ثامنًا: اللطف والألطاف

اللطف في مقابل الأصلح. إن لم تتم أفعال الله طبقًا للصلاح والأصلح فإنها تتم طبقًا للطف والألطاف. واللطف أكثر قبولًا من الأصلح لأنه لا يتضمن صفة الإجبار كالأصلح، بل يوحي باللطف والتفضل والكرم والجود.١ وقد يدخل اللطف في مسألة الأصلح للتخفيف عن الآلام؛ فاللطف هو الأساس والأصلح والآلام فروعٌ مبنية عليه. وقد يدخل اللطف أيضًا في موضوع حرية الأفعال في أفعال الشعور الداخلية مثل التوفيق والهداية والسداد والعصمة، ومِنْ ثَمَّ فهو عود إلى الشق الأوَّل من العدل ألا وهو خلق الأفعال وكأن الحسن والقبح العقليَّين يميلان من جديد إلى الحرية، وأنه من مقتضيات العقل أن يكون الإنسان حرًّا. اللطف أو المصلحة لحظة اختيار الإنسان الواجب أو تجنب التخلي عن الواجب. فاللطف لا يبعد عن التوفيق والسداد، وبالتالي يدخل في حرية أفعال الشعور الداخلية. ويدخل في باب التكليف في مسألة الجبر والاختيار لإفساح المجال في الإرادة الإنسانية لإظهار عواملَ مقويةٍ لها. وبالتالي تثبت الحرية مرتين، مرة منبثقة عن التوحيد، وذلك باستقلال الإرادة الإنسانية عن الإرادة الإلهية، ومرةً أخرى باكتشاف العقل وأن حرية الإنسان حسنٌ عقلي؛ وبالتالي فهي واجبٌ عقلي كذلك. قد يقترب اللطف من الجبر إذا كان تدخلًا ابتداءً وقد يقرب من الكسب إن كان ما يقرب الإنسان على الطاعة وما يبعده عن المعصية، وقد يكون أكثر اتفاقًا مع الحرية لأنه ليس تدخلًا حتميًّا في إرادة الإنسان مثل فعل الأصلح، بل مجرد جواز أو إمكان يدل على الفعل الحر. وفي كل الأحوال يكون اللطف أحد مسائل العدل الذي يجمع بين شقَّيه الرئيسَين، الحرية والعقل. وقد يكون اللطف أيضًا أحد الأدلة على إثبات النبوة، أي يكون داخلًا في السمعيات، فقد آلت العقليات على الانتهاء وشارفت السمعيات على الظهور، النبوة لطف إذا كان العقل أساس النقل وبالتالي تصبح جزءًا من المعارف العقلية المستقلة عن النبوات.٢ والحقيقة أن اللطف لا يدخل في مسألةٍ معينة بل هو تصورٌ عام للحياة الإنسانية المغلفة بالوجود المطلق القادر العالم الحي. هو تعبير عن العناية التي تفرضها الحياة الكاملة في الحياة الإنسانية. هو تأييد للعقل بالنبوة، وتأييد للحرية بالعون، وتهيئة الأصلح واستبعاد الفساد. هو تأييد للعمل بتهيئة النظر وإحضار البواعث، والإنسان من قبلُ على ثقة ويقين من أنه يعيش في أفضل العوالم الممكنة.

(١) هل هناك لطف؟

(١-١) تعريفه وأنواعه ومصدره ومحله

اللطف ومقابله المصلحة هو لحظة اختيار الإنسان الواجب أو تجنب التخلي عن الواجب. فاللطف لا يعبر عن التوفيق والسداد بقدر ما يعبر عن إزالة الموانع. فهو تأييدٌ سلبي، أو توفيق بنفي الضد، قضاء على الموانع بالتمكين. ونقيضه المفسدة أي وقوع الضرر بالإنسان. وقد يصل حد الضرر إلى إطلاق اللطف وإضافته إلى الكفر؛ فيسمي ما يقع الكفر عنده لطفًا حين توقع مصيبة أعظم، ثم تجنبها حتى ولو كانت مصيبة الكفر، وهناك مصائب أعظم منه. وقد يكون اللطف أقرب إلى الاستطاعة التي يخلقها الله وقت الفعل في نظرية الكسب.٣
واللطف نوعان: لطفٌ مقرب إن كان مقربًا من الفعل أو ممكنًا منه، ولطفٌ محصل إن كان آتيًا للمأمور به، الأوَّل يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية دون حد الإلجاء والاضطرار حرصًا على الحرية أو على الكسب، والثاني مثل الآجال والأرزاق والقوى والآلات وإكمال العقل ونصب الأدلة، أي ما تتوقف عليه الطاعة. الأوَّل سلبي للتمكين والثاني إيجابي للفعل. الأوَّل لإزالة الموانع والعقبات والثاني لتهييء الآلات والأسباب. والأول نوعان: ما يكون من فعل الإنسان ملازمًا له وما يكون من فعل الله، الأوَّل سواء كان عقليًّا أم شرعيًّا لدفع الضرر، والثاني لإزاحة العلل وتهيئة سبيل التكليف؛ فاللطف سابق على التكليف أو مقارن له ولا يكون متأخرًا عنه وإلا فما الفائدة منه؟ فاللطف هنا مثل الاستطاعة إمَّا قبل الفعل أو مع الفعل. وإذا كانت الاستطاعة أيضًا بعد الفعل في التوليد إلا أن اللطف لا يكون بعد الفعل وكأن اللطف لا يكون مولدًا.٤ قد يكون اللطف مع التكليف واجبًا وبعد التكليف غير واجب، ويكون اللطف هنا أيضًا بمعنى الاستطاعة وكأن اللطف هو شرط التكليف ابتداءً، وبعد ذلك يترك الإنسان لاستعمال الألطاف الدائمة كالمعارف النظرية، ومنها النبوة أو التأييدات العملية وإزالة الموانع والعقبات أمام الأفعال. وفي هذه الحالة يكون اللطف ضروريًّا واجبًا وإلا لاستحال التكليف؛ لذلك قد لا يكون اللطف إتيانًا للفعل ابتداءً بل مساعدة على الفعل بعد أن يحدث حتى لا يقضي على حرية الاختيار. فإذا لم يحدث لطف ابتداءً فماذا يكون حال التكليف؟ هل يستحق الثواب والعقاب؟ قد يكون اللطف إذن تفضلًا بعد التكليف لأن التكليف يقوم على القدرات الذاتية وشرط الفعل، العقل والقدرة على الاختيار الحر. اللطف إذن هبة وليس حقًّا، ومِنْ ثَمَّ فهو ليس شرطًا للتكليف بل قد يقع التكليف بدونه. اللطف لا يحسن ولا يقبح نظرًا، ولكنه يساعد عملًا، فهو أقرب إلى العقل العلمي منه إلى العقل النظري.٥
