عاشرًا‎: خاتمة، أين الإنسان؟

بالرغم من غياب الإنسان كمبحثٍ مستقل في علم أصول الدين وحضوره كإنسانٍ مغترب فيه، كإنسان كامل في أصل التوحيد وكإنسان متعين في أصل الوحي، كذات وصفات في التوحيد، وكحرية وعقل في العدل، إلا أنه يظهر أحيانًا كموضوعٍ جزئي في كتب المقالات وفي الموضوعات الطبيعية، وكأن الإنسان ظاهرةٌ طبيعية، وكأنه شيء وليس إنسانًا.١ لم يظهر الإنسان صراحة كأحد موضوعات علم أصول الدين بالرغم من أن العلم كله حديث عن الإنسان. لم يظهر حاضرًا إلا في كتب المقالات وإن لم يكن هناك قسم فيه عن الإنسان. لم يظهر إلا كموضوعٍ منفصل لا صلة له بالموضوعات الأخرى، ولكن غالبًا ما يظهر كأحد موضوعات الطبيعيات وكأنه شيء وكأنه هذا الإنسان المرئي الموجود في العالم مثل باقي الأشياء. فالإنسان حاضر حضورًا مباشرًا كموجودٍ طبيعي ضائع وسط الأشياء والمقالات الطبيعية وحاضر حضورًا غير مباشر كإنسانٍ مغترب في الإلهيات، بل وفي السمعيات، كإنسانٍ كامل في التوحيد، وكإنسانٍ متعين في العدل، كإنسانٍ كامل في الذات والصفات والأفعال، وكإنسانٍ متعينٍ مثالي في العدل كحرية وعقل، كإنسانٍ مقلوب، غير الإنسان، اللاإنسان، الإنسان الآخر، الإنسان المغاير لذاته الذي اقتص جزءًا منه، جوهره وماهيته، وشخصها خارجه فظلت نائية عنه لا يستردها إلا بالمناجاة والدعاء والابتهال والصلاة، أو يتوحد بها من جديد بالرياضة والمجاهدة والأحوال والمقامات كما هو الحال في علوم التصوف. فما يقذفه المتكلم خارجًا عنه يستردُّه الصوفي داخلًا فيه.

(١) الإنسان حاضرًا في الطبيعة

ويظهر الإنسان حاضرًا في عدة تصورات. الأوَّل التصور الثنائي للإنسان الذي يجعله مركبًا من نفس وبدن، وهو التصور الشائع ليس فقط في العلوم النقلية العقلية، بل أيضًا في الدين الشعبي. ولكن الإشكال في كيفية التركيب والممازجة بينهما، أي تحديد الصلة بين النفس والبدن. ولما كان إيجاد وحدةٍ غير مركبة أمرًا صعبًا كانت الصلة بينهما إمَّا ترتكن مرة إلى روح فتكون الأولوية للروح على البدن، أو ترتكن مرة ثانية إلى البدن فتكون الأولوية للبدن على الروح. في الحالة الأولى يكون الإنسان هو الروح، ويكون الروح هو منبع الحياة ومصدر الحواس. وتداخل الروح البدن وتتشابك فيه ويكون البدن طارئًا عليها وآفةً لها. الروح جسمٌ لطيف بداخل الجسم الكثيف وهو البدن، محبوس فيه والبدن ضاغط عليه. والروح مستطيع بنفسه والعجز طارئ عليه من البدن. العجز من الجسم وليس من الروح. والموت من الجسم في حين أن الروح كله علم وقدرة وحياة وسمع وبصر وكلام وإرادة، وهي صفات الكائن الحي سواء الله أم الإنسان كروح. الروح هي صاحبة القدرة والقوة والاستطاعة قبل الفعل، وهو جنسٌ واحد، كما أن أفعاله جنسٌ واحد. وهو المأمور والمنهي، أي إنه هو المكلف والمحاسب، المعاقب والمثاب.٢ وينتج عن ذلك أن الإنسان لا يرى وإنما الذي يرى هو الجسد الذي فيه الإنسان، وأن الصحابة لم يروا الرسول وإنما رأوا قالبًا كان الرسول فيه، وإن أحدًا مِنَّا لا يرى أباه أو أمه، أخاه أم أخته، بل يرى قوالب وهياكل. وقد يكون الجماد مثل الإنسان قالبًا للروح؛ وبالتالي يصعب التفرقة بين الإنسان والحيوان والجماد ما دامت كلها قوالب وهياكل. ما دامت الرؤية تتم للقالب أو الهيكل وليس للروح فإنه تستحيل رؤية أي شيءٍ حي، إنسانًا أم حيوانًا، ملكًا أم شيطانًا. وإذا كانت الروح هي الفاعلة المحاسبة، المثابة والمعاقبة فكيف تقطع يد السارق ويجلد الزاني، وإلا كان المقطوع غير السارق والمجلود غير الزاني، وهو ضد الشرع الذي يوقع الثواب والعقاب على الأشخاص؟ وإذا كانت الروح طاهرةً نظيفة، فكيف يخرج عنها أوساخ البدن إخراجًا وقيئًا وعرقًا؟ أم أن أوساخ البدن وإفرازاته طاهرةٌ نظيفة مثل طهارة الروح ونظافتها؟ وإن كان عجز الإنسان لبدنه ما دامت الروح قادرة بنفسها كان العاجز الميت هو الإنسان، مع أن الإنسان حي قادر، أو كان العاجز الميت هو جسده؛ وبالتالي تبطل قدرة الله على إحياء الموتى لأن الحي لا يموت.٣ والحقيقة أن هذا التصور الثنائي الذي يعطي الأولوية للروح على البدن ينتهي بأن يجعل البدن أقوى من الروح فهو الضاغط عليه الحابس له. صحيح أن الروح منبع لكل مظاهر الحياة، وبالتالي يتم التركيز في هذا التصور على الحياة ومظاهره إلا أنه يصعب تفسير صلة الروح بالبدن. وبالتالي يتحول التصور الثنائي للروح والبدن إلى تصورٍ مثالي للروح، ونظرةٍ تطهرية للبدن باعتباره آفة. كما يصعب فهم صلة التداخل والمداخلة. هل هي مداخلة مادة في مادة لما كانت الروح جسمًا، أم تداخل لا مادة في مادة لما كانت الروح روحًا؟ ولا يهم مصدر هذا التصور، خارجي أم داخلي بعد أن أصبح الخارجي داخليًّا بفعل الترجمة والتمثل والاحتواء، ولكن المهم هو بنية التصور ذاته ومدى تعبيره عن التصور الحضاري العام. والمهم أيضًا هو النقد الذاتي لهذا التصور واكتشاف إمكانية الخروج من هذه الثنائية إلى طرفٍ ثالث هو الإنسان الذي لا هو روح ولا بدن، بل حياة في الجسد، وسط بين الروح المجرد والجسم المرئي. ومع أن هذا التصور طبيعي إلا أنه لم يخلُ من استعماله كدليل لتصورٍ إلهي، وكأن حياة الإنسان وحياة الله نموذجٌ واحد للحياة.
وقد يرتكن التصور الثنائي للإنسان على البدن لا على الروح، فتكون الأولوية للبدن المرئي لا للروح اللامرئي. وهنا ينقسم هذا التصور الطبيعي المادي إلى تصورَين فرعيَّين؛ إمَّا أن يكون البدن كثيرًا جواهر وأعراضًا وأخلاطًا أو يكون البدن واحدًا مرئيًّا كالجسم أو القوة أو الشخص. الأوَّل يركز على الكثرة والتعدد، بينما يركز الثاني على الوحدة. فالإنسان كثير، وقد تكون هذه الكثرة في الأبعاض؛ أبعاض الإنسان، ويكون البدن هو الجامع لهذه الأبعاض دون أن يفعل كل بعض على حدة.٤ وقد تكون هذه الأبعاض هي الأعراض مجتمعة على جوهرٍ واحد وهو الجسم أو بدون جوهر. وفي الحالة الأولى يكون قانون الاجتماع هو الأخلاط. وفي الحالة الثانية يكون الجوهر هو الحي الناطق أو يتحدد سلبًا بنفس التَّماس والمباينة عنه.٥ فإذا غلبت الوحدة على التعدد في تصور البدن فإنه يكون هو الجسم أو هو هذا المرئي. وقد تكون الوحدة معنوية فيصبح الإنسان هو القوة أو هو الشخص أو هو هذا البشر.
ويتدرج التصور من المستوى المادي إلى المستوى المعنوي حتى يصبح الإنسان هو الإنسان.٦ والحقيقة أن هذا التصور ماديٌّ واحدي في مقابل التصور الروحي الثنائي. وبالرغم من أنه أقرب إلى الحس والبداهة، إلا أنه تصورٌ طبيعيٌّ صرف غلبت عليه مفاهيم الطبيعة مثل الجواهر والأعراض والأخلاط والقوى والكل والأبعاض، هروبًا من المفاهيم اللاهوتية عن الروح والبدن. ولماذا يستبعد الشعر والأظافر من الأعراض ولا تستبعد باقي الأعراض الخارجية عن البدن كجوهر مثل كل الإفرازات، وكل ما يخرج من البدن؟ وكيف تستبعد الحياة والنطق، وحياة الشعور الخالص؟
وهنا يأتي التصور الثالث كرد فعل على التصور الثنائي بشقَّيه الروحي والمادي، الإلهي والطبيعي، ويعيد إلى الإنسان وحدته. فالإنسان هو بدن وروح لا فصل بينهما ولا تمايز، ليس مادة تتحدد بالطول والعرض والعمق، وليس روحًا طائرةً حالَّة في البدن. الإنسان جزء لا يتجزأ، لا تجوز عليه المماسة أو المباينة أو باقي الأعراض وإلا لتعدد الإنسان وتعددت أفعاله وتكاثرت شخصيته واستحالت المسئولية الفردية.٧ وهو مع ذلك مدبر في العالم وموجود فاعل فيه، وما البدن إلا آلة الفعل الظاهرة منه. ومع ذلك لا يوجد في المكان حقيقةً ولا تجوز عليه الحركة والسكون والألوان والطعوم، ولكن يجوز عليه العلم والقدرة والحياة والإرادة والكراهة. فالإنسان معنًى أو جوهر غير الجسد. وهو عالمٌ مختارٌ حكيم. حياته حياة الوعي والشعور وإن بدا متحركًا ساكنًا، له لون ورائحة. لا يمكن رؤيته ولا لمسه بل ولا وصفه إلا ظاهرًا. ومع ذلك يظهر في البدن ويتجلى فيه. فالبدن آلته للحركة وللفعل، والإنسان هو المتحكم فيه والمدبر له. حقيقة الإنسان في حياة الشعور، وحياة الشعور تتمثل في الإرادة الواعية، أي إن الإرادة القائمة على العلم، وكلاهما تعبير عن الحياة.٨ وهنا أيضًا يصبح الإنسان مماثلًا لله في حياة الشعور. فهناك شعورٌ واحد يتصف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة. فإذا كان السمع والبصر وسيلتين للعلم، وإذا كانت الإرادة تعبيرًا عن القدرة، وإذا كان الكلام إيصالًا للعلم تكون الحياة علمًا وإرادة، ويكون الشعور الحي نظرًا وعملًا؛ وبالتالي يظهر الإنسان كشعورٍ حي يتجلى في العلم والإرادة، في النظر والعمل، ويسترد الإنسان صفاته بعد طول المطاف.٩

والحقيقة أن هذا التصور لا ينتج عن أثرٍ خارجي من علوم الحكمة أو غيرها، بل نابع من علم أصول الدين، ومحاولة لاكتشاف الإنسان كمبحثٍ مستقل. فالإنسان هو الإنسان دون رده إلى ما هو أكثر منه كروحٍ إلهي ولا إلى ما هو أقل منه كبدنٍ طبيعي. والعجيب أن تتحول النظرة المادية أي التجسيم والتشبيه إلى نظرةٍ روحية في الإنسان، كما تتحول النظرة المثالية أي التنزيه في الإلهيات إلى نظرةٍ طبيعية في الإنسان، وكأن الله والإنسان متقابلان ومتكاملان في التشبيه والتنزيه. إذا ما شبَّه الله نزَّه الإنسان، وإذا ما نزَّه الله شبَّه الإنسان.

(٢) الإنسان مغتربًا في الله

وبالإضافة إلى الإنسان حاضرًا في المقالات عن الإنسان كموجودٍ طبيعي هناك الإنسان مغتربًا، الإنسان الكامل الذي يقبع وراء نظرية الذات والصفات، والإنسان المتعين الذي يقبع وراء نظرية الأفعال. الإنسان كذات أو كوعيٍ خالص موجود قديم باق أي لا أول له ولا نهاية له في الزمان ولا يحل في مكان ولا يشبه الحوادث، وواحد. والإنسان كصفات أو كوعي متعين متحقق بالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، والإنسان المتعين بالحرية والمتميز بالعقل، وكأن الحرية هي مبدأ التفرد؛ تفرد الإنسان المتعين من الإنسان الكامل، وأن العقل نتيجةٌ طبيعية للحرية لما كانت الحرية عاقلةً مسئولة؛ ومِنْ ثَمَّ يكون الإنسان ذاتًا وصفات وأفعالًا هي النتيجة النهائية للعقليات الشق الأوَّل لعلم أصول الدين.١٠
١  مقالات، ج١، ص١٢٥-١٢٦.
٢  هذا هو الرأي الشائع عن النظام. فالإنسان هو الروح (مقالات، ج١، ص١٢٥). الإنسان هو الروح ولكنها مداخلة للبدن مشابكة له وإنه كل هذا وإن البدن آفة عليه وحبس وضاغط له. الروح هي الحاسة الداركة، وإنها جزءٌ واحد، ليست بنور ولا ظلمة (مقالات، ج٢، ص٢٥-٢٦). الإنسان جسمٌ لطيفٌ متداخل لهذا الجسم الكثيف. والروح هي الحياة المتشابكة لهذا الجسد في الجسد على سبيل المداخلة، جوهرٌ واحد غير مختلف ولا متضاد (الفِرَق، ص١٣٥-١٣٦). وهو أيضًا قول بكر بن أخت عبد الواحد بن يزيد. فالإنسان هو الروح، وكذلك جميع الحيوان. ولم يكن يجوز أن يحدث الله في جماد شيئًا من الحياة والعلم والقدرة (مقالات، ج١، ص٣١٨). وهو أيضًا أحد مقالات الروافض (مقالات، ج١، ص١٢٥). ومقالة أن الإنسان هو النفس والروح والبدن آلتها؛ هي مقالة الفلاسفة والطبائعيين، مع أن الروح جسمٌ لطيفٌ مشابك للبدن مداخل للقلب مداخلة المائية في الورد والدهنية في الجسم والسمنية في اللبن. الروح لها قوة واستطاعة وحياة ومشيئةٌ مستطيعة بنفسها والاستطاعة قبل الفصل (الملل، ج١، ص٨٣). الروح جنسٌ واحد وأفعاله جنسٌ واحد. الجسم ضربان، حي وميت، والحي يستحيل أن يصبح ميتًا والميت حيًّا. وهو قول الثنوية والبرهمية الذين يقولون إن النور حيٌّ خفيف من شأنه الصعود، وإن الظلام موات ثقيل من شأنه التسفل، وإن الثقيل محال أن يصير خفيفًا، والخفيف الحي أن يصير ثقيلًا ميتًا (الفِرَق، ص١٣٦). ويشارك في ذلك أحمد بن حابط. فالإنسان لديه هو المأمور المنهي المنعم عليه، هو الروح التي في الجسم، وإن الأجسام قوالب للأرواح، والروح هو القادر العالم، والحيوان كله جنسٌ واحد (الفِرَق، ص٢٧٤). وهو أيضًا رأي القرامطة والديلم. فالإنسان هو الروح فقط والبدن ثوب هو لابسه. وكل ما يخرج من الجوف من مخاط ونخاع ورجوع وبول ونطفة وقذى ودم وقيح وصديد وعرق؛ طاهر ونظيف، حتى ربما أخذ عن بعضهم من رجيع بعض يأكله لعلمه أنه طاهرٌ نظيف (التنبيه، ص٢١). هو أيضًا رأي الديصانية. فالإنسان لديها روح، والحواس الخمس أجزاء منها. والإنسان جزءٌ واحد غير مختلف إلا أن إدراكه اختلف، يدرك بكل جهة ما لا يدركه بالأخرى. والآفة خالطته من جهة على غير ما خالطته من جهةٍ أخرى، فاختلاف الإدراك لاختلاف الأخلاط والمزاج (مقالات، ج٢، ص٢٦). وهو أيضًا رأي المرقونية. فلديها أن البدن فيه حواس خمس وروح وأن الروح هي الإنسان والحواس ليست منه بل إرادات تؤدي إليه، وهو غير البدن، وجعلوها جنسًا ثالثًا ليس بنور ولا ظلمة (مقالات، ج٢، ص٢٦-٢٧). وهذا أخيرًا رأي المنانية. فالإنسان لديها حواسُّ خمس، وهي أجسام وأنه لا شيء غير الحواس الخمس (مقالات، ج٢، ص٢٦).
٣  هذا هو نقد القدماء لهذا التصور وهي التي يسميها أهل السنة فضائح النظام وهي خمسة: (أ) لا يرى الإنسان وإنما يرى الجسد الذي فيه الإنسان. (ب) الصحابة لم يروا الرسول وإنما رأوا قالبًا فيه الرسول. (ج) لم يرَ أحد أباه وأمه وإنما رأى قالبهما. (د) لما قال إن الإنسان ليس هو الجسد الظاهر بل روحٌ مداخل للجسد لزمه أن يقول في الجماد أيضًا إنه ليس جسدًا بل روح فيه الحياة المشابكة له، وكذلك الفرس وسائر البهائم والطيور والحشرات والحيوانات والملائكة والجن والإنسان والشياطين. وهذا يوجب أن أحدًا ما رأى حمارًا ولا فرسًا ولا طيرًا ولا حيوانًا ولا يوجب ألا يكون النبي رأى ملاكًا ولا أن الملائكة يرون بعضهم البعض وإنما رأوا أشياء في قوالبَ أخرى. (ﻫ) إذا كانت الروح التي في الجسد هي الإنسان وهي الفاعلة دون الجسد الذي هو قالبه؛ لزمه أن يقول إن الروح التي هي الزانية والسارقة والقاتلة. فإذا جلد الإنسان وقطعت يداه صار المقطوع غير السارق والمجلود غير الزاني، وهذا ضد القرآن: «الزانية والزاني …». ومن فضائح النظام أن الروح التي هي في الإنسان مستطيعة بنفسها وبنفسها. وإنما تعجز لآفة تدخل عليها والعجز جسم فإمَّا أن يقول في العاجز الميت إنهما نفس الإنسان الذي يكون حيًّا قادرًا أو يقول إن الميت العاجز جسده. فإن قال الأوَّل بطل أن الإنسان حي بنفسه. وإن قال الثاني وجب ألا يكون الله قادرًا على إحياء ميت لأن الحي لا يموت، وهو نفي لقدرة الله (الفِرَق، ص١٣٥-١٣٦).
٤  هذا هو تصور أبي الهذيل أساسًا. فالإنسان لديه كثير. لا يقول كل بعض من أبعاض الجسد فاعل على الانفراد ولا إنه فاعل مع غيره، ولكنه يقول هو هذه الأبعاض (مقالات، ج٢، ص٢٥).
٥  وهو تصور ضرار بن عمر؛ فالإنسان لديه أعراضٌ مجتمعة، والجسم أعراضٌ مجتمعة من لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ومجسة من أشياءَ كثيرة؛ لون وطعم ورائحة وقوة، ولا يوجد جوهر غيرها (مقالات، ج١، ص٣١٣، ج٢، ص٢٥). وعند برغوث: الإنسان هو الأخلاط من اللون والطعم والرائحة وما أشبه ذلك. إذا تحرك بعضه وسكن بعضه فعل البعض الساكن الحركة لا من جهة ما فعل المتحرك، وفعل البعض المتحرك السكون لا من جهة ما فعله الساكن، وأن كل بعض من أبعاض الإنسان يفعل فعل الآخر لا من جهة ما فعله الآخر (مقالات، ج٢، ص٢٥). وعند أصحاب الطبائع: الإنسان هو الحر والبرد واليبس والبلة. اختلط بهذا الضرب من الاختلاط، وكذلك سمعه وسائر حواسه، وكذلك عظمه ولحمه ودمه وجميع هذه الأمور هي الإنسان (مقالات، ج٢، ص٢٧). وعند عباد بن سليمان: الإنسان جواهر وأعراض (مقالات، ج٢، ص٢٥). ولأصحاب الهيولى أقاويلُ مشابهة تتمايز فيما بينها في أربعة: (أ) الإنسان هو الجوهر الحي الناطق الميت، وهو إنسان في حالة نطقه وحياته، وجوزوا الموت عليه وقد كان قبل ذلك لا إنسانًا. (ب) الإنسان هي الحي الناطق وهو الجوهر وأعراضه. (ج) في الجوهر شيء ليس بمماس ولا مباين ولا واحد منه مختلط بصاحبه وهو في الجوهر وأعراضه. (د) في الجوهر شيء ليس بمماس ولا مباين ولا واحد منه مختلط بصاحبه وهو في الجوهر على أنه مدبر له (مقالات، ج٢، ص٢٧).
٦  ينسب هذا التصور أيضًا لأبي الهذيل، فالإنسان لديه هو هذا الجسم المرئي، هو الشخص الظاهر المرئي الذي له يدان ورجلان. وقيل إنه لا يجعل شعر الإنسان وظفره من جملة الإنسان (مقالات، ج١، ص١٢٥). وهو رأي جمهور المعتزلة فالبدن هو الإنسان وأعراضه ليست منه ولا يجوز أن يكون فيه عرض (مقالات، ج٢، ص٢٤). وقيل أيضًا إنه رأي الروافض. وعند أبي بكر الأصم: الإنسان هو الذي يرى، وهو شيءٌ واحد لا روح له، جوهرٌ واحد. ونفى إلا ما كان محسوسًا مدركًا (مقالات، ج٢، ص٢٥). وأنكر حسين النجار أن تكون القوة بعض الإنسان وأنكره أيضًا أكثر أهل النظر (مقالات، ج٢، ص٢٥). وعند عباد بن سليمان، الإنسان معناه أنه بشر، معنى إنسان بشر ومعنى بشر إنسان في حقيقة القياس (مقالات، ج٢، ص٢٥).
٧  هذا هو تصور بعض الروافض مثل هشام بن الحكم؛ فالإنسان اسم لمعنيين، بدن وروح، البدن موات والروح فاعلة لا لآلة حساسة، نور من الأنوار (مقالات، ج١، ص١٢٥، ج٢، ص٢٥-٢٦؛ الفِرَق، ص٦٨). وهو أيضًا رأي بعض المعتزلة. فعند بشر، الإنسان جسد وروح وكلاهما إنسان. الفعال هو الإنسان الذي هو جسد وروح. وعند النظام الإنسان ليس بطويل ولا عريض ولا عميق (رواية ابن الراوندي التي ينكرها الخياط). وعند ابن الراوندي الإنسان في القلب وهو غير الروح، والروح ساكنة في البدن (الانتصار، ص٥٤).
٨  هذا هو رأي معمر بن عباد أساسًا ويشاركه فيه الصالحي. فعند معمر الإنسان شيء غير هذا الجسد المحسوس. وهو عالمٌ قادر، وليس محركًا ولا ساكنًا ولا متلونًا. لا يرى ولا يلمس ولا يحل موضعًا دون موضع، ولا يحويه مكان دون مكان. فإذا قيل له: أتقول إن الإنسان في هذا الجسد أم في السماء أم في الأرض أم في الجنة أم في النار؟ قال: لا أطلق شيئًا من ذلك ولكن أقول إنه في الجسد المدبر وفي الجنة منعَّم أو في النار معذَّب، وليس هو في شيء من هذه الأشياء حالًا ولا متمكنًا لأنه ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا ذي وزن. ثم إن هذا القول يوجب عليه ألَّا يرى إنسان إنسانًا ويوجب ألَّا يكون الصحابة رأوا رسول الله (الفِرَق، ص١٥٤-١٥٥). مذهبه في حقيقة الإنسان. الإنسان معنًى أو جوهر غير المجسد وهو عالمٌ مختارٌ حكيم ليس بمتحرك ولا ساكن ولا متلون ولا متمكن، ولا يرى ولا يحس ولا يمس ولا يحل موضعًا دون موضع ولا يحويه مكان ولا يحصره زمان. لكنه مدبر للجسد، وعلاقته مع الجسد علاقة التدبير والتصرف. وإنما أخذ هذا القول من الفلاسفة حيث قضوا بإثبات النفس الإنساني أمرًا ما هو جوهرٌ قائم بنفسه ولا متميز ولا متمكن، وأثبتوا من جنس ذلك موجوداتٍ عقلية مثل العقول المفارقة. ثم لما كان ميل معمر بن عباد إلى مذهب الفلاسفة ميَّز بين أفعال النفس التي سماها إنسانًا وبين القلب الذي هو جسد، فقال فعل الناس هو الإرادة فحسب والنفس إنسان. فعل الإنسان هو الإرادة وما سوى ذلك من الحركات والسكنات والاعتمادات فهي من فعل الجسد (الملل، ج١، ص١٠١-١٠٢). ليس للإنسان فعل سوى الإرادة مباشرةً كانت أو توليدًا. أفعاله التكليفية من القيام والقعود والحركة والسكون في الخير والشر كلها مستندة إلى إرادته لا على طريق المباشرة ولكن على طريق التوليد. وهذا عجب غير أنه بناه على مذهبه في حقيقة الإنسان (الملل، ج١، ص١٠٠-١٠١). وعند معمر أيضًا أن الإنسان جزء لا يتجزأ، المدبر في العالم والبدن الظاهر آلة له. وليس هو في مكان في الحقيقة، ولا يماس شيئًا ولا يماسه، ولا يجوز عليه الحركة والسكون والألوان والطعم، ولكن يجوز عليه العلم والقدرة والحياة والإرادة والكراهة، وأنه يحرك هذا البدن بإرادته ويصرفه ولا يماسه (مقالات، ج٢، ص٢٦). الإنسان جزء لا يتجزأ لأنه لو كان أكثر من جزء لجاز أن يحل في أحد الجزأين إيمان وفي الآخرة كفر؛ فيكون مؤمنًا وكافرًا في حالٍ واحد وذلك محال (مقالات، ج١، ص١٢٥). أمَّا الصالحي فالإنسان لديه أيضًا جزء لا يتجزأ ويجوز عليه المماسة والمباينة والحركة والسكون، وهو جزء في بعض هذا البدن حالٌّ، ومسكنه القلب، وأجاز عليه جميع الأعراض (مقالات، ج٢، ص٢٦).
٩  يوصف الإنسان بما يوصف به الإله لأن وصفه بأنه حيٌّ عالمٌ قادرٌ حكيم هي أوصاف واجبة لله. ثم نزه الإنسان عن أن يكون متحركًا أو ساكنًا أو حارًّا أو باردًا أو رطبًا أو يابسًا أو ذا لون أو وزن أو طعم أو رائحة والله منزَّه عن هذه الأوصاف. وكما «زعم» أن الإنسان في الجسد مدبر له لا على معنى الحلول والتمكن فيه، كذلك الإله عنده في كل مكان على معنى أنه مدبر له عالم بما يجري فيه لا على معنى الحلول والتمكن فيه، فكأنه أراد أن يعبد الإنسان بوصفه إياه بما يوصف الإله به؛ فلم يجسر على إظهار القول بما يؤدي إليه (الفِرَق، ص١٥٥).
١٠  انظر دراستنا: «لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟» في «دراسات إسلامية»، وكذلك دراستنا: Théologie ou Anthropologie في المجلد المشترك La Renaissance du Monde Arabe.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