحقيق المشروع ولا يشكل نقيضًا له. الغرض من التكليف إظهار الحرية والعقل، فالخلق مشروع خلق، والوجود مشروع إيجاد. والتكليف هو هذا النداء للخلق من أجل ممارسة الحرية وإعمال العقل.١١
ومِنْ ثَمَّ كانت بعثة الرسل واجبة من أجل التكليف لعامة الناس.١٢ وإن أكثر حجج نفي التكليف مستمدة من الجبرية، مما يدل على أن التكليف مرتبط بحرية أفعال الإنسان. وإن كان الجبر نفيًا للتكليف فذلك لأن الله هو الذي يقوم بكل شيء، وبالخلق وبالتكليف وكأن الإنسان لا هدف له ولا غاية، مجرد موجودٍ كوني كالأرض والنبات والحيوان والأفلاك، مجرد زينة، وجود كغيره من الموجودات، لا ميزة له ولا فضيلة. وإذا ما أثبتت الجبرية جواز التكليف فإنها تمنع من بيان صفته. وهذا إنكار للعقل وقدرته على فهم الوحي. فالجبر إلغاء لحرية الأفعال ولقدرة العقل في آنٍ واحد. والمثل المشهور في تكليف أبي جهل وأبي لهب بالإيمان وهو معلوم أنه سيكفر؛ وبالتالي يبطل التكليف بنفي حرية الأفعال أساسًا ويجعل أفعال الإنسان كلها اضطرارية.١٣ إن تكليف أبي لهب كان لكونه مختارًا. والإخبار عنه بأنه لا يؤمن نتيجة للعلم وليس للإرادة. ولو حدث على خلاف العلم فليس ذلك انقلاب العلم جهلًا أو الجهل علمًا، بل لأن هناك حرية إرادةٍ إنسانية داخل الإرادة الإلهية وليس داخل العلم الإلهي. بالإضافة إلى أن علم الله علمٌ تجريبي يحدث بعد الوقائع. والحياة امتحان؛ ليعلم الله الفرق بين العاملين والمثبطين. والنسخ دليل على هذا الطابع البعدي للعلم الإلهي. ولما كان العبث على الله محالًا، فالعبث هو فعل ما لا فائدة منه وما لا عقل فيه، فيستحيل تكليف أبي جهل بالإيمان وهو يعلم أنه يكفر ويجبره على الكفر.
ليس الهدف من التكليف النعيم والثواب، بل أداء الرسالة وإظهار إمكانيات الوجود الإنساني في ممارسة الحرية وإعمال العقل.١٤ وليست الغاية من التكليف استحقاق التعظيم؛ لأن التفضيل بالتعظيم قبيح لأن الثواب ليس هدفًا إنما الغاية منه تأكيد الإنسانية وتحويلها من مشروعٍ ممكن إلى واقعٍ متحقِّق. قد يعني التعظيم إمكانية أن يتحول الإنسان إلى إله والقضاء على محدودية الإنسان بفعله، وبالتالي التشبه بالخالق والعودة إليه، فيصبح الخالق وكأن لا أحد معه كما كان. التكليف بهذا المعنى خطٌّ مقابل للخلق. فإذا كان الخلق حركة من الله إلى العالم، فإن التكليف يكون حركة من العالم إلى الله. ليس عيب التعظيم أنه يقوم على الحسن والقبح العقليين، بل عيبه أنه يربط الفعل بالجزاء وهو ربطٌ خارجي. نتيجة الأفعال مرتبطة بالأفعال ذاتها. بل إن غياب الاستحقاق لا يطعن في وجوب الفعل. وحدوث الضرر والمشقة والجهد والمعاناة قد يكون كل ذلك أحد مظاهر التحدي الإنساني وإقدامه على الفعل.١٥
