رابعًا: أفعال الشعور في الطبيعة

إذا كانت أفعال الشعور الداخلية هي أفعال القلب وأفعال الشعور الخارجية هي أفعال الجوارح، فإن أفعال الشعور في الطبيعة هي أفعال الشعور في العالم وأثرها في الأشياء وهو ما عُرف عند القدماء باسم التولد، فالتولد مرتبط بأفعال الشعور في الطبيعة أكثر من ارتباطه بأفعال الشعور الداخلية أو أفعال الشعور الخارجية؛ نظرًا لارتباطه بالعلم الطبيعي. وكأن المقصود منه ليس دراسة الأفعال وعلاقاتها بالبواعث والدوافع، أي بدايات الفعل، بل بالنتائج والغايات أي ثمرات الأفعال في الطبيعة.١ لذلك يظهر التوليد عند القدماء جزءًا من خلق الأفعال، تنطبق عليه نظريات الجبر والكسب والحرية، سواء في أفعال الشعور الداخلية أم في أفعال الشعور الخارجية، سواء في نظرية العلم في توليد النظر للعلم كفعلٍ داخلي للشعور أو في نظريات الحركة، توليد الحركة في المتحرك كفعلٍ خارجي للشعور.٢ ويؤدي الجبر والكسب إلى التوليد نفسه، وتؤدي الحرية إلى إثبات التوليد.

(١) نفي التوليد

وطبيعي أن تؤدي عقيدة الجبر إلى نفي التوليد؛ فإذا كانت الأفعال مخلوقة من الله وأنه صاحب كل فعل في العالم سواء في أفعال الشعور الداخلية أم أفعال الشعور الخارجية أم أفعال الشعور في الطبيعة، فإنه لا يبقى شيء في العالم بعد الفعل يمكن أن يُنسب إلى الفاعل لأنه لا قدرة للعبد أصلًا؛ فالجبر ينفي التولد. ويؤدي هذا النفي إلى الملاحقة المباشرة لقدرة المؤلَّه المشخص لكل ما يحدث في الطبيعة من أفعال البشر الداخلية أو الخارجية أو أفعال الطبيعة.٣
وتقترب نظرية الكسب من عقيدة الجبر في نفي التوليد. فالله وحده هو الخالق، وهو فاعل كل شيء في العالم بلا واسطة. ولا ينطبق الاكتساب إلا على أفعال الإنسان الفردية بشرط خلق القدرة من الله في ساعة الفعل. أمَّا التولد فلا اكتساب فيه لأنه أفعال الطبيعة مباشرةً ودون خلق قدرة فيها. فإذا كان للقدرة تأثير في أفعال الكسب فإنها لا تأثير لها على الإطلاق في أفعال الطبيعة. والخوف من تأثير القدرة الحادثة في أفعال الطبيعة أن تكون حادثة في كل شيء وخالقة ومبدعة لها، وهو افتراضٌ نظري خالص مهمته الاصطدام بمواقف التعظيم والإجلال حتى يتم رفض الفعل في سبيل الانفعال.٤ وكما يتم إنكار تأثير القدرة الحادثة في الطبيعة يتم أيضًا إنكار تأثير العلل الطبيعية ويُقضى على السببية وحتمية قوانين الطبيعة. ثم يمتزج ذلك كله بالتصوف عند المتأخرين، فيتحول إلى مجرد توكل بالرغم من أن مباحث العلة والمعلول من الأمور النظرية العامة في نظرية الوجود عند المتقدمين. وبدلًا من أن يرتبط الاكتساب بالعلية تم القضاء على الأسباب العادية وإلغاء تأثيرها. وعاد علم أصول الدين سنيًّا أشعريًّا، وانتهى موضوع خلق الأفعال والتولد مع انتهاء الاعتزال. فالله هو الفاعل لكل شيء، ولا توجد علاقةٌ ضرورية بين العلة والمعلول أو بين السبب والمسبب. ويكفر كل من يقول بالسببية والعلية وفي مقدمتهم الفلاسفة أهل الضلال! بل رفض المتأخرون من الأشعرية اعتراف المتقدمين منهم بالتأثير بقوة أودعها الله في العباد وفي الأشياء، وكأن دليل التمانع يثبت الآن وحدانية الأفعال كما كان يثبت من قبلُ وحدانية الذات أو الصفات؛ مما يدل على أن مسألة الحرية هي إحدى تعينات الإلهيات.