ثانيًا: أفعال الشعور الداخلية

الأفعال نوعان: أفعال الشعور وأفعال البدن، الأفعال الداخلية والأفعال الخارجية. وقد سمى القدماء أفعال الشعور أفعال القلب، وأفعال البدن أفعال الجوارح. والقلب ليس آلةً عضوية، بل يشير إلى حياة الشعور الداخلية، وهي أفعال لا محل لها، على عكس الجوارح التي في محل سواء في الآلة، اليد أو الرجل أو الرأس، أو في محل الفعل. وبالتالي ارتبطت أفعال الجوارح بالاعتمادات والأكوان والمماسات والحركات والسكنات وكل ما يتعلق بتوليد الأفعال.١

(١) هل أفعال الشعور الداخلية أفعالٌ جبرية؟

وأفعال الشعور أفعال مثل أفعال الجوارح، تنطبق عليها مقولات خلق الأفعال مثل الحركة والجبر.٢ وأول إيهام بالجبر إنما يأتي من إثبات الصفات والأسماء، خاصةً صفات الفعل وأسماء الفعل المؤثرة في العالم مثل الإرادة والمشيئة والأمر والقدرة والخلق والإذن والتكليف والعلم والسخط والغضب. وما دام الأمر وضع على هذا النحو فمن الطبيعي ألا تكون هناك حرية أفعال على الإطلاق، سواء أفعال الشعور الداخلية أو أفعال الشعور الخارجية. ومن الطبيعي أن يحدث ذلك ما دامت هناك صفاتٌ مطلقة لا يقوى الإنسان أمامها شيئًا، وما دام الإنسان قد وُضع في مقابل الله من أجل معرفة أيهما أقدر! وكأن الحرية تتمثل في علاقة فعل الإنسان وإرادة الله وقدرته وعلمه، وليس بعلاقة فعل الإنسان في العالم، وتحقق إرادته في موقف. وقد نشأ الطرف الآخر متعاليًا؛ نظرًا لاغتراب الإنسان عن عالمه وإسقاطه العالم من الحساب وإيجاده بديلًا آخر خارج العالم، فترك العالم إلى الله كما يترك الدنيا إلى الآخرة، يعيش خارج الدنيا، ويعيش في الآخرة قبل الأوان، يضع الدنيا آخر الزمان، ويحضر الآخرة أول الزمان، ويعيش مع الله قبل تحقيق الرسالة، وهو لم يفعل بعدُ ولم يستحق شيئًا. يأخذ النتيجة بلا مقدمات، ويحصل على الثمرة بلا جهد، فتأتي غير ناضجة، مرة المذاق. إن إثبات صفات وأفعالٍ زائدة على الذات يعطي للذات فاعليةً مطلقة في العالم، تبدو لها من خلال الصفات والأفعال في مسار الطبيعة والفعل الإنساني. ومِن ثَمَّ لا يكون الفعل الإنساني حرًّا لأنه خاضع إلى حرية أكبر تتدخَّل في مساره وفي مسار الطبيعة على حدٍّ سواء.٣ وإثبات قِدَم الصفات يقضي أيضًا على خلق الأفعال لأنه لا يمكن أن يخرج فعلٌ حر حادث من إرادة مطلقةٍ قديمة.٤ قِدَم الصفات يستلزم قِدَم الأفعال مما يؤدي إلى نفي الحرية والاختيار، سواء كان ذلك في العلم أو القدرة أو الإرادة، وهي الصفات الثلاث الأكثر تدميرًا لحرية الأفعال على عكس الحياة والسمع والبصر والكلام لما كان السمع والبصر تعبيرًا عن العلم ووسائل له، والحياة شرطهما، والكلام إعلان عنهما. والحياة لا تشعر بها، والكلام شخصناه في القرآن ومنعناه عن أنفسنا فجعلنا اللهَ متكلمًا وأنفسنا بكمًا. وتتعلق الصفات الانفعالية أيضًا بالإرادة القديمة وبالتالي فإن أفعال الإرادة من رضا وغضب وسخط … إلخ هي أيضًا أفعالٌ قديمة. إن إثبات قِدَم الإرادة يؤدي إلى نفي الحرية الإنسانية، كما أن نفي قِدَمها يؤدي بالضرورة إلى إثبات الحرية الإنسانية. ومعظم الحجج التي تقدَّم لإثبات قِدَم الإرادة إنما تكشف في الحقيقة عن الرغبة في تأكيد عواطف التأليه ووضعها على مستوى الكمال والإطلاق. وإذا كانت صفةٌ واحدةٌ قديمة مثل العلم فلا بد أن تكون باقي الصفات كذلك؛ لأن خلق الإرادة يوجب حدوث العلم وتغيره، وكأن النسق الذهني لصفات الله له الأولوية على حرية أفعال الإنسان.٥

(١-١) إثبات صفات العلم والقدرة والإرادة

وأهم الصفات التي يُتذرَّع بها لإثبات الجبر هي صفات العلم والقدرة والإرادة مع الشيئية. والجبر نتيجة لإثبات صفتَي العلم والقدرة، خاصةً لما كانتا هما الصفتان الشاملتان، وإلا فجاز انقلاب علمه جهلًا وقدرته عجزًا، وكأن فعل الإنسان الحر مجهول من الله ومعجز له! ينشأ الجبر في الأفعال من تصور علم الله المسبق بكل ما يحدث في الكون نتيجة لإثبات صفة العلم وقِدَمها وشمولها؛ لذلك كان نفي الصفات وإثبات حدوثها إثباتًا لحرية الأفعال.٦ والحقيقة أن شمول العلم الإلهي حق وإلا كان الإنسان جاهلًا، وأسبقيته دليل على وجود العلم القبلي وهو أحد مقولات العلم الإنساني. وأن إثبات الفعل الحر لا يعني إثبات الجهل في العلم، بل يعني إثبات العلم التجريبي المتغير تحقيقًا للعلم في التجربة وقياسه عليها. علم الله في أحد جوانبه، خاصةً فيما يتعلق بالشرائع والتكاليف، علمٌ تجريبي معدل بعدي وهو ما أثبته أيضًا علم أصول الفقه. إن أسبقية العلم لا تعني نفي حرية أفعال الشعور، فالعلم النظري شيء والواقع العملي شيءٌ آخر. وإن من الحكمة التضحية بفعالية العلم ووقوعه من الله عن التضحية بحرية الأفعال الاختيارية من الإنسان. فالأولى لن تنال من الله في شيء، في حين أن الثانية تمنع الإنسان من التكليف. العلم حقٌّ نظري، ولكن حرية الأفعال حقٌّ عملي.
وينشأ الإيهام بالجبر من جعل الله قادرًا على كل ممكن ومِنْ ثَمَّ يكون الجبر نتيجة لنظرية الجائز والممكن والمستحيل. والحقيقة أن هناك فرقًا بين الجواز العقلي والإمكان الفعلي. إذ إن الفعل لا يقدر على كل شيء ممكن في العقل. إن الجواز العقلي ليس مطلقًا فإمكانيات العقل ليست افتراضًا عشوائيًّا بل إمكانيات قصدية محكومة بإمكانية التحقق، وإلا كانت نظرياتٍ مجردة لا واقع لها ولا تتحول إلى واقع. وبالتالي فإن قلب المستحيل واجبًا والواجب مستحيلًا افتراضٌ خاطئ؛ لأن أحكام العقل ليست عشوائية، بل هي إراديةٌ قصديةٌ حكيمة.٧
ولكن الصفة الغالبة في تحليل ذرائع الجبر هي صفة الإرادة. الإرادة شاملة، مطلقة وواحدة لا يندُّ عنها شيء؛ وبالتالي انضوت جميع الأفعال الإنسانية تحتها. وتظهر في البسملات الإرادة الشاملة، وتثبت على حساب الحرية الإنسانية، كما تعقد لها أبوابٌ خاصة في نهاية الصفات وكأن المقدمات هي النتائج، وكأن الأحكام المسبقة هو المطلوب إثباته.٨ والإرادة شاملة في الحال وفي المآل، العبرة بالنهاية وليست بالبداية، والمحكُّ هو المصير وليس فعلًا واحدًا. الإرادة هي المشيئة والاختيار والرضا والمحبة … إلخ، وهي صفاتٌ أخرى دائمة لا تتغير بتغير الأفعال. والحقيقة أن هذا يدل على الظلم لأن أفعال العباد متغيرة وليس لها ثابت بدليل التوبة والأفعال المتجمدة؛ لذلك كانت العبرة فيها بالأفعال الختامية، بالتجارب وحصيلتها النهائية، أي بتجربة العمر كله ورصيد الإنسان النهائي. وإذا كانت الإرادة مطلقة وإلا وقع فيها النقص من وهن وضعف وتقصير عند بلوغ المراد فكأن حرية أفعال العباد تنال من إرادة الله المطلقة وشمولها وتصيبها بالسهو والغفلة أو الضعف والوهن والعجز والتقصير، وهو تصوُّر غير كامل للإرادة الإلهية، وكأن إرادة الإنسان أقوى من إرادة الله والمسير لها والمسبب لأحداثها،٩ وجعل القضية من الغالب ومن المغلوب في تحقيق مراد الإنسان أم الله. ليست القضية معركة بين الله والإنسان؛ مَن الغالب فيها ومَن الذي يتم مراده دون الآخر؟ فليس شرفًا لله أن يدخل في معركة مع الإنسان، كما أن علاقة الإنسان بالله ليست علاقة الخصم أو الند. إن دليل الممانعة جائز لأن المراد بين إلهين متكافئين على نفس المستوى؛ إمَّا أن يكون بين الإنسان والله فتلك علاقة غير متكافئة على الإطلاق، ومن الطبيعي إذا ما صارع الأسد فأرًا أو فيلٌ نملةً أن تكون الغلبة للأسد أو الفيل، أليست القضية أيضًا إرهابًا لفعل الإنسان باتهام الحرية بأنها تجهيل لله وتعجيز له؟ فالمتكلم أين يقف؟ وفي صف مَن؟ دفاعًا عن سلطة الله المطلقة أم دفاعًا عن حرية الإنسان؟ دفاعًا عن القوي أم دفاعًا عن الضعيف؟ تأييدًا للقاهر أم تأييدًا للمقهور؟ دفاعًا عمن ليس في حاجة إلى دفاع أم دفاعًا عمن هو في حاجة إلى دفاع؟ تأكيدًا على من لا تحتاج إرادته إلى إثبات أم إثباتًا لمن تحفُّ بإرادته المخاطر؟ نصرة للقادر أم نصرة للعاجز؟ وكون الإرادة واحدةً محيطة بجميع المرادات على وفق علمه بها، فما علم منه كونه أراد كونه خيرًا كان أو شرًّا، وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون، ولا يحدث في العالم شيء لا يريده الله، ولا ينتفي ما يريد الله، لا يعني كل ذلك نفيًا لحرية أفعال الإنسان إنما هو إرهاب، إرهاب الإنسان بالوحدانية القاهرة وبالإرادة الشاملة لسلب الإنسان حرية الاختيار وقدرته على السلوك المتعدد المتغير طبقًا للظروف.١٠ ولا معنى لكون إرادة الله إرادة عامة وشاملة لا يؤثر فيها ترتيب الأفعال أو الاختصاص. وأن ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت، ومكان دون مكان، وزمان دون زمان لا يدل على إرادة خارجية بل على حكمة في الطبيعة وعلى عقلٍ إنسانيٍّ مدبر وعلى خطةٍ عقليةٍ سليمة. وأن إثبات الإرادة على أنها اختيار أحد الاحتمالات من القدرة المطلقة لهو إسقاط من شعور الإنسان بذاته على التأليه المشخص، سقوط موضوع الاختيار على الله. وتصور الإرادة على أنها تخصيص للقدرة لهو تصور علاقة بين العام والخاص في التأليه المشخص، وهو العالم الشامل المطلق الذي لا اختصاص فيه. وتصور أن إرادة الإنسان تخصيص لإرادة لهو وضع الإرادتين معًا؛ إرادة الله وإرادة الإنسان كطرفين متكافئين في علاقة متكافئة، وهو وإن كان شرفًا للإنسان أن يكون طرفًا لله، فإنه قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى الله؛ وبالتالي ينتهي العدل إلى انتقاص للتوحيد. وقد ينشأ الجبر من أن إرادة الله المطلقة قد لا تعرف اختصاصًا بالخير دون الشر، أو تفصيلًا بين عام وخاص، وإيثارًا للعام وترك الخاص لأفعال العباد نظرًا لشمولها وعمومها وإطلاقها، وبالتالي تكون كالإرادة القاهرة، كالتيار الجارف الذي لا تقف أمامه إرادةٌ أخرى. وإن عرفت الاختصاص فإنها تكون مشابهة للإرادة الإنسانية، وكأن إرادة الله تتحد بالنسبة لإرادة الإنسان، وبالتالي تكون إرادة الإنسان هي المحدد لإرادة الله عن طريق القلب.١١ والإرادة والمشيئة شيءٌ واحد. فمن صفات الكمال نفاذ المشيئة. ونفاذ المشيئة يؤيد بإجماع السلف على قول «ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن!» والحقيقة أن نفاذ المشيئة للملك السلطان معارَض أيضًا بالثورة عليه وقلبه وعزله ومحاكمته وقتله. كما أن إجماع الأمة أقرب إلى إجماع في لحظة معينة، لحظة تسليم للسلطان، لحظة استسلام دون مقاومة، لحظة انكسار تاريخي وليس كل اللحظات. وهو أقرب إلى المثل الشعبي والقول المأثور، ولكنه ليس المثل الشعبي الوحيد. هناك أقوالٌ مأثورة وأمثالٌ شعبية تدعو إلى خلق الأفعال وإلى تحرر الإنسان وثورته على الظلم والطغيان. وما الهدف من إثبات عجز البشر وتأكيد عدم قدرتهم على الحركة، والقضاء على زمام المبادرة من أيديهم؟ لا مصلحة في ذلك إلا للسلطان. لذلك اعتمد على السلطة الدينية لتقرر له ما يريد ولتثبت له البناء النفسي الموروث للأمة منذ ألف عام أو يزيد. ليس المهم الحديث عن حق الله بل عن واقع البشر.١٢ ليست المشيئة إرادةً مشخصة لكائنٍ مشخص، بل هي قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ، أي أنها هي مسار الكون بعد أن يتحقق، والزمان بعد أن يصبح حوادثَ ووقائعَ وتاريخًا.

(١-٢) إثبات الأسماء

ويتخذ الإيهام بالجبر الأسماء أيضًا ذريعة، ويعتمد عليها للإيحاء بالجبر خاصةً وأنها كلها أسماءٌ متعالية تعطي الأولوية المطلقة للفعل الإلهي، مع أنها مجموعة القيم الإنسانية النظرية والعملية ومقاييس للحكم.١٣ وأكثر الأسماء شيوعًا للإيهام بالجبر هو الخالق. فالله خالق كل شيء في الكون بما في ذلك أفعال الإنسان. ومن هنا يأتي اسم «خلق الأفعال» بمعنى أن الله هو الخالق لأفعال الإنسان. فإذا كان الفعل يتم بالقدرة والداعي، أي بالطاقة والباعث، فإنهما يأتيان من الإنسان. فلا يعني كون الإنسان مخلوقًا أنهما أيضًا مخلوقان. خلق الله الإنسان، ولكن قدراته ودواعيه من نفسه كما أن الله خلق الطبيعة ولكن قوانينها وحركتها من ذاتها. هناك فرق بين الخلق المادي التكويني للشيء وخلق الفعل الحر من الخلق الأوَّل. فليس الإنسان خالقًا لبدنه ولا لقواه ولا لموقفه الاجتماعي ومع ذلك فهو خالق لفعله، مسئول عن نشاطه.١٤ قد يكون الهدف من الخلط بين الاثنين هو القضاء على استقلال الإنسان، وإيهام له بالتبعية، وأن وجوده قائم على أساس من خارجه في حياته ورزقه وأفعاله، فتنتفي المسئولية ويُقضى على المعارضة، وإعطاء الأولوية المطلقة للعلة الأولى، أي السلطة على العلل الثانية أي المعارضة. إن كون الله خالق الكون هو حقٌّ طبيعي له، ولكن ذلك لا يعني أنه خالق للأفعال كحقٍّ معنوي، وكونه خالق الإنسان الحر لا يعني أنه خالق الفعل الحر. هناك حرية داخل الكون، في الطبيعة، وفي نطاق الأفعال، في الإنسان، هناك قوانين مستقلة، كمون وطفرة وظهور. إن كون الله خالق الكون والإنسان لا يمنع الإنسان من أن يكون خالقًا حُرًّا، مؤثرًا في الكون ومغيرًا للنظم الاجتماعية والسياسية. بل إن ضرورة أفعال الإنسان الحرة هي إكمال لأفعال الخلق وإعادة لنظامه الطبيعي. إن الاستنباط العقلي لا يحكم على التجارب الحسية، والاستدلال الصوري لا يقضي على الواقع المشاهد. فكون الله خالق كل شيء لا ينتج منه استدلالًا أنه بالتالي خلق الأفعال، وبالتالي فالإنسان ليس خالق أفعاله، وبالتالي فهو ليس حرًّا مسئولًا، وبالتالي في حاجة إلى وحي وإرادةٍ مطلَقة فتأتي السلطة السياسية المطلقة وتقوم بالدور! إن الجبر إنكار لحرية الإنسان ولتجدد أفعاله، بل وإنكار للتغير والقرار الحر والصراع والتاريخ. إذا كان كل شيء محدِّدًا من قبلُ، فإنه لا فعل ولا تغير ولا تاريخ، وتكون حياة الإنسان وصراعاته وهمًا في وهم وخداعًا في خداع. إن الابتهال والدعاء والسؤال لله لا تعني أن الإنسان ليس خالقًا لأفعال الشعور الداخلية، بل هي أقرب إلى تقوية الذات وتحمية الشعور وعقد العزم وإلا وقعنا في فلسفة السؤال وفي موقف الشحاذة.١٥ ولما كان خلق أفعال الشعور أسهل من خلق الأجسام فإنه ليس من كمال الله أن يكون قادرًا على خلق الأضعف. وما دام الاستنباط واردًا فإن كان الله قادرًا على خلق الأجسام فإنه طبقًا لقياس الأولى يكون قادرًا على خلق الأفعال ويكون إثبات خلق الله للأفعال تحصيل حاصل بالنسبة للتوحيد، ويقضي على حرية الأفعال وعلى خلق الإنسان لأفعاله بالنسبة للعدل. ويكون الهدف هو توجيه التوحيد لتقويض العدل كأسسٍ نظري عقائدي لتصدى السلطة للقضاء على المعارضة. صحيح أن حرية الأفعال تتحقق في موقف وفي مجموع من الإرادات الخارجية، تقابلها العقبات، وتتحداها القوى، ومع ذلك تظل أفعالًا حرةً للشعور، ثابتة وباقية، وما الإرادة الخارجية المطلَقة الشاملة إلا اختصار لمجموع الإرادات المقابلة، والعقبات المواجهة، ومكونات الموقف الاجتماعي الذي تتخلَّق فيه أفعال الإنسان. أفعال الشعور الداخلية أفعالٌ حرة حتى يمكن الحكم عليها وعلى مسئولية الإنسان عنها. والخطأ في تصور الإرادة العامة المطلَقة والشاملة اعتبارها مشخصة لمريد مشخص وليس إحالة مختصرة إلى «الموقف الحياتي» الذي يتم منه خلق الإنسان لأفعاله. كما أنها تشير إلى أنه لا يوجد شيء لا يمكن تطويعه أو يندُّ عن الإرادة حتى يدرك الإنسان العالم خاضعًا للفعل وإمكانيات التغيير.
وقد ينشأ الإيهام بالجبر من تصوُّر الله ملكًا والإنسان مملوكًا، ومن الطبيعي أن يكون من حق الملك التصرف في مماليكه! وهذا تصور مهين لله وللإنسان على السواء؛ فالله ليس ملكًا فقط، بل هو عادلٌ حكيم، ومن سمات الملك العدل والحكمة. وهما يقتضيان أن يكون الإنسان خالقًا لأفعاله حتى تصح المسئولية ويقع الاستحقاق، الثواب والعقاب. وهل المتكلم مدافع عن حق المالك أم عن حق المملوك؟ هل هو مدافع عن حق الحاكم أم عن حق المحكوم؟ لذلك سهل على المتكلم في الدنيا أن ينصب نفسه مدافعًا عن حق الملوك والأمراء والسلاطين مُبرِّرًا لأفعال الحكام والخلفاء والرؤساء ما داموا أصحاب سلطة، وما داموا أولى الأمر؛ مما جعل البعض الآخر يدافع عن حقوق المحكومين والمظلومين والمضطهدين ويأخذون صف الشعوب المغلوبة على أمرها. يمثل تراث السلطة الإرادة المطلقة، ويمثل تراث المعارضة خلق الإنسان لأفعاله. ودخلت معارك التفسير والمذاهب والعقائد في أتون الصراعات الاجتماعية والسياسية.١٦
ومن الأسماء التي توهم بالجبر أن الله كامل، وأن تصور أي فعلٍ حرٍّ مستقل عنه هو نيل من كماله وكأن الكمال لا يثبت إلا على حساب حرية أفعال العباد. وهو قريب من تصور الله كملك والعالم كله كمُلك له. وكأن الكمال الإلهي لا يثبت إلا بنقص الإنسان وخراب العالم.١٧ وما أسهل الانتقال من الله الملك إلى السلطان الملك ما دامت عقائد الناس قد انغرس فيها الملك وأصبح الملك تكوينًا نفسيًّا لهم وبناءً شعوريًّا يوجههم، وثقافةً يومية تغذيهم. وقد تكون الصورة ليس فقط المالك أو الكامل بل السيد، بالرغم من أن السيد ليس من الأسماء. فالسيد إذن أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده يأمره بالشيء ولا يريده منه. وكأن الله محتال، وكأن الله خادع للعبد، موقع له في شر أعماله، يأمره بالشيء ولا يريده منه. فالشيء لا يكون مرادًا ويؤمر به! والفعل لا يكون قصدًا ثم يأتي مخالفًا للقصد، وإلا انفصل النظر عن العمل. وإذا اختلفت الأفعال فإنما يرجع ذلك لاختلاف الأحكام وسلم القيم.١٨
والقول بالإلجاء هو أقرب إلى الجبر منه إلى الاختيار. وهو في حقيقة الأمر حاجةٌ جدلية للرد على الجبر في أنه إذا كان مريدًا لكل الأفعال، فالأولى أن يريد الطاعات وأن يلجئ العباد إليها بدلًا من أن يلجئهم إلى المعاصي ويعذبهم، وتنزيهًا لله عن الشر وفعل القبائح. فهي حجةٌ جدليةٌ صرفة وليست شهادةً واقعية لإثبات أن الله لا يتدخل في إيمان العباد أو كفرهم وإلا لجعلهم جميعًا مؤمنين. ونحن لا نتحدث إلا عن الأفعال في الدنيا وليس عن الأفعال في الآخرة التي لا نعلم عنها شيئًا والتي لم نشاهدها ولم نعشها ولم نعرفها إلا بقياس الغائب على الشاهد. خلق الإيمان بالالجاء هو أيضًا جبر وليس فعلًا اختياريًّا. وإذا كان الهدف هو إثبات قدرة الله دون قدرة الإنسان فالأولى إثباتها مباشرةً دون ما حاجة إلى الإلجاء. ولماذا اللف والدوران عن طريق الإنسان؟ وهل الله يتخذ الإنسان ذريعة أو خديعة؟١٩