التكليف نابع من طبيعة الإنسان، والوحي ما هو إلا تأكيد لها. ولا يوجد إنسان، والأَولى ألا يوجد نبي أو ولي، ويتمنى ألا يكون إنسانًا ذا رسالة، ويتمنى أن يكون جمادًا أو طبيعة. ولا يمكن أن يأتي الوحي إلا مؤيدًا للطبيعة. وفي إنكار الوحي للتكليف إنكار للوجود الإنساني. كيف يوجد إنسان بلا تكليف؟ ما دام الإنسان قد وُجد فرسالته توجد معه. ومن الذي سيقوم بتحقيق الوحي كنظامٍ مثالي للعالم؟ إن الفَرق بين الإنسان والجماد هو التكليف، أداء الرسالة والأمانة. وما دام الإنسان حرًّا عاقلًا فإنه يكون بالضرورة مكلَّفًا؛ لذلك يقرن الخلق بالتكليف، فيكون الوجوب للخلق والتكليف معًا. وجود الإنسان أداؤه رسالته.١٦ وماذا يعني العالم بلا خلق ولا تكليف؟ وكيف يُعرَف الله بلا خلق ولا تكليف؟ لا تُعرَف الذات إلا من ذاتٍ أخرى ترى في الذات الأولى نفسها كموضوع كما ترى الذات الأولى نفسها في الذات الثانية كموضوع، خروجًا من الوحدة الصورية الفارغة.١٧
والتكليف داخل في حدود الطاقة الإنسانية لأنه تعبير عن بذل الجهد، وبالتالي يستحيل تكليف ما لا يُطاق. وكيف يكون التكليف مجرد كلام من متكلم إلى آخر ليس له شرط إلا الفهم؟ ألا يتضمن الكلام طلبًا للفعل، والفعل في حاجة إلى قدرة واستطاعة؟ هل الوحي مجرد كلامٍ مفهوم وليس نداءً للفعل ونظامًا مثاليًّا للعالم يتحقق بقدرة الإنسان؟ التكليف قائم على فهم الخطاب وعلى بذل المجهود وليس مجرد فهمٍ نظري دون تحقق عملي. وإذا كان النقل أساس العقل، فإن حتى شرط الفهم لا يكون مطلوبًا. صحيح أن التكليف لغويًّا يكون من أعلى إلى أدنى، وأن الالتماس يكون من المثل، وأن الدعاء والسؤال يكونان من أدنى إلى أعلى، ولكن المسألة ليست علاقة أعلى بأدنى أو أدنى بأعلى أو مثل بمثله، بل التأكيد على وظيفة العقل وغاية الفعل وقدرة الإرادة دفاعًا عن الوجود؛ فالوجود نفسه مشروع إيجاد يثبت بالحرية والفعل. إن دعاءنا لله بألَّا يكلِّفنا ما لا طاقة لنا به قد تم تحقيقه بالفعل في فرض الصلوات الخمس وليس الخمسين، وفي الناسخ والمنسوخ والانتهاء إلى سماحة الشريعة والاعتراف بالتخفُّف والضعف والوهن. وهو ما وضعه علماء الأصول في قواعدَ معروفة باسم: «لا ضرر ولا ضرار»، «الضرورات تبيح المحظورات» … إلخ. وحجة تكليف إيمان أبي لهب في الجبر وتكليف ما لا يُطاق وهدم العقل. وكيف بواقعةٍ واحدة تكون أساسًا لعلم بأكمله وهو علم العقائد في العقليات، في أصلي التوحيد والعدل؟١٨ لا يجوز إذن تكليف ما لا يُطاق، لا فرق في ذلك بين تكليف العاصي الذي علم بعصيانه من قبلُ كما هو الحال في حال أبي لهب وأبي جهل، وبين تكليف يقوم على الجمع بين الضدَّين وقلب الحقائق أو التكليف بأمرٍ ممكن غير متعلق بالقدرة.١٩ إن تكليف ما لا يُطاق سفه وعبث، وكلاها قبيح يجب تركه. وإذا كانت الغاية من التكليف التحقيق، فكيف يتم التكليف بما لا يُطاق؟ وإذا كانت الغاية من التكليف تنفيذ الأحكام، فكيف يخرج الفعل عن حدود الطاقة؟٢٠

(٢) شُكر المنعم

قد يكون «شُكر المنعم» من الواجبات العقلية؛ فشكر المنعم حسن وعدم الشكر قبيح. ويظهر في مقدمات الأول الخمسة في الاعتزال مثل النظر.٢١ فالقصد من النعمة الإحسان؛ لذلك استوجبت الشكر. ولكن يبقى سؤال: هل الإنسان مُحسَن إليه؟ النعمة هي المنفعة أي اللذة والسرور، والمنفعة بها مصالح العباد أساس الشرع وليست هبة أو تفضُّلًا. وهي من الطبيعة وليست من إرادةٍ مشخصة. الشكر الوحيد هو تمثُّل الطبيعة أو معارضتها ونفيها ورفضها والتنكُّر لها. والاعتراف بالشكر لا يكون باللسان أو بالقلب بل بالعمل، والقلب عمل للشعور. العبادات أعمالٌ رمزية لا تكفي للشكر ولا تدل عليه؛ لأنها صورية بلا مضمون. إنما الأعمال المباشرة هي التي تفي بالشكر، الأعمال ذات المضمون التي تحقق رسالة الإنسان في الحياة. الأعمال شكر. والشكر الوحيد هو العمل وتأدية الواجب بصرف النظر عن إرضاء أحد في أن يحقق أوامر الله ونواهيه.٢٢ لا شكر ولا جحود، ولكن مجرد أداء الواجب وتحقيق الرسالة. ولا يمكن التوفيق بين الطاعة التي تكون شكرًا والطاعة التي تسعى لنيل الثواب، فهما فعلان متضادان. والنعم منها ما لا يقدر عليها إلا الله مثل الحياة والموت، ومنها ما يقدر عليها غيره مثل نعمة المعرفة ونعمة الجهاد. فإذا استوجبت الأولى الشكر؛ لأنها من فعل الغير فإن الثانية لا تستوجبه؛ لأنها من فعل الذات. وإذا كانت المنافع ثلاثة: التفضل وهو النفع الموصل إلى الغير أوَّلًا، والعوض وهو النفع المستحق لا على سبيل التعظيم والإجلال ثانيًا، والثواب وهو النفع المستحق على سبيل الإجلال والتعظيم ثالثًا، فإن الشكر يكون في الأوَّل فقط، أي في التفضل ابتداءً ولا يكون في العوض والثواب لأنهما استحقاق. الشكر إذن إحدى صور الاستحقاق، أي ربط الإنسان بغيره بقانون متبادل لأداء الحقوق المتبادلة. إن الحقائق موجودة في الطبيعة والشكر إسقاطٌ إنساني عليها وخلط بين الحقائق الطبيعية الضرورية والمعاملات الإنسانية الحرة. إذا كانت نعم الله ابتداءً تستوجب الشكر، فإن نعمه التي تتم بجهد الإنسان وفعله نتيجةٌ طبيعية للعمل. وكيف يكون الشكر وهو قليل على نعمٍ كثيرةٍ متجددة لا يمكن استيفاء حقها من الشكر؟٢٣ وكيف يتم الشكر على أداء الواجب وفي الأمثال العامية: «لا شكر على واجب»؟ وإذا كان الشكر لطلب الثناء وتجنب العقاب، فكيف لا يقع الشاكر في التملق؛ تملق طرف واقتضاء من طرفٍ آخر؟ وإذا كان الشكر ليس فقط للنعم بل للتوفيق، فإن الإنسان سيتحول من كونه فاعلًا إلى كونه شاكرًا، يلهث لسانه بالحمد والشكر، ويصبح صوفيًّا ذليلًا أسير النعمة، ويتحول موقف الإنسان في العالم من موقف الفاعل إلى موقف المستجدي والسائل أو الشاكر والحامد. ويصبح الشكر بديلًا عن الفعل بل وقضاءً عليه وقبولًا للأفعال الخارجية خيرها وشرها، فما على الإنسان إلا الشكر. إن تعارض الخاطران، أحدهما بالشكر والآخر بعدم الشكر يجعل كليهما واردَين في السلوك الإنساني.٢٤ وكون الشكر عادةً لا يعني غياب أي أساسٍ عقلي له؛ فاختلاف العادات لا يعني اختلاف معانيها. التجربة الإنسانية واحدة بالرغم من اختلاف ظروفها.٢٥ إن إنكار الشكر قد يضع الإنسان أيضًا في علاقةٍ آلية مع الغير ومع مبادئه، ويتحول إلى مجرد آلة لتنفيذ الأحكام. وقد يحتاج الإنسان أحيانًا إلى الاعتراف بالفضل والجميل كنوع من الاعتراف بالحق تقويةً للعزيمة واستمرارًا للفعل الحر؛ لذلك لا تُثار القضية في الجبر لأن الله خلق العالم اضطرارًا لا لغرض، جلب نفع أو دفع ضرر، وكأن الله خلقه بلا غاية منه أو فيه.
١  حاشية الكلنبوي، ص١٨٦-١٨٧، ص٢٠٦.