٥ انتهى نفي الأسباب إلى الوقوع في التوكل وإلحاق الكسب بالجبر والتوحيد بالتصوف؛ لذلك كثر عن المتأخرين الاستشهاد بأقوال الصوفية.٦ ثم غلبت النزعة الصوفية على الأشعرية المتأخرة وأصبحت الدافع الأساس على نفي التوليد؛ فالله قادر على كل شيء في الإنسان وفي الطبيعة. وأصبحت المعجزات وخوارق العادات هي الظواهر الطبيعية وليس مجرى العادات وما يتفق مع المحسوسات والمشاهدات كما تقضي بذلك نظرية العلم.٧

(١-١) حجج نفي التوليد

وقد فصلت نظرية الكسب مثل عقيدة الجبر حججًا في نفي التولد. فإذا كانت القدرة غير سابقة على الفعل، بل توجد فقط مع الفعل، ومع فعلٍ واحد لا يتكرر ولا يتماثل ولا يختلف ولا يتضاد، فمتى تم الفعل فإن القدرة لا تبقى بل تذهب معه؛ ومِنْ ثَمَّ لا يتولد فعل من فعلٍ آخر ببقاء القدرة. وكما أن الاستطاعة في الكسب غير متقدمة على الفعل، فإنها أيضًا لا تبقى بعد الفعل. ويحتاج الفعل في كل لحظة إلى استطاعةٍ متجددة، لا هي سابقة على الفعل مهددة له، مستوفية لشروطه، ولا هي تالية له يمكنها أن تقوم بفعل آخر لأنها في هذه الحالة تكون سابقة عليه وهذا محال. الإنسان مجرد مستقبل لقدرات لحظية كشراراتٍ كهربية تدفعه إلى الفعل ثم يعود إلى جموده من جديد. والحقيقة أن هذا الخلق المتجدد للقدرة على الأفعال هو القدرة الجديدة الناشئة عن الفرح بالقيام بالفعل والقوة غير المتوقعة التي تأتي للإنسان وهو بصدد تحقيق الفعل. هذه القوة غير المتوقَّعة نتيجة لبراءة الإنسان وطهارته، والتزامه برسالته من داخل الإنسان وليست من خارج الإنسان، من طبيعة شعوره ومخزون طاقته وليست من أي مصدرٍ خارجي أو إرادةٍ مشخصة.٨
وتتفصل حجج نفي التوليد على النحو الآتي:
  • (١)
    الاستطاعة عَرَض، والعَرَض لا يبقى زمانين. وهي حجةٌ خاطئة؛ لأن الاستطاعة ليست عرضًا بل هي من مقوِّمات الجوهر. والإنسان غير القادر لا يكون إنسانًا بل جمادًا. ووجود مضادات للقدرة لا يُعدم القدرة. القدرة لها شروط وموانع. وإذا عدمت لوجود الضد فإن الضد يعدم لوجودها. وإن عدمت لانتفاء شرط لها فإن الشرط عَرَض مثل القدرة. وإن كان جوهرًا فكيف يبقى العرض مع انتفاء الجوهر؟ ولا يقال إن القدرة عدمٌ محض؛ لأن العدم نفي، والنفي عدم وجود على الإطلاق. هذا كله نسيان أن القدرة الباقية هي الأثر، أي هي البناء الجديد الحادث من القدرة الأولى. فالبحث عن القدرة كعرض أو كجوهر أو كفعل عدم معرفة بطبيعة القدرة الباقية التي هي انفعال وليست فعلًا. أمَّا التولد الطبيعي، فإنه يدرس في علم الطبيعة، خاصةً علم الآليات (الميكانيكا) فيما يتعلق بالجذب والطرد والقوة والمقاومة والفعل وردِّ الفعل. يظل السهم متحركًا أو الحجر جاريًا إلى أن تخفَّ الحركة بالمقاومة أو بالاصطدام. وكذلك فعل الإنسان القائم على القصد والدواعي يظل أثره قائمًا إلى أن يضعف بقِدَم العهد أو بوجود أثرٍ مضاد.٩