أمَّا مصدر اللطف فقد يكون من فعل الله أو من غير فعل الله. قد يكون من فعلنا أو من فعل غيرنا. إن كان من فعلنا وجب فعله احترازًا من الضرر دون النوافل؛ لأنه لا يحدث ضرر من عدم فعلها. ما يكون من فعل الله إن كان مفعولًا مع تكليف الفعل الذي هو لطف فيه، فإنه لا يكون واجبًا، وما يفعله بعد حال تكليف الفعل الذي هو لطف فيه فإنه واجب. وما يكون لطفًا من فعل نفس المكلف فمن حقه إذا كان لطفًا في واجب أن يكون بمنزلته في الوجوب، وإن كان لطفًا في النفل فهو بمنزلته. وما يكون لطفًا من فعل غير الله وغير المكلف فمن حقه أن يكون المعلوم من حاله أن يقع ويحدث على الوجه الذي هو لطف وفي الوقت. مصادر اللطف إذن ثلاثة: الله والإنسان والطبيعة. لطف الله غير واجب قبل الفعل وإلا استحالت الحرية، وواجب بعده تأييدًا له. ولطف الإنسان مثل الفعل وجوبًا وندبًا. أمَّا لطف الطبيعة فإنه يقع في الزمان والمكان والحال وليس على الإنسان إلا معرفته وتوحد فعله معه.٦
أمَّا بالنسبة إلى محل اللطف فقد يقع اللطف في الفعل أو في إدراك الفعل، أي إن اللطف يكون في العمل كما يكون في النظر. ولا يكون اللطف إلا في أفعال التكليف، أي في الواجبات. وقد يكون اللطف في النوافل. ولا يجوز اللطف في المباح لأن المباح غير مكلف. وإذا كانت أفعال المكلفين على ضربين، العبادات وخارج العبادات، فإن الأولى لا يجوز فيها البدل بينما الثانية يجوز فيها البدل. وقد تكون إقامة الحد من الإمام لطفًا إمَّا له أو لغيره، وتضيع الألطاف بفقدان الإمام وإبطال الحدود في هذا الزمان؛ لذلك قد يكون اللطف مشروطًا بوقت دون وقت، ويقع في زمان دون زمان. ولا يكون اللطف فرديًّا بل عامًّا، لا يكون خاصًّا بل شاملًا. لا يوجد لطف لشخص يكون مفسدة لشخصٍ آخر، اللطف صلاح للجميع. اللطف عامٌّ متاح للجميع، ولكنه قد يقع لشخص دون شخص طبقًا لشروط الفعل والقدرة عليه. يؤدي اللطف إلى وقوع المصلحة للذات وللآخرين على السواء. ولا يكون اللطف نظرًا عامًّا لا نهائيًّا، بل هو خاصٌّ محددٌ معينٌ فرديٌّ متحقق في الفعل.٧

(١-٢) هل يمكن إثبات اللطف أو نفيه؟

عادةً يمكن إثبات شيء ونفيه مثل الواجبات العقلية ومثل الصلاح والأصلح. أمَّا اللطف فيصعب إثباته كما يصعب أحيانًا نفيه. يمكن إثبات اللطف لأن الله لا يدخر وسعًا في اللطف بالعباد؛ فاللطف يمكن أن يكون ابتداءً وليس وسطًا أو نهايةً، فالوسط والنهاية عبث. كما أن اللطف يساعد على الترجيح دون أن يصل إلى حد الإلجاء. وترك اللطف يوجب نقص الغرض من التكليف ومِنْ ثَمَّ يكون اللطف واجبًا. واللطف أقرب إلى العناية الإلهية والرعاية وتوالي الصلة بعد الخلق دون الإهمال؛ لذلك ينتهي اللطف أحيانًا إلى أن يصبح كل شيء تعبيرًا عن الإرادة الإلهية الشاملة. إن اللطف أصلح الإنسان، وأصلح للمكلفين الحصول على اللطف، وبالتالي يثبت اللطف بإثبات الأصلح. وأن شعور المكلف بالتوفيق والهداية والسداد حين الطاعة وشعوره بالخِذْلان والضلال حين المعصية لدليل على وجود اللطف. كما يثبت اللطف بأدلةٍ سمعية، بآيات الفضل والآيات التي تبدأ بأداة الشرط مثل «لو» التي تعني لولا تدخل اللطف لوقعت أضرارٌ أعظم.٨
وقد يتم إثبات اللطف تفضُّلًا وإنعامًا دون أن يكون واجبًا. كما يمكن إثباته وعدًا وإنكاره وجوبًا. وإن إتيان الفعل بلا لطف أكثر ثوابًا من إتيان الفعل بلطف. وفي سؤال الإخوة الثلاثة قد يسأل الصغير لماذا أعطيتني لطفًا واستحق ثوابًا أقل؟ وقد يظهر ذلك في صيغة سؤال: هل لدى الله لطف لو أعطاه الكافر لآمن والعاصي لأطاع؟ وإثباتًا للطف النظري دون الوجوب العملي ليس في مقدور الله أن يحتفظ بلطف لو فعل لآمن الذين كفروا. بعد إثبات اللطف يكون الخلاف: هل يقدر الله على لطفٍ زائد أم لا يقدر بعد أن أعطى كل ما لديه؟ الأوَّل يمنع القدرة والثاني بخل وشح؛ لذلك لا يجب اللطف على الله. ولو وجب لكان لا يوجد في العالم عاصٍ لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله من الألطاف ما لو فعل به لاختار الواجب وتجنب القبيح. فلما كان هناك عصاة فلا وجوب في اللطف. نفي اللطف هنا يعني عدم الوجوب في حين أن النفي في الجبر والعصمة يعني عدم الوقوع. وما الحكمة في أن يعطي الله لطفًا مقربًا ثم لا يعطيه كله ويكون قادرًا على الزيادة فيه؟ وإذا كان الله لا يستطيع إلا هذا اللطف وهو أخص ما لديه فمقدوراته متناهية وإرادته عاجزة. وفعل إثبات العجز والكرم أفضل من إثبات القدرة والشح؟ وإذا كان اللطف كصفة لله غير متناهٍ مثل باقي الصفات لا غاية له ولا كل، فلماذا البخل والشح؟ وما مقياس العطاء والإمساك؟ هل التفضُّل مجرد تعبير عن مشيئةٍ مطلقة بلا مقياس؟ هذا هو العبث والتحكم والحكم المطلق. لذلك لا يكون اللطف واجبًا ولا يكون مقدورًا، بل مجرد تفضل بعد سؤال العصمة والدعاء بالسداد وطلب التوفيق. واللطف استجابة لدعاء وعطاء بعد سؤال. واليد العليا خير من اليد السفلى.٩ يمكن إثبات اللطف إذن نظرًا ومنعه عملًا. فالله عنده لطف لو فعله لآمن الكافر ولكنه لا يفعل ذلك عملًا. وما الفائدة من حقٍّ نظري لا يستعمل.١٠ لذلك كان نفي اللطف المدخر أفضل من إثباته دون استعمال. فالله قد أعطى أقصى لطف لديه وليس لديه لطف منعه من الكفار حتى لا يؤمنوا وإلا لما كان في أفعاله صلاح العباد؛ فاللطف صلاح، ولما كان الله يفعل الأصلح فإنه يفعل أيضًا الألطف.١١
وقد يُنفى اللطف بالجبر إذن إن جبر الأفعال لا يحتاج إلى لطف، فالأفعال واقعة جبرًا وقسرًا بلطف أو غير لطف. والعصمة مثل الجبر تمنع من الإقدام على القبيح وتدفع إلى الطاعة فليست في حاجة إلى لطف.١٢ وقد ينفى اللطف بحرية الأفعال. فالإنسان حر في أفعاله لا يحتاج إلى عون أو تأييدٍ سابق أو مقارن أو لاحق إلا من بنية الفعل ذاته من أحكام النظر، وقوة الباعث ووضوح الهدف، وشحذ الطاقة، ومعرفة مسار الفعل وقوانين الحركة في التاريخ. فاللطف في هذه الحالة ليس قوة تأتي من الخارج بلا تمييز ولا شرط، بل هو تحول قوى الفعل من كم إلى كيف. فالفعل يولد طاقةً جديدة أثناء تحققه زائدة على الطاقة الأولى التي كانت قبل التحقق.١٣

يمثل إثبات اللطف إذن خطورة على حرية الأفعال وتهديدًا لأول مكتسب للعدل. وكيف يثبت اللطف أنصار حرية الأفعال؟ الأولى بإثباته أصحاب الكسب لأنه أقرب إلى الاستطاعة التي يخلقها الله ساعة الفعل، ولكن هذه المرة من القدرة ولإزالة الموانع، وكلاهما مساعدة من الخارج للتوفيق. والمساعدة ليست من الخارج بل من الداخل ولكن الإنسان لا يعي القدرات غير المنتظرة نتيجة للإخلاص والتضحية.

اللطف إذن عكس الحرية. إذا كان الإنسان قادرًا ولديه استطاعة قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل ففيم اللطف؟ ألا يعتبر اللطف حينئذٍ تدخلًا في حرية الأفعال؟ إنه ليصعب التوفيق بين الحرية واللطف.١٤ إن إنكار اللطف ليس إنكارًا للقدرة بل إثبات لحرية الاختيار. بل إن التكليف ابتداءً لا يحتاج إلى لطف اللهم إلا إذا اعتبرنا العقل والحرية من الألطاف مع أنهما من مكتسبات العدل الذي انبثق عن التوحيد بفعل الحرية ثم انبثق العقل عن الحرية لأنها حريةٌ عاقلة. ألا يمكن للإنسان ترك اللطف اختيارًا والاعتماد على حريته وعقله؟١٥ وكيف يمكن التوفيق بين اللطف من ناحية والحرية والعقل من ناحيةٍ أخرى؟ وماذا لو رفض الأحرار العقلاء اللطف، فالحرية لديهم قادرة على الفعل، والعقل لديهم قادر على الوصول إلى التكاليف؟ وإذا كان اللطف يتدخل في الحرية إلى المنتصف ففيم الحرية؟ ولماذا لا يقطع اللطف الشوط كله؟ وماذا عن البواعث على الإيمان والصوارف عن الكفر؟ هل يقدر الله على منح الأولى ومنع الثانية؟ ولماذا يتناهى اللطف عند حد والله مقدوراته لا نهاية لها؟ وأين يكون اللطف في حالة الإحباط والخِذْلان؟ ولماذا لا يكون لطف للكافر كي يؤمن كما أن للمؤمن لطفًا كي لا يكفر؟ إن الله أقرب إلى الخير فكيف لا يصدر عنه إلا الخير؟ ولماذا يمنع الكافر من الكفر ويقربه إلى الإيمان والطاعة؟ كيف يريد الله كفر الكافر ويمنع عنه لطفه؟ إن من يُجوِّز اللطف لا بد أن يُجوِّز الإضرار في حالة عدم وقوع اللطف. وفي هذه الحالة كيف يضر الله وهو الخير المطلق؟ وإذا ما حصل الإنسان على اللطف، فما المانع ألا يحصل على المزيد، يؤدي اللطف إلى لطفٍ أكبر إلى ما لا نهاية؟ وإذا كان اللطف عامًّا لا يخص فردًا دون فرد، فكيف يقع لفرد دون آخر؟ وما مقياس الاختيار؟ أين تكافؤ الفرص؟ إن الصعوبة في اللطف هي تبرير خصوصية فرد دون آخر. وإذا كان موجودًا منذ البداية فلماذا مضاعفته للمطيع وعدم مضاعفته للعاصي؟ وإذا كان مقياس الاختيار هو الطاعة فالبداية للإنسان وبالتالي يكون فعل الإنسان هو الشارط واللطف هو المشروط، ويكون اللطف حينئذٍ هو القوة غير المتوقعة المتولدة أثناء الفعل من طبيعة الفعل ذاته. صحيح أن اللطف عام ولكن قد يكون اللطف لفرد مفسدة لآخر وهو ضد العدل.
ويبقى سؤال: متى يظهر اللطف ومتى يختفي؟ ولماذا لا يظهر اللطف عند صاحب الآلام والمشاق؟ ولماذا يمتنع عن البائس والفقير والمظلوم والمحروم كما يمتنع الأصلح؟ أين اللطف في الدنيا بالمفسدين في الأرض وبالمحرومين من عدالة السماء؟ بل وأين ألطاف البشر بالبشر والحكام بالمحكومين؟ ألا يؤدي القول باللطف كما يؤدي القول بالأصلح إلى جعل هذا العالم أفضل العوالم الممكنة، ويجعل الإنسان لو علم المقدر لاختار الواقع لأنه لطف فيه، وكما هو معروف في القول المأثور: «اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه». ألا يؤدي القول باللطف إلى قبول كل الأحزان والمصائب وقبول الإنسان وضعه الاجتماعي المُزري تفاديًا لوضعٍ اجتماعي أكثر إزراء! وحينئذٍ لا يملك الإنسان إلا الدعاء: «يا خفي الألطاف، نجِّنا مما نخاف.»١٦ إن ذلك كله تجديف على الله وإقحام الإنسان نفسه فيما لا يعنيه وإسقاط عجزه أو قوته على إراداتٍ مشخصة خارجة يجد فيها تعويضًا أو عونًا؟ إن اللطف لا يتعدى في أصل الوحي العلم كخبرة وهو اللطف النظري أو اللطف بالبشر وبالكون أي الرعاية والعناية والحفاظ على الفعل والجهد. ولكن اللطف أيضًا للإنسان، لطف الإنسان بالإنسان كعلاقةٍ اجتماعية وليس فقط كعلاقة بين الله والإنسان.١٧

(٢) ما هي الألطاف؟

الألطاف في حالة إثباتها قد تكون كل شيء. الخلق لطف؛ فبدون نعمة الخلق لا يستطيع الإنسان أن يدرك أو يفعل أو ينعم بشيء. والطاعة لطف؛ لأن نعمة الطاعة والرضا والسرور لا تعادلها لذة، ولا يساويها فرح. والوعيد لطف؛ لأنه باعث على الفعل وترصد لنتائجه وتفكر في العاقبة. ودعاء المؤمن على الفاسق لطف للداعي؛ لأنه يفرج حزنه ويقوِّيه على خصومه. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لطف؛ لأنه بدونه يتسلط الحكام وتنهار الأمم. والكفارات ليست عقوبات بل لطف؛ لأنها تطهير للنفس وإعادة بناء لها. وإقامة الحد على السارق لطف؛ لأنه تثبيت للوعي وإدراك عملي للحق. والألم النازل بمن يستحق العقوبة لطف؛ لأنه إدراكٌ عملي للقبح وإحساس بآلام الآخرين الناتجة عن فعل القبيح لهم. وما يستحقه الإنسان على فعله من غيره في حكم الموجب لطف؛ لأنه إدراك لما فعله الإنسان للآخر بالتبادل. وإتعاب النفس في المكاسب وطرقها لطف؛ لأنه إدراك لأهمية الفعل عن طريق بذل الجهد. وقد تكون زيادة الشهوة لطفًا؛ لأنها إحساس بالحياة وقدرة على فورة النفس خاصة وأن المباح كثير، والعمل الذهني مصاحب لها، وسند لتحقيق رسالة الإنسان في الحياة.١٨

ولكن في مقابل هذا المعنى الشامل للطف هناك معنًى أضيق يحصر الألطاف في ثلاثة: المعارف النظرية، والنبوة، والتأييدات العملية.

فوجوب المعارف ألطاف؛ لأن المعرفة لطف. ولا تعني المعرفة بالضرورة من الخارج بل هي معرفةٌ داخلية، نعمة الفكر والتأمل والاستدلال. لو لم يكن الإنسان عارفًا لما كان سيد الكون، تحق له السيادة والسيطرة عليه وتسخير مظاهر الطبيعة لإرادته، ولكان أقل من الحيوان والجماد. يعلم الإنسان، ويعلم أنه يعلم أي إنه يعلم بالشعور، في حين أن الحيوان لا يعلم بأنه يعلم، يعلم بالغريزة، غريزة المحافظة على البقاء. والجماد وإن كان لا يعلم إلا أنه ليس وجودًا مصمتًا بل له دلالة، ودلالته معناه، ومعناه هو العلم. والمعرفة بهذا المعنى تكون واجبة عقلًا كما تجب بالسمع، وقد تكون أساسًا له وأحيانًا بديلًا عنه. معرفة الله لطف في أداء الواجبات لأنها تدفع الضرر عن النفس، واللطف هو الكرم والجود والعطاء وتقديم الخير على الشر والنزوع الطبيعي نحو الخير. ينشأ وجوب النظر من الرغبة في دفع الضرر، وهذا واقعٌ اجتماعي. كلما كفَّ الناس عن النظر ألحقت بهم الأضرار واستخفَّت بهم السلطة وسيطرت على مقاديرهم. وكلما نظر الناس وأعملوا عقولهم أدركوا أمورهم وكانوا على وعي بأحوالهم، وكانوا الرقباء على السلطة وما أمكن لأحد الإيقاع بهم أو إيهامهم.١٩
والنبوة باعتبارها معارفَ نظرية وتوجهاتٍ عملية هي أيضًا لطف. وإن استقلال العقل وقدرته على التمييز تجعل السمع لطفًا من الله فيصبح جائز الوقوع وليس ضروري الوقوع. فكما أن النظر والمعارف لطف بالنسبة للعقل بإضافة الاستدلال إلى البداهة، فإن النبوة لطف بالنسبة إلى العقل لأنها يقين البداهة التي يقوم العقل بعد ذلك بتحويله إلى منطق الاستدلال؛ فالصلة بين النبوة والعقل هي صلة الحدس بالبرهان.٢٠ ولا يفترق في ذلك الخاصة عن العامة إلا في عمق الحدس وتنوع البرهان. النبوة لطف بمعنى تثبيت اليقين وتحويل البداهة العقلية إلى تصديقٍ وجداني. تعطي افتراضات للبرهان تتحقق في الحس والمشاهدة وتثبت بالاستدلال. تحمي العقل من الوقوع في التجزئة والمتناهي في الصغر وتحرص على النظرة الشمولية للحياة. تقصر وقت النظر من أجل تخصيص الجهد وتوجيهه نحو العمل والتحقيق.
أمَّا التأييدات العملية فهي ما يشعر به الإنسان في داخله من توفيق وعون وسداد. وهو التمكين بما فيه من البواعث والدوافع والإمكانيات والوعي والدراية، وكل ذلك سابق على إتيان الفعل. وقد تحدث إمكانياتٌ أخرى أثناء الفعل مصاحبة له، تقويه وتدفعه وتطيل وقته وتجعله أكثر رسوخًا وبقاءً في التاريخ. فالوقت لا يتجزأ إلى أوقاتٍ منفصلة، بل هو شعورٌ دائم ومتصل، يكمن فيه الإحساس بالرسالة المتصلة التي تعبر عن قدرة الإنسان ومصيره. يحدث اللطف في حال الفعل الذي هو حال وجود، أثناء تحققه كقوةٍ متولدة منه، سرعة بديهة في الإدراك، وقوة الباعث في النفس، والرؤية التاريخية على المدى الطويل. ويكون لا شعوريًّا أوَّلًا ثم يراه الإنسان وقد تحقق في نفسه وأمامه، في الواقع وفي الشعور.٢١
١  هي نظرية المعتزلة أساسًا في مقابل القائلين بالأصلح. ويتفق عليها الأشاعرة مع المعتزلة لأنها أقرب إلى الكسب منها إلى حرية الاختيار. وهي من المرات النادرة التي يتم رفض موقف المعتزلة أوَّلًا مع أن الرفض ينسحب على الأشاعرة كذلك. وقد كانت المرة الأولى إثبات المعتزلة أن العدم شيء. انظر: الباب الرابع، نظرية الوجود، ثانيًا: ميتافيزيقا الوجود أو «الأمور العامة» (الواجب). (أ) الوجود والعدم. (ج) هل المعدوم شيء؟
٢  اللطف اسم للقدرة كما قالت المجبرة (اللطف، ص٣، ص٨، ص١٠، ص١٢-١٣). وقد يكون مع الأصلح. وأمَّا الخلاف بيننا وبين القائلين بوجوب الأصلح في باب اللطف فإنه يعود إلى علة المذهب دون المذهب نفسه؛ لأنهم يجعلون علة وجوب اللطف أنه أصلح، وكذلك يوجبون التكليف نفسه والخلق نفسه. وعندنا علة وجوبه أنه ألطف فيما كلفه العبد؛ فلذلك نقصر الإيجاب عليه دون التكليف نفسه وما شاكله، أو يكون الخلاف بيننا وبينهم في أن ما نقول إنه كالسبب في وجوب اللطف هل هو سبب أم لا؟ فعندهم ليس بسبب وعندنا هو سبب للوجوب كالتكليف وغيره. أو يكون الخلاف بيننا وبينهم في حصر الوجود (اللطف، ص٧).
٣  اللطف والمصلحة واحد، وهو ما يختار المرء عنده واجبًا أو يجتنب قبيحًا لولاه لما اختار ولما اجتنب، أو يكون أقرب إلى أداء الواجب واجتناب القبيح إمَّا من فعلنا أو من الله. وعكسها المفسدة وهو ما يختار المرء عنده قبيحًا أو يجتنب واجبًا ويمتنع من الله (الشرح، ص٧٧٩). ما يدعو إلى فعل الطاعة على وجه يقع اختيارها عنده أو يكون أولى أن يقع عنده ما يدعو إلى الفعل لكن طريقة الدواعي تختلف (اللطف، ص٩، ص١١). اللطف عند المعتزلة هو الفعل الذي علم الرب أن العبد يطيعه عنده. وقد يطلق مضافًا إلى الكفر (الإرشاد، ص٣٠٠-٣٠١). ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية حيث لا يؤدي إلى الإلجاء وهو من أفعال الله وهو عندهم واجب بعد ثبوت التكليف (الشرح، ص١٤٨). هو كل ما يختار المرء الواجب ويتجنب القبيح أو يكون عنده أقرب إمَّا إلى الاختيار أو إلى ترك القبيح (الشرح، ص٥١٩). لا يجوز اللطف في المباح (اللطف، ص٩-١٠). وعند أهل الحق: اللطف خلق قدرة على الطاعة وذلك مقدور لله أبدًا (الإرشاد، ص٣٠٠-٣٠١). وقد يكون اللطف صلاحًا ومصلحةً واستصلاحًا وإصلاحًا، ولكن الصلاح في الدنيا واللطف في الدين (اللطف، ص٢٠–٢٥). ووصف اللطف القبيح أنه مفسدة (اللطف، ص١١، ص١٩؛ وأيضًا: المحصل، ص١٤٨؛ الطوالع، ص١٩٦؛ المطالع، ص١٩٦؛ شرح الدواني، ص١٨٩-١٩٠).
٤  إن كان اللطف مقربًا من فعل الواجب وترك القبيح يُسَمَّى لطفًا مقربًا وإن كان محصلًا له وهو إتيان المأمور به يُسَمَّى لطفًا محصلًا (حاشية السيالكوتي، ص١٧٤؛ حاشية الكلنبوي، ص١٨٩-١٩٠). وينقسم إلى ما يكون من حظنا فيلزمنا فعله سواء كان عقليًّا أو شرعيًّا لأنه يجري مجرى دفع الضرر، وإلى ما يكون من فعل القديم ولا بد من أن يفعله الله ليكون مزيجًا لعلة المكلف، ولكن لا ينتقص غرضه بمقدمات التكليف (الشرح، ص٧٧٥–٧٨٠). اللطف إمَّا أن يكون متقدمًا للتكليف أو مقارنًا له أو متأخرًا عنه ولا رابع، فإن كان متقدمًا فلا شك في أنه لا يجب لأنه لا يجب إلا لتضمنه إزاحة علة المكلف ولا تكليف، وهو كالتمكين، والتمكين قبل التكليف لا يجب. وإن كان مقارنًا فإنه لا يجب لأن أصل التكليف الله متفضل به ابتداءً (الشرح، ص٥٢٠-٥٢١). لم يبقَ إلا أنه متأخر عنه عون وسداد وتوفيق (اللطف، ص٧).
٥  في أنه يحسن تكليف ما لا لطف له (اللطف، ص٦٤–٦٦). اختلف الجبائي وابنه. فعند الجبائي من يعلم الباري من حاله أنه لو آمن مع اللطف لكان ثوابه أقل لقلة مشقته، ولو آمن لكان ثوابه أكثر لعظم مشقته، لا يحسن منه أن يكلفه إلا مع اللطف. ويسوي بينه وبين المعلوم في حال أنه لا يفعل الطاعة على كل وجه إلا مع اللطف. ويقول إنه لو كلفه مع عدم اللطف لوجب أن يكون مستفسرًا حاله غير مزيح علته. أمَّا أبو هاشم فيرى أنه يحسن منه تعالى أن يكلفه الإيمان على استواء الوجهَين بلا لطف (الملل، ج١، ص١٢٢-١٢٣). في أن اللطف لا يكون جهة في حسن التكليف وإن أوجبه التكليف (اللطف، ص٧٠-٧١). في أن اللطف لا يجوز أن يكون جهة للطاعة الواقعة من المكلف (اللطف، ص٧٢-٧٣). في أن المكلف لو لم يفعله اللطف الذي كان يستحقه المكلف (اللطف، ص٧٥–٧٩).
٦  الشرح، ص٥١٩، اللطف، ص٧-٨. وتكون هناك قسمةٌ أخرى: (أ) من فعل الله. (ب) من فعل المكلف. (ج) لا من الله ولا من المكلف (قوى الطبيعة) (اللطف، ص٢٧–٣١).
٧  الشرح، ص٥٢١–٥٢٣؛ اللطف، ص٢٦–٣١. فيما يجوز دخول البدل فيه من الألطاف وما لا يجوز ذلك فيه (اللطف، ص٣٢). كل فعل يقع من المكلف ويكون لطفًا في أفعاله فلا بد أن يكون واجبًا أو ندبًا، فأمَّا إذا كان ما يفعله لطفًا في فعل غيره فغير ممتنع أن يكون مباحًا (اللطف، ص٣٧–٣٩). هل اللطف في القبيح مما يدخل فيه البدل (اللطف، ص٤٣–٤٥). في بيان حال المكلف إذا كان لطفه ما لا يجوز من القديم أن يفعله (اللطف، ص٦٧–٩٩). في أن اللطف لا يكون جهة في حسن التكليف وإن أوجبه التكليف (اللطف، ص٧٠-٧١).
٨  يثبت الأشاعرة اللطف لأن اللطف هو الذي يفيد ترجيح الداعية بحيث لا ينتهي إلى حد الإلجاء؛ فالداعية الواصلة إلى ذلك الحدس ممكن الوجود في نفسه، والله قادر على الممكنات فوجب أن يكون الله قادرًا على إيجاد تلك الداعية المنتهية إلى ذلك الحد من غير تلك الواسطة (المحصل، ص١٤٨؛ المطالع، ص١٩٦). هذا التقريب يمكن أن يفعل ابتداءً فيكون الوسط عبثًا (الطوالع، ص١٩٦). قال أهل الإثبات جميعًا وبشر وجعفر إن الله يقدر على لطيفة لو فعلها بمن علم أنه لا يؤمن لآمن. وهو أيضًا موقف المعتزلة؛ إذ توجب المعتزلة اللطف والعوض والثواب، والبغداديون يوجبون العقاب والأصلح في الدنيا (المحصل، ص١٤٧-١٤٨). عند المعتزلة يجب على الله أن يفعل بالمكلفين الألطاف وهو الذي يذهب إليه أهل العدل حتى منعوا أن يكون خلاف هذا القول قولًا لأحد مشايخهم (اللطف، ص٤). ويورد المعتزلة أدلةً نقلية كثرة منها: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ …، لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ …، وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ …، سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ …، وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ …، وَلَوْ نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ …، وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ …، وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ …، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا …، وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ … (اللطف، ص١١٦–١٥٢، ص١٩٠–١٩٩). وعند الحسين بن محمد النجار لو لطف الله بجميع الكافرين لآمنوا وهو قادر أن يفعل بهم من الألطاف ما لو فعله بهم لآمنوا، وإن الله كلف الكفار ما لا يقدرون عليه لتركهم له، لا لعجز حلَّ فيهم ولا لآفة نزلت بهم (مقالات، ج١، ص٣١٦). وأجمعوا على أن الرب إذا خلق عبدًا وأكمل عقله فلا يتركه هملًا بل يجب عليه أن يفكره ويمكنه من نيل المراشد. فإذا كلف عبدًا وجب في حكمته أن يلطف به ويفعل أقصى ممكن من معلومه مما يؤمن ويطيع المكلف عنده (الإرشاد، ص٢٨٨؛ النهاية، ص٣٧١). وكان جعفر بن حرب يقول في اللطف بمقالة وسط بين المذهبين. فالمكلف إذا كان ما يفعله من الإيمان مع عدم اللطف أشق وأعظم ثوابًا، فاللطف غير واجب ومن لم تكن الحال هذه فاللطف واجب. وقيل إنه رجع عن هذا المذهب (اللطف، ص٥). ويقول عند الله لطف لو أتى به الكافرين لآمنوا اختيارًا إيمانًا لا يستحقون عليه الثواب ما يستحقون من عموم اللطف إذا آمنوا، والأصلح لهم ما فعل الله بهم لأن الله لا يعرض عباده إلا لأعلى المنازل وأشرفها وأفضل الثواب وأكثره (مقالات، ج١، ص٢٨٧، ج٢، ص٢٢٣).
٩  عند أهل الإثبات ما لا يقدر عليه الله لا غاية له ولا نهاية ولا لطف يقدر عليه إلا وقد يقدر على ما هو أصلح منه وعلى ما هو دونه وليس كل من كلفه لطف له وإنما لطف للمؤمنين. ومن لطف له كان مؤمنًا في حال لطف الله له لأن الله لا ينفع أحدًا إلا انتفع، (باب الكلام في التعديل والتجوير). الله قادر على لطف لو فعله بالكفار لآمنوا كما أنه قادر بالمؤمنين من عباده ما لو فعله بهم لبغوا في الأرض. فالقدرة واحدة مع الفعل وإذا لم يفعل بالكفار لا يكون بخيلًا لأن فعله ليس واجبًا بل تفضل، وإذا لم يفعل بالكفار فإنه أراد سفههم! (اللمع، ص١١٥-١١٦؛ الإبانة، ص١٤٩-١٥٠). يقدر على ذلك لأنه لا يفعل بالعباد إلا ما هو أصلح لهم في دينهم وأنه لا يدخر عنهم شيئًا يحتاجون إليه (مقالات، ج١، ص٢٨٧-٢٨٨). إنه يفعل ما هو لطف لا محالة وإنه لم يكن واجبًا عليه أن يفعله لأن التكليف في أن يقتضيه عندهم بمنزلة الوعد في أنه يقتضي إيجاد ما وعد (اللطف، ص٤). لا منزلة يبلغها العبد في الألطاف إلا وهو قادر على أعظم منها في كونها لطفًا في القدر والصفة، فلو وجب عليه أن يفعل الأصلح في باب الدين لم يكن لما يجب من ذلك نهاية. لا مكلف إلا والله قادر على أن يلطف له فيما كلفه، فلو وجب عليه أن يلطف لم يحصل في المكلفين عاصٍ (اللطف، ص٤). ما من مكلف إلا وفي مقدور الله من اللطف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح. فلو وجدنا المكلفين من أطاع وفيهم من عصى تبينا أن الألطاف غير واجبة على الله. الله قادر لذاته، ومن حقه أن يكون قادرًا على جميع المقدورات (الشرح، ص٢٥٣–٢٥٥).
١٠  هذا هو موقف بشر بن المعتمر وأصحابه من البغداديين (الشرح، ص٥٢). ويدافع الخياط عن بشر بأنه رجع عن هذه المقالة (اللطف، ص٤-٥). يقول بشر إن عند الله لطف لو فعله بمن يعلم أنه لا يؤمن لآمن، وليس يجب على الله فعله ذلك. ولو فعل الله ذلك اللطف فآمنوا عنده لكانوا يستحقون من الثواب على الإيمان الذي يفعلونه عند وجوده ما يستحقونه لو فعلوه مع عدمه (مقالات، ج١، ص٢٨٧-٢٨٨). هل يوصف الباري بالقدرة على لطيفة لو فعلها من علم أنه لا يؤمن لآمن؟ قال بشر: إمَّا أن يقدر الله عليه من اللطف لا غاية له ولا نهاية، وعند الله من اللطف ما هو أصلح مما فعله ولم يفعله. ولو فعله بالخلق آمنوا طوعًا لا كرهًا. وقد فعل بهم لطفًا يقدرون به على ما كلفهم (مقالات، ج٢، ص٢٢٣). وكفَّرت القدرية بشرًا لقوله بأن الله قادر على لطف لو فعله بالكافر لآمن طوعًا (الفِرَق، ص١٥٦). إن عند الله لطفًا لو أتى به لآمن جميع من في الأرض إيمانًا يستحقون عليه الثواب استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه، وليس على الله أن يفعل ذلك لعباده (الملل، ج١، ص٩٧-٩٨). في مقدور الله ما لو فعله بالكفار لآمنوا عنده ولكنه لا يفعل ذلك لأنه قد أزاح العلة ومكن؛ ولذلك سموا أصحاب اللطف؛ لإثباتهم في مقدور الله ما تنفيه، وإن كان المعتزلة يثبتون اللطف واجبًا داخلًا في الوجود (اللطف، ص٢٠٠). ومثل هذا يقوله النظام. فإن ما يقدر الله عليه من اللطف لا غاية له ولا كل، وإن ما فعل من اللطف لا شيء أصلح منه إلا أن له عند الله أمثالًا ولكل مثل مثل. لا يُقال: يقدر على أصلح مما فعل أن يفعل. ولا يُقال: يقدر على دون ما فعل أن يفعل لأن فعل ما دون نقص ولا يجوز على الله فعل النقص، ولا يُقال: يقدر على ما أصلح لأن الله لو قدر على ذلك ولم يفعل كان ذلك بخلًا (مقالات، ج٢، ص٢٢٥).
١١  يرفض المعتزلة موقف بشر بعدة حجج أهمها: (١) إذا كان في مقدوره ما لو فعله بالمؤمن لكفر فيجب أن يكون في مقدوره ما لو فعله بالكافر لآمن، فالقادر على الشيء قادر على ضده. (٢) إذا لم يكن في مقدوره الذي هو صلاح المكلف غاية فيجب أن يدخل تحت مقدوره ما لو فعله لآمن الكافر وإلا اقتضى ذلك تناهي مقدوره. (٣) إذا لم يوصف بالقدرة وجب إثبات العجز والتعجيز. (٤) إذا جاز أن يقدر العبد على الإيمان فيجب أن يقدر على أن يجعله بحيث يختار الإيمان لا محالة كما أنه يقدر على أن يلجئه ويمنعه من ذلك لأن كل ذلك وجوه وقوع الإيمان فبعض ذلك كسائره. (٥) اختيار الكافر الإيمان يكون عند الدواعي وهي معقولة فلا بد من إثباته تعالى قادرًا عليها كما يقدر على الصوارف. (٦) إذا كان الصلاح لا نهاية له في باب الدنيا والظلم عند أصحاب الأصلح، فلماذا ينتهي اللطف والأصلح يستمر؟ وكل إنسان يسأل الله العافية؛ مما يدل على أن اللطف غير واجب. وكذلك تفضيل عبد على عبد وتفضيل الملائكة والنبيين على غيرهم يدل على أن اللطف غير واجب. وإذا كان الصلاح في النعم الآجلة يصح فيه التفضل فكذلك في النعم العاجلة. وإذا كان في السمع يصح اللطف ولكنه لا يفعله فإنه يكون غير واجب. ولو كان اللطف واجبًا لوجب أن يكون قبيحًا إذا اختار المكلف الكفر دون الإيمان. وكثير من المكلفين يتركون العبادات نظرًا للشدة والفقر فأين اللطف؟ وإذا كذب القوم الأنبياء فأين اللطف؟ وإن تعريف المكلف أنه من أهل الجنة يجعله يركن إليها فيموت على معصية. كما أن تعريف المكلف أنه يكفر ويموت على كفره يغريه بالمعاصي وتبطل فائدة الطاعة. وإذا كان الإعلام إلى وقتٍ معلوم مثل إنظار إبليس، فكيف يصح اللطف الآن؟ (اللطف، ص٢٠٠–٢٢٦).
١٢  يقع اللطف عند المجبرة إذا كان لا يرجع به إلى ما لا يختار المرء عنده فعلًا أو تركًا أو يكون عنده أقرب إلى اختياره. والمجبرة أبطلوا القول بالاختيار رأسًا. وإذا كُنَّا لا نوجب اللطف إلا أنه زيادة في تمكين المكلف أو إزاحة علته. والمجبرة يجوزون على الله تكليف ما لا يُطاق (الشرح، ص٥١٩-٥٢٠؛ اللطف، ص٥-٦). ومن يقول بالعصمة مثل المجبرة فإنها منع من الإقدام على القبيح (اللطف، ص١٧-١٨).
١٣  وهذا هو موقف جمهور المعتزلة. فمن أصلهم يجب على الله أقصى اللطف بالمكلفين، فليس في مقدور الله لطف لو فعله بالكفرة لآمنوا (الإرشاد، ص٣٠٠-٣٠١). قالت المعتزلة حاشا ضرار بن عمر وأبا سهل لبشر بن المعتمر البغدادي النخاسي بالرقيق: إن الله لا يقدر البتة على لطف يلطف به للكافر حتى يؤمن إيمانًا يستحق به الجنة، والله ليس في قوته أحسن مما فعل بنا، وإن هذا الذي فعل هو منتهى طاقته وآخر قدرته التي لا يمكنه ولا يقدر على أكثر (الفصل، ج٥، ص٣٣). عند المعتزلة ليس في مقدور الله لطف لو فعله بمن علم أنه لا يؤمن لآمن عنده، ولا لطف عنده لو فعله بهم لآمنوا (مقالات، ص٢٨٨). وعند الجبائي لا لطف عند الله يوصف بالقدرة على أن يفعله بمن علم أنه لا يؤمن فيؤمن عنده وقد فعل الله بعباده ما هو أصلح لهم في دينهم ولو كان في معلومه شيء يؤمنون به عنده أو يصلحون به ثم لم يفعله بهم لكان مريدًا لفسادهم. غير أنه يقدر أن يفعل بالعباد ما لو فعله بهم ازدادوا طاعة فيزيدهم ثوابًا، وليس فعل ذلك واجبًا عليه ولا إذا تركه كان عاتبًا في الاستدعاء لهم إلى الإيمان (مقالات، ج١، ص٢٨٧-٢٨٨). لا يوصف الله بالقدرة على لطيفة لو فعلها بمن علم أنه لا يؤمن من الكفار لآمن. ويوصف بالقدرة على أن يفعل بعباده في باب الدرجات والزيادة من الثواب أكثر مما فعله بهم لأنه لو أبقاه أكثر مما يبقى لازداد إلى طاعته طاعات تكون ثوابه لما اخترمه، فأمَّا ما هو استدعاء إلى فعل الإيمان واستصلاح التكليف فلا يوصف بالقدرة على أصلح مما فعله بهم. يكون قادرًا على منزلة يكون عبده أعظم ثوابًا إذا فعلها به ثم لا يفعلها (مقالات، ج٢، ص٢٢٤-٢٢٥). وعند عباد ما وصف الباري بأنه قادر عليه ما لم يفعله وهو لا يفعله فهو جور (مقالات، ج٢، ص٢٢٥). وقال آخرون إن ما يقدر الله عليه من اللطف له غاية وكل وجميع، وما فعله الله لا شيء أصلح منه، والله يقدر على مثله وعلى ما هو دونه ولا يفعله (مقالات، ج٢، ص٢٢٦). وهو أيضًا موقف الكرامية، فقد قالت بالحسن والقبح مثل المعتزلة، ولكنها لم تثبت اللطف أو الصلاح والأصلح (الملل، ج٢، ص٢١). ولم تثبت المشبهة رعاية الصلاح والأصلح واللطف عقلًا كما قالت المعتزلة (الملل، ج٢، ص٢١). فلا يجب على الله شيء ما بالعقل لا بالصلاح ولا بالأصلح ولا اللطف. وكل ما يقتضيه العقل من الحكمة الموجبة فيقتضي نقيضه من وجهٍ آخر (الملل، ج١، ص١٥٤-١٥٥). وقد اتهم الأشاعرة بأنهم زعموا أن الله قد كلف قومًا ولم يلطف بهم (مقالات، ج٢، ص٢٢٦).
١٤  لا سبيل إلى إثبات اللطف والدواعي لأن على قولهم بخلق الأفعال وإثبات القدرة الموجبة المكلف مصرف في الفعل وفي إرادة الفعل، كما أن الجماد مصرف فيما يحدث فيه من الحركات والسكنات، وكما أن الحي مصرف فيما يحدث فيه من حركات عروضه ومرضه وشهوته، فكيف يصبح مع هذا الاعتقاد وأن يتكلموا في اللطف؟ (اللطف، ص١٢-١٣).
١٥  ترك اللطف يوجب نقص الغرض من التكليف وهو الطاعة، وهو قبيح محال (حاشية الكلنبوي، ص١٨٩-١٩٠).
١٦  ما ينزل بالمكلف من أسباب الغموم والمصائب وما كان من الله يكون مثل الأمراض وما كان من أمره فهو لطف، وما يفعله من الألم بالغير لطف، ما يفعله أحدنا بالبهائم لطف (اللطف، ص١٠٦–١٠٨).
١٧  ذكر لفظ «اللطف» في أصل الوحي ٨ مرات، ٧ مرات صفة لله، ستة منها فاعل معرَّف والسابعة خبر كان نكرة، خمسة منها مقرونة بالخبير مما يدل على أن اللطف معارف نظرية، وذلك مثل: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(٦: ١٠٣)، (٦٧، ١٤)، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٢٢: ٦٣)، (٣١: ١٦)، إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا(٣٣: ٣٤)، ومرة يكون الله فيها لطيفًا بعباده، أي التأييدات العملية: اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ (٤٢: ١٩)، ومرة يكون فيها لطيفًا بما شاء، أي مظاهر الكون كله: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ (١٢: ١٠٠). والمرة الثامنة يكون اللطف فعل الإنسان، لطف الإنسان بالإنسان: فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ (١٨: ١٩)، فاللطف إذن ليس من طرفٍ واحد وهو لطف الله بالإنسان، بل يكون من طرفٍ آخر وهو لطف الإنسان بأخيه الإنسان.
١٨  وزعموا أن القدرة على الطاعة لطف، وأن الطاعة نفسها لطف (مقالات، ج٢، ص٢٢٦؛ اللطف، ص١٠٣–١٠٨).
١٩  يدخل هذا الموضوع في نظرية العلم وفي العقل الغائي، في الحسن والقبح، وفي اللطف وفي الحرية وفي الخواطر. المعرفة تجب من حيث هي لطف، واللطف منه ما يستحق الثواب على فعله والعقاب على تركه، المنفعة على فعله والضرر على تركه، والمعرفة كاللطف ضربان: (١) ضرورية بها يكمل العقل وتعرف بأصول الأدلة … (المغني، ج٢، النظر والمعارف، ص٤١٥–٤٢٨، ص٥٠٧–٥٢٤؛ المحيط، ص٢٣–٣٣). والدليل على أن معرفة الله واجبة هو أنها لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبحات. وما كان لطفًا كان واجبًا لأنه جارٍ مجرى دفع الضرر عن النفس … اللطف هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب لأنه الذي لا يثبت له حظ الدعاء والصرف (الشرح، ص٦٤–٦٩).
٢٠  ثبت أنه يكلف السمعيات من حيث كانت لطفًا في واجبات العقل، ولذلك تختلف أحوال المكلفين (اللطف، ص٤١٨). خلق الله لكل مكلف عقلًا يميز به ما ينفعه وما يضره وما يلائمه وما لا يلائمه، وأرسل إلينا رسلًا مبشِّرين ومنذرين فضلًا وكرمًا ولطفًا بعباده، وبين على ألسنة أولئك الرسل ما يضر وما ينفع؛ فأمر بما ينفع ونهى عما يضر (القول، ص٤١). اللطف الذي يقرب إلى الطاعة ويبعده عن المعصية كبعثة الأنبياء (الأصلح، ص١٥٣). بعثة الأنبياء وإن كانت لطفًا فلا يجوز أن تحسن لهذا الوجه (اللطف، ص٩٧–٩٩). بعثة الأنبياء بالنسبة إلى ما يهتدي إليه العقل لطفٌ مسهل، وبالنسبة إلى ما لا يهتدي إليه العقل لطفٌ محصل (حاشية الكلنبوي، ص١٨٩-١٩٠؛ النظر والمعارف، ص٢٦٠–٢٦٤، ص٤٩٠–٤٩٣؛ التعديل والتجوير، ص٤). ويرفض الأشاعرة ذلك فيقول الأشعري: وزعموا أن القرآن والأدلة كلها لطف وخير للمؤمنين، وهي غي وشر وبلاء وخزي على الكافرين (مقالات، ج٢، ص٢٢٦؛ الإرشاد، ص٥٧). الذي يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية كبعثة الأنبياء، فإنَّا نعلم أن الناس معها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية. يُقال لهم: هذا ينتقص بأمور لا تحصى، فإنَّا نعلم أنه لو كان في كل عصر نبي وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان حكام الأطراف مجتهدين متقين لكان لطفًا وأنتم لا توجبونه بل نجزم بعدمه (المواقف، ص٣٢٨-٣٢٩).
٢١  يثير القدماء عدة مسائل، منها: في أن اللطف يكون لطفًا في الشيء في حال وجوده، في القدر الذي يجب أن يتقدم اللطف وما لا يجب، وما يجوز وما لا يجوز، لا بد من تقدمه في وقتٍ واحد. ويقسِّم القدماء اللطف في الوقت الأوَّل والثاني وكأنه التوليد. هل يصحُّ فيما لا يدرك أن يساوي المدرك في كونه لطفًا أم لا؟ في ذكر ما يجوز عليه ومن لا يجوز عليه، التمكين والطريق إلى استجلاب المنفعة ودفع المضرة واستحالة ذلك على القديم، في ذكر ما يعدُّ لطفًا وليس هو منه، وما يعد لطفًا وهو خارج عنه، التمييز بين التكليف والزيادة على التكليف، بين العام والخاص (اللطف، ص٨٠–١٠١).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