٢  وقد لاحظ ذلك الغزالي قائلًا: وجملة هذه الدعاوى (الواجبات العقلية) تنبني على البحث عن معنى الواجب والحسن والقبيح. ولقد خاض الخائضون فيه وطوَّلوا القول في أن العقل هل يحسن ويقبح وهل يوجب دائمًا؟ كثر الخبط لأنهم لم يحصلوا معنى هذه الألفاظ واختلافات الاصطلاحات فيها. وكيف يخاطب خصمان في أن العقل واجب أم غير واجب، وهما بعدُ لم يفهما معنى الواجب فهمًا محصلًا متفقًا عليه فيما بينهما. فلنقدم البحث عن الاصطلاحات. ولا بد من الوقوف على معنى ستة ألفاظ هي: الواجب، والحسن، والقبيح، والعبث، والسفه، والحكمة. فإن هذه الألفاظ مشتركة ومثار الأغاليط إجمالها. والوجه في أمثال هذه المباحث أن نطرح الألفاظ وتحصل المعاني في العقل بعباراتٍ أخرى ثم نلفت إلى الألفاظ التي تم البحث عنها وننظر إلى تفاوت الاصطلاحات فيها (الاقتصاد، ٨٤).
٣  أمَّا الواجب فيطلق على فعل لا محالة، ويطلق على القديم أنه واجب، وعلى الشمس إذا غربت أنها واجبة (الاقتصاد، ص٨٤-٨٥).
٤  شرح الدواني، ص١٨٥–١٨٩.
٥  في مسائل لأبي علي الجبائي رئيس المعتزلة وابن رئيسهم كلام يردد فيه كثيرًا دون حياء ولا رهبة: «يجب على الله أن يفعل كذا»، وكأنه المجنون يخبر عن نفسه أو عن رجل من عرض الناس. فليت شعري أما كان له عقل أو حس يسائل به نفسه فيقول ليت شعري مَن أوجب على الله هذا الذي قضى بوجوب عليه. ولا بد لكل وجوب وإيجاب من موجب ضرورة وإلا كان يكون فعلًا لا فاعل له وهذا كفر مما أجازه … ولا يمانع بين جميع المعتزلة في إطلاق هذا الجنون مع أنه يجب على الله أن يفعل كذا أو يلزمه أن يفعل كذا فاعجبوا لهذا الكفر المحض. (الفصل، ج٣، ص٧٦).
٦  هذا هو موقف الأشاعرة ويشاركهم فيه بعض المعتزلة؟ في أن ابتداء الخلق غير واجب (الأصلح، ص١١٠–١١٥). وقد اختلف المعتزلة هل يجوز أن يبتدئ الله الخلق في الجنة ويبتدئهم بالتفضل ولا يعرضهم لمنزلة الثواب ولا يكلفهم شيئًا من المعرفة ويضطرهم إلى معرفة (مقالات، ج١، ص٢٨٩).
٧  الواجب ما ينال تاركَه ضرر إمَّا عاجلًا وإمَّا آجلًا أو يكون نقيضه محال. والضرر محال في حق الله. وليس في ترك التكليف وترك الخلق لزوم محال … إن قيل: إنما يجب عليه ذلك لفائدة الخلق لا لفائدة الخلق؛ قلنا: الكلام في قولكم لفائدة الخالق للتعليل والحكم المعلل هو الوجوب. ونحن نطالب بفهم الحكم ولا يعنينا ذكر العلة …! (الاقتصاد، ص٩١-٩٢).
٨  نُقل عن الأنبياء والأولياء والعقلاء قولهم: «ليتني كنت تبنة رفعها من الأرض، ليتني كنت ذلك الطائر.» وكل عاقل إذا راجع نفسه بين الوجود واللاوجود فإنه يود لو أنه لم يكن موجودًا لما أُعِدَّ له في الأولى والعقبى؛ ولهذا نُقل عن الأنبياء المرسلين والأولياء الصالحين التكرُّه لذلك والتبرم به حتى إن بعضهم قال: «يا ليتني كنت نسيًا منسيًّا، يا ليتني لم تلدني أمي، يا ليتني لم أكُ شيئًا» (الغاية، ص٢٢٧).