  • (٢)
    الأفعال في المستقبل كلها ممكنات، والممكنات واقعة تحت قدرة أخرى أعظم من قدرة الإنسان، وهي قدرة المؤلَّه المشخَّص. والحقيقة أن ذلك هو المطلوب إثباته؛ وبالتالي تقوم الحجة على الدوران. كما أن الممكن لا يستند إلى شيءٍ آخر غير الفعل الإنساني، وأن تحوله إلى فعلٍ مرتبطٌ بالقصد والباعث والغاية. الممكن إمكانية خالصة غير محددة، طاقةٌ مخزونة في النفس لا تتحقق إلا بفاعليتها الداخلية وإمكانيات تحققاتها الخارجية.١٠
  • (٣)
    إن اعتبار مقدور لقادرَين لا يُبطل التولد بل يُثبت الغلبة. إن كان هناك شيء تجذبه قدرة وتدفعه قدرةٌ أخرى، فإن حركة الشيء تتحدد بالقدرة الغالبة المؤثرة في الشيء المتحرك. وإن لم يتحرك الشيء تعادلت القدرتان وامَّحى الأثر على الشيء. كما أن ذلك افتراض مسبق وليس حجةً بديهية. فالمقدور مقدور لقادر واحد بالإضافة إلى الموانع، ما دام الفعل لا يكون فعلًا إلا في موقف.١١
  • (٤)
    إن القول بأن التولد نتيجة لمجرى العادات لا ينفي التولد، بل يثبته ثم يفسره تفسيرًا طبيعيًّا. وهذا ما يرفضه الكسب الذي يجعل مجرى العادات أيضًا من خلق قدرةٍ خارجية. ولا يمكن نفي مجرى العادات لأنه يثبت بالحس والمشاهدة والتجربة. ولا يمكن أن يكون من فعل إرادةٍ خارجية وإلا لما كان مجرى العادات. فالعادة والإرادة نقيضان. العادة إرادة الطبيعة الكامنة فيها، وليست إرادةً مشخصةً خارجة عنها، معها أو ضدها.١٢
  • (٥)
    وإذا كانت القدرة لا تبقى لا لنفسها ولا لبقاء يقوم بها، فإنها تبقى على الأقل في الأثر الذي يتركه الفعل وفي السنة التي يتركها الإنسان وراءه بعد الاخترام. تقوم الحجة على فكرٍ ديني إلهي مقلوب وهو الاختلاف بين الذات والغير. بل إن قسمة الأشياء إلى جوهر وعرض فكرٌ دينيٌّ إلهيٌّ مقلوب. الأشياء أشياء دون قسمة فيها إلى أوَّلي وثانوي.١٣ وقد تتحوَّل الحجج الإيجابية لنفي التولد إلى شبهاتٍ سلبية ضد إثبات التولد، وهي شبهات يسهل الرد عليها على النحو الآتي:
    • (١)
      لا يعني التولد أن الفاعل فاعل وهو ميت أو غير قادر أو معدوم؛ لأن الفاعل هو مقدوره، والإنسان هو أثره، وبالتالي يظل فعل الوحي قائمًا حتى بعد الاخترام من خلال الأثر والسنة. بل إن فعل الإنسان قد يكون أكثر تأثيرًا من خلال سننه وآثاره وأفكاره بعد الاخترام منه قبل ذلك. فقد يؤدي الحصار المضروب حول الفاعل الحي أثناء حياته إلى تقليص أثره، ولكن سرعان ما ينفجر هذا الأثر بعد فك الحصار وبعد الاخترام بفعل قوانين الطبيعة وفي مسار التاريخ.١٤
    • (٢)