(١-٣) حجج الجبر

ويعتمد الإيهام بالجبر على عديد من الحجج النقلية أكثر من اعتماده الحلول المتوسطة بين الجبر والاختيار وأكثر من اعتماد التجربة الواقعية لخلق الإنسان لأفعاله، وذلك لأن الجبر نظرية السلطة تستعملها لفرض نفسها وقبول الناس لها؛ ومِنْ ثَمَّ تستعمل السلطة السياسية حجج السلطة الدينية حتى يكون الموضوع والمنهج من النوع نفسه. ولأنه يصعب الدفاع عن الجبر عقلًا فإنه لا سبيل إلا الدفاع عنه نقلًا. وحجة النقل باعتباره سلطة هي في الحقيقة اختيار لنقل أو إسقاط من الأهواء والمصالح على النقل وابتسار ما يتفق معها منه؛ ومِنْ ثَمَّ لا يوجد نقل إلا ومعه نقلٌ مضاد لأهواء ومصالح متعارضة. ويكون الخلاف في التفسير هو في حقيقة الأمر تعارضًا بين المصالح. ولما كان في كل مجتمع سلطة ومعارضة، قاهر ومقهور، أغنياء وفقراء، علية ودهماء، أقلية مسيطرة وأغلبية مقهورة؛ ظهر النقل نقلين. كل فريق يبتسر من النقل ما يتفق معه في مجتمعه، النقل فيه حجة وسلطة وهو مصدر للشرعية والطاعة. وما أسهل اتهام كل فريق بسوء التأويل أو سوء الفهم للآيات واستعداء النصوص على المواقف الفكرية التي تعبر عن المواقف السياسية أي استعداء السلطة على الخصوم وخاصةً أن السلطة السياسة هي الحارس للسلطة الدينية وأن سلطة الحاكم هي الحارس لسلطة الكتاب والمستمدَّة منه. والنصوص متشابهة خاصة فيما يتعلق بالمتشابهات تعبيرًا عن هذا الموقف الاجتماعي المزدوج وإعطاء كل فريق حقه في النضال السياسي والاحتكام إلى السلطة الشرعية. فإذا ما أعطى في بعض النصوص المتشابهة الأولوية للفعل الإلهي على الفعل الإنساني فإنما يكون ذلك تأدُّبًا وتأكيدًا للحق النظري الشرعي لله. كما أنه يكون في سياقٍ خاص تدعيمًا للمعارضة وتشجيعًا لها وتقويةً لحقها ورفعًا لمعنوياتها حتى لا يقع الفعل الإنساني تحت منظورٍ قصير فيُصاب باليأس والتشاؤم والإحباط. فلا تخرج الآيات من سياقها، أي من «أسباب النزول». وقد نزلت أمثال هذه النصوص في مجتمعٍ ديني في أول عهد الناس بالرسالة دفعًا للإيمان، وتأكيدًا للألوهية كعامل نصر فريد ليس له وجود عند الآخر في مرحلة الفتح وليس تدعيمًا لفريق ضد فريق داخل المجتمع الجديد، وليس نصرة للسلطة على حساب المعارضة بعد قيام الدولة.٢٠
كما يعتمد الإيهام بالجبر على شبهة لا تثبت الجبر بقدر ما تثبت حرية الإنسان وتعبيره عنها بأعمال العقل وقدرته على الفرض. وهي شبهة مستمدة من قصص وليس من حكم، وهي قصة إبليس في صراعه مع الله. فالعلم السابق بوقوع الحوادث لا يمنع من اختراق الحرية الإنسانية لهذا العلم وإيقاع الحوادث على نحو غيره إثباتًا لحرية العقل، وإعلانًا على أن العلم الإلهي المسبق ليس جبرًا للأفعال أثناء تحققها، وعلى الفرق بين الحق النظري والأداء العملي. كما تشير القصة إلى أن الإنسان سيد الكون، وله تخضع كل المخلوقات لأنه هو الفاعل الحر، وغيره من الكائنات الطبيعية أو الإلهية لا حرية لها، بل يمتثل ويُطيع دون اختيارٍ آخر أو بديل، لا فرق في ذلك بين الأرض والسماء وكل الموجودات الطبيعية وبين الملائكة والجن والشياطين. كما تدل القصة على أن لكل فعل حكمًا، وأن كل حكم يتضمن جزاءً، وأن إنكار سيادة إنسان على الكون حكم يتطلب جزاءً. وتشير أخيرًا إلى أن الإنسان بين عالمين، الإقدام والإحجام، التقدم والنكوص، الرفعة والذل، والحرية هي التي توجِّه الإنسان إلى هذين العالمين. الإنسان هو المتحدي، وحريته تظهر في المقاومة، مقاومة الإغراء، والنظر إلى ما هو أبعد، والتضحية، وعدم الاستسلام. القدرة واحدة، والإرادة واحدة سواء على الكفر أو على الإيمان. والمحك هو الاختيار القائم على العقل والرؤية والقصد.٢١ وتكون الحرية داخليةً صرفة، غير مرئية، حرية الإيمان وعدم الإيمان. وهذا لا يتأتى إلا من الوعي الخالص المستقل عن شوائبه المادية عن مصلحة، وغايةٍ قصيرة، وصغائر. أفعال الشعور الداخلية إذن أفعالٌ حرة بقدر ما هي مرتبطة بغايات الإنسان وأهدافه واتجاهاته. للإنسان السيطرة عليها بالعلم والإرادة والقدرة والحياة. قد لا تبدو فيها حرية الأفعال ظاهرة ولكنها أفعالٌ حرة بتحليل التجارب الشعورية واستبطان أفعال الشعور. ولماذا يثبت قياس الغائب على الشاهد في الصفات ويُنفى في الأفعال؟ وإذا كان هذا المقياس أساس الفكر الديني كله بصرف النظر عن موضوعاته، التوحيد أم العدل، فلماذا يُستعمل في التوحيد دون العدل؟ لماذا لا يكون الشاهد هو إثبات خلق الأفعال وبالتالي قياس الغائب عليها قلبًا؟ ألا تثبت التجربة أن الإنسان صاحب أفعاله؟ ولماذا ابتسار التجربة الإنسانية وأخذ ما اتفق منها مع الموقف الديني السياسي المسبق الذي يعطي الأولوية للفعل الخارجي، لله أم للسلطان على الفعل الإنساني؟ إن التجارب المضادة لحرية الإنسان وخلقه لأفعاله لا تثبت الجبر، بل تبين إمكانات القدرة البشرية وحدودها وموانعها وعقباتها من أجل إظهارها وشحذها وإعادة النظر في طرق ممارستها، فهي معها لا ضدها، وجزء منها لا خارجًا عنها.٢٢

(١-٤) خطورة الجبر

إن الإيهام بالجبر لو نجح أن يتحول إلى عقيدة ليؤدي لا محالة إلى ضياع حرية الأفعال، وبالتالي القضاء كليةً على الإنسان وعلى أحد مظاهر وجوده. كما يؤدي إلى تدمير العالم كليةً وهدم قوانينه الثابتة. وكيف يعيش الإنسان بلا إرادة وفي عالم لا يحكمه قانون، وكل شيء فيه خاضع لإرادةٍ مطلَقة ومشخَّصة لا يقوى أمامها شيء سواء قانون الاستحقاق أو قانون الطبيعة؟ كما يجعل الجبر الله مسئولًا عن الشرور في العالم، وهو تناقض مع طبيعة الله الخيرة؛ إذ إنه يضيف القبائح إلى الله ويجعله مثل الشيطان مصدرًا للشرور، وبالتالي يُحال موضوع خلق الأفعال إلى موضوع تنزيه الله عن القبائح أي إلى الحسن والقبح العقليَّين وما يتعلق بهما من صلاح وأصلح وغائية وقصد. والأخطر من ذلك كله هو تحول الجبر الميتافيزيقي العام إلى عقيدة القضاء والقدرة الخاصة وأثرها في سلوك الأفراد والجماعات، وجعل الناس راضين بهما ومنعهم من القدرة على الحركة والتغير والثورة. ثم ترسخ العقيدة في وجدان الأمة وبالتالي تستمر مرحلة التخلُّف بكل مظاهره من طغيانٍ داخلي وقهرٍ خارجي وتبعية وانحياز وضياع لاستقلال الأمة وحريتها. ثم توجد أنظمة تسلطية تقوم بالدور نفسه وتتحد مصالحها مع السلطة الدينية فيصبح الجبر الدعامة النظرية للنظم القائمة وتستأصل المعارضة التي تروِّج لخلق الإنسان لأفعاله باعتبارها ضد الإرادة الإلهية وهي في الحقيقة ضد إرادة السلطان. وما أسهل أن يدافع الإنسان عن الله وحقه المطلق الثابت، ولكن ما أصعب الدفاع عن الإنسان وحقه المهضوم الضائع وعن حقوق الشعوب! ما أسهل الدفاع عن حرية أفعال الله التي لا نزاع فيها! وما أصعب الدفاع عن حرية أفعال الإنسان التي تنكرها كل النظم السياسية ويسقط دفاعًا عنها المناضلون والشهداء! جبر الأفعال مزايدة على الله تكشف عن مناقصة في الإنسان. تأخذ بالطريق السهل وتترك الطريق الصعب، تدخل في معركةٍ مكسوبة سلفًا اعتمادًا على سلطة الدولة وتترك المعركة القائمة بالفعل اعتمادًا على حق الشعوب وعلى قوى المعارضة. إن إثبات قدرة الذات المشخصة وإثبات عظمتها بالنسبة لقدرة الإنسان هو إثبات الفيل للنملة أنه قادر على ما هي قادرة عليه. وذلك يقوم على الإيحاء بأن الفيل ليس فيلًا بل مجرد وهم والنملة قادرة على الفعل ولا يمنعها الفيل من شيء. والحقيقة أن كل شيء لا يُقاس بشيءٍ آخر نسبة بل يُقاس في ذاته. فالنملة في عالمها قادرة على السعي والدفاع وجلب الرزق والعمل المشترك. إن النملة قادرة كما تقصُّ الحكايات الشعبية على قهر الفيل؛ فالقدرة الجسمية أحط أنواع القدرة إذا ما قيست بقدرات العقل والحيلة والذكاء. وقد تمكث النملة في أذن الفيل حتى يهج ويقع. وبالتالي ينتهي الجبر إلى عكس ما كان يرمي إليه وهو الدفاع عن التوحيد. فلا هو دافع عن التوحيد نظرًا لإثباته أن الفيل أقدر على النملة، ولا هو حافظ على العدل أي على قدرة النملة على العيش والكسب والجد والجهد والدفاع.

الجبر مجرد مزايدة من العاجز عن الفعل وإسناد كل فعل إلى الله. وهو يكشف عن اغتراب الإنسان في العالم وأنه يسقط العالم من الحساب كميدان للفعل. وهو نفاق يحيل العجز قوة، وتعويض بجد في الغير هروبًا من الذات، وهو في نهاية الأمر فكر سلطة بغيته تأييد السلطان ضد حقوق الشعوب وأصحاب الحقوق.

(٢) هل أفعال الشعور الداخلية أفعالٌ جبريةٌ حرة؟

وقد يخفف الجبر قليلًا وتقترب أفعال الشعور الداخلية من الأفعال الحرة، وذلك بالتقليل من أسباب الجبر وبواعثه وفي مقدمتها العلم الإلهي المسبق عن طريق التمييز بين العلم الشامل والعلم التفصيلي. فالله يعلم كل المرادات على الجملة لا على التفصيل حيث تتفصل الوقائع وتتحقق كوقائعَ جزئيةٍ متفرِّدة. ففي الجزئيات هناك مكان لحرية الأفعال وليس في الكليات. وعيب هذا الحل أنه يجعل العلم الإلهي منقوصًا، ويُجوِّز الجهل على الله، وهو ما ينكره المتكلمون على الفلاسفة واتهامهم لهم من إنكار لعلم الله بالجزئيات. كما أنه يجعل إرادة الله منقوصة بإخراج أفعال البشر من شمولها؛ ومِنْ ثَمَّ لا مكان لنقد حرية أفعال العباد. ثم إن الإنسان يبدو حرًّا ولكن متخفيًّا متلصِّصًا من تحت الإرادة أو من وراء العلم الإلهي وليس كحق من حقوقه؛ ومِنْ ثَمَّ ينتهي هذا الحل بإقلاله من التوحيد والنيل منه وبعدم الوصول إلى العدل كحقٍّ إنساني.٢٣
ويمكن فهم نظرية الكسب أيضًا على هذا النحو ولكن على مستوى الإرادة وليس على مستوى العلم؛ إذ يمكن الجمع بين الإرادتين على طريقة الجملة والتفصيل. الله مريد على الجملة والإنسان مريد على التفصيل، ولا تعارض بإخراج تفصيلاتها منها. كما أنه لا ينفي جبرية الأفعال لأن التفصيل ما زال في إطار الجملة أو يثبت حرية الأفعال؛ وبالتالي لا يمكن نقدها. كما أنه يقع في تصورٍ كمي لعلاقة الجملة بالتفصيل وكأن القسمة قد أعطت الله أكثر مما أعطت الإنسان إرضاءً لله والإنسان معًا مع الاحتفاظ بنسبة الشرف، فالأكثر شرفًا يحصل على نصيب أكبر من الأقل شرفًا. ويبدو الإنسان أيضًا متلصِّصًا بإرادة من تحت الإرادة الإلهية أو من ورائها. وكيف لا يقع جزء من العلم الإلهي أو الإرادة الإلهية؟ وهل الأجزاء والتفصيلات إلا تعينات للكليات والعموميات؟ ألا يطعن غياب الجزء في شرعية الكل؟ ألا يكون الجزء أحيانًا أقوى من الكل لأن الكل لا يبدو إلا في الأجزاء؟ فلا التوحيد قد تم الإبقاء عليه، ولا العدل قد تم الوصول إليه.٢٤
والتفرقة بين الإرادة والرضا أحد الحلول المتوسطة؛ فقد أراد الله ضلال من ضل وشاء كُفر من كفر، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر، فما أثبته الله غير ما نفاه ضرورة؛ أثبت الإرادة لكونه والمشيئة لوجوده ونفى الرضى به، وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة. والسؤال الآن: هل التفرقة بين الرضا وبين الإرادة ممكنة؟ هل يجوز أن يرضى الله عن فعل لا يريده، أو يريد فعلًا لا يرضى عنه؟ إن ذلك تخيل القسمة في الإرادة الإلهية قياسًا على الإرادة الإنسانية وتنازع الإنسان بين باعثَين. ففي الله هناك تجانس بين الإرادة والرضا؛ فالرضا تعبير عن الإرادة وليس مضادًّا لها، هذا التباين بين الإرادة والرضا يوقع في تصورٍ منقوص للإرادة باستثناء الرضا منها، كما أنه يجعل الرضا فوق الإرادة مع أنه أحد مظاهرها. فإذا ما أراد الله الكفر ولكنه لا يرضاه فإن ذلك ينقل موضوع خلق الأفعال إلى موضوع الحسن والقبح العقليَّين وتظل الحاجة ماسة إلى تنزيه الله عن الشرور والقبائح. وإلا فكيف يمكن حل مشكلة ثم الوقوع في مشكلة أعظم؟٢٥

والعجيب في محاولات التوفيق جعل الأفعال الحسنة من الله والأفعال القبيحة من الإنسان! وكأن الله له الخير والإنسان له الشر «وتلك قسمة ضيزى». وهي نظرةٌ ثُنائية تجعل الفعل له فاعلان، فاعل للخير وفاعل للشر، تعطي الأول لله والثاني للإنسان، تجعل الله مسئولًا عن نصف أفعال الإنسان والإنسان مسئولًا عن نصف أفعال الله؛ فلا هي أعطت كل شيء لله حفاظًا على التوحيد، ولا هي أعطت كل شيء للإنسان حفاظًا على العدل؛ فضاع التوحيد والعدل معًا. كما أنها تضع الإنسان على نفس المستوى مع الله في مسئولية كليهما عن الأفعال، وكأن الإنسان على نفس المستوى مع الله في مسئولية كليهما عن الأفعال، وكأن الإنسان شريك لله والله شريك للإنسان، وكأنهما قرينان، إمَّا إقلالًا لله نزولًا حتى الإنسان أو إعلاءً للإنسان صعودًا حتى الله. وهي نظرة تقوم على التطهر، وتجعل أفضل قسم في الإنسان هو الله، وأسوأ قسم فيه هو الإنسان. وهي نظرةٌ بطولية تجعل الإنسان مسئولًا عن الشر وحده والله مسئولًا عن الخير وحده، اتِّهامًا للذات وتبرئةً للغير؛ نظرة سوداوية تجعل الإنسان مسئولًا عن القبح وكأنه لا يفعل إلا القبيح، تقوم على تعذيب الذات والتضحية في سبيل الغير، كما تقتضي بذلك علاقة الحبيب بالحبيب. ولكن النظرة الأكثر بطولية تجعل الإنسان مسئولًا عن كل شيء، عن الخير والشر، والحسن والقبح، أمَّا من حيث الله، والله لا يحتاج إلى إثبات بطولة، أو من حيث الإنسان، فالإنسان موجود من أجل البطولة في الاستخلاف.

وكيف يتخلى الله عن مسئولية فعل القبائح والشرور بدعوى التنزيه؟ وكيف يدين الله الحبيب؟ وكيف يكون الله أنانيًّا يحتفظ لنفسه بالخير ويترك للإنسان الشر؟ ألا يكون الإنسان في هذه الحالة أكثر ألوهية من الله بتحمله المسئولية كاملة عن الشرور، وبتضحيته بالذات في سبيل الآخر، وبغيرته وإيثار الآخر على النفس؟ إن جعل المعبود مسئولًا عن الطاعات والإنسان مسئولًا عن المعاصي قسمةٌ قائمة على الطهارة بالنسبة للمعبود وبالقسوة بالنسبة للإنسان. وأن جعل الذات المشخصة المطلقة مسئولة عن الأفعال الإيجابية دون السلبية تطهر وتنزيه للحبيب من الشر وإلصاق للشر بالإنسان خاصةً لو كان ذلك يحدث بعد الإتيان بالفعل. إن كان خيرًا أُعطي للمطلق وإن كان شرًّا تُرك للإنسان. ولماذا لا يكون الإنسان مصدرًا للخير ويكون مصدرًا للشر وحده؟ وكيف يتم فعل باتهام الذات وتعذيبها المستمر؟ وكيف يتم خلق وإبداع والإنسان مُحبَطٌ مهان مذنب؟٢٦
والحلول المتوسطة في الحقيقة أقرب إلى الجبر منها إلى الاختيار. ولا تعتمد على الحجج النقلية لأن حجج الطرفين موجودة، ولكنها تُعبِّر عن مجرد الرغبة في إثبات شرعية الموقفَين: النظرية لله والعملية للإنسان والرغبة في المصالحة بين الموقفَين المتقابلَين. كما تكشف عن الرغبة في تأكيد عاطفة الإيمان وضرورة العقل والفعل، رغبةً في الحسنيَين، وكأنها مصالحة بين فريقَي الأمة توحيدًا للفكر وحماية لها من الفتن والشقاق. وقد تكون محاولات التوقيف مجرد صياغات في العبارة بلا مضمون أو اتساق وكأن الأمر مجرد صياغة بيانٍ سياسي يُرضي كل الأطراف، ويحقق كل المصالح والذي ينتهي في النهاية بألا يحقق أحد منها بعد ما يفسره كل طرف على هواه. فالله أراد المحدثات دون أن يسميها كفرًا ومعصيةً، أي الإبقاء على المبدأ العام دون الوقائع المحددة، مثل الحديث عن حقوق شعب دون الحديث عن أرض أو حدود أو هوية أو استقلال أو سيادة.٢٧ وعادةً ما يصعب التوفيق بين أي طرفين عن طريق الالتقاء في المنتصف مثل التوفيق بين حرية الأفعال وصفات الإرادة أو أسماء الذات، فأفعال الناس إمَّا أن تكون حرة أو لا تكون. ينتهي التوسط إلى تأجيل الصراع وليس إلى إلغائه، فيتفجَّر بعد ذلك. ولا يبقى إلا احتواء أحد الأطراف للآخر عن طريق التأويل.