٩  لا واجب عقلًا على العبد أو الله (الإرشاد، ص٢٦٨). نفس الإيجاب على الله، لا يجب عليه شيء، توجه الأمر عليه محال إجماعًا لأنه الآمر، ولا يتعلق به أمر غيره (الإرشاد، ص٢٧١). الرب مخترع المخترعات فلا خالق سواه. وما يكتسبه العبد من خلق الله فلا معنى إذن في دلالة العقل على وجوب شيء على العبد مع استحالة إيقاعه إياه (الإرشاد، ص٢٧١). العقل لا يوجب شيئًا. قال أصحابنا: الواجبات كلها معلومة بالشرع (الأصول، ص٢٦٣). إن العبد لا يجب عليه شيء بالعقل بل بالشرع (الاقتصاد، ص٨٤). يقول ابن حزم: كل ما فعل أو يفعل أي شيء كان فهو العدل والحق والحكمة والحقيقة. لا شك في ذلك وأنه لا جور إلا ما سمَّاه الله جورًا. وهو ما ظهر في عصيان عباده من الجن والإنس مما خالف أمره، وهو خالقه فيهم كما شاء (الفِصَل، ج٣، ص٩٩-١٠٠). وكذلك شكر المنعم وإثابة المطيع وعقاب العاصي، يجب بالسمع دون العقل ولا يجب على الله شيء ما بالعقل لا بالصلاح ولا الأصلح ولا اللطف، وكل ما يقتضيه العقل من الحكمة الموجبة فيقتضي نقيضه من وجهٍ آخر (الملل، ج١، ص١٥٤-١٥٥).
١٠  في أن التكليف المبتدأ غير واجب (الأصلح، ص١١٥–١٢٠). في أن تكليف العاقل لا يجب من حيث حصل عاقلًا له (الأصلح، ص١٢١–١٢٦). قد يجوز منه أن يجعل عاقلًا ولا يكلفه المعرفة بأن يضطره إلى العلم به فيما يختص ذاته وفعله وإلى شكره على نعمه، ويُلجِئه إلى ألا يفعل القبيح بأن يعلمه أنه لو رامه لمنع عنه وجعل بينه وبينه (الأصل، ص١٢٦–١٣٧). وعند أهل السنة يجوز تخلية العباد عن التكليف (الأصول، ص١٤٩). وأصل التكليف لم يكن واجبًا على الله إذ لم يرجع إليه نفع ولا اندفع به عنه ضرر (الملل، ج١، ص١٥٤-١٥٥).
١١  احتجَّ نُفاة التكليف بأمورٍ أربعة: (أ) إذا كان الكل بخلقه وإرادته ففيم التكليف؟ وعند المعتزلة: ما كان معلوم الوجود فهو واجب الوقوع، وما كان معلوم العدم فهو ممتنع الوجود. (ب) التكليف عند استواء الداعين محال أو يمتنع الفعل، وعند الرجحان فالراجح واجب والمرجوح ممتنع؛ ففيم التكليف؟ (ج) إن وقع التكليف حال حصول الفعل فمحال وإن وجد قبل محال؛ لأن الفعل يعني حصول المقدور. (د) إن لم يكن الأمر بالفعل الشاق غرضًا فهو عيب وغير جائز على الحكيم (المحصل، ص١٥٠).
١٢  عند الأشاعرة لا يجب على الله بعثة الرسل، وأنه لو بعث لم يكن قبيحًا ولا محالًا، بل أمكن إظهار صدقهم بالمعجزة (الاقتصاد، ص٨٤). لا يجب على الله شيء خلافًا للمعتزلة (المحصل، ص١٤٠–١٥٠). في جواز تخلية العباد عن التكليف (الشرح، ص١٣٠–١٥٢). لا يجب على الله شيء (النظامية، ص٤٠–٥٠). وأنه تعالى لا يجب على الله شيء؛ إذ لا حاكم عليه (الطوالع، ص١٨٩–١٩٨). ندعي أنه يجوز ألا يكلف الله عباده (الاقتصاد، ص٨٣). ندعي أنه يجوز لله ألَّا يخلق وإذا خلق فلم يكن ذلك واجبًا عليه وإذا خلقهم فله ألَّا يكلفهم، وإذا كلفهم فلم يكن ذلك واجبًا عليه (الاقتصاد، ص٩١-٩٢). وقد منعنا تحسين العقل وتقبيحه عند البصريين، وأوضحنا أنه لا واجب على الله (الإرشاد، ص٢٩٥). وعند أهل السنة أن الله لو لم يكلف عباده شيئًا كان عدلًا منه. وهذا خلاف قول القدرية أنه لو لم يكلفهم لم يكن حكيمًا. وقالوا: لو زاد في تكليف العباد على ما كلفهم أو نقص بعض ما كلفهم كان جائزًا على خلاف قول من أبى ذلك من القدرية. وكذلك لو لم يخلق لم يلزمه بذلك خروج عن الحكمة وكان السابق حينئذٍ في علمه أنه لا يخلق. وقالوا: لو خلق الله الجمادات دون الأحياء جاز ذلك منه على خلاف قول القدرية أنه لو لم يخلق الأحياء لم يكن حكيمًا. وقالوا: لو خلق الله عباده كلهم في الجنة لكان ذلك فضلًا منه، خلاف قول القدرية أنه لو فعل ذلك لم يكن حكيمًا (الفِرَق، ص٣٤١-٣٤٢؛ الأصلح، ص١٣٧–١٤٠).