      لا يعني التولد إثبات مقدورات لا تتناهى للإنسان؛ لأن التولد كالفعل الأوَّل داخل في حدود الطاقة. ومتى انتهى أثر الفعل الأوَّل انتهى التولد، إمَّا لضعف السبب الأوَّل أو بمعارضته بسببٍ آخر أو لقدم العهد عليه. ولما كان التولد يتم في الزمان، والزمان متناهٍ كان التولد متناهيًا كذلك، إمَّا بزمان الفعل أو بالأجل أو بالحياة.١٥
    • (٣)
      ولا يعني التولد استحقاق المدح والذم بعد الموت استحقاقًا مباشرًا، ولكن يظل الحكم صادرًا على الإنسان في التاريخ، إمَّا مدحًا إذا سنَّ سُنَّة حسنة وإمَّا ذمًّا إذا سن سنة سيئة ودون أن يلغي ذلك مسئولية الأفراد بتوجيه أفعالهم في أفعال التولد لأنهم باستطاعتهم توليد أفعالٍ أخرى وإيقاف الأفعال المتولدة الأولى، مقابلة سنة بسنة، ومعارضة أثر بأثر.١٦
    • (٤)
      ولا يقال إن ما يتراخى لا يقدر عليه العبد؛ لأن الإنسان قادر على الفور وعلى التراخي معًا. واستمرار الفعل يبدأ بفعل. وقدرة الإنسان على الفعل قدرة في الزمان. ولما كان الزمان متصلًا فإن القدرة على الفعل، بل والفعل ذاته يكون متصلًا كذلك دون ما حاجة إلى تدخل إرادةٍ خارجية. بل يتم ذلك من طبيعة الفعل ذاته وأثره في الزمان.١٧
    • (٥)
      ولا تعني المشاركة تقسيم العالم إلى قسمَين؛ قسم للإنسان، وقسم لغيره. فهذا إنكار لقدرة الإنسان وإمكانياتها، وإنكار لعواطف التأليه والتعظيم التي تود إثبات قدرةٍ شاملة وحاوية لكل شيء. وكيف ينكر التولد والكسب نفسه قائم على التولد؟ الكسب مشاركة اجتماع إرادتين على شيءٍ واحد؛ وبالتالي يكون فعل الإنسان في الكسب متولدًا عن فعل المؤله المشخص؟ فالكسب يثبت التولد رأسيًّا بمشاركة الله الإنسان في الفعل في حين أن التولد يثبت أفقيًّا باستمرار فعل الإنسان في الطبيعة.١٨

(١-٢) مخاطر نفي التوليد

وينتج عن نفي التوليد عدة مخاطر على حياة الإنسان وأفعاله في الطبيعة وسيطرته على مظاهرها وعلى نشأة العلم القائم على العلية وأهمها:
  • (١)
    إنكار فاعلية الإنسان في الطبيعة كإنكار الجبر والكسب لها، وكأن الله هو الفاعل الحق في ظواهر الطبيعة وليس فقط في أفعال الإنسان، في حين أن إثبات التولد إثبات لقدرة الإنسان وإثبات لفعله في الطبيعة. إنكار التولد إثبات لعجز الإنسان وعدم استطاعته فعل شيء وإنكار لاستمرار الفعل الإنساني في الطبيعة على مظاهرها. والحقيقة أن ذلك خلط بين مستوى الحق ومستوى الواقع. فالله صاحب كل شيء حقٌّ نظري، والطبيعة مستقلة واقعٌ عملي، كما أنه تفسيرٌ حرفي للصور الشعرية التي تعبر عن هذا الحق النظري تأكيدًا على وحدانية العالم من أجل ترسيخ وحدانية الشعور.١٩
  • (٢)

    تصور الفعل في محلٍّ أي في مكان لا قبله ولا بعده وكأنه نقطة ساكنة على خطٍّ ساكن. في حين أن الفعل تعبير عن القدرة، والقدرة حركة، والفعل حياة؛ ومِنْ ثَمَّ كان أثره أقرب إلى الحركة منه إلى السكون، ومن الكيف منه إلى الكم. إنكار التوليد إذن نظرة تقوم على الانقطاع لا على الاتصال، على التجزئة في الكم لا على التواصل في الكيف؛ مما يجعل الفعل الإنساني مبتورًا من النهاية، محاصرًا منذ البداية، نهرًا مغلق المصب.