(٣) أفعال الشعور الداخلية أفعال حرة

لما كان إثبات الصفات أحد بواعث نفي خلق الإنسان لأفعاله، فإن نفي الصفات يكون أحد بواعث إثبات خلق الإنسان لها ومسئوليته عنها؛ هناك إذن صلة بين التوحيد والعدل تتمثل في إثبات الصفات لله ونفي الأفعال للإنسان أو في نفي الصفات لله وإثبات الأفعال للإنسان. هذا هو النسق الدائم إلا إذا كان في غمرة الحماس للنفي يتم نفي الصفات والأفعال معًا، وهو النفي الغاضب المبدئي الذي تنفى فيه صفات الله وأفعال الإنسان معًا.٢٨ وقد يكون السبب في ذلك هو نقل صورة المعبود على الإنسان، واعتبار الحرية صفة للذات الإنسانية، فكما أنكرت صفات المعبود تنكر أيضًا صفات العابد.

(٣-١) نفي صفات العلم والقدرة والإرادة

ومن الصفات التي يتم نفيها خاصةً العلم والقدرة والإرادة، لما كانت الحياة شرطًا للعلم ولما كان السمع والبصر والكلام أيضًا من مظاهر العلم، سواء المعرفة الحسية، السمع والبصر، أو التعبيرات اللغوية في الكلام. والحقيقة أن نفي الصفة لإنفاذ الفعل إنما هو إثبات لحق الله النظري وحق الله العملي. فهناك فرق بين ما هو نظريٌّ شرعي وما هو واقعيٌّ حسي. فالصفة المطلقة سواء كانت العلم أو القدرة أو الإرادة حقٌّ نظريٌّ شرعي لله، وحرية الأفعال حقٌّ عمليٌّ حسي للإنسان ولا تعارض بين الاثنين. فبالنسبة لصفة العلم، علم الله علمان: علمٌ قبلي استنباطي عن طريق المبادئ العامة، وعلم بعدي استقرائي عن طريق الوقائع الجزئية؛ فالإيهام بالجبر أو بالكسب إنما ينطلق من العلم الأوَّل الشامل الذي لا تغيب عنه الجزئيات قبل وقوعها بينما ينطلق واقع الحرية من العلم الثاني بالأفعال بعد تحققها. العلم المطلق لا يحتاج إلى وقائع؛ فهو علم صفة لا علم وجود.٢٩ وهو لا يمنع من حرية الإنسان لأنه لا يوجد علمٌ قبلي بها، بل العلم علمٌ بعديٌّ محض. أفعال الإنسان سابقة على العلم المطلق بها.٣٠ والعلم المطلق بالوقائع لا يمنع من حدوث الوقائع على نحوٍ مخالف لهذا العلم المسبق. فالحرية الإنسانية قادرة على اختراق حاجز العلم. والعلم المسبق على نحوٍ كلي وشامل لا يمنع من تجدد الفعل وتغيره على نحوٍ جزئي، فالعلم إحاطة والفعل تحقق.٣١ ولا ضير أن يكون علم الله مشروطًا بأفعال العباد وليس للعلم الإلهي، ولا ضير أن يكون العلم الإلهي متغيرًا لصالح العباد كما هو الحال في النسخ. وقد يكون الفصل بين العلم والإرادة أحد وسائل إنفاذ حرية الأفعال. فالله لم يزل مريدًا لما علم أنه يكون، أي أن علمه أوسع من إرادته، وأنه على حقٍّ مطلق ولكن إرادته حقٌّ نسبي، والنظر في النهاية سابق على العمل وأعلى منه ومحيط به.٣٢ علم الله المسبق إذن لا ينال من حرية الأفعال، بل هو أشبه برصد النتائج مسبقًا لاختيار البشر. صحيح أن العلم يوجِب وجود المعلوم ولكنه لا يوجب التعلق واتجاه المعلوم نحو فعلٍ معين. صحيح أن العلم أشمل من الأفعال ومع ذلك فليس المطلوب هو الدفاع عن شمول العلم بل عن اختيار الأفعال وإلا تم الخلط بين مستوى الحق النظري ومستوى الواقع العملي. علم الله حق نظري، وحرية أفعال الإنسان حق عملي.٣٣
وكما يُنفى العلم تُنفى القدرة على الظلم وعلى فعل الضدَّين وعلى خرق القانون أو على التدخل في حرية الأفعال، وذلك لأن كل هذه الصفات مشتقة من صفات الإنسان ولا وجود لها بالفعل، بل مجرد إسقاطات من الإنسان على الوعي بذاته المشخَّص خارجًا عنه.٣٤ ولا يمكن تصور تعارض في صفات الذات وإلا كان نقصًا في التنزيه. فالسؤال التقليدي: هل يأمر الله من يعلم أنه يحول بينه وبين الفعل؟ وضع لصفتَي العلم والقدرة موضع التعارض والتضارب. والسؤال لا يعبر عن مشكلةٍ واقعية بقدر ما هو تمرينٌ عقلي يسمح للذهن بإظهار عواطف التأليه بالتضحية بحرية الإنسان.٣٥
وكما يُنفى العلم والقدرة تُنفى الإرادة. كما تُنفى أسماء الإرادة أو صفات الانفعال مثل الرضا والسخط لإفساح المجال لحرية الأفعال.٣٦ فنفي الصفات إثبات للحرية الإنسانية وكسر لأغلفتها الخارجية. والحقيقة أن نفي الإرادة إنما يعني في الواقع إعادة تفسيرها بحيث تفسح المعاني الجديدة المجال لحرية الأفعال. فيُعاد تفسير الإرادة إنقاذًا للحرية الإنسانية على أنها علم أو أوامر أو حكم أو تسمية أو مراد أو تخلية أو ميل أو اختيار أو كراهة أو حركة أو معنى. ويُعاد تأويل قصة إبليس حتى تنتهي في النهاية إلى كون الإرادة مجازًا في الله، حقيقةً في الإنسان، ويسترد الإنسان حريته. فالإرادة هي العلم، والعلم حق نظري وليس تحقيقًا عمليًّا كما هو الحال في صفة العلم. العلم حق نظري وحرية الأفعال واقع عملي، والعلم النظري به حرية الأفعال، وهو لا يجبر على شيء؛ لأن الحرية مسطورة فيه. ولن يُكرِه الله حرية الإنسان وفعله الاختياري، بل إنه يجعل ذلك مطويًّا تحت حقه النظري. بل إن من عظمة الملوك تحقيق إرادة الشعوب، فإرادة الملوك من إرادة الشعوب، وإرادة الشعوب تقوية لإرادة الملوك، وليست مناهِضة لها، خاصةً إذا كانت الملوك عادلة والشعوب واعية. وإن سخط الله وغضبه ليس إجبارًا للعباد، ولكن تعاطفًا معهم، وحُبًّا لهم، وشفقةً بهم، معهم وليس ضدًّا لهم. صحيح أن الله فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، ولكن ذلك حقٌّ نظري وليس واقعًا علميًّا. وأكرم إلى الله أن يكون ملكًا في عالمٍ حر ولشعبٍ حر على أن يكون ملكًا قاهرًا على شعبٍ مقهور بلا إرادة، وأن من عظمة الملوك حريات الشعوب واستقلال إرادتها، وهي ليست صفاتٍ متضادةً بل هي متحدة. ليست الإرادة ضد العلم أو العلم ضد الإرادة، بل هي صفاتٌ واحدة. ما يحدث في العالم يحدث بعلم وإرادة لا بمعنى أنه يحدث ما يجهله أو ما لا يريده. علم الله تجريبي وليس إجبارًا لأفعال الإنسان، وإرادته تقوية لإرادة الإنسان وليست ضدها.٣٧

(٣-٢) تأويل الإرادة

وقد تكون الإرادة هي الأمر. ويكون ردُّ الإرادة إلى الأمر مثل ردِّها إلى الخلق أو إلى العلم لإنفاذ حرية الأفعال. والأمر ليس إجبارًا، بل مجرد توجيه ودعوة إلى الفعل وليس تحقيقًا للفعل، وهو المنوط بإرادة الإنسان وحريته. ولا يعني ذلك الأمر بأفعال الأطفال والمجانين لأن شرط التكليف العقل والبلوغ؛ فهو أمرٌ شرعي وليس أمرًا كونيًّا ميتافيزيقيًّا غيبيًّا. إن التوحيد بين الإرادة المطلقة وبين الأمر المطلَق ينقذ الفعل الإنساني الحر وفي الوقت نفسه لا يثبت حق التأليه. وهو أقرب إلى إثبات الحرية من نفيها. الله مريد لتكوين الأشياء يعني أنه كوَّنها وأن إرادته للتكوين هي التكوين.٣٨ لذلك فإن فعل الأمر واقع. ولو ارتبط بمشيئة الله ولم يقع فإنه حنث باليمين. والفعل قبل أن يقع لا يُسَمَّى فعلًا. الأمر مجرد توجيه للفعل ونداء له.٣٩ ليس المطلوب من الإنسان تحقيق الإرادة الخفية في الأمر الظاهر؛ فالوحي شرع وليس غيبًا، وضوح وليس استنباطًا، أمر ونهي وليس عقيدة. ولا يحتاج في ذلك إلا إلى الحسن والقبح وإلى علاقة الإنسان العملية بالوحي، أي بالكلام وليس بالله أي الشخص. أفعال الشعور الداخلية إذن أفعال حرية، سواء فيما يتعلق منها بالإيمان أو الكفر لأن الكافر مأمور بالإيمان، والأمر تكليف، والتكليف يقتضي حرية الأفعال وإلا كان الكافر مُطيعًا لأنه كفر بناءً على أمر الكفر؛ فالإرادة على وفق الأمر هذه المرة لا على وفق العلم. ولو كان الرضا بقضاء الله واجبًا لكان الرضا بالكفر كفرًا. كما أن ذلك الافتراض يضع الله في محنة التعارض بين الإرادة والحكمة؛ مما يجعل إيمان الإنسان بالقضاء إيمانًا متناقضًا يبعث على الكفر، في حين أن إرادة الله عاقلة لا تقضي على أحد بالكفر أو تضطره إلى الإيمان.٤٠
وقد تكون الإرادة مجرد حكم على الشيء وليس جبرًا له، مجرد تعلُّق دون فعل. ولما كان الحكم يأتي عن طريق الخبر، كانت إرادة الشيء هي الحكم عليه عن طريق الخبر. وقد يتحوَّل الحكم المنطقي إلى حكمٍ خلقي فتكون أحكام الله أحكامًا خلقيةً مطلقةً تخصُّ الصفات الموضوعية للأشياء. قد تكون الإرادة إذن حكمًا عقليًّا على المراد دون أن تكون حكمًا فعليًّا، وقد تكون حكمًا فعليًّا بالإضافة إلى كونها حكمًا عقليًّا، وقد يكون الحكم لغويًّا، أي تسمية الإيمان حسنًا والكفر قبحًا. دور الإرادة المطلق هو إطلاق الأسماء والأحكام دون خلق المرادات؛ لذلك سُمِّي موضوع الإيمان والكفر في علم أصول الدين الأسماء والأحكام.٤١
وقد تكون العداوة هي المراد، أي التوحيد بين الإرادة والشيء؛ لأنها ما دامت مُطلَقة فكل ما تريده واقع. في حين أنه في العالم الإنساني هناك مسافة بين مضمون الإرادة وبين الشيء المراد بعد أن يتحقق. ولا يتخطَّى هذه المسافة إلا الفعل الإنساني. فوصف الإرادة بالشيء ليس وقوعًا في التجسيم أو في التشبيه، بل توحيد بين الإرادة والشيء المراد. التوحيد بين الذات والموضوع إذن هو أحد الحلول الإنسانية ولكن تظل الخطورة على الحرية الإنسانية قائمة.٤٢ كذلك تكتسب الإرادة صفة المراد بها. فإن كان المراد سفهًا كانت الإرادة سفهًا، وكانت إرادة الطاعة طاعة. ولا يعني ذلك أن يكون الله مطيعًا لإرادته، بل يعني اتساق الإرادة مع المراد، وهو أقرب إلى العدل من الظلم، وإلى الحكمة من السفه، وإلى العقل والاتساق من التناقض والتضاد، ومن الحكمة والقصد إلى العبث والسخف.٤٣ وفي بناءٍ ذهني آخر قد يكون التوحيد بين الإرادة والشيء خطرًا على الحرية ومُوهِمًا بالجبر؛ لذلك فإن التمييز بينهما يكون أكثر مدعاةً لإثبات الحرية. وفي هذه الحالة تكون الإرادة صفة ذات والمراد صفة فعل أو شيء. فالإرادة موجودة لا في مكان، بلا محل، والمراد هو الأمر الموجود في الزمان والمكان. إذا كانت الإرادة قديمة فالمراد حادث، وإذا كان التوحيد بين الإرادة والمراد يدل على العظمة، فإن التمييز بينهما يدل على الحرية الإنسانية. وتكون الإرادة هنا معناها الاختيار، والمريد هو المختار لا في التأليه بل في الإنسان.٤٤ ومع ذلك فإن اتفاق كفر الكافر مع مراد الله لا يعني أجره على ثواب الطاعة، بل يعني عقابه لسوء استخدام العقل والفعل الحر، وأن مراد الله يكون تابعًا للفعل وليس سابقًا عليه، والعلم به مسبقًا لا يعني الاضطرار إليه.٤٥
وقد تكون الإرادة مجردة تهيئة المراد. ولكن حتى هذه التهيئة قد تدخل في الفعل الإنساني. وماذا لو حدث التدخل ثم جلب الفعل الإنساني الضرر لا النفع، وهو نفس معنى التخلية؟ فقد تكون التهيئة بمعنى أن الله خلى بينهم وبينها. والتخلية في الواقع إثبات الحرية أكثر من نفيها. ولكنها تفيد أيضًا معنى عجز الإرادة المطلقة وتلغي دورها في الفعل، كما أنها تضع مشكلات أكثر منها مثل: كيف يخلي المؤله الموصوف بصفات الكمال بين الإنسان وبين الأفعال السلبية؟ كيف يسمح الكمال بالنقص، والخير بالشر، والحسن بالقبيح؟٤٦
وقد تعني الإرادة كراهة الله للفعل دون إتيانه، والقيام به بدلًا عن الإنسان، هذا فيما يتعلق بالأوامر والنواهي، بالطاعات والمعاصي. أمَّا فيما يتعلق بالمباح وما لا يدخل تحت التكليف من أفعال مثل أفعال المجانين أو الأطفال أو البهائم فلا تدخل تحت مرادات الله إرادة أو كراهية.٤٧ فالله غير مريد على الحقيقة، وإرادته إضافة أو سلب كما هو الحال عند الحكماء، سلب الكراهية وسلب العلية.٤٨
وقد لا تكون الإرادة هي الجبر بل الاختيار؛ فالمُريد هو المختار وليس المجبر، أي أن العلاقة مع ذاته وليست مع غيره، العلاقة مع الذات اختيار ومع الآخر جبر، فلماذا تُعطى أولوية العلاقة للغير على أولوية العلاقة بالذات؟٤٩ قد تعني الإرادة أن المريد غير مغلوب ولا مستكره، أي أنها الاختيار، وهو تعريف الإرادة بنفي ضدها؛ وفي هذه الحالة تعني الإرادة الاختيار وليس الجبر، ويكون الإنسان قد ظلم نفسه برؤية الجبر في الاختيار.٥٠
وقد تكون الإرادة هي الميل، أي مجرد الرغبة والاتجاه والقصد دون أن تكون هناك ملكة تُسَمَّى الإرادة، أي أنها أقرب إلى الوجود كله منها إلى أحد قواه.٥١ وبهذا المعنى قد تكون الإرادة أيضًا حركة. ولا تعني الحركة بالضرورة حركة الأجسام، بل قد تكون حركة البواعث؛ فالإرادة تشخيص للقوى والملكات النفسانية. والحقيقة أنها ترجع في الحياة الإنسانية إلى الباعث. فالباعث القوي يتحقق، والباعث الضعيف لا يتحقق؛ ومِنْ ثَمَّ تنشأ مشكلة الإرادة؛ إرادة القوة تعبر عن الحياة وتتحقق بالضرورة، وإرادة التاريخ تعبر عن مسار التاريخ وتتحقق بالضرورة، وإرادة الشعوب تعبر عن حقيقة إنسانية ومِنْ ثَمَّ تتحقق بالضرورة.٥٢ والباعث هو الشخص. وإذا كان الشخص من ناحية والباعث من ناحية أخرى يكون ذلك ضعيفًا في الباعث. الباعث القوي هو الذي يملك الشخص ويحتويه. وإذا كانت الإرادة هي الباعث فإنها تكون أيضًا حركة، وهي ما تساءل عنه القدماء من الصلة بين الإرادة والضمير والانتهاء إلى أن الإرادة ليست الضمير، وأن الضمير محل الإرادة.٥٣ فإن لم تكن الإرادة حركة فإنها تكون تعبيرًا عن الذات المؤله أو خلقًا منه لا بإرادة. وقد تكون الإرادة معنًى يصور الجانب العقلي في الباعث أو يكشف الأساس النظري لها؛ لذلك يوحد البعض بين الإرادة والعلم.
والحقيقة أن الإرادة تشبيهٌ إنساني خالص، لا تشير إلى شيء موجود في الواقع. ويمكن للإنسان أن يتصور أن للأشياء إرادة وأن للجدار إرادة، وهذا كله مجاز وليس حقيقة بل مجرد وسيلة في التعبير جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ.٥٤ وإثبات المعبود فاعلًا في الحقيقة والإنسان فاعلًا في المجاز إنكار للحرية؛ لأنه يجعل المعبود هو الفاعل الحق، والإنسان فاعلًا بالمجاز. وهذا ما لا تشهد به تجربة ولا يؤيده واقع؛ فالإنسان فاعل في الحقيقة، وفاعل فعلٍ واعٍ ومسبق حتى ولو تدخَّلت الظروف الخارجية في ميدان فعله وأثرت عليه ووجَّهت مساره.٥٥ لا توجد إرادةٌ مطلقة مُشخَّصة هدفها تدمير حرية الإنسان واستقلال أفعاله، فإن المشيئة الإلهية لا تمنع من حرية الأفعال؛ فهي حقٌّ نظري وحرية الأفعال واقعٌ عملي. بل إن «إبليس» كان حرًّا في أفعاله واختياره بالرغم من وجود المشيئة المطلقة كحقٍّ نظري تعليمًا للبشر. والعبرة في النهاية بالمآل في الزمان وفي التاريخ.٥٦
الإيمان إذن موقوف على الاختيار، وأفعال الشعور كلها تدل على أن الإنسان حر في أن يعتقد ما يشاء وأن يتصور العالم كما يريد؛ فليس هناك من يجبره على تصور اعتقادٍ معين.٥٧ ولا يعني إثبات حرية أفعال الإنسان استحالة الحمد والشكر لأن الحمد شعورٌ إنساني يحدث عقب تأدية الفعل ونجاح الإنسان في تحقيقه، فهو نوع من التواضع والعرفان بالجميل للنفس وللآخرين وللطبيعة، ويُعبِّر عن رضاء النفس عن ذاتها وإلا لداخل النفسَ الغرور ولحسبت أنها صاحبة الأمر والقضاء، وهو شعورٌ زائف بالنسبة لفعلٍ صادق يرى أن الفعل داخل في مجموعةٍ متداخلة من الأفعال؛ أفعال الأفراد وحركات الشعوب وقوانين التاريخ.٥٨ والاستعجاب من الأفعال يدل على أن الإنسان كان يتوقع فعلًا آخر غير الذي يستعجب من أجله، ولكن تداخل الإرادات وتشابك الأفعال جعل الذي يحدث غير المتوقع.٥٩ والتساؤل عن الأفعال إمَّا عن الأفعال التي لم تتم أو عن الأفعال التي تمت يدل على أن الإنسان إمَّا فاعل أو كان لديه عديد من إمكانيات الفعل ولم يختر أكملها. وهي مراجعة مستمرة واستدراك حول سير الأفعال وإعادة أحكامها.٦٠ والتحسُّر تجربةٌ بشرية تدل على رغبة الإنسان في العودة إلى لحظةٍ ماضية حتى يؤدي فعلًا أفضل؛ مما يدل على أنه يشعر أنه قادر على إتيان الفعل. فهذا التمني دليل على أن الإنسان لديه عديد من الممكنات يستطيع الاختيار بينها.٦١

(٣-٣) حدوث الصفات

ويمكن مع نفي الصفات لإثبات حرية الأفعال أخذ البدائل الأخرى وهي القول بحدوثها؛ فتصور الإرادة المطلقة حادثة إثبات للحرية الإنسانية؛ لأن انتزاع القِدَم منها يجعلها متكافئة مع الإرادة الإنسانية، وبالتالي تستطيع الإرادة الإنسانية أن تشقَّ طريقها من خلالها،٦٢ وخشية الوقوع في التشبيه والتجسيم في التوحيد والجبر والكسب في العدل حتى تكون الإرادة حادثة لا في محل. وتصنيف الصفات إلى ما يحتاج إلى محل وما لا يحتاج إلى محل يفسح المجال للحرية الإنسانية إلى تعيين محل الصفة. فالصفات التي لا تحتاج إلى محل تعطي للذات المشخصة صفاتها المطلقة، ولكنها تجعلها خارج مجرى الطبيعة ولا تتدخل في مسار الحرية الإنسانية كملك يملك ولا يحكم، كخليفة بغداد مع أمراء الأمصار، خلافةٌ اسمية لا حكم فعلي.٦٣ واعتبار الخلق بالقول لا بالفعل هو محاولةٌ أخرى لإنقاذ الحرية الإنسانية وذلك بإخراجها من نطاق الإرادة المطلقة ووضعها تحت القول. والقول أقل حدوثًا ووقوعًا من الفعل.٦٤
والتفرقة بين صفات الذات وصفات الفعل محاولةٌ ثالثة بعد نفي الصفات وإثبات حدوثها لإثبات الطرفَين معًا الإرادة المطلقة وحرية الإنسان والتوفيق بين الحقَّين معًا، حق التوحيد وحق العدل؛ فصفات الذات صفاتٌ نظرية لا تؤثر في الفعل وتحفظ حق الإرادة المطلقة، في حين أن صفات الفعل هي الصفات العملية التي تؤثر في الفعل. إن كون الإرادة المطلقة صفة ذات لا صفة فعل نظرية لا تتدخل في مسار الفعل الإنساني. وتثبت الحرية بجعل صفة الإرادة صفة فعل لا صفة ذات؛ لأن صفة الذات تعبر عن جوهر المعبود، في حين أن صفة الفعل تعبر عن أفعاله في الزمان والمكان. صفات الذات ضرورية في حين أن صفات الفعل ممكنة. الإرادة صفة فعل، أي أنها قد تقع وقد لا تقع؛ مما يترك المجال للحرية الإنسانية.٦٥