١٣  تعتمد شُبه المجبرة على استحالة تجويز التكليف للعبد وعدم بيان صفة ما كلفه (الشرح، ص٥٠٧–٥٠٩). إنكار التكليف بحجة أن العبد مجبور فيقبح تكليفه ولأنه لو عري عن الغرض كان عبثًا فيقبح، وإن كان لغرض فذلك الغرض لا يكون له لتعاليه ولا لغيره فإنه قادر على تحصيله ابتداءً فيقبح التكليف (التحقيق، ص١٥١-١٥٢). ويقول القاضي إن تكليف أبي لهب كان من حيث كونه مختارًا، والأخبار عنه بأنه لا يؤمن من حيث العلم، والعلم لا ينافي الاختيار (الشرح، ص١٤٧-١٤٨). إن قصة أبي جهل لا احتجاج بها، فإن ما كلفه به ممكن في نفسه ومتمكن منه بكونه مقدورًا له، فلم يكن ما أوجدناه من التمكين غير واقع ولا متصوَّر (الغاية، ص٢٣٣، ص٢٤٥؛ الشرح، ص٥١١–٥١٨؛ الاقتصاد، ص٩٣-٩٤).
١٤  عند فريق من المعتزلة لا يجوز أن يبدأ الله الخلق في الجنة ويتفضل عليهم بالملذات دون الأذَوات؛ لأن الله لا يجوز في حكمته أن يعرض عباده إلا لأعلى المنازل، وأعلى المنازل منزلة الثواب. لا يجوز ألا يكلفهم الله المعرفة، ويستحيل أن يكونوا إليها مضطرين. فلو لم يكونوا بها مأمورين لكان الله قد أباح لهم الجهل به وذلك خروج عن الحكمة.
١٥  قالت طائفة من المعتزلة يجب عليه الخلق والتكليف بعد الخلق (المحصل، ص١٤٩-١٥٠؛ الطوالع، ص١٩٧-١٩٨؛ المطالع، ١٩٨).
١٦  هذا هو معنى الآية المشهورة: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (٣٣: ٧٢)، وهو أيضًا معنى خلافة الإنسان لله في الأرض: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (٢: ٣٠)، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (٢٤: ٥٥)، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ (٦: ١٣٣)، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا (١١: ٥٧)، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (٢٤: ٥٥)، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ (٦: ١٦٥)، (٣٥: ٣٩)، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ (١٠: ١٤)، (١٠: ٧٣)، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ (٢٧: ٦٢).
١٧  هذا هو معنى الحديث القدسي المشهور الذي يُردِّده الصوفية: «كنت كنزًا مخفيًّا، فأحببت أن أُعرَف، فخلقت الخلق فبه عرفوني».
١٨  عند الأشاعرة لا يمتنع تكليف ما لا يُطاق … تكليف ما لا يُطاق جائز عندنا نتيجة؛ لأنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا مُعقِّب لحكمه (المواقف، ص٣٣٠-٣٣١). لله أن يكلف العباد ما يطيقونه وما لا يطيقونه … التكليف نوع خطاب له متعلق وهو المكلف به، وشرطه أن يكون مفهومًا فقط. وأمَّا كونه ممكنًا فليس بشرط لتحقيق الكلام (الاقتصاد، ص٨٣). له أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به. ولو شاء ذلك لكان من حقه. ولو لم يكن له ذلك لما أمرنا في ألا يحملنا ذلك (الفصل، ج٣، ص١٠٠). أنه تعالى مطلق التصرف، فلا يقبح منه شيء البتة. وكلام المعتزلة إنما يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد وهو باطل بالضرورة. فتكليف علام الغيوب لحِكَم ومصالح وأسرار في نفس التكليف وفي استحقاق الثواب والعقاب قد لا تهتدي العقول إليها (التحقيق، ص١٤٧).