  • (٣)
    نفي قانون العلية وإنكار الصلة الضرورية بين العلة والمعلول. فالسهم يصدر ولا يصيب، والحجر يقع ويتعلق في الهواء، والنار تسري في القطن ولا تحرق! وهذا هدم لقوانين الطبيعة وقضاء على العلم. حينئذٍ تعظم الخرافة بإثبات أن المؤله المشخص هو الذي يتدخل لإيقاف السهم أو إيصاله أو في تعليق الحجر أو إسقاطه أو في إحراق القطن أو تبريده! وكأن هذا التدخل المتوهَّم هو أعظم دليل على وجوده وقدرته وإرادته! إن نفي التوليد إنكار لقانون العلية وإنه طالما وجد السبب وجد المسبب، ويكفي أن تحدث القدرة السبب أوَّلًا ويظل الفعل للسبب بعد ذلك. التوسط بالأسباب في أفعال الطبيعة هو قوام الفكر العلمي والعملي. ولكن الفكر الديني الإلهي ينازعه سلطانه ويجعل فعل الأسباب من المؤله المشخص يتعامل مع الطبيعة مباشرةً دون توسط بالأسباب. إنكار التولد يسلب الإنسان فعله، ويعطي المؤله أخصَّ خصائص الإنسان. وأي التفسيرين أقرب إلى العقل والمشاهدة؟ تدخل المعبود المشخص في ظواهر الطبيعة لإحداثها أم إحداثها بفعل الإنسان؟ إن إنكار التولد يعني زحزحة الإنسان عن مكانه لإفساح المجال لقدرة المؤله المشخص وإثبات أفعال الإنسان والطبيعة له.٢٠
  • (٤)
    يحدث الله في المعلول مرةً واحدة ولا ضمان لحدوث المعلول مرةً ثانية إلا بقدرةٍ متجددة في العلة؛ فالسهم يصدر ولا يصيب، والحجر يقع ويتعلق في الهواء، والنار تسري في القطن ولا تحرق، وهذا إنكار لقوانين الطبيعة واطرادها وإبطال للحياة الإنسانية. ولا يعني التولد غياب السبب مطلقًا وزحزحة الإرادة الإلهية، بل يعني استمرار أثره. فالسبب مصدر الفعل أو القوة المؤثرة الناشئة عنه، وهي سنن الكون التي تحكم بها الإرادة الإلهية مسار العالم. تحكم الإرادة العالم بتوسط الأشياء وليس مباشرة.٢١
  • (٥)
    مزاحمة الفكر الغيبي للفكر العلمي. إذ يتضح في موضوع التوليد الصراع بين الفكر الديني الغيبي، والفكر الديني العلمي. وهي المعركة الرئيسية في الطبيعيات. ويظل الفكر في التولد متذبذبًا بين العاطفة والعقل، بين الخرافة والعلم. ويظل المؤله المشخص متحفِّزًا باستمرار لسلب الإنسان كل ما يختص به، يعطي له أخص خصائص الإنسان. يظل الإنسان بلا عمل أو قدرة أو اختصاص. وإذا كان من وظائف التوحيد كونه فكرةً محددة مهمتها التمييز بين المستويات، بين المادة والصورة، فإن المؤله المشخص يلغي عمل الفكرة المحددة ويخلط بين المستويات.٢٢

(٢) إثبات التوليد

لما كانت الاستطاعة لا توجد فقط قبل الفعل أو مع الفعل، بل أيضًا بعد الفعل ثبت التولد.٢٣ فالإنسان بعد أن يقوم بفعلٍ مبدئي يبقى أثر هذا الفعل قائمًا، وتظل فاعليته سارية إلى أن تحدث موانع توقفها كفاعليةٍ مضادة أعظم أو كضعف في تمثُّل الفاعلية أو تآكلها بمرور الزمن. الفعل المباشر هو الذي لا تبقى استطاعته في وقتين، في حين أن الفعل المتولد يحدث بأثر القدرة الأولى دون حاجة إلى بدءٍ ثانٍ. وكما أن القدرة في المبتدأ سابقة على الفعل فكذلك القدرة في المتولد سابقة على الفعل. والفرق بين القدرتَين أن الأولى مباشرة والثانية متولدة. ولا يعني غياب الفاعل غياب الفعل؛ لأن الفعل مشروط بالقدرة لا بالفاعل. وما دامت القدرة موجودة فالفعل موجود. ولا يهم أن تكون القدرة المتقدمة باقية بفعل الابتداء أم باقية بإرادةٍ خارجية. فلا معنى لإثبات إرادةٍ خارجية تبقى على القدرة واستمرار الفعل ما دامت موجودة. والاستمرار في الوجود أسهل من الوجود ابتداءً. لا يقع الفعل المباشر على الإطلاق بقدرةٍ معدومة لأنه هو الفعل المبدئي. والأمر فعل. وطالما كان موجهًا فهو فعل، وفعله باقٍ ما بقي الزمان، ولا يحتاج إلى أمرٍ مجدد. الفعل للتكرار على ما يقول الأصوليون. التوليد إذن إمَّا أن يحدث في الحال أو يحدث في الاستمرار. الأوَّل كالفعل الناتج عن فعلٍ آخر، والثاني كالفعل الذي يحتاج إلى وقت يختمر فيه وينضج ويظهر بعد مدة من الزمان.٢٤

(٢-١) حجج إثبات التوليد

ومع أن إثبات التوليد لا يحتاج إلى أدلة؛ فهو تجربةٌ واقعية وشهادةٌ حسيةٌ ضرورية، إلا أن هناك عدة أدلة تثبت وجوده سواء كانت نقلية أم عقلية، منها:
  • (١)
    يثبت التوليد بإثبات العلية أو السببية؛ لأنه يقوم عليها وعلى التوسط بالسبب. يحدث الفعل بتوسط سبب لا بطريقٍ مباشر، خاصةً إذا كان الفعل يتطلب قدرةً أعظم من القدرة الأولى ولا يمكن أن يحدث بالقدرة في الحال الأوَّل. فكثيرًا ما أثرت فكرة في التاريخ، وامتد أثرها أضعاف ظهورها في الحال الأوَّل. إن الفعل الأوَّل القائم على صفاء الباعث وكمال الغاية متطور بطبيعته وقادر على احتواء أكبر قدرٍ ممكن من الواقع.٢٥ وقد يكون السبب نوعين، سببٌ معنويٌّ فكريٌّ نظريٌّ خالص مثل الأفكار والسنن والقوانين وأثرها في التاريخ، وسببٌ مادي مباشر وهو العلل المادية في الظواهر الطبيعية.الأولى أسباب غير مباشرة أو معنوية والثانية أسبابٌ مباشرة أو مادية. لا يحتاج إثبات التولد إذن إلى إثبات التوسط بالسبب المادي وحده؛ فالتولد بقاءٌ معنوي للفعل الأوَّل واستمراره في الزمان. ليس الفعل هو الفعل الطبيعي فحسب الذي يحتاج إلى مسببٍ ماديٍّ متوسط حتى يحدث أثره بل هو أيضًا الفعل الإنساني الذي يحدث أثره بتحوله إلى باعثٍ مستمر في شعور الآخرين أو إلى إبداعٍ مستمر في شعور الإنسان كما هو الحال في أفعال الشعور من اعتقاد ونظر وخلق؛ ومِنْ ثَمَّ يكون السؤال عن سبب الفعل، هل هو السبب أم القادر؟ سؤالًا بغير ذي دلالة لأن الفعل هو صاحب الأثر. والأسباب لا تؤثر بنفسها دون فعلٍ إنساني. النار تطهى وتحرق، والفعل الإنساني هو الذي يجعلها إمَّا تطهى أو تحرق. وكل سؤال عن السبب المباشر في الطهي والإحراق، هل هو الإنسان كفعل أم النار كسبب؟ سؤال تحت الدلالة، وما تحت الدلالة أو فوقها لا معنى له.٢٦ المتولد هو الفعل الذي بسبب مني يكون في غيري. وقد يقع في نفسي وقد يقع في غيري. وقد تتولد الأفعال في الثاني والثالث والرابع إلى ما لا نهاية حتى يضعف أثر الفعل ما دام السبب الأوَّل قائمًا، وما دامت القدرة ما زالت مؤثرة. يحدث التولد آليًّا دون توافر القصد والنية والغاية وإلا كان فعلًا مباشرًا.٢٧ فإذا ما ترك السبب هل يبقى المسبب؟ يمكن بقاء المسبب حتى بفناء السبب ما دامت القدرة حالَّة في الأشياء.