(٣-٤) إثبات حرية الأفعال

لا يحتاج إثبات خلق الإنسان لأفعاله إلى حججٍ نقلية قدر احتياج الإيهام بالجبر أو التسلل بالكسب؛ لأن العقل قادر على البرهنة عليه، كما أن التجربة تشهد بحرية الأفعال، التجربة الذاتية للأفراد، والجماعية للشعوب، والتاريخية للإنسانية. ولا تستعمل الحجج النقلية إلا في الرد على الحجج النقلية المضادة لنظريتَي الجبر والكسب. ويكون ذلك إمَّا بمقابلة نصوص تدل على حرية الأفعال في مقابل نصوص توهم بالجبر أو بالدفاع عن صحة تأويل هذه النصوص ضد سوء تأويل الجبر لها أو بتأويل النصوص التي توهم بالجبر دفاعًا عن خلق الإنسان لأفعاله.٦٦ وقد تتدخل النظرة الشرعية التي تقوم على النقل والعقل في أحكام الأفعال لإثبات حرية الأفعال في كل فعل؛ وبالتالي تفرض الإحكام الشرعية الخمسة بناءها على الإرادة المطلقة.٦٧
أمَّا الحجج العقلية فإنها تقوم على استحالة إثبات مراد لإرادتين، وهي الحجة العامة لإثبات الحرية أو على استحالة إعطاء الله أمرًا يأباه ويكرهه، وإلا كان ذلك جمعًا بين متناقضَين. فإمَّا أن يكون الفعل للإنسان أو لغيره، ولا سبيل إلى الاشتراك وإلا وقعنا في الشرك الذي يسلب من الله حقه النظري ومن الإنسان حقه العملي. فلا هو أعطى الله كل شيء ولا أعطى الإنسان أي شيء، وأحدث الخلل بين النظر والعمل في الله وأضاعهما في الإنسان. وهو تمويه لا يجوز على الله؛ إذ إنه يأمر بالشيء وهو يضمر ضده كمن يريد إثبات عصيان العبد أمام القاضي لأوامر سيده، إذ ليس المقصود تنفيذ الأمر بل إثبات العصيان. والله لا ينصب للإنسان شراكًا يوقعه فيها، بل يصدقه الإنسان دون أن ينتظر منه غير ما يأمر به وغير ما يظهر له ويحدثه فيه. ولا يعني النسخ أن المأمور به لا يكون مرادًا بل الغرض منه إعادة بناء الشريعة على أساس الواقع وقدراته وليس الاستدلال النظري على حرية الأفعال. كما لا تعني قصة إبراهيم وأمره بذبح ولده إسماعيل جواز أن يكون المأمور غير المراد؛ لأنه أيضًا درس في الطاعة للأمر، ودرس في أن الإنسان قيمة مطلقة، المقصود منه الدرس المستفاد وليس ما قبله. وقد تم ذلك في الحلم دون اليقظة، وأن إبراهيم كان مأمورًا بمقدمات الذبح دون الذبح، ولم يحدث أن تم الذبح والْتأم القطع مرات عديدة.٦٨ لقد نهى الله عن الكفر والمعصية ولا يحسن أن يريد شيئًا ويريد وجوده ثم ينهى عنه أو ينهى عن شيء ثم يريده، وإلا انهدم أساس الشريعة، وافترضنا في الله الكذب وسوء النية وإظهار غير ما يبطن وإبطان غير ما يظهر كما يفعل سائر البشر وكما تفعل الباطنية.٦٩
الله إذن لا يتدخل في أعمال العباد ولا يشاء منها فعلًا إيجابًا أم سلبًا. لم يخلق شيئًا منها وإلا كان مسئولًا عن المعاصي والقبائح والشرور. لم يخلق الخير ولا الشر منها. لم يخلق الخير حتى يجعل الإنسان فاعلًا له ولا الشر لأن الخير لا يفعل إلا الخير. والتقييد من إرادة المعبود وفعله هو في نهاية الأمر إثبات على استحياء للحرية الإنسانية ونقص في الشجاعة للإعلان عنها، وإحجام عن العقل والواقع وترك لبقايا المزايدة في الإيمان واغتراب الإنسان.٧٠ ولا يتدخل أي آخر في أفعال العباد من الجن أو الشياطين أو الملائكة. وقد أصبح الشيطان في وجداننا القوي، علة نفسر بها كل الشرور والآثام، أقوى من الله، ومشجبًا تعلق عليه أخطاء العصر.٧١ هناك الفطرة الإنسانية التي تشمل العقل والقدرة على التمييز كما تشمل الإرادة والفعل الحر، وهي التي تسطر الفعل على صفحة العلم الإلهي.٧٢
والسؤال التقليدي: هل يقال إن المعبود قوَّى الإنسان على الكفر؟ هو تمرين عقلي لإظهار قدرة الذات المطلقة على حساب الحرية الإنسانية لو كان الجواب بالإيجاب. ولكنه يثير إشكالًا أعظم وهو كيف يقوى الخير المطلق على فعل الشر ويحث عليه؟٧٣ وتكون الإجابة بالنفي إلغاءً للقدرة المطلقة وإثباتًا للحرية الإنسانية وأكثر اتفاقًا مع التنزيه. الولاية والعداوة بعد الفعل وليس قبل الفعل وإلا كانت أفعال الله غير معللة بسبب أو غاية. وإذا كان الجواب بالنفي إثباتًا للحرية الإنسانية، فماذا يكون وضع قدرة مطلقة لا تفعل؟ وإن أية محاولة للجمع بين الطرفين لا تؤدي إلا إلى تحصيل حاصل. وكذلك السؤال التقليدي الآخر: هل يقدر الله على ما أقدر عليه عباده؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فهي محاولة لإثبات القدرة المطلقة على حساب الإنسان. أمَّا إذا كان الجواب بالنفي فهو إثبات لحرية الإنسان وفي الوقت نفسه أكثر تنزيهًا لحقٍّ مطلق.٧٤
وفي قوة الدفع المتولدة عن إثبات الحرية الإنسانية قد ينتهي الأمر إلى جعل الإرادة الإلهية تابعة للإرادة الإنسانية تسير وراءها وليس أمامها بعد فك الحصار والهرب إلى رحب الفضاء. عندئذٍ تكون الإرادة الإلهية مثل الإرادة الإنسانية محلًّا للحوادث، ليس فقط إثباتًا للحرية الإنسانية، بل أيضًا للوجود الإنساني، وأن المعبود ما هو إلا سجل لصيرورة البشر، وأن الفعل الإنساني هو الذي يُسطِّر علم الله ومصدره بصرف النظر عن العلم الإلهي النظري الشامل لكل شيء ومسار الكون دون لحظاته وتقلباته.٧٥
بل إن الأمر قد يصل إلى جعل المعبود مطيعًا لفعل الإنسان بما أنه تأليه له ومتعلق عليه. فالعقل الإنساني هو الذي يحدِّد وصفه في العلم الإلهي.٧٦ وقد يبلغ الحرص على حرية الأفعال درجة إنكار القدرة الإلهية على الإطلاق ووصفه بعدم القدرة بل وبالعجز، ولا يقدر على مقدورات العباد لا الإنسان ولا الحيوان. ويتم ذلك باسم الدفاع عن قوانين الطبيعة واستقلالها وسيطرتها على مظاهر الطبيعة؛ وبالتالي فتح الطريق إلى نشأة العلم، وكذلك دفاعًا عن حرية الإنسان وأفعاله في الطبيعة وثقته بالنفس وتأكيدًا للعلل والأسباب ولقوانين الطبيعة في ارتباط العلة والمعلول.٧٧
وكيف يكون الله مسئولًا عن الشرور والقبائح ومصدرًا للكفر والفسوق والعصيان؟ فلا يريد السفه إلا سفيهًا سواء لنفسه أم لغيره؛ فالله قد يريد ما لا يكون وقد يكون ما لا يريد، وهذا لا يعني كونه مقهورًا على مراده أو أنه يلحقه الضعف والوهن والنقص، أو أنه مطيع لعباده، بل يعني أن شمول إرادته لا تقضي على حرية أفعال العباد.٧٨ إن مسئولية الإنسان عن الشر نظرة بطولية إلى الإنسان في تحمله المسئولية وعدم إلقائها على أكتاف الآخرين خيرًا أم شرًّا. كما أنها تجعل الفاعل في هذا العالم واحدًا، فالإنسان هو الفاعل، وليس فاعلَين؛ الله والإنسان، مما يضع الله على مستوى الإنسان، وهي حطة في حق الله أو رفع للإنسان إلى مستوى الله، وهو الغرور.٧٩
والأفعال الحرة هي الأفعال العاقلة، أفعال الإنسان وليس أفعال الحيوان. والقول باستقلال أفعال الحيوان إنما يعني استقلال أفعال الطبيعة التي لا يمكن تدميرها بإرادةٍ شاملة لأنها إرادةٌ عاقلة وحكيمة خلقت الطبيعة وسيرت فيها النواميس. لا يمكن أن تدمر الإرادة الإلهية ذاتها أو أن تنقلب على نفسها أو أن تدمر ما خلقته بنفسها وإلا كانت متناقضة تريد الوجود والعدم في آنٍ واحد. ولكن إثبات استقلال أفعال الحيوان رد فعل على إنكار حرية الإنسان وعلى إنكار إثبات قوانين الطبيعة، فالفعل يولِّد رد الفعل، والتطرف يؤدي إلى التطرف المضاد.٨٠ إن إرادة الله لشيء كراهيته لضده، إرادته للخير كراهية للشر، وإرادته للطاعة كراهية للمعصية، ودون أن تتدخل في وقوعه أو عدم وقوعه. فإذا وقعت المعاصي فإن الله لا يكون مريدًا لها، أي إنه لم يفعلها، بل كان كارهًا لوقوعها لمسئولية الإنسان عنها. أمَّا إذا أتت من الأطفال أو المجانين أو من البهائم فإنه لا يكون مريدًا أو كارهًا لها بأي حال. وهذا أكرم لله وأكثر تعبيرًا عن التنزيه.٨١ إن أفعال الإنسان ليست فقط وقائع وحوادث، بل هي معانٍ وبواعث، مقاصد وغايات. ليست أشياء كما هو الحال في السؤال التقليدي عن أفعال الناس والحيوان، هل هي أشياء أم ليست أشياء؟ هل هي أجسام أم لا؟ تدخل أفعال الإنسان في نطاق العلوم الإنسانية وليس في العلوم الطبيعية؛ لأنها ليست أشياء بل مواقف تتغلَّف فيها الحرية الإنسانية وليست حتمية القوانين الطبيعية.٨٢
وللإنسان القدرة التامة على الفعل، والاستطاعة التامة لتحقيقه وإلا لما صح الحساب، ولما وجبت المساءلة، ولما صح التكليف. وكيف يثبت التكليف دون حرية الأفعال بصرف النظر عن إرادة القبح، هل هي من ذاتها قبيحة أم أنها قبيحة اكتسابًا؟ وإن لم تثبت حرية الأفعال يصبح الله مسئولًا عن القبائح، مانعًا من الطاعات، ويصبح الشيطان هو «الشريك الغالب»! العقل والقدرة هما شرطا التكليف، والتكليف شرط الحساب، واستحقاق الثواب أو العقاب.٨٣
وأفعال الشعور لا تتم إلا من إنسان في موقفٍ محدد لا من فعل إنسانٍ كاملٍ مجرد. وهو إنسان يوجد بين عالمين، يتنازعه قطبان، إمكانيةٌ خالصة للحركة، للإقدام والإحجام. الإنسان صاحب أفعاله، لم يشأ منها أحد، سلبًا أم إيجابًا، طاعةً أو معصيةً، ثوابًا أو عقابًا.٨٤ وبعد وقوع الفعل، كل رجوع إلى الوراء للبحث عن بدل أو تعبيرًا عن تمنٍّ لما لم يحدث هو عمليةٌ شعوريةٌ خالصة لا تغير من الحدث الواقع ذاته. قد يؤخذ ذلك في الاعتبار في الحصول على تجربة للأفعال المستقبلية، ولكن إذا كان الأمر مجرد تمنٍّ لما لم يحدث وندم على ما حدث فهو إغراق في الخيال وإقرار بالضعف وعدم الثقة في المستقبل وتوقف للحياة. إن وجود الفعل يمنع من وجود ضده، وجود فعل الإيمان يمنع من وجود فعل الكفر لما كان الفعلان يمثلان احتمالَين للشعور. فلا مجال للأفعال المزدوجة والمتناقضة والمتشابهة. إن الفعل بعد أن يتحقق يصبح تاريخًا، ولا استدراك إلا بفعلٍ آخر وإلا وقع الإنسان في الندم والحسرة والنهي والإحساس بالذنب عما تم أو العجز مما لم يتم، مما لا يغير من واقع الفعل شيئًا.٨٥ ومع ذلك يجوز التمني من أجل عقد العزم على إثبات الفعل الثاني.٨٦
حرية الأفعال أقرب إلى العقل والواقع والشرع والتكليف؛ فالله لم يأمر بالشر بمعنى أنه لم يفعله بإرادته بل إنه فقط نبه عليه بالنهي عنه، وبالتوجه إلى إرادة الإنسان الحرة، كما أنه أمره بالخير ولم يجبره عليه، بل نبه وأشار إليه تاركًا حرية الاختيار للإنسان، كما أنه لا يرضى بالشر ولا يريده، وإنما أيضًا ينبه إليه من خلال النهي عنه والتحذير منه. إن الأمر بأفعال الشعور لا يعني الجبر عليه، بل يعني مجرد التوجيه والإرشاد والتنبيه، والإنسان لديه القدرة على الفعل وعدم الفعل، ولديه العقل للتمييز بين الحسن والقبح.٨٧
إن خلق الإنسان لأفعاله ليس نظريةً مستوردة من الخارج لم تنبع من صميم الوحي وموطن الإسلام. فتنزيه الله عن الظلم ضرورة عقلية كما أنها في أصل الوحي، ومسئولية الإنسان عن أفعاله ضرورة عقلية وفي أصل الوحي. إنما القصد من ذلك حصار المعارضة السياسية وإخراجها من قهر الأغلبية باسم إجماع الأمة.٨٨
١  جملة مقدورات العباد لا تخرج عن طريقَين: (أ) أفعال القلوب سواء كان الفاعل له أحدنا أو الله، والقلب ليس آلة وإلا كان يصح من الله إيجاد الأفعال في غير القلوب، وهو ممتنع. كل أفعال الحر يقدر عليها وقد لا يقدر. وأفعال القلوب نحو الإرادات والكراهات والاعتقادات والظن والنظر والغم والسرور والندم والخوف والخشية والتمني. (ب) أفعال الجوارح، ويصح مِنَّا فعلها مما يوجد في المحل من فعل الله ثم لا يصبح من أفعال الجوارح (المحيط، ص٣٥٠). وفرَّق أبو الهذيل بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح، وقال: لا يجوز وجود أفعال القلوب من الفاعل مع قدرته عليه ولا مع موته، وأجاز وجود أفعال الجوارح من الفاعل مِنَّا بعد موته وبعد عدم قدرته إن كان حيًّا لم يمت. وزعم أن الميت والعاجز يجوز أن يكونا فاعلَين لأفعال الجوارح بالقدرة التي كانت موجودة قبل الموت والعجز (الملل، ج١، ص٧٧).
٢  المراد بالأفعال ما يُسَمَّى فعلًا لغةً؛ إذ الكفر عدم الإيمان، والعصيان عدم الانقياد فهما أمران عدميان (حاشية الإسفراييني، ص٩٦).
٣  عند أهل السنة الله خالق لأفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وهي كلها بإرادته ومشيئته وحكمه وقضائه وتقديره (النسفية، ص٩٦–١١٢). ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والكفر والمعاصي بخلقه وإرادته ولا يرضاه، غنيٌّ لا يحتاج إلى شيء، لا حاكم عليه (العضدية، ج٢، ص١٨١–٢١٧). وعند ضرار بن عمر، إرادة الله على ضربَين، إرادة هي المراد، وإرادة هي الأمر بالفعل. وإرادته لفعل الخلق هي فعل الخلق، وإرادته لفعل العباد هي خلق فعل العباد، وخلق فعل العباد هو فعل العباد لأن خلق الشيء هو الشيء (مقالات، ج٢، ص١٧٨). وقد أثبت ضرار بن عمر ومحمد بن عيسى (برغوت) وبشر المريسي والنجار كون الله مريدًا أنه لم يزل لكل ما علم أنه سيحدث من خير وشر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية (الملل، ج١، ص١٣٣).
٤  ثم الإرادة عند أهل السنة أزلية. وإنما يتصف بالسفه ونقيضه الحادث المبتدأ والذي يُحقِّق ذلك أن من تكسَّب علمًا بالفواحش وفجور من غير حاجة ماسة إليه فذلك سفه منه (الإرشاد، ص٢٤٩). وأنه لم يزل مريدًا وشائيًّا ومحبًّا ومبغضًا وراضيًا وساخطًا ومواليًا ومعاديًّا ورحيمًا ورحمانًا ولأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده ومشيئته لا إلى غضب يغيره ورضا يسكنه طبعًا له وحنق وغيظ يلحقه وحقد يجده إذ كان متعاليًا عن الميل والنفور (الإنصاف، ص٢٤). وأنه راضٍ في أزله ممن علم أنه بالإيمان يختم عمله ويوافي به وغضبان على من علم أنه بالكفر يختم عمله ويكون عاقبة أمره (الإنصاف، ص٢٤). وقال أصحابنا بأن إرادته صفةٌ أزلية قائمة بذاته (الأصول، ص١٠٢). وزعم النجار أن الله لم يزل مريدًا لنفسه كما زعم أنه لم يزل عالمًا قادرًا حيًّا لنفسه.
٥  عند أهل السنة الإرادة صفة لذاته غير مخلوقة لا على ما يقول القدرية (الإنصاف، ص٢٦). وهي المشيئة والاختيار (الفِرَق، ص٣٣٦). ويقدم الأشعري الحجج الآتية لإثبات إرادة الله القديمة: (١) الإرادة المخلوقة يلحقها النقصان. (٢) الإرادة المخلوقة تعني أن أكثر ما شاء الله أن يكون لم يكن، وأكثر ما شاء الله ألا يكون كان. (٣) إذا كانت مخلوقة يكون إبليس أقوى من الله. (٤) الذي يريد أَولى بالألوهية من الذي لا يريد. (٥) وجود أفعال شاء الله أم أبى نقص في الله. (٦) إذا كانت أفعال العباد تُسخِطه وتُغضِبه تكون قاهرة. (٧) كيف لا يكون الله فعَّالًا لما يريد إلا إذا كان ناقصًا؟ (٨) فعل ما لم يعلم وصف بالجهل وعلم ما لا يفعل وصف بالعجز. (٩) الله خالق كل شيء حتى الأفعال. (١٠) لا اكتساب في أفعال العباد، لا يريد إلا الله. (١١) العلم والإرادة مطلقان ومتحدان. (١٢) الإرادة قديمة، ولكن الله لم يرد شيئًا من المعاصي (الإبانة، ص٤٤–٤٩). وتخالف الإباضيةُ (الخوارجُ) المعتزلةَ في التوحيد في الإرادة فقط لأنهم يزعمون أن الله لم يزل مريدًا لمعلوماته التي تكون ولمعلوماته التي لا تكون. والمعتزلة إلا بشرًا ينكرون ذلك (مقالات، ج١، ص١٨٩). وعند إحدى فرق الزيدية لم يزل الله مريدًا ولم يزل كارهًا للمعاصي، ولأن يُعصى ولم يزل راضيًا ولم يزل ساخطًا، سخطه على الكافرين رضاه بتعذيبهم، ورضاه بتعذيبهم سخطه عليهم، ورضاه عن المؤمنين سخطه أن يعذبهم، وسخطه أن يعذبهم ورضاه أن يغفر لهم (مقالات، ج١، ص١٣٨). لذلك يجعل البعض الإرادة ليست سابقة على الفعل. إذا كانت طاعة فإنه أرادة وإن كانت معصية فهو كاره لها (مقالات، ج١، ص١١٠-١١١).
٦  إذا كان الله علم أن الكفر يكون وأراد ألا يكون ما علم على خلاف ما علم، وإذا لم يجز ذلك فقد أراد أن يكون ما علم كما علم (الإبانة، ص٤٦–٤٩). في نفوذ مشيئة الله في مراداته. أجمع أصحابنا على نفوذ مشيئة الله في مراداته على حسب علمه به. فما علم منه حدوثه خيرًا كان أو شرًّا. وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون. وكل كونه فهو كائن في الوقت الذي أراد حدوثه فيه على الوجه الذي أراد كونه عليه. وكل ما لم يرد كونه فلا يكون سواء أمر به أو لم يأمر به (الأصول، ص١٤٥-١٤٦). وندين أن الله يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون (الإبانة، ص١٢). والرب عالم بجميع المعلومات خيرها وشرها، ولا يتصف في كونه عالمًا بما يتصف به من تكسُّب العلم مِنَّا (الإرشاد، ص١٤٩). الحوادث كلها تقع مرادة الله نفعها وضرها، خيرها وشرها. وإذا دللنا على أن الرب خالق لجميع الحوادث فيترتَّب على ذلك أنه مريد لما خلق قاصدًا إلى إبداع ما اخترع (لمع الأدلة، ص٩٧–٩٩). إنه علم من الكفار أنهم يموتون على الكفار، وأنه مانع لهم من الإيمان، وأن هذا يمنعه عن إرادته فثبت أنه لا يريد الإيمان من الكافر (المحصل، ص١٤٤-١٤٥؛ المعالم، ص٨٨–٩٠). علم من الكافر أنه لا يؤمن (المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣). وعند الأشعري الخروج من علم الله جريمة (الإبانة، ص٥٣). عند أهل السنة إرادته نافذة على جميع مراداته على حسب علمه بها فما علم كونه أراد كونه في الوقت الذي علم أنه يكون فيه، وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون، ولا يحدث في العالم شيء إلا بإرادته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن على خلاف القدرية البصرية، وقولهم إن الله قد شاء ما لم يكن وكان ما لم يشأ، أي أنه مقهور مكرَه على حدوث ما كره حدوثه (الفِرَق، ص٣٣٦). وعند الإباضية أن الله لم يزل مريدًا لما علم أنه يكون أن يكون ولما علم أنه لا يكون ألا يكون، وأنه مريد لما علم من طاعات العباد ومعاصيهم لا بأن أحب ذلك ولكن بمعنى أنه ليس بآبٍ عنه ولا بمكره عليه (مقالات، ج١، ص١٧٤). أنه عالم من يموت على الكفر عدم إيمانه فامتنع وجود الإيمان وإلا انقلب علمه جهلًا (المطالع، ص١٩٣).
٧  كن ويكون أولى بصفة الاقتدار (اللمع، ص٤٧–٥٧). ونسألهم فنقول لهم: أخبرونا كان الله قادرًا على منع الكافرين من الكفر والفاسق من الفسق، وعلى منع من شتمه من النطق به ومن إمراره على خاطره، وعلى المنع من قتل من أنبياء، أم كان عاجزًا عن المنع من ذلك؟ (الفصل، ج١، ص١٠٥). يُقال للقدرية: هل يجوز أن يعلم الله عباده شيئًا لا يعلمه؟ فإن قالوا: لا يعلم الله عباده شيئًا إلا وهو به عالم. قيل لهم: فكذلك لا يقدرهم على شيء إلا وهو عليه قادر، فلا بد من الإجابة إلى ذلك فيه. فيُقال لهم: فإن أقدرهم على الكفر فهو قادر على أن يخلق الكفر لهم. وإذا قدر على خلق الكفر لهم فلم تُثبتون خلق كفرهم فاسدًا متناقضًا باطلًا؟ وإذا كان الكفر مما أراد فقد فعله وقدره (الإبانة، ص٤٩). ومن زعم أن العباد يفعلون ويقدرون ما لم يقدر الله ويقدرون ما لم يقدر عليه، فقد جعل لهم من السلطان والقدرة والتمكن ما لم يجعله للرحمن (الإبانة، ص٦٥؛ وأيضًا شرح التفتازاني، ص١٠١؛ حاشية الخيالي، ص١٠١-١٠٢؛ حاشية الإسفراييني، ص١٠١). وكل ما قضى العقل بجواز إمكان حدوثه فالرب موصوف بالاختيار عليه، ولو فرض إحداثه إياه لما كان ممتنعًا ولكان مسوغًا في العقل (النظامية، ص٢٥).
وجائز بفضله وعدله
ترك لكل ممكن كفعله
(العقيدة، ص١١)
والجائز في حقه تعالى فعل كل ممكن أو تركه. والدليل على ذلك أنه لو وجب عليه فعل شيء أو تركه لصار الجائز واجبًا ومستحيلًا، وهو مُحال (الباجوري، ص١٠).
٨  نفذت فيه إرادته (الإبانة، ص٤). مذهب أهل الحق أن الباري مريد على الحقيقة وليس معنى كونه مريدًا إلا قيام إرادته بذاته (الغاية، ص٥٢). الله مريد على الحقيقة لجميع الحوادث والمرادات، فالحوادث كلها تقع مرادة لله وأنه لا يتصور أو يوجد في الدنيا والآخرة شيء لم يرده من نفع ورزق وأجل وطاعة ومعصية، والدليل أنه خالق لها قاضٍ ومخترع.
٩  في أن الله مريد لجميع الكائنات لوجوه، لو حصل مراد العبد ولم يحصل مراد الله لكان العبد مغلوبًا والعبد غالبًا، وهو محال (المعالم، ص٨٨–٩٠؛ المحصل، ص١٤٤-١٤٥). في أنه سبحانه مريد لجميع الكائنات من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والخير والشر والنفع والضر، وكل ذلك بقضاء الله وقدره (المسائل، ص٣٧٥-٣٧٦). اعلم أنه لا يجري في العالم إلا ما يريده الله، وأنه لا يؤمن ولا يكفر كافر إلا بإرادة الله، ولا يخرج مراده كما لا يخرج مقدور عن قدرته، لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يطيع طائع، ولا يعصي عاصٍ من أعلى العلى إلى ما تحت الثرى إلا بإرادة الله وقضائه ومشيئته (الإنصاف، ص١٥٧–١٥٩). إنه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون. هذا هو مذهب أهل الحق، وإجماع السلف على ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣). إنه تعالى مريد للكائنات من الخير والشر والإيمان والكفر (الطوالع، ص١٩٣).
١٠  الحادثات كلها مرادة لله (النظامية، ص٢٧). الحوادث كلها تقع مرادة لله نفعها وضرها، خيرها وشرها (اللمع، ص٩٧–١٠٠). الله متفرد بخلق المخلوقات، فلا خالق سواه، ولا مبدع غيره، وكل حادث فالله محدثه (ص١٠٦-١٠٧). في أنه مريد لجملة الكائنات من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والخير والشر والنفع والضر، وكل ذلك بقضاء الله وقدره (المسائل، ص٣٧٣–٣٧٨). وزعم الأشعري أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا بل المقدور والمقدور وإن كان بقدر الله؛ في أنه تعالى مريد لجميع الكائنات خلافًا للمعتزلة. وقالت الفلاسفة ثبت أنه واحدٌ محض لا يصدر عنه إلا الواحد. وقالت الوجود خير محض كالعقول والأفلاك (المحصل، ص١٤٠–١٥٠).
١١  في إرادة الكائنات، مذهبنا أن كل حادث مراد لله حدوثه، ولا يختص تعلق مشيئة الباري بصنف من الحوادث دون صنف، بل هو مريد لوقوع جميع الحوادث، خيرها وشرها، نفعها وضرها (الإرشاد، ص٢٣٧-٢٣٨). الصفة المرجحة لأحد المقدورين هي الإرادة (المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣).
١٢  والإرادة التي صرف بها أصناف المخلوقات. واعلم أنه لا فرق بين الإرادة والمشيئة والاختيار والرضا والمحبة، والاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال. فمن رضي سبحانه عنه لم يزل راضيًا عنه ولا يسخط عليه أبدًا، وإن كان في الحال مطيعًا (الإنصاف، ص٢٣، ص٤٤-٤٥). أجمع أصحابنا بأن الحوادث كلها بمشيئة الله واختلفوا في التفصيل (الأصول، ص١٠٤-١٠٥). إن الأمة أجمعت على القول بإطلاق هذه الكلمة: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.» وأيضًا فإنه لو أراد شيئًا وأراد غيرُه شيئًا فوجد مراد غيره دون مراده كان ذلك دليل العجز والغلبة (الإنصاف، ص٤٤). وزعموا (معارضو أهل السنة) أن الله يشاء مالا يكون ويكون ما لا يشاء، خلافًا لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وردًّا لقوله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ … إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (الإبانة، ص٧). وألا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، وأن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله الله، ولا تستغنى علله ولا تقدر على الخروج عن علن الله، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا إلا ما شاء الله (الإبانة، ص٩). اجتمعت الأمة على قول «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» (الفصل، ج٣، ص١٠٦-١٠٧). وأنه مريد بها لكل حادث في سمائه وأرضه مما يتفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده، وما يجعله منه كسبًا لعباده من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال وطاعة وعصيان. لا يخرج حادث عن مشيئته ولا يكون إلا بقضائه وإرادته (الإنصاف، ص٢٦). ولا يكون حادث إلا بإرادته ولا يخرج مخلوق عن مشيئته. ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه تعالى فعَّال لما يريد؛ فإنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه، من يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له (الإنصاف، ص٢٨).
١٣  في أن الله مريد لجميع الكائنات لوجوه: (أ) كل فعل يصدر عن العبد فيه مجموع القدرة والداعي على سبيل الإيجاب، وخالقهما هو الله، وموجب السبب الموجب مريد للسبب، فوجب كونه مريدًا للكل، إنه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون، هذا هو مذهب أهل الحق لأنه خالق الأشياء كلها، وخالق الشيء بلا إكراه، مريد له (المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣). إنه تعالى خالق الأشياء كلها بالقدرة، والخلق بالقدرة يتوقف على الإرادة فيكون جميع الأشياء بخلقه وإرادته (شرح الدواني، ج٢، ص١٨٢-١٨٣). عند أهل الحق والإثبات: الباري قادر على أن يخلق إيمانًا يكون عباده به مؤمنين، وكفرًا يكونون به كافرين، وكسبًا يكونون به مكتسبين، وطاعةً يكونون بها مطيعين، ومعصيةً يكونون بها عاصين (مقالات، ج٢، ص٢٠٦). قول أصحاب الحديث والسنة. وأقرُّوا أن لا خالق إلا الله، وأن مشيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئًا، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره. ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومُرِّه، ويؤمنون بأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله كما قال، ويُلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال (مقالات، ج١، ص٣٢١). ويُقرُّون بأن الله مقلب القلوب (مقالات، ج١، ص٣٢٢). الله خالق الكفر والمعاصي (الإبانة، ص٤٦–٤٩). أنه تعالى مريد للكائنات من الخير والشر والإيمان والكفر لأنه موجد للكل ومبدعه. إنه موجد كل شيء ومبدعه بالاختيار. ومن جملة الشر الكفر والمعصية وكل ما أوجده بالاختيار يكون مريدًا له (الطوالع، ص١٩٣).
١٤  وعند الجبرية أن الله خلق المؤمنين مؤمنين، وخلق الكافرين كافرين، وإبليس لم يزل كافرًا، وأبو بكر وعمر كانا مؤمنين قبل الإسلام، والأنبياء كانوا أنبياء قبل الوحي، وكذلك إخوة يوسف كانوا أنبياء وقت الكبائر. وقال أهل السنة والجماعة: صاروا أنبياء بعد ذلك، وإبليس صار كافرًا. وهذا لا ينافي كونه كافرًا عند الله باعتبار تعلق علمه بأنه سيصير كافرًا ولو كان جبرًا محضًا لما صدر من إبليس طاعة ولا من أبي بكر وعمر معصية (شرح الفقه، ص٤٦-٤٧).
١٥  (الإرشاد، ص١٩٥–١٩٨). فلسفة السؤال. هي التي يعنيها محمد إقبال حيث يرى أن علاقة الإنسان بالله، مادًّا يده طالبًا العون، أقرب إلى موقف السائل الذي لا يعتمد على ذاته وجهده ونشاطه وخلقه الذاتي لإقامة حياته. وقد عبر إقبال عن ذلك في ديوانه «ضرب الكليم».
١٦  ويعتبر ذلك القدماءُ دليلًا عقليًّا! فالملك إذا أُجري في ملكه ما لا يريد؛ دلَّ ذلك على نقصه أو ضعفه أو عجزه، والله موصوف بصفات الكمال لا يجوز عليه في ملكه نقص ولا ضعف ولا عجز، فكيف يكون في ملكه ما لا يريده، ويريده أضعف خلقه فيكون؟! كلا، أن يأمر بالفحشاء أو يكون في ملكه إلا من يشاء (الإنصاف، ص١٦١-١٦٢). نفس صورة المالك في حاشية الإسفراييني، ص٩٩. وحُكي أن القاضي عبد الجبار الهمذاني دخل على الصاحب بن عباد وعنده أبو إسحاق الإسفراييني، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزَّه عن الفحشاء. فقال الأستاذ: سبحان من لا يجري في ملكه إلا من يشاء (شرح التفتازاني، ص٩٩؛ شرح الخيالي، ص٩٩-١٠٠). أخبر أن منهم من رحمه وأراد رحمته دون غيره؛ فصحَّ أنه لا يكون من عباده، ولا يجري في ملكه إلا ما أراده وقضاه وقدره (الإنصاف، ص١٥٧–١٥٩). لا يجوز أن يكون في سلطان الله ما لا يريده لأنه لو كان في سلطان الله ما لا يريده لوجب إمَّا إثبات سهو وغفلة أو إثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده ظلمًا. لم يجُز ذلك على الله استحالة أن يكون في سلطانه ما لا يريده … فإن قال: خبرونا عن ملك من ملوك الدنيا لو مرَّ برجل مُقعَد زعين أعمى فشتمه والملك لا يريد شتمه، أتقولون إن الملك يلحقه في ذلك ضعف ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده إذا أراد ألا يشتمه فشتمه؟ قيل أجل! وإلا كان ضعيفًا وهنًا! (اللمع، ص٤٧–٥٠). لا يجوز أن يكون في سلطان الله من اكتساب العباد ما لا يريده، وإلا كان نقصانًا أو سهوًا أو غفلةً أو ضعفًا أو تقصيرًا، وأن توجد المعاصي شاء الله أم أبى، والله لم يزل مريدًا على الحقيقة (الإبانة، ص٤٦–٤٩).
١٧  اتفق مُثبِتو الصانع على تعاليه وتقدُّسه عن سمات النقص ووخز القصور، ثم اتفق أرباب الألباب على أن نفوذ المشيئة أصدق آيات السلطان وأحق دلالات الكمال. ونقيض ذلك دليل نقيضه. فإذا زعمت المعتزلة أن معظم ما يجري من العباد فالرب كاره له وهو دافع على كراهته، فقد قضوا بالقصور، وقالوا: أراد الرب ما لم يكن، وكان ما لم يُرد، ولم تنفذ إرادته في خليقته، ولم تجرِ مشيئته في مملكته، ووقع كثير من الحوادث كما أراد إبليس وجنوده (الإرشاد، ص٢٤٠-٢٤١). قد قضت العقول بأن تُصوَّر الإرادة وعدم نفوذ المشيئة من أصدق الأمارات الدالة على سمات النقص والاتصاف بالعجز والقصور، ومن رشح للملك ثم كان لا ينفذ مراده في أهل مملكته ضعيف المنة ومضاع الفرصة. فإذا كان ذلك يزري على من ترشح للملك فكيف يجوز ذلك في صفة ملك الملوك ورب الأرباب؟! (لمع الأدلة، ص٩٧–٩٩).
١٨  (شرح التفتازاني، ص٩٩؛ حاشية الإسفراييني، ص٩٩). يقدم الأشعري حجة أن قتل ابن آدم لأخيه وأنه في نفس الوقت أراد ألا يقتل أخاه لئلا يُعذَّب؛ أراد قتل أخيه ولم يكن سفيهًا. وكذلك يعتمد على آيات مثل: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ والسجن معصية ولم يكن سفيهًا. كما يعتمد على آيات أخرى مثل: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا (الإبانة، ص٤٦–٤٩).
١٩  تقول المعتزلة: الله قادر أن يُلجئ العباد إلى فعل ما أراده منهم (مقالات، ج٢، ص٢٠٧). فإن قالوا: الرب قادر على أن يرد الخلائق إلى طاعته قهرًا وقسرًا، ويظهر آية تظل رقاب الجبابرة لها خاضعة (لمع الأدلة، ص٩٧–٩٩). قالت المعتزلة: لو شاء الله لاضطرهم إلى الإيمان فآمنوا مضطرين؛ فكانوا لا يستحقون الجزاء في الجنة (الفصل، ج٣، ص١١٤–١١٦). وقال أبو الهذيل إن الباري يضطر عباده في الآخرة إلى صدق يكونون به صادقين، وكلام يكونون به متكلمين، فيلزمه أن يُجوِّز القدرة أن يضطرهم إلى كفرٍ يكونون به كافرين، وجور يكونون به جائرين، وإلا كان منافقًا (مقالات، ج٢، ص٢٠٦-٢٠٧). الرب قادر على الخلق واضطرهم إلى الأعيان بأن يظهر آية تظل لها أعناق الجبابرة خاضعة. وإنما كان يلزم وصفه بالقصور لو لم يكن مقتدرًا على سوق الخلق اقتهارًا وإقسارًا إلى ما أراد (الإرشاد، ص٢٤١–٢٤٣). وقال محمد بن عيسى: لو ألجأهم إلى الكفر لم يكونوا كافرين لأنهم أمروا أن يأتوا بالإيمان طوعًا وأن يتركون الكفر طوعًا. فإذا أتوا به كرهًا وتركوا الكفر كرهًا لم يكونوا مؤمنين (مقالات، ج٢، ص٢٠٧). ولا يوصف الباري بأنه قادر على أن يخلق جورًا لغيره. وأنكر أكثر أهل الإثبات أن يكون الباري موصوفًا بالقدرة على أن يضطر عباده إلى إيمان يكونون به مؤمنين، وكفر يكونون به كافرين، وعدل يكونون به عادلين، وجور يكونون به جائرين (مقالات، ج٢، ص٢٥٦).
٢٠  مثلًا تُستعمل آيات: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَة، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وهذا لا يفيد الجبر بل يفيد التعود والتأكيد على خصوصية الفعل الإنساني والواقع البشري. فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا. ولا يعني ذلك الجبر لأن الآية شرطية بحرف «من»، والأولوية في الشرط للفعل الإنساني، فالفعل الإنساني هو فعل الشرط والفعل الإلهي هو جواب الشرط. وكذلك آيات مماثلة كلها شرطية مثل: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ … مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ، وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا … الخ. أمَّا الآيات الأخرى الخبرية فإنها تعبر عن الحق النظري وليس عن التدخل العملي لله مثل: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ. فمنها ما يرجع إلى الصفات السبع، خاصةً الإرادة، وهو حقٌّ نظريٌّ مطلق وشامل لله وليس تنفيذًا فعليًّا يقضي على حرية الإنسان. والبعض الآخر منه تعليم وتشريع للتيسير واليسر وتكليف ما يُطاق واعتراف بحدود القدرات الإنسانية وإمكانياتها، وبعض الحجج النقلية من الحديث، والحديث التخييلي عن أهل الجنة والآخرة شيء والدنيا شيءٌ آخر، فالآخرة دار ثواب والدنيا دار عمل، الآخرة دار جزاء والدنيا دار فعل. وقد يستشهد بأقوال الأنبياء السابقين مثل شعيب وموسى وذلك تعليم في بداية الوحي ومراحله السابقة وغرز لأولوية الفعل الإلهي على الفعل الإنساني لدى العبرانيين القدماء الذين كانوا ينكرون الفعل الإلهي وذلك لإيجاد التوازن في الشعور الإنساني بين الفعلين (الفصل، ج٣، ص١١١–١١٤؛ الإنصاف، ص٤٠–٤٣، ص١٥١–١٥٩؛ حاشية الخيالي، ص٩٧-٩٨؛ الإبانة، ص٤٨–٥١، ص٥٢-٥٣؛ المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣).
٢١  شبهات إبليس سبعة مروية في الكتب المقدسة جميعها، منها أربعة تتعلق بخلق الأفعال، وهي بلسانه كالآتي: (١) علم الله قبل خلق أي شيء يصدر عني ويحصل مني، فلمَ خلقني أوَّلًا وما الحكمة من خلقه إياي؟ (٢) إذا خلقني وكلَّفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت وأطعت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص، خاصةً أن ذلك لا يزيد في معرفتي وطاعتي؟ (٣) إذا خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص، فإذا لم أسجد لعنني وأخرجني من الجنة؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبحًا إلا قولي: لا أسجد لك؟ (٤) إذا خلقني وكلَّفني مطلقًا وخصوصًا فلم أُطع، فلعنني وطردني، فلم طرقني إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيًا وغررته بوسوستي فأكل من الشجرة المنهي عنها وأخرجه من الجنة معي؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة لاستراح مني آدم وبقي خالدًا فيها؟ (الفصل، ص١٠٠-١٠١؛ الإبانة، ص٥٠-٥١).
٢٢  ثم إن من قاس الغائب على الشاهد هنا فهو يعترف بأنه ليس في الشاهد فاعلٌ موجود على الحقيقة، بل الوجود في حقه ليس إلا الاكتساب بخلاف ما في الغائب. فإذا ما وجد في الشاهد لم يوجد في الغائب وما وجد في الغائب لم يوجد في الشاهد، فأنى يصح القياس؟ (الغاية، ص٤٧).
٢٣  هذا هو قول محمد بن عبد الله بن سعيد وكثير من الأشاعرة. إذ يقول إن الله أراد حدوث كل الحوادث خيرها وشرها لا على التفصيل، إنه أراد الكفر والمعاصي الكائنة وإن كانت من جملة الحوادث التي أراد كونها في الجملة. كما تقول عند الدعاء يا خالق الأجسام ويا رازق البهائم والأنعام كلها ولا نقول يا رازق الخنافس والجعلان، يا خالق القردة والخنازير والدم والنجاسات … (الأصول، ص١٠٤-١٠٥). ومنهم من لا يجوز استناد الكائنات إليه مفصلًا لإيهامه الكفر (المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣). كما يصح أن يُقال الله خالق كل شيء ولا يصح أن يُقال إنه خالق القاذورات وخالق القردة والخنازير وكما يُقال له كل ما في السموات والأرض ولا يُقال له الزوجات والأولاد لإيهامه إضافة غير الملك إليه. ويوافق محمد بن عبد الله بن مرة بن نجيح الأندلسي المعتزلة في القدر ويقول إن علم الله وقدرته صفتان مُحدَثتان مخلوقتان، وإن لله عِلمَين: أحدهما أحدثه جملة وهو علم الكتاب، وهو علم الغيب، كعلمه أنه سيكون كفار والمؤمنون والقيامة والجزاء ونحو ذلك، والثاني علم الجزئيات وهو علم الشهادة وهو كفر زيد وإيمان عمر ونحو ذلك، فإنه لا يعلم الله من ذلك شيئًا حتى يكون (الفصل، ج٥، ص٤٠).
٢٤  عند الأشعري العبد غير مجبور على أفعاله، بل هو قادر عليها مكتسب لها (لمع الأدلة، ص١٠٧). من أطلق إرادة الله في مراداته جملة وتفصيلًا، ولكن قيد الإرادة في التفصيل فقال في الجملة إن الله قد أراد حدوث كل ما علم حدوثه من خير وشر. وقال في التفصيل إنه أراد حدوث الكفر من الكفر بأن يكون كسبًا له قبيحًا منه ولم يقل إنه أراد الكفر والمعصية على الإطلاق من غير تقييد له (الأصول، ص١٤٥-١٤٦)، ومن أئمتنا من يُطلق ذلك عامًّا ولا يُطلقه تفصيلًا. وإذا سُئل عن كون الكفر مرادًا لله لم يخصص في الجواب ذكر تعلق الإرادة به وإن كان يعتقده، ولكنه يتجنب إطلاقه لما فيه من إيهام الزلل؛ إذ قد يتوهم كثير من الناس أن ما يريده الله يأمر به ويحرص عليه. ورب لفظ يُطلَق عامًّا ولا يفصل (الإرشاد، ص٢٣٧-٢٣٨). قال الأشعري في التفصيل بتقييد: لا أقول إن الله أراد حدوث المعصية من المعاصي قبيحة منه ولا أقول إنه أرادها على الإطلاق كما نقول في المؤمن إنه كافر بالجبت والطاغوت، والكافر مؤمن بالصنم على هذا التقييد (الأصول، ص١٠٤-١٠٥).
٢٥  الكفر والمعاصي بخلقه وإرادته ولا يرضاه (العضدية، ج٢، ص١٨٢-١٨٣). هل شاء الله كون الكفر والفسق وأراده من الكافر الفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه؟ ذهب أهل السنة أن لفظ شاء وأراد لفظةٌ مشتركة تقع على معنيَين: (أ) الرضا والاستحسان، فهذا منهيٌّ عن الله إن أراده أو شاءه في كل ما نهي عنه. (ب) أراد كونه وشاء وجوده، فهذا هو الذي تخبر به عن الله في كل موجود في العالم من خير أو شر. وهما أساس خطأ المعتزلة في التعلق بالألفاظ المشتركة. وقال أهل السنة: ليس من فعل ما أراد الله وما شاء كان محسنًا دائمًا. الحسن من فعل بما أمره الله به ورضيه منه (الفصل، ج٣، ص١٠٤، ص١١١–١١٤).
٢٦  ويشارك في ذلك الأشاعرة وبعض المعتزلة والروافض. فعند الأشاعرة للعباد أفعالٌ اختيارية يُثابون بها ويُعاقَبون عليها، والحسن منها برضاء الله والقبيح منها ليس برضائه (النسفية، ص٩٦–١١٢). والمعتزلة اعتقدوا أن الأمر يستلزم الإرادة والنهي عدم الإرادة، فجعلوا إيمان الكافر مرادًا وكفره غير مراد (شرح التفتازاني، ص٩٩). وعند المعتزلة الحسنات والخير من الله والشر والسيئات من أنفسهم كي لا ينسبوا إلى الله شيئًا من السيئات والمعاصي (الرد، ص١٦٤-١٦٥). الرزق الحرام من الإنسان والرزق الحلال من الله (الرد، ص١٧٦). القدرية أصناف، صنف يرون الحسنات والخير من الله، والشرور والسيئات من أنفسهم، لكيلا ينسبوا إلى الله شيئًا من السيئات والمعاصي (الرد، ص١٦٥-١٦٦). وعند بشر بن المعتمر: الله لم يزل مُريدًا لطاعته دون معصيته (مقالات، ج٢، ص١٧٤). وقالت الفضيلية، وهم أصحاب فضل الرقاشي، إن أفعال العباد لا يُقال إن الله أرادها إذا لم تكن، ولا يُقال لم يُردها، فإن كانت جاز القول بأن أرادها؛ فما كان من فعلهم طاعة قيل أراده الله في وقته وإن كان معصية قيل لم يرده (مقالات، ج٢، ص١٧٦). وعند فريق من الروافض إرادة المعبود لأفعال العباد هي أمرهم إياهم بالفعل، وهي غير فعلهم وهم يأبون أن يكون الله سبحانه أراد المعاصي فكانت. ويقول فريقٌ آخر من الروافض: لا نقول قبل الفعل إن الله أراده، فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها (مقالات، ج١، ص١١١). وعند الميمونية الله يريد الخير دون الشر، وليست له في مشيئته في معاصي العباد (الملل، ج٢، ص٤٦). وتشارك الجبرية أحيانًا في القول بأن الكافر قادر على الكفر الذي هو فيه غير قادر على الإيمان الذي تركه (الانتصار).
٢٧  وهو حل البغدادي بقوله إننا عبرنا عن المعاصي والكفر بأنها حوادث قلنا إن الله أراد حدوثها ولم نقل أراد الكفر والعصيان، وإن قلنا أراد حدوث هذا الحادث الذي هو كفر أو معصية (الأصول، ص١٤٥-١٤٦). وقال بعض أصحابنا من سألنا عن الشرور بلفظ الحوادث قلنا إن الله أراد حدوثها وحدوث جميع الحوادث ولا نقول بلفظ الشرور إنه أراد الشرور «ونقول إنه أراد حدوث هذا الحادث الذي هو معصية» (الأصول، ص١٠٤-١٠٥).
٢٨  هذا هو موقف جهم بن صفوان الذي ينفي الصفات وينفي خلق الإنسان للأفعال، وهو الاستثناء الذي يعارض النسق العام. وعند عمرو بن عباد السلمي نفي الصفات ونفي القدر خيره وشره من الله والتكفير والتضليل على ذلك (الملل، ج١، ص٩٨-٩٩).
٢٩  قال قائلون من المعتزلة: لم يزل الله يعلم أجسامًا لم تكن ولا تكون، ويعلم مؤمنين لم يكونوا، وكافرين لم يُخلَقوا، ومتحركين وساكنين، مؤمنين وكافرين، ومتحركين وساكنين، في الصفات قبل أن يُخلقوا وقاسوا قولهم حتى قالوا معلومون معذَّبون بين أطباق النيران في الصفات وأن المؤمنين مُثابون ممدوحون منعَّمون في الجنان في الصفات لا في الوجود إذا كان الله قادرًا على أن يخلق من يطيعه فيثيبه ومن يعصيه فيعاقبه مقدور معلوم. وكان أنيب بن سهل الخراز يقول: مخلوق في الصفات قبل الوجود، ويقول موجود في الصفات (مقالات، ج١، ص٢٢٣).
٣٠  عند هشام بن الحكم لو كان الله عالمًا بأفعال العباد لم تصح المحنة والاختبار (الفِرَق، ص٦٧؛ مقالات، ج١، ص١٠٨). ولو كان عالمًا بما يفعل عباده قبل وقوع الأفعال منهم لم يصح اختيار العباد وتطليقهم (مقالات، جزء٢، ص١٦٤). وعند معظم الروافض: الله يعلم ما يكون قبل أن يكون إلا أعمال العباد، فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها، لأنه لو علم من يعصي ومن يطيع لحال بين المعاصي والمعصية (مقالات، ج٢، ص١٦٢). ومن الرافضة من يزعم أن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون إلا أعمال العباد، فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها (مقالات، ج١، ص١٠٨). إن الله قدر كل شيء ما خلا الأعمال عند بعض الأقوام (التنبيه، ص١٦٩).
٣١  أجاز أكثر المعتزلة ألَّا يكون ما أخبر الله أنه يكون وعلم أنه يكون بألَّا يكون كان علم وأخبر أنه يكون. وعند الجبائي وما علم الله أنه يكون فمستحيل قول قائل لو كان مما يترك لم يكن العلم سابقًا أن يكون! (مقالات، ج١، ص٢٨٦-٢٨٧). وعند المعتزلة إلا الفضيلية: الله يريد أمرًا ولا يكون ويكون ما لا يريد (مقالات، ج٢، ص١٧٧). وعند المعتزلة البصرية ما شاء الله لم يكن وكان ما لم يشأ (الفِرَق، ص٣٣٦). وعند الفضيلية وغيلان أفعال العباد لا يُقال إن الله أرادها إذا لم تكن ولا يُقال لم يردها، فإن كانت جاز القول إنه أرادها. أجاز القول بأنه يريد أمرًا فلا يكون، وجاز أن يكون ما لا يريد، وأنكر أن يكون الله يريد أن يطيعه خلق قبل أن يطيعوه أو يريد ألَّا يعصوه قبل أن يعصوه (مقالات، ج١، ص١٧٦-١٧٧). ويعرض ابن حزم موقف المعتزلة قائلًا بأن المعتزلة مقرون أن الله لم يزل يعلم: (أ) أن من يؤمن بعد كفره فإنه لا يزال في كفره إلى أن يؤمن. (ب) أن من يكفر بعد إيمانه فإنه لا يزال في إيمانه حتى يكفر. (ج) أن من لا يؤمن من الكفار أبدًا فإنه لا يزال في كفره إلى أن يموت. (د) أن من لا يكفر من المؤمنين فإنه لا يزال في إيمانه إلى أن يموت (الفصل، ج٥، ص٣٨). فعند المعتزلة المعلوم غير المقدور (النهاية، ص٢٥٥–٢٥٨).
٣٢  اختلف المتكلِّمون أن يكون علم الله على شرط على مقالَين: (أ) معتزلة بصرة وبغداد إلا هشامًا وعبادًا. فعندهم الله يعلم أنه يعذب الكافر إن لم يتُب من كفره وأنه لا يعذبه إن تاب من كفره ومات تائبًا غير متجانف لإثم. (ب) هشام الفوطي وعباد لا يجوِّزان ذلك لما فيه من الشرط، والله لا يجوز أن يوصَف بأنه يعلم على شرط ويخبر على شرط وجوَّز ذلك مخالفوهم، والشرط في المخبر عنه، والشرط في المعلوم (مقالات، ج١، ص٢٣٨–٢٤٠، ج٢، ص١٦٤-١٦٥). وكان الجبائي يقول: لو آمن من علم الله أنه لا يؤمن لأدخله الجنة (مقالات، ج١، ص٢٥٤، ج٢، ص٢١٣). واختلفوا فيمن علم الله أنه لا يؤمن، قالت المعتزلة إلا عليًّا الأسواري إنه مأمور بالإيمان قادر عليه. وقال الأسواري: إذا قرن الإيمان إلى العلم بأنه لا يكون أحلت القول بأن الإنسان مأمور به أو قادر عليه. وإذا أفرد كل قول من صاحبه فقلت: هل أمر الله الكافر بالإيمان، وأقدره عليه، ونهى المؤمن عن الكفر؟ قلت نعم (مقالات، ج١، ص٢٨٥؛ الفِرَق، ص١٩٩). وأنكر الشبيبة (المعتزلة) أن يكون العلم سابقًا على ما به العباد عالمون وما هم إليه صائرون (التنبيه، ص١٧٥). ويقول شيطان الطاق يعلم الله الأشياء إذا قدرها وأرادها ولا يكون قبل تقديره للأشياء عالمًا بها، وإلا ما صح تكليف العباد (الفِرَق، ص٧١). وعند جعفر بن حرب لو قيل: أيقدر من أخبر الله أنه لا يؤمن على الإيمان؟ قيل له: يقدر مع وجود الخبر أن يفعل الإيمان ولا بأن تتوهم وقوع الإيمان ووجود الخبر ولكن على أن تتوهم وقوع الإيمان مفردًا على وجوه الخبر. وقالت المعتزلة كلها إلا بشرًا وعبادًا إن الله لم يزل غير مريد لما علم أنه يكون ثم أراده (مقالات، ج٢، ص١٧٦). وقالت المعتزلة إن علم الله لم يزل يعلم أن من مات كافرًا فإنه لا يؤمن أبدًا وأنه كلم، وقال إن أبا لهب وامرأته سيصليان النار كافرَين، ثم قطعوا كلهم بأن أبا لهب وامرأته كانا قادرَين على الإيمان على ألا تمسهما النار وأن كان ممكنًا لهما تكذيب الله وأنهما كانا قادرين على إبطال علم الله وعلى أن يجعلاه كاذبًا في قوله (الفصل، ج٥، ص٣٤).
٣٣  هذه هي التفرقة المشهورة في القانون بين En Fait, En Droit أو بين De Facto, De Jure.
٣٤  زاد علي الأسواري على النظام أن الله لا يوصف بالقدرة على الظلم على ما علم أنه لا يفعله ولا على ما أخبر أنه لا يفعله. إن الإنسان قادر على ذلك لأن قدرة العبد صالحة للضدين، ومن المعلوم أن أحد الضدين واقع وفي المعلوم أنه سيوجد دون الثاني (الملل، ج١، ص٨٩). ويقول: ما علم الله أنه لا يكون لم يكن مقدور الله (الفِرَق، ص١٥١). وكان الجبائي لا يصف ربه بالقدرة على أن يخلق إيمانًا يكونون به مؤمنين وكفرًا يكونون به كافرين وعدلًا لا يكونون به عادلين، وكلامًا يكونون به متكلمين لأن معنى متكلِّم أنه فعل الكلام عنده. وكذلك القول في سائر ما ذكرناه من العدل والجور عنده وكذلك يحيل ذلك في كل شيء يوصف به الإنسان. ومعنى ذلك أنه فاعل مما اشتق له الاسم منه (مقالات، ج٢، ص٢٠٦). وعند الميمونية (العجاردة الخوارج)، فوَّض الله الأعمال على العباد وجعل لهم الاستطاعة إلى كل ما كلفوا؛ فهم يستطيعون الإيمان والكفر جميعً، وليس لله في أعمال العباد مشيئة، وليست أعمال العباد مخلوقة لله (مقالات، ج١، ص١٦٤-١٦٥). وعند المعلومية (الخازمية العجاردة الخوارج) من لم يعلم الله بجميع أسمائه فهو جاهل به وأن أفعال العباد ليست مخلوقة، وأن الاستطاعة مع الفعل، ولا يكون إلا ما شاء الله (مقالات، ج١، ص١٦٦).
٣٥  نعم يجوز أن يأمر الله بذلك وإن كان يعلم أنه يحول بين العباد وبينه في التالي، إنما يقول له افعل إن لم نحُل بينك وبين الفعل ويجوز أن يقدر على الفعل في الثاني وإن كان يُحال بينه وبينه في الثاني (مقالات، ج١، ص٢٨٥). لا يجوز ذلك في الأمر ولا في القدرة (مقالات، ج١، ص٢٨٥). وعند أهل الإثبات الباري قادر على ظلم غيره وجوره وإيمانه وكسبه، ولا يوصف بالقدرة على أن يظلم ويجور ولا بالقدرة على أن يكتسب ولم يصفوا ربهم بالقدرة على ظلم لا يكتسبه العباد (مقالات، ج٢، ص٢٠٨). وعند محمد بن عيسى الباري قادر على الجور وليس قادرًا على أن يجور، ولم يزل قادرًا على الفعل وليس لم يزل قادرًا أن يفعل. وكان يعارض من قال إن القادر على الفعل قادر أن يفعل (مقالات، ج٢، ص٢٠٨).
٣٦  قالت المعتزلة، الرضا والسخط ليسا من صفات الله (البحر، ص٦٦-٦٧). والمعتزلة يقولون إن قبائح أفعال العبد ليست بقضاء الله وقدره (المسائل، ص٣٧٣–٣٧٨). وقالت المعتزلة إن كان الله أراد كون كل ذلك فهو إذن يغضب مما أراد (الفصل ج٣، ص١٠٥)، اختلف أهل الحق في إطلاق المحبة والرضا. فإذا قال قائل هل يحب الله كفر الكفار ويرضاه؟ فمن الأئمة من لا يطلق ذلك ويأباه. (أ) قال البعض المحبة والرضا يعبر بهما عن أنعام الله وأفضاله وهما من صفات أفعاله. (ب) ومنهم من يحمل المحبة والرضا على الإرادة (الإرشاد، ص٢٣٩-٢٤٠). نفت المعتزلة جميع الصفات الأزلية، وقالوا: ليس له قدرة ولا علم ولا حياة، ونفى البغداديون عنه الإرادة (الفِرَق، ص٣٣٤).
٣٧  يقول بشر بن المعتمر إن الله إذا علم حدوث شيء من أفعال العباد ولم يمنع منه فقد أراد حدوثه؛ فكفَّرته المعتزلة وأيَّدته أهل السنة (الفِرَق، ص١٥٦؛ الفصل، ج٢، ص١٣٧). يقول القدرية إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون؛ لأن الله إذا كتب ذلك وأمر بأن يكتب فلا يكتب شيئًا لا يعلم، في حين عند الأشاعرة يعلم الله ما يكون قبل أن يكون (الإبانة، ص٦٢-٦٣).
٣٨  قالت المعتزلة: كل آمر بالشيء فهو مريد له، والرب آمر عباده بالطاعة فهو مريد لها (النهاية، ص٢٥٤-٢٥٥). وهو أيضًا رأي الكعبي والنظام (النهاية، ص٢٣٨–٢٤٢). وعند المعتزلة إرادة الله في أفعال عباده الأمر بها (الفِرَق، ص١٨١-١٨٢). وعند الجبائي أن الإرادة غير الأمر بها (اللمع، ص٥٥-٥٦؛ مقالات، ج١، ص١٤٥، ج٢، ص٤٩، ص١٧٤). عند الجبائي الأمر والخبر لا يكونان أمرًا وخبرًا إلا بالإرادة، أمَّا إرادة المأمور به على أصل أبي هاشم أو إرادة كونه أمرًا وخبرًا كما قال ابن الإخشيد (الفِرَق، ص١٩٣). وعند الخياط إذا قيل الله مريد لأفعال عباده فالمراد أنه آمرٌ راضٍ عنها (الملل، ج١، ص١١٤). وكان أبو معاذ التومني يقول: بعض القرآن أمر وهو الإرادة من الله للإيمان؛ لأن معنى أن الله أراد الإيمان هو أنه أمر به (مقالات، ج٢، ص٢٣٢). عند ضرار الإرادة ضربان: (أ) المراد. (ب) الأمر بالفعل (الملل، ج١، ص٧٩). وعند النظام والكعبي أن الله خالق أفعاله وإذا أضيف إلى أفعال العباد، فالمراد أنه أمر بها ولا ساهٍ عما يفعله بل كان عالمًا به (الغاية، ص٥٢؛ الإرشاد، ص٦٣–٦٦؛ النهاية، ص٢٣٨–٢٤٢).
٣٩  إذا كان الله قد شاء كل ما أمر به وكلف الإنسان أنه فاعل شيئًا إن شاء الله ولم يفعل فقد أحنث في اليمين (الفِرَق، ص١٨٤). وقال: لا يكون المريد للشيء مريدًا له إلا من جميع وجوهه (الفِرَق، ص١٩٢). وكان يمنع أن تُسَمَّى الأفعال أفعالًا قبل كونها (مقالات، ج٢، ص١٨٤). المعتزلة رجلان: أحدهما الجبائي يقول إن إرادة الله في أفعال عباده الأمر بها، والآخر يقول إن إرادته في أفعال عباده خلق غير الأمر به (اللمع، ص٥٥).
٤٠  أمر الله الكافر بالإيمان، والأمر يوافق الإرادة. وفعل المراد طاعة، فلو أراد الله الكفر من الكافر لكان كافرًا مطيعًا بكفره. ولو أراد السفه لوجب أن يكون سافهًا. والفرق بين المعتزلة والأشاعرة في ذلك هو أن الأشاعرة تقول إن الإرادة على وفق الأمر لا على وفق العلم وأن المعتزلة تقول إن الإرادة على وفق العلم لا على وفق الأمر (المعالم، ص٨٨–٩٠؛ المحصل، ص١٤٤-١٤٥). وعند ابن حزم أن: (أ) أمر الكافر بالإيمان، والأمر يدل على الإرادة. (ب) الطاعة موافقة للإرادة، فلو أراد الله كفر الكافر لكان الكافر مطيعًا له بكفره. (ج) الرضا بقضاء الله واجب. ولو كان الكفر بقضائه لوجب الرضا به ولكن الرضا بالكفر كفر. وإذا أراد الله كون الكفر والضلال فأريد ما أراد الله من ذلك (الفصل، ج٣، ص١١٧-١١٨).
٤١  عند جعفر بن حرب أراد الله أن يكون الكفر مخالفًا للإيمان، وأراد أن يكون قبيحًا غير حسن والمعنى أنه حكم أن ذلك كذلك (مقالات، ج١، ص١٤٥، ج٢، ص١٧٧، ج٢، ص٢١١). ولديه الإرادة حكم على المراد والحكم فعل عقلي لا فعل إرادي. فالله مريد أي حاكم بالشيء مخبِر عنه. فإرادته للساعة قيامها في وقتها (مقالات، ج٢، ص١٧٤). وأجمعت المعتزلة إلا عبادًا أن الله جعل الإيمان حسنًا والكفر قبحًا، ومعنى ذلك أنه جعل التسمية للإيمان والحكم بأنه حسن، والتسمية للإيمان والحكم به بأنه قبيح. ولكن الله خلق الكافر لا كافرًا ثم أنه كفر وكذلك المؤمن (مقالات، ج١، ص٢٧٣). ويرى صالح قبة من المعتزلة أن الله خلق الكفر والمعاصي وأفعال غيره بأن خلق أسماءه وأحكامها. ويقول بشر بن المعتمر: لا شيء من أفعال العباد إلا لله فيه فعل عن طريق الاسم والحكم. ليس للناس فعل إلا ولله فيه حكم بأنه صواب أو خطأ وتسميته حسنًا أو قبيحًا طاعة أو معصية (الفصل، ج٣، ص٤١). وأثبت آخرون أن الصفات هي الأقوال والكلام كقولنا عالمٌ قادر؛ فهي صفات أسماء، وكالقول يعلم ويقدر؛ فهذه صفات لا أسماء، وكالقول شيء؛ فهذا اسم لا صفة (مقالات، ج٢، ص٤٣). والجبائي وكثير من المعتزلة كان لا يصفه بالقدرة على أن يخلق إيمانًا يكونون به مؤمنين، وكفرًا يكونون به كافرين، وعدلًا يكونون به عادلين، وكلامًا يكونون به متكلمين لأن معنى تكلم أنه فعل الكلام عنده، وكذلك في العدل والجور. ويحيل ذلك في كل شيء يوصف به الإنسان. ومعنى ذلك أنه فاعل مما اشتق له الاسم (مقالات، ج٢، ص٢٥٥، ص٢٠٦-٢٠٧، انظر أيضًا الفصل الحادي عشر: النظر والعمل).
٤٢  هذا هو أيضًا رأي أهل الاعتزال والإمامة. عند النظام ومعتزلة بغداد الإرادة هي المراد والله مريد تعني أنه كون الشيء وإرادة تكون الشيء هو الشيء (مقالات، ج٢، ص١٧٣-١٧٤)، وعند أبي الهذيل إرادة تكوين الشيء والقول له كن خلق للشيء (مقالات، ج٢، ص١٧٥)، وعند ضرار بن عمر خلق الشيء هو الشيء (مقالات، ج١، ص١٧٨)، وعند الجبائي الإنسان لا يوصف بالحقيقة أنه مريد أن يفعل، وإرادة الباري مع مراده (مقالات، ج٢، ص٩٢). وعند ضرار بن عمر إرادة الله على ضربَين: إرادة هي المراد، وإرادة هي الأمر بالفعل. وقال إن إرادته لفعل الخلق هي فعل الخلق، كأن يقول إن خلق الشيء هو الشيء (مقالات، ج٢، ص١٧٨).
٤٣  الإرادة تكتسب صفة المراد بها؛ فإذا كان المراد سفهًا كانت الإرادة سفهًا (الإرشاد، ص٢٤٩). والدليل أن الله كلف أبا جهل أن يؤمن وعلم أنه لا يؤمن، والخبر عنه بأنه لا يؤمن فكأنه أُمر بأن يؤمن بأنه لا يؤمن؛ إذ كان من قول الرسول أنه لا يؤمن، وكان هو مأمورًا بتصديقه، فقد قيل له صدق بأنك لا تصدق وهذا محال (الاقتصاد، ص٩٣-٩٤).
٤٤  عند معمر إرادة الله غير مرادة وهي غير الخلق وغير الأمر والإخبار عنه والحكم به (مقالات، ج٢، ص١٧٧). يقول أبو الهذيل إرادة الله غير مراده وغير أمره، إرادته لمفعولاته ليست بمخلوقاته على الحقيقة بل هي مع قوله لها كوني خلق لها، وإرادته للإيمان ليست بخلق له، وهي غير الأمر به، وإرادة الله قائمة به لا في مكان (مقالات، ج١، ص٢٤٤). ويقول إرادة الله غير المراد فإرادته لما خلق هي خلقه له، وخلقه للشيء غير الشيء، بل الخلق قول لا في محل (الملل، ج١، ص٧٩). ويقول إرادة الباري مع مراده ومحال أن تكون إرادة الإنسان ككون الفعل مع الفعل (مقالات، ج٢، ص٩٢). ويقول: إرادة الله لكون الشيء غير الشيء المكون وهي توجد لا في مكان، وإرادته للإيمان غيره وغير الأمر به، وهي مخلوقة، ولم يجعل الإرادة أمرًا ولا حكمًا ولا خبرًا (مقالات، ج٢، ص١٧٤، ص٤٨). وقال بعض أصحابه: إرادة الله موجودة لا في مكان ولم يقل قائمة بالله (مقالات، ج١، ص٢٤٤-٢٤٥). وعند أبي موسى المردار خلق الشيء غيره (مقالات، ج٢، ص١٧٥). وعند الجبائي الإرادة غير المراد وفعله الإنسان هو مفعول وإرادته غير مراده، إرادة الله للإيمان غير أمره به وغير الإيمان وإرادته لتكوين الشيء غيره (مقالات، ج٢، ص٤٩). وقال: الإرادة لتكوين الشيء هي غيره وليست بخلق له ولا جائز أن يقول الله للشيء كن (مقالات، ج٢، ص١٧٥).
٤٥  هل شاء الله كون الكفر والفسق وأراده من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه. قالت المعتزلة إن الله لم يشأ أن يكفر الكافر ولا أن يفسق الفاسق ولا أن يُشتم ولا أن يُقتل الأنبياء وقالوا من فعل ما أراد الله فهو مأجور محسن، فإن كان الله أراد أن يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق فقد فعلا جميعًا ما أراد الله منهما، فهما محسنان مأجوران (الفصل، ج٣، ص١٠٤).
٤٦  عند أبي موسى المردار الإرادة مجرد تهيئة المراد، فالله أراد المعاصي للعباد بمعنى أنه خلى بينهم وبينها (مقالات، ج١، ص٢٤٤-٢٤٥). وكأن يقول خلق الشيء غيره، الخلق مخلوق لا يخلق (مقالات، ج١، ص٢٤٥، ص٢٧٣-٢٧٤).
٤٧  قالت المعتزلة الرب مريد لأفعاله سوى الإرادة والكراهة، وهو مريد لما هو طاعة وقربة من أفعال العباد، كاره للمحظورات من أفعالهم. وأمَّا المباح منها وما لا يدخل تحت التكليف من مقدورات البهائم والأطفال، فالرب عندهم لا يريدها ولا يكرهها (الإرشاد، ص٢٤٠-٢٤١). فصل في أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدًا للمعاصي. واتصاله بباب العدل ظاهر؛ فإن الإرادة فعل من الأفعال. ومتى تعلقت بالقبيح فتجب لا محالة. وكونه عدلًا يقتضي أن تنفي عنه هذه الإرادة. ويشمل: (أ) حقيقة الإرادة والكراهة والمريد والكاره. (ب) إثبات هذه الصفة لله في كيفية استحقاقه لها. (ج) فيما يجوز أن يريده الله وما لا يجوز (الشرح، ص٤٣١).
٤٨  مذهب أهل الحق: الباري مريد على الحقيقة بمعنى قيام الإرادة بذاته، وعند الفلاسفة والمعتزلة والشيعة غير مريد على الحقيقة. وإذا قيل مريد فمعناه أنه لا يرجع إلا إلى سلب أو إضافة (الفلاسفة) أو بمعنى سلب الكراهة والعلية عنه (النجار) أو أنه خالق أفعاله. وإذا أُضيف إلى أفعال العباد فالمراد أنه لها (النظام والكعبي). أمَّا الجاحظ فقد أنكر وجود الإرادة في الشاهد وقال لهما كان الإنسان غير غافل ولا ساهٍ عما يفعله بل كان عالمًا به وهو معنى كونه مريدًا. وهو عند البصريين مريد بإرادة قائمة لا في محل. وعند الكرامية بإرادة حادثة في حد ذاته (الغاية، ص٥٢؛ الإرشاد، ص٦٣–٦٦؛ النهاية، ص٢٣٨–٢٤٢).
٤٩  عند الجبائي أن المريد هو المختار، والإرادة هي الاختيار (مقالات، ج٢، ص٢٠١).
٥٠  ذهب النجار إلى أن معنى مريد أنه غير مغلوب ولا مستكره (النهاية، ص٢٣٨، ص٢٤٢-٢٤٣).
٥١  ذهب الجاحظ إلى إنكار أصل الإرادة شاهدًا وغائبًا، وقال مهما انتفى السهو عن الفاعل وكان عالمًا بما يفعله فهو مريد. وإذا مالت نفسه إلى فعل الغير سُميَّ بذلك الميلان إرادة وإلا فليست هي جنسًا من الأعراض، وهو الأولى بالابتداء (الغاية، ص٥٢).
٥٢  عند هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي: الإرادة حركة أو معنًى إذا أراد الله شيئًا تحرك (الفِرَق، ص٦٩؛ مقالات، ج٢، ص٢٧٨). وهذا هو رأي المجسمة من أن الباري قبل الخلق ليس له صفات ثم أراد وإرادته حركته. إنما أراد كون الشيء تحرك فكان الشيء؛ لأن معنى أراد تحرك، وليست الحركة غيره (أو قد تكون غيره) (مقالات، ج١، ص٢٦٢-٢٦٣). وعند أبي مالك الحضرمي وعلي بن مقيم حركة الله غير الله (الفِرَق، ص٦٩؛ مقالات، ج٢، ص١٧٨).
٥٣  هذا هو رأي أهل الاعتزال والإمامة.
٥٤  عند الكعبي والنظام ليس لله إرادة على الحقيقة. الإرادة هي الفعل، والفعل هو الأمر، والإرادة في كليهما مجاز. وقد وصف الجدار بالإرادة جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ (الفِرَق، ص١٨١-١٨٢). قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (اللمع، ص٣٦). والخلاف من وجوه: (أ) مع القدرية الذين منعوا القول بأن الله مريد على الحقيقة كالنظام والكعبي (الأصول، ص١٠٣). فقد قال النظام إن الباري ليس موصوفًا بها على الحقيقة، فإذا وصف بها شرعًا في أفعاله فالمراد بذلك أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم. وإذا وصف بكونه مريدًا لأفعال العباد فالمعنى به أنه آمر بها وناهٍ عنها. وعنه أخذ الكعبي مذهبه في الإرادة (الملل، ج١، ص٨٢؛ الأصول، ص٩٠-٩١؛ النهاية، ص٢٣٨–٢٤٢). عند النظام والكعبي أن الله له إرادة على الحقيقة. وإذا قيل إنه أراد شيئًا فمعناه أنه فعله، وإذا قيل إنه أراد شيئًا من فعل غيره فمعناه أنه أمر به (الأصول، ص١٤٦). وذهبت الفلاسفة والمعتزلة والشيعة إلى كونه مريدًا على الحقيقة. وإذا قيل إنه مريد فمعناه عند الفلاسفة لا يرجع إلا إلى سلب أو إضافة، ووافقهم على ذلك النجار من المعتزلة حيث إنه فسر كونه مريدًا بسلب الكراهية والعلية عنه (الغاية، ص٥٢).
٥٥  عند المعتزلة إلا الناشئ: الإنسان فاعلٌ مُحدِث ومخترِع ومنشئ على الحقيقة دون المجاز (مقالات، ج٢، ص١٩٧). وقال بعض أهل زماننا وهو رجل يُعرَف بابن الأيادي إن الباري عالمٌ قادرٌ حيٌّ سميعٌ بصير في المجاز، والإنسان عالمٌ قادرٌ حيٌّ سميعٌ بصير في الحقيقة وكذلك في سائر الصفات (مقالات، ج١، ص٢٤٠). وكان الناشئ يقول إن الإنسان فاعل في الحقيقة ولا محدث في الحقيقة ولا يقول إن الباري سبحانه أحدث كسبه وفعله (مقالات، ج٢، ص١٦٨، ص١٩٧).
٥٦  يأخذ أهل السنة من قصة رفض إبليس السجود لآدم على أنها توهم بالجبر ضد الاختيار، وأن أية محاولة لتفسيرها على أن إبليس كان حرًّا في أفعاله تفترض الجهل والعجز على الله، مع أن القصة كلها تعليم ودرس على حرية الأفعال وأن أفعالًا مستقلة عن الله قد تحققت وأن الزمان والتاريخ مجالان للاختيار. وتفسير الأشاعرة للقصة كله مزايدة على الله ومناقصة في الإنسان كما يبدو ذلك في العناصر الآتية: (١) إن كان في سلطان الله الكفر والعصيان وهو ما لا يريده وأراد أن يؤمن الخلق فلم يؤمنوا؛ إذن ما شاء الله أن يكون لم يكن، وأكثر ما شاء الله أن يكون كان وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون. (٢) كثيرٌ مما شاء إبليس يكون، وبالتالي تكون مشيئته أقوى من مشيئة الله. (٣) إبليس أقدر. (٤) الأولى بالألوهية والسلطان من لا يكون إلا ما يعلم ولا يغيب عن علمه شيء. (٥) لو كان في سلطانه ما لا يريد فقد كان إذن في سلطانه ما كرهه. (٦) في فعل العباد ما يسخطه ويغضبه. (٧) الشيطان فعال لما يريد. (٨) فعل ما لا يعلمه الله وبالتالي ينسب له الجهل. (٩) يلحقه الضعف والوهن في السلطان. وهي كلها اعتراضات على إفلات الأفعال المستقلة عن الإرادة المطلقة رغبةً في احتواء كل شيء، وكأن الإنسان قد نصب نفسه مدافعًا عن الله وبالتالي عن الحاكم ضد الإنسان أي ضد الشعب.
٥٧  عند أهل السنة والبصريين الله مريد على الحقيقة، وعند أهل السنة مريد بإرادةٍ أزلية. الله مريد على الحقيقة لجميع الحوادث ويدل على ذلك ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت ومكان دون مكان وزمان دون زمان (الإنصاف، ص٣٦)، وعند باقي المعتزلة إيمان الناس موقوف على الاختيار (شرح الأصول، ص٣٦).
٥٨  فإن قيل: كيف يعقل حمد الله على الإيمان وهو من فعل الإنسان، وذم الإنسان على الإماتة والغرق والحرق وهو لا يتعلق به؟ قيل: نحمد الله على مقدمات الإيمان من الأقدار والتمكين وإزاحة العلة (شرح الأصول، ص٣٣٢-٣٣٣).
٥٩  الاستعجاب من أفعال الناس (شرح الأصول، ص٣٦٠).
٦٠  التساؤل عن أفعال الناس مثل التوبيخ والسؤال (شرح الأصول، ص٣٦١).
٦١  الحشر في الآخرة على الكفر والمعصية وطلب الرجعة (المواقف، ص٣١٦؛ المحصل، ص١٤٣؛ المطالع، ص١٩١؛ المحيط، ص٣٧٩).
٦٢  عند المعتزلة البصرية يريد الله بإرادة حادثة إرادته من جنس إرادتنا (الفِرَق، ص٢٢٩). وقال البصريون منهم إنه مريد بإرادة حادثة لا في محل، وقالوا: قد يريد ما لا يكون، وقد يكره الشيء فيكون (الأصول، ص١٤٦-١٤٧)، وتشبه الكرامية إرادة الله بإرادات عباده، إرادته من جنس إرادتنا، وأنها حادثة فيه كما تحدث إرادتنا فينا (الفِرَق، ص٢٢٩).
٦٣  وعند زرارة بن أعين الرافضي جميع صفات الله حادث من جنس صفاتنا (الفِرَق، ص٢٣٠). ويقسم البصريون المعتزلة وأبو الهذيل كلام الله إلى ما يحتاج إلى محل وإلى ما لا يحتاج إلى محل. وقول الله للشيء «كن» حادث لا في محل، وسائر كلامه حادث في جسم من الأجسام، وكل كلامه أعراض. وقوله لشيء «كن» من جنس قول الإنسان كن أحدهما يحتاج إلى محل والثاني لا يحتاج إلى محل. فإرادة الله لا في محل ثم إرادة الإنسان المفتقرة إلى محل (الفِرَق، ص١٢٧). ويقولون أيضًا: مريد بإرادةٍ حادثة لا في محل، يريد ما لا يكون، وقد يكره الشيء فيكون (الأصول، ص١٤٦-١٤٧؛ الفِرَق، ص١٨١، ص٣٣٤). ويقولون أيضًا: يجوز حدوث إرادة الله لا في محل، ولا يصح حدوث إرادات لا في محل (الفِرَق، ص٢٢٩). وقد أثبت أبو الهذيل إرادات لا محل لها يكون الباري مريدًا بها … ويقول: كلام الباري بعضه لا في محل وهو قوله: «كن» وبعضه في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار. وكان أمر التكوين عنده غير أمر التكليف (الملل، ج١، ص٧٥-٧٦). وقال أبو الهذيل إن إرادة الله لكون الشيء هي غير الشيء المكون وهي توجد لا في مكان (مقالات، ج٢، ص١٧٤).
٦٤  عند الكرامية الحوادث موجودة في العالم، خلقها الله بأقواله لا بقدرته (الفِرَق، ص٣٣٤). وعند أبي الهذيل الإرادة مخلوقة ولم يجعلها أمرًا ولا حكمًا ولا خبرًا (مقالات، ج٢، ص١٧٤). وقد يكون نفي أزلية الصفات أنه لا نهاية لها في المستقبل تجعلها تالية للفعل وليست سابقة عليه. فكان أبو الهذيل يقول إنه تعالى لم يزل سميعًا بصيرًا بمعنى سيسمع وسيبصر وكذلك لم يزل غفورًا رحيمًا محسنًا خالقًا رازقًا مثيبًا معاقبًا مواليًا معاديًا آمرًا ناهيًا بمعنى أن ذلك سيكون (الملل، ج١، ص٧٩).
٦٥  قالت غير المعتزلة (الخازمية والكرامية من العجاردة الخوارج): الولاية والعداوة من صفات الذات، وكذلك الرضا والسخط (مقالات، ج١، ص٣٠٢، ج١، ص١٦٦). عند المعتزلة وصف الله بأنه مريد من صفات الفعل (مقالات، ج١، ص١٧٦). وقالوا إن ما يوصف به الباري لنفسه كالقول قادر حي لم يجز أن يوصف بضده ولا بالقدرة على ضده، وما وصف بالقدرة على ضده فهو من صفات الأفعال (مقالات، ج١، ص٢٤٢). وعند بشر بن المعتمر إرادة الله على ضربَين: إرادة وصف بها الله في ذاته وإرادة وصف بها وهي فعل من أفعاله. والإرادة التي وصف بها في ذاته غير لاحقة بمعاصي العباد (مقالات، ج١، ص٢٤٤، ج٢، ص١٧٦). وصفة الفعل أن أراد بها فعل عباده فهو الأمر به (الملل، ج١، ص٩٧). وعند بشر المريسي وحفص الفرد إرادة الله على ضربَين، إرادة هي صفة له في فعله وإرادة هي صفة له في فعله وهي غيره. فالإرادة التي هي صفة له في فعله وأنها غيره هي أمر بالطاعة، والإرادة التي هي صفة لله في ذاته واقعة على كل شيء سوى الله من فعله وفعل خلقه (مقالات، ج٢، ص١٨٧). وعند عباد لا يجوز أن يُقال لم يزل مريدًا ولا يجوز أن يُقال لم يزل غير مريد. والوصف بأنه مريد من صفات الفعل (مقالات، ج٢، ص١٧٦). وقالت الشيبانية مع عبد الله بن كلاب وسليمان ابن جرير: الولاية والعداوة صفتان لله من صفات الذات لا من صفات الفعل، في حين قالت المعتزلة بأسرها إن الوصف لله بأنه مريد من صفات الفعل إلا بشر بن المعتمر فإنه قال إن الله لم يزل مريدًا للطاعة دون المعصية (مقالات، ج٢، ص١٧٤). ويقول بشر: لا يكون الله مواليًا للمطيع في حالة وجود طاعته ولا معاديًا للكافر في حال وجود كفره، إنما يوالي المطيع في الحالة الثانية مع وجود طاعته، ويعادي الكافرين الحالة الثانية من وجود كفره لأنه لو جاز أن يوالي المطيع في حال طاعته ويعادي الكافر في حال كفره لجاز أن يثيب المطيع في حال طاعته ويعاقب الكافر في حال كفره، ولو جاز ذلك لجاز أن يمسخ الكافر في حال كفره (الفِرَق، ص١٥٧؛ مقالات، ج٢، ص٢٧٥؛ مقالات، ج٢، ص١٧٦).
٦٦  مثلًا آية: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فإن سياقها حجة على الجبر لا له، كما أن ذلك القول على سبيل التكذيب والاستهزاء لا على سبيل الإيمان. كما تدل آية: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ على بعض الجن والإنس وليس كلهم، وأن المراد ألا يقروا بالعبادة طوعًا أو كرهًا. وهناك آياتٌ أخرى مثل: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا، وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ … الخ، وكلها لا تدل على الجبر بل تشير إلى قوانين عامة عن الحسن والقبح وقواعد للسلوك وأصول الشريعة (الإنصاف، ص١٦٢–١٦٤؛ الإرشاد، ص٢٥٠–٢٥٤؛ المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣؛ النهاية، ص٢٥٨–٢٦٠).
٦٧  ذهبت المعتزلة إلى أن أفعال المكلفين إن كانت واجبة فالله يريد وقوعها ويكره تركها، وإن كانت حرامًا فإنه يريد تركها ويكره وقوعها، وإن كانت مندوبة فإنه يريد وقوعها ولا يكره تركها، وإن كانت مكروهة فإنه لا يريد تركها ولا يكره وقوعها. وأمَّا المباح وفعل غير المكلف فلا يتعلق بهما إرادة ولا كراهةً (شرح الدواني، ج٢، ص١٨٢-١٨٣).
٦٨  إن الأمر بالشيء يتضمن كونه مرادًا للآمر، ويستحيل في قضية العقول أن يأمر الآمر بما يكرهه ويأباه وكذلك النهي عن الشيء يتضمن كونه مكروهًا للناهي، ويستحيل أن يكون الناهي على حكم الحظر مريدًا لما نهى عنه. وأكدوا ذلك بأن قالوا: الجمع بين الأمر الجازم وبين إبداء كراهية المأمور به متناقض. وهو بمثابة الجمع بين الأمر بالشيء والنهي عنه؛ إذ لا فرق بين أن يقول القائل: آمرك بكذا وأنهاك عنه، وبين أن يقول آمرك بكذا وأكره منك فعله. وإذا تبين أن كل مأمور به مراد للآمر فيخرج من ذلك كون الباري مريدًا للإيمان من علم أنه لا يؤمن لأنه آمر له بالإيمان (الإرشاد، ص٢٤٤–٢٤٩، ص٢٢٧-٢٢٨). وقالت المعتزلة: إن الله يأمرنا بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة … (الفصل، ج٣، ص١٠٨-١٠٩).
٦٩  وتعطي المعتزلة لذلك حججًا أربعة: (١) أن الكفر مأمور به، فلا يكون مرادًا؛ إذ الإرادة مدلول الأمر أو ملزومه. (٢) لو كان الكفر مرادًا لوجب الرضا به، والرضا بالكفر كفر. (٣) لو كان مرادًا لكان الكافر مطيعًا بكفره لأن الطاعة تحصل مراد المطاع. (٤) الرضا هو الإرادة (الإنصاف، ص١٦٧-١٦٨؛ الطوالع، ص١٩٣؛ شرح الدواني، ص١٠١–١٠٥).
٧٠  عند المعتزلة كل ما لم يأمر الله به أو نهى عنه من أعمال العباد لم يشأ الله منها شيئًا (الفِرَق، ص١١٥). ويمنع هشام بن عمر الفوطي من إطلاقات إضافات أفعال إلى الباري وإن ورد بها التنزيل (الملل، ج١، ص١٠٨؛ الملل، ج٣، ص٧٦). وقد امتنع هشام الفوطي عن القول بأن الله ألَّف بين قلوب المؤمنين وأضلَّ الفاسقين، وكذلك كمنع صاحبه عباد بن سليمان الضمري أن يقول إن الله خلق الكافر لأن الكافر اسم لشيئين إنسان وكفره. خلق أجسامهم وهو غير خالق لكفرهم (الفِرَق، ص١٦٠-١٦١؛ الملل، ج١، ص١١٠؛ الفصل، ج٣، ص٤١؛ مقالات، ج١، ص٢٧٣). وكان لا يجيز أحدًا أن يقول حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا أن الله يعذب الكفار بالنار ولا أن يحيي الأرض بالمطر. ويرى أن هذا القول والقول بأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ضلال وإلحاد (الفصل، ج٥، ص٣٧). وأجمعت المعتزلة إلا صالح قبة على أن الله لم يخلق الكفر والمعاصي ولا شيئًا من أفعال غيره (مقالات، ج١، ص٢٧٣)، إن كان خالقًا لظلم العباد وجب أن يكون ظالمًا، وإذا خلق كذب الإنسان وجب أن يكون كاذبًا (الفِرَق، ص١٢٤). وأجمعت المعتزلة إلا عبادًا على أن الله خلق الكافر لا كافرًا وكذلك المؤمن لا مؤمنًا (مقالات، ج١، ص٧٣)، الله لم يخلق الكافرين ولا المؤمنين في الحقيقة (رواية ابن الراوندي عن المعتزلة وتصحيح الخياط لها) (الانتصار، ص٩٠-٩١).
٧١  لا يجوز أن نقول إن الشيطان يسلب الإيمان من العبد المؤمن قهرًا أو جبرًا، ولكن نقول إن العبد يدع الإيمان فحينئذٍ يسلبه عنه الشيطان (الفِرَق، ص١٨٧).
٧٢  وأمرهم بالإيمان ونهاهم عن الكفر، فأقرُّوا إليه بالربوبية، فكان ذلك منهم إيمانًا. فهم يولدون على تلك الفطرة، ومن كفر بعد ذلك فقد بدَّل وغيَّر، ومن آمن وصدق فقد ثبت عليه وداوم. ولم يجبر أحدًا من خلقه على الكفر ولا على الإيمان ولا خلقهم مؤمنًا ولا كافرًا، ولكن خلقهم أشخاصًا، والإيمان والكفر فعل العباد. ويعلم الله من يكفره في حال كفره كافرًا. فإذا آمن بعد ذلك علمه مؤمنًا في حال إيمانه، وأحبه من غير أن يتغير علمه وصفته (الفقه، ص١٨٥).
٧٣  أجاب عباد بالإيجاب وأكثر المعتزلة بالنفي (مقالات، ج١، ص٢٨١-٢٨٢). ويرى بشر بن المعتمر والإسكافي أن عداوة الله للكافرين تكون بعد الكفر بلا فعل (مقالات، ج٢، ص٦٩). وقد اختلفت المعتزلة هل يُقال إن الله قوَّى الكافر على الكفر أم لا على مقالتين: فقد قال أكثر المعتزلة: لا يجوز أن يُقال إن الله قوَّى أحدًا على الكفر وأقدره عليه، وقال عباد إن الله قد قوَّى الكافر على الكفر وأقدره عليه (مقالات، ج١، ص٢٨١-٢٨٢). وتقول المعتزلة إن الله لم يكن مواليًا لأحد قبل وجود الطاعة منه فكان في حال وجود طاعته مواليًا له، وكان معاديًا للكافر في حال وجود الكفر منه، فإن ارتد المؤمن صار الله معاديًا له بعد أن كان مواليًا له (الفِرَق، ص١٥٧).
٧٤  قال محمد بن عيسى: لو ألجأهم إلى الإيمان لم يكونوا مؤمنين، ولو ألجأهم إلى العدل لم يكونوا عادلين، ولو ألجأهم إلى الكفر لم يكونوا كافرين؛ لأنهم أُمروا أن يكون الإيمان طوعًا وأن يتركوا الكفر طوعًا، فإذا أتوا به كرهًا وتركوا الكفر كرهًا لم يكونوا مؤمنين. وقال إن الله غير قادر على أن يخلق جورًا لغيره (مقالات، ج٢، ص٢٢٥، ص٢٠٦-٢٠٧). كما أنكر أهل الإثبات أيضًا أن يكون الباري قادرًا على أن يضطر عباده إلى إيمان يكونون به مؤمنين، وكفر يكونون به كافرين، وعدل يكونون به عادلين، وجور يكونون به جائرين (مقالات، ج٢، ص٢٥٥، ص٢٠٦-٢٠٧).
٧٥  عند ابن كرام الله محل للحوادث (الفِرَق، ص٢٢٨-٢٢٩). وكان هشام بن عمرو الفوطي يقول إن من هو الآن مؤمن عابد إلا أنه في علم الله أنه يموت كافرًا، فإنه الآن عند الله كافر، وإن من كان الآن كافرًا مجوسيًّا أو نصرانيًّا أو دهريًّا أو زنديقًا، إلا أنه في علم الله أنه يموت مؤمنًا، فإنه الآن عند الله مؤمن (الفصل، ج٥، ص٣٧). قال قائلون من المعتزلة: يستحيل أن يُقال للإنسان مؤمن في حال كونه كافرًا. فلما استحال أن يوصف به في حال كونه فمستحيل أن يوصف به قبل كونه (مقالات، ج١، ص٢٢٣).
٧٦  سمى أبو علي الجبائي اللهَ مطيعًا لعبده إذا فعل مراد العبد (الفِرَق، ص١٨٣).
٧٧  عند البغداديين من المعتزلة لا يوصف الله بالقدرة على أن يخلق إيمانًا لعباده يكونون به مؤمنين وكفرًا لهم يكونون به كافرين وعصيانًا لهم يكونون به عاصين، وكسبًا يكونون به مكتسبين، وجوَّزوا له القدرة أن يخلق حركة يكونون بها متحركين، وإرادة يكونون بها مريدين، وشهوة يكونون بها مشتهين. والجبائي مع كثير من المعتزلة كان لا يصف الله بالقدرة على أن يخلق إيمانًا يكونون به مؤمنين وكفرًا يكونون به كافرين، وعدلًا يكونون به عادلين، وكلامًا يكونون به متكلمين؛ لأن معنى متكلم أنه فعل الكلام عنده، وكذلك في العدل والجور. ويحيل ذلك في كل شيء يوصف به الإنسان. ومعنى ذلك أنه فاعل مما اشتق له الاسم (مقالات، ج٢، ص٢٥٥، ص٢٠٦-٢٠٧). وعند المعتزلة البصرية الله لا يقدر على مقدورات عباده ولا على مقدورات سائر الحيوانات (الفِرَق، ص٣٣٤). وعند المعتزلة أيضًا أن الله لا يقدر على أن يهديه ولا على أن يضله (الفصل، ج٤، ص٤٢). وكان عباد بن سليمان تلميذ الفوطي يقول إن الله لا يقدر على أن يخلق غير ما خلق وأنه لم يخلق المجاعة ولا القحط، وإن الله لم يأمر الكفار قط بأن يؤمنوا في حال كفرهم ولا نهى المؤمنين قط في حال إيمانهم لأنه لا يقدر أحد قط على الجمع بين الفعلين المتضادين.
٧٨  اللمع، ص٥٦–٥٩؛ الأصول، ص١٠٢–١٠٤.
٧٩  والمعتزلة يقولون إن قبح القبائح ليست بقضاء الله وقدره (المسائل، ص٣٧٥-٣٧٦).
٨٠  يقول المعتزلة إن خالق أفعال العبد هو العبد (المسائل، ص٣٧٣–٣٧٨). ومن عقائدهم (الفاسدة) قولهم إن العبد يخلق أفعال نفسه (الكفاية، ص٦٩). والمعتزلة ينكرون القضاء والقدر في الأفعال الاختيارية (الدر، ص١٤٨–١٥٠). قالت المعتزلة إن الله لا يريد الطاعة والإيمان، فأمَّا من كفر وعصى فقد أتى بما ليس مراد الله. كل واحد يفعل من الأفعال ما لا يريده الله حتى قالوا إن البهائمِ تفعل أفعالًا لم يردها وإنه لو أراد فعل غيرها منهم لم يحصل ذلك وامتنع عليه (الإنصاف، ص١٥٧–١٥٩).
٨١  ذهبت المعتزلة ومن تبعهم من أهل الأهواء إلى أن الواجبات والمندوبات من الطاعات مرادة لله وقعت أم لم تقع، والمعاصي والفواحش تقع والله كاره لها غير مريد لوقوعها. وهي تقع على كره. والمباحات وما لا يدخل تحت التكليف من أفعال البهائم والمجانين تقع وهو لا يريدها ولا يكرهها (لمع الأدلة، ص٩٧–٩٩). قالت المعتزلة: هو مريد للمأمور به، كاره للمعاصي والكفر للآتي: (أ) لو كان مريدًا لكفر الكافر وقد أمره بالإيمان؛ فالآمر بخلاف ما يريده يُعدُّ سفيهًا. (ب) لو كان الكفر مراد الله لكان فعله موافقة لمراد الله فيكون طاعة ثوابًا، وذلك باطل بالضرورة. (ج) لو كان الكفر مراد الله لكان واقعًا بقضائه، والرضا بالقضاء واجب؛ فكان الرضا بالكفر واجبًا، واللازم باطل لأن الرضا بالكفر كفر. (د) لو أراد الله الكفر وخلاف مراد الله ممتنع كان الأمر بالإيمان تكليفًا بما لا يُطاق.
٨٢  يرى هشام بن الحكم أن الأفعال صفات للفاعلين ليست هي هم ولا غيرهم، وأنها ليست بأجسام ولا أشياء. قال: هي معادن وليست بأشياء ولا أجسام. وكذلك قوله في صفات الأجسام كالحركات والسكنات والإرادات والكراهات والكلام والطعام والمعصية والكفر والإيمان. فأمَّا الألوان والطعوم والأراييح فكان يزعم أنها أجسام وأن لون الشيء هو طعمه ورائحته (مقالات، ج١، ص١١٢-١١٣).
٨٣  باب في العبودية والصفات المرعية في ثبوت الطلبات التكليفية. القول في إمكان التكليف وجوازه عقلًا يتعلق بأربعة أركان: (أ) في قدرة العبد وتأثيرها في مقدورها. (ب) يشترط في توجيه التكليف للعبد من حضور عقله الذي يتمكن به من فهم الخطاب. (ج) أن يكون المأمور به ممكنًا في نفسه وجودًا ووقوعًا. (د) يتعلق بالثواب والعقاب (النظامية، ص٣٠–٤٧)؛ فيكون الكافر مجبورًا في كفره والفاسق في فسقه، فلا يصح تكليفهما بالإيمان والطاعة. قلنا إنه تعالى أراد منهما الكفر والفسوق باختيارهما؛ فلا جبر، كما أنه علم منهما الكفر والفسوق بالاختيار ولم يلزم التكليف بالمحال. والمعتزلة أنكروا إرادة الله للشرور والقبائح حتى قالوا إنه تعالى أراد من الكافر والفاسق إيمانه وطاعته لا كفره ومعصيته؛ لأن إرادة القبيح قبيحة كخلقه وإيجاده (شرح التفتازاني، ص٩٨-٩٩). والمعتزلة أيضًا قالوا بالإرادة، حيث قالوا إن إيمان الكافر رغبةً واختيارًا لا جبرًا واضطرارًا (حاشية الإسفراييني، ص٩٩). وحكى عمرو بن عبيد أنه قال: ما ألزمني أحد مثلما ألزمني مجوسي كان معي في السقيفة، فقلت له: لم لا تسلم؟ فقال لأن الله لم يرد إسلامي، فإذا أراد إسلامي أسلمت. فقلت للمجوسي: إن الله يريد إسلامك ولكن الشيطان لا يتركنك. فقال المجوسي: فأنا أكون مع الشريك الأغلب (شرح التفتازاني، ص٩٩). وقالت المعتزلة: جعل الله لهم الاستطاعة تامًّا وكاملًا لا يحتاجون إلى أن يزدادوا فيه، فاستطاعوا أن يؤمنوا وأن يكفروا، ولولا ذلك ما ندبهم على ما لا يستطيعون (التنبيه، ص١٧٤).
٨٤  ولا يقدر على فعل الإيمان والكفر إلا محدث (مقالات، ج٢، ص٧٤). وعند المعلومية (العجاردة الخوارج) أفعال العباد ليست مخلوقة (مقالات، ج١، ص١١٦).
٨٥  أجمعت المعتزلة على أن الشيء إذا وُجد فوجود ضده في تلك الحال مُحال. قال أكثرهم إن الكافر تارك للإيمان في حال ما هو كافر، وأحالوا البدل في الوجود؛ لذلك أحال قوم من المعتزلة أن يُقال: «لو كان الشيء على معنًى لو كان وقد كان ضده.» وعند جعفر بن حرب والإسكافي قد يُقال حال كفر الكفار: «لو كان الكفار آمنوا بدلًا من كفرهم الواقع لكان خيرًا لهم.» ولا نقول إنه يجوز أن يؤمنوا في حال كفرهم على وجه من الوجوه كما نقول في الكفر الماضي: لو كان هذا الكافر آمن أمس بدلًا من كفره لكان خيرًا له ولا يجوز الإيمان بدلًا من الكفر الماضي (مقالات، ج١، ص٢٨٦).
٨٦  قالت المعتزلة جميعًا إلا الجبائي: يجوز أن يكون الشيء في الوقت الثاني بدلًا من ضده وإن كان ضده مما يكون في الثاني. وإذا أجزنا ذلك فإننا نجيز البدل مما لم يكن. وعند الجبائي وعباد جائز أن يترك في الوقت الثاني قبل مجيء الوقت ما علم الله أنه يكون في الوقت ولو كان ذلك ما يترك لم يكن كان سابقًا في العلم أن يكون ولم يكن تاركًا لما يكون. وعند الجبائي ما علم الله أنه يكون في الوقت الثاني أو في وقت من الأوقات وجاءنا الخبر بأنه يكون، فلسنا نجيز تركه على وجه من الوجوه لأن التجويز هو فعل الشك والشك في أخبار الله كفر (مقالات، ج١، ص٢٨٦).
٨٧  حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه وأمر بالخير، ولم يرضَ بالشر وإن كان مريدًا له (مقالات، ج١، ص٣٢٣)، وأجمعت المعتزلة إلا المردار على أن الله لم يرد المعاصي (مقالات، ج١، ص٢٧٤)، وأنكرت بأسرها أن يكون الله لم يزل مريدًا للمعاصي وأن يكون الله لم يزل مريدًا لطاعته (مقالات، ج١، ص٢٤١). وأنكرت أن يكون الله لم يزل متكلمًا راضيًا ساخطًا محبًّا مبغضًا منعمًا رحيمًا مواليًا معاديًا جوادًا حكيمًا عادلًا محسنًا صادقًا خالقًا رازقًا بارئًا مصوِّرًا محييًا مميتًا آمرًا ناهيًا، مادحًا ذامًّا. وقالت (إلا المردار): لا يجوز أن يكون الله مريدًا للمعاصي على وجه من الوجوه، أن يكون موجودًا ولا يجوز أن يأمر بما لا يريد أن يكون، وأن ينهى عما يريد كونه، وأنه قد أراد ما لم يكن وكان ما لم يرد، وأنه قادر على المنع مما لا يريد، وأن يلجأ إلى ما أراد (مقالات، ج٢، ص١٧٦). وعند واصل بن عطاء الباري حكيم عادل ولا يجوز أن يُضاف إليه شر وظلم ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر ويحكم عليهم ثم يجازيهم عليه؛ فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية (الملل، ج١، ص٧٠). وتقول المعتزلة، إلا عليًّا الأسواري، إن الإنسان مأمور بالإيمان قادر عليه (مقالات، ج١، ص٢٨٥). وقال علي الأسواري: إذا قرن الإيمان إلى العلم بأنه لا يكون، استحال الإنسان أن يكون مأمورًا به أو قادرًا عليه، وإذا أفرد كل قول من صاحبه فقلت: هل أمر الله الكافر بالإيمان وأقدره عليه ونهى المؤمن عن الكفر؟ قلت: نعم (مقالات، ج١، ص٢٨٥).
٨٨  تتهم الأشاعرة المعتزلة بأنهم أخذوا القول بخلق الإنسان لأفعاله من المنانية في قولها بأن الحكيم لا يريد كون الظالم ولا يخلقه. فقد قالت المنانية بمثل ما قالت به الدهرية سواء بسواء، إلا أنها قالت: ومن خلق خلقًا ثم خلق من يضل ذلك الخلق فهو ظالمٌ عابث. ومن خلق خلقًا ثم سلط بعضهم على بعض وأغرى بين طائع خلقه فهو ظالمٌ عابث. قالوا: فبعلمنا أن خالق الشر وفاعله هو غير خالق الخير. وهذا نص قول المعتزلة، إلا أنها زادت قبحًا بأن الله لم يخلق من أفعال العباد لا خيرًا ولا شرًّا، وأن خالق الأفعال الحسنة والقبيحة هو غير الله، لكن كل أحد يخلق فعل نفسه. ثم زادت تناقضًا فقالت إن خالق عنصر الشر هو إبليس ومردة الشياطين، وفعله كله شر. وخالق طباعهم على تضادها هو الله؛ لذلك يُقال عنهم إنهم أهل النار أو إبليس والشيطان. ويُقال أيضًا إنها مستمدة من البراهمة؛ فقد قالت البراهمة إن من العبث وخلاف الحكمة ومن الجور البيِّن أن يعرض الله عباده لما يعلم أنهم يعذبون عنده ويستحقون العذاب إن وقعوا فيه؛ يريدون بذلك إبطال الرسالة والنبوات (الفصل، ج٣، ص٧٣). ولكن التهمة الغالبة أن المعتزلة هم المجوس طبقًا للحديث الموضوع بهذا المعنى. ويقول ابن حزم: لهذا سماهم الرسول مجوس هذه الأمة لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا أقاويلهم، وقالوا إن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس ذلك، وإنه يكون من الشر ما لا يشاء الله كما قالت المجوس. وقالوا إنهم يملكون الضرر والنفع لأنفسهم دون الله، ردًّا لقول الله: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وإعراضًا عن القرآن وعما أجمع عليه أهل الإسلام (الفصل، ج٣، ص١١١–٢١٤). وهم في ذلك شر من المجوس الذين زعموا أنه ليس له خلق الشرور من الأعمال، وأضافوا إليه اختراع الخيرات كلها (الأصول، ص٨١). وهم أشر من هؤلاء جميعًا، فقد قال البعض (من أهل التحقيق): والله ما قالت القدرية كما قال الله، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال آخرهم إبليس (الإنصاف، ص٤٠–٤٣). والحقيقة أن خلق الإنسان لأفعاله إنما يأتي من ضرورة العقل وأصل الوحي بباعث التنزيه وبواقع التكليف. ليس ذلك عن المنانية أو المجوسية، بل إن المجوس في إثباتها فاعلية للإنسان أقرب إلى الإسلام؛ لذلك اعتبر المجوس جزءًا من الأمة. إن القول بأن الإنسان صاحب أفعاله ليس أثرًا خارجيًّا، بل هو من ضرورة العقل، وحق الشرع وتأكيدًا لمسئولية الإنسان وتبرئة لله، وهو ليس قولًا بفاعلين، واحد للشر وواحد للخير، بل بفاعل واحد هو الإنسان في كلتا الحالتين. إن القدرية هم المجبرة لا المعتزلة؛ لأن مذهب المجبرة فاسد مذموم مثل مذهب المجوس، يثبت الأمور المذمومة قدر الله (المحيط، ص٤٢١-٤٢٢). ويمكن أن توجه تهمة الاستيراد إلى الجبر والكسب سواء بسواء من المجوس أو من غيرهم؛ فقد علق الأشاعرة الأحكام بشيء لا يعقل سموه كسبًا مثل المجوس (المحيط، ص٤٠٩؛ شرح الأصول، ص٧٧٢–٧٧٩).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