١٩  ما لا يُطاق على مراتبَ ثلاث: (أ) أدناها امتناع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه أو إرادته أو إخباره، فمثله لا تتعلق به القدرة الحادثة لأنها لا تتعلق بالضدَّين. والتكليف بهذا جائز، بل واقع إجماعًا، وإلا لم يكن العاصي مكلَّفًا. (ب) أقصاها لامتناع النفس، مفهومة كالجمع بين الضدَّين وقلب الحقائق وهذا غير مقصود الوقوع … (المواقف، ص٣٣٠-٣٣١). مراتب المحال ثلاثة: (أ) ما يمتنع بعلم الله أنه لا يقع أو بإرادته أو بإخباره ولا نزاع في وقوع التكليف به. (ب) ما يمتنع لذاته كقلب الحقائق وفي التكليف به تردد لأنه يستدعي تصور المكلف به واقعًا. (ج) ما أمكن في نفسه ولكن لم يقع متعلقًا لقدرة وهو التكليف بما لا يُطاق (التحقيق، ص١٤٧-١٤٨).
٢٠  عند المعتزلة تكليف ما لا يُطاق سفه وعبث، وكلاهما قبيح لا يليق بالحكمة؛ فيجب تركه (التحقيق، ص١٤٧). أنكرت المعتزلة تكليف ما لا يُطاق (الاقتصاد، ص٨٣). قبح تكليف ما لا يُطاق (المحصل، ص١٤٧)، قبَّحه المعتزلة عقلًا، فإن من كلف الأعمى نقط المصاحف وألزمه المشي إلى أقاصي البلاد وطلب منه الطيران إلى السماء عُدَّ سفيهًا، وقبح ذلك في بداية العقول وكان كآمر الجماد (المواقف، ص٣٣٠-٣٣١).
٢١  شكر المنعم عند المعتزلة من الواجبات العقلية. يجب الشكر على العباد لأنهم عباد قضاءً لحق نعمته، ثم يجيء عليه الثواب على الشكر (الاقتصاد، ص٩٦-٩٧). وعند الجبائي وابنه: المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبيح واجباتٌ عقلية (الملل، ج١، ص١١٧). شكر المنعم على نعمه بالطاعات والعبادات واجب عند المعتزلة (حاشية الخلخالي، ص٢٠٣؛ الشرح، ص١٣٤، ص٧٧–٨٥). العاقل إذا علم أن له ربًّا وجوَّز في ابتداء نظره أن يريد منه الرب المنعم شكره، ولو شكره لأثابه وأكرم مثواه، ولو كفر لعاقبه وأرداه. فإذا اضطر له الجائزان فالعقل يرشده إلى إيثار ما يؤديه إلى الأمن من العقاب وارتقاب الثواب (الإرشاد، ص٢٦٨).
٢٢  الإرشاد، ص٢٧٢؛ الغاية، ص٢٤١.
٢٣  حاشية الخلخالي، ص٢٠٣.
٢٤  الإرشاد، ص٢٦٩-٢٧٠؛ الفصل، ص٧٩–٨١.
٢٥  النهاية، ص٢٨٣. وحجة الشهرستاني أن الشكر عادة لا معنى. قال الأستاذ أبو إسحاق: الشكر يُتعب الشاكر ولا ينفع المشكور، فلا فائدة في فعله لاستواء فعله وتركه. وعند المعتزلة الشكر ينفع الشاكر ولا يضر المشكور. قال الأستاذ: ربما يضر الشاكر؛ لأنه شكر قليل ونعمه كثيرة. وعند المعتزلة الشاكر لا يقتصر على بعض النعم. قال الأستاذ: الشكر لا يكافئ النعم ولا يقابلها. الشكر عن طريق رضا المشكور على الشاكر، وهذا بالسمع. فالشكر يحسن بالشرع (النهاية، ص٣٩٠-٣٩١). ويعطي الغزالي حجتَين لنتائج الشكر: (أ) الاشتغال به يصرف العبد عن الدنيا (وذلك نقد للتصوف). (ب) الاشتغال به قد يجعل الإنسان فضوليًّا للتعرف على من يشكره فيفكر في الذات والصفات والأفعال (وذلك تحريم لعلم الكلام) (الاقتصاد، ص٩٦-٩٧).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