٢٨ تبقى الحرارة وتنتقل بالمجاورة والمماسة بالرغم من انطفاء النار الأولى. لا يهم السبب الأوَّل في الفعل، فقد تتداخل في الفعل عدة أسباب، اليد والآلة وطبيعة الجسم المضروب، وليس سببًا واحدًا.٢٩ وقد تنعدم الأسباب والمسببات وقد تكون مصاحبة لها، وقد يكون التقدم بأكثر من وقت.٣٠ والعلاقة بين السبب والمسبب علاقةٌ حتميةٌ ضرورية، إذا وُجد السبب وُجد المسبب.٣١ ولكن هل يوجد السبب دون فاعل؟٣٢ هل يوجد السبب دون قدرة؟٣٣ هل يجوز أن يقع الفعل من الله بلا سبب؟٣٤
    إن موضوع السببية هو موضوع العِلِّية؛ فالصلة بين السبب والمسبب هي الصلة بين العلة والمعلول، مرة بألفاظ المتكلمين ومرة أخرى بمصطلحات الحكماء. ونظرًا لتقدم الاستطاعة على الفعل فإن العلة تكون متقدِّمة على المعلول كتقدُّم السبب على المسبب.٣٥ العلة عند القدماء هي العلة الفاعلة مع أن العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقيقية؛ فالغايات هي المحركات كبواعث. السبب الحقيقي للإرادة هو الباعث، والباعث هو السبب الإرادي. ويشمل الباعث الدواعي والمقاصد والغايات، وهي الأفعال الإنسانية المستمرة في العالم الإنساني.٣٦ لذلك هناك فرق في التوليد بين السبب الطبيعي المادي الذي يحدث بقاء الشيء مثل الجهد الإنساني، والسبب المادي الصرف. فنبات البذرة تعني أن جهد الإنسان هو الفاعل الإنساني ولا تعني أن الإنسان قد دخل البذرة وأنبتها. يحدث الفاعل الطبيعي طبقًا لقوانين الطبيعة.٣٧ ولا يهم حدوث التوليد بسببٍ متوسط أو بعدة أسباب تؤدي كلها في النهاية إلى الفعل المتولد؛ فالفعل عادةً عمليةٌ واحدة، واقعةٌ سلوكيةٌ واحدة لا يمكن تجزئتها إلى أول ووسط ونهاية أو إلى أسباب تتركب وتتألف تؤدي في النهاية إلى المسبب. فهذه نظرية كمية لموضوعٍ كيفي وتجزئة لكل، وتركيب لبسيط.٣٨ إن تعليل الظواهر ذات الأسباب المجهولة بفعل المعبود فكرٌ أسطوري. فالظواهر التي لا تعلل بالعلل المباشرة يمكن تعليلها بعللٍ غير مباشرة وتكون أيضًا عللًا طبيعية. فإذا تم إدراك دون حواس فلا ريب أن هناك حاسةً داخلية قد تم الإدراك بها، قد يكون حدسًا أو معرفةً طبيعيةً أو فكرةً فطريةً. وإذا تهيأت العلة وقع المعلول بالضرورة. وإن لم يقع المعلول فإمَّا أن العلة ليست علة أو لوجود مانعٍ آخر وهي علة معارضة أقوى من وقوع المعلول. وإرجاع غياب العلة مع وجود المعلول إلى تدخل إرادةٍ خارجيةٍ مشخصة يظل فكرًا أسطوريًّا.٣٩
  • (٢)
    نسبة الفعل إلى الإنسان دون الله، وذلك لأن البواعث ليست متولدة بفعل إرادةٍ خارجية، بل هي من طبيعة الإنسان، من وجوده في العالم، ومن حضور الفكر فيه، وتمثله للغايات والمقاصد التي هي حقائقُ إنسانيةٌ عامةٌ ممكنة تمثل بناءً مثاليًّا للعالم، وهو البناء الواقعي الدائم الذي يمكن أن يتحقق بفعل الإنسان، والذي يعبر عن كمال الطبيعة، والذي لا يبقى واقعًا إلا إذا حققه فعل الإنسان وظل حارسًا له.٤٠ التوليد فعلٌ إنسانيٌّ خالص وليس فعل أية إرادة خارجيةٍ مشخصة. وعلى فرض أن هناك إرادةً كاملة موجودة على الإطلاق تفعل فعلًا مباشرًا لأنها حياة مطلق فإنه ليس هناك ما يمنع من وضع الكون على نحوٍ معين ابتداءً ثم ترك الحوادث فيه لفعل التطور ولقوانين الطبيعة لما في الطبيعة من فعل وكمون. كل فعل لا يبدأ من عدم. وفعل الآخر إنما هو استمرار لفعل الأوَّل ما دامت الأفعال كلها موجبة نحو غاية واحدة، وتصدر عن باعث واحد. ولولا الاستمرار في الفعل لكان الإنسان يفعل في هذا العالم نطًّا ويؤثر قفزًا، لكل فعل قدرة، وهو إنكار لوجود الإنسان مع الآخرين ولوجوده في التاريخ.٤١
    ولا يحتاج التوليد لتدخل إرادةٍ خارجيةٍ مشخصة تضمن بقاء الاستطاعة بعد الفعل لتوليد أفعالٍ أخرى، بل يعني وجود عوامل جعلت الاستطاعة باقية مثل توافر الباعث عند الآخرين وارتفاع الموانع. ولا يختلف السبب الموجب باختلاف الفاعلين لأن السبب يفعل من جهة الإنسان.٤٢ التوليد وصف للفعل الإنساني وبقائه في الزمان أو هو وصف للفعل الطبيعي. وكل محاولة لوصف أي فعلٍ خارجي عن الفعل الإنساني والفعل الطبيعي بالتوليد ما هو إلا إسقاط من الإنسان على غيره. وهذا الإسقاط ذاته ضد عواطف التأليه لأنه يجعل المعبود في حاجة إلى توسط بالسبب. وإثبات قدرةٍ أعظم من السبب وقوع في الجبر وإلغاء للعلية ولاطراد قوانين الطبيعة وإنكار للتولد؛ أي وقوع في التناقض بإثبات شيء يؤدي إلى نفيه. ولا يقال إن القادر على الفعل ابتداءً قادر عليه توليدًا بطريقٍ أولى لأن ذلك فكرٌ دينيٌّ إلهي وليس فكرًا دينيًّا علميًّا، وإسقاط لعاطفة وليس تحليلًا لعقل. لا يعني حدوث التوليد من الإنسان أنه لا بد وأن يحدث من المعبود وإلا لكان أضعف قدرة لأن التوليد ليس وسيلة لإثبات قدرة أحد أعظم أو أقل، بل هو وصف لفعل الإنسان وأثره في الواقع وعلى الآخرين. ولا يعني عدم وقوع التوليد من المعبود عدم وقوعه من الإنسان؛ لأن التوليد واقعةٌ إنسانية لها ما يثبتها في استمرار الفعل واطراد الأسباب والعلل. ولا تحتاج قوانين الطبيعة واطرادها إلى إثبات توليد في افعال المعبود؛ فهذا وضع طبيعي وجريان للعادة.٤٣
    لذلك كانت الشُّبه التي قيلت في أفعال المعبود شُبهًا حقيقيةً تبين أن إثبات التوليد تناقض ينافي عواطف التعظيم والإجلال. فالتوليد يدل على أن المعبود في حاجة إلى سبب آو آلة. وإثبات الفرق بين الإنسان والمعبود في أن الأوَّل يحتاج إلى آلة، في حين أن الثاني لا يحتاج تمنيًا لا يمنع من قوة المعارض، كما يؤدي القول بالتوليد إلى نفي الإرادة وإعطاء القدرة للسبب تفعل محل الإرادة، بل وتكون الإرادة خاضعة للسبب.٤٤ ولما كان يفترض في المعبود العزم، فإن التوليد في أفعاله حد من قدراته وإعطاء القدرة للسبب؛ فتكون أفعاله مشابهة لأفعال الإنسان القائمة على اطراد العادات وارتباط الأسباب بالمسببات.٤٥ ولماذا يفعل المعبود التولد وهو قادر على الأفعال ابتداءً؟ وما الغاية من وضع الأسباب في الطبيعة إذا كانت لا تفعل بذاتها ولا تستقل، ومهددة بالتوقف والاضطراب، بل والانعكاس في أية لحظة؟ ألا يؤدي التوليد إلى الشرك وإثبات مقدور لقادرَين، المعبود والسبب؟ وإن كانت لا حاجة للمعبود للسبب يكون وضع السبب إذن عبثًا. وإذا كانت المصلحة تقتضي في هذا العالم وضع الأسباب؛ فما المصلحة في وضعها في عالمٍ آخر؟٤٦ لذلك فضَّل البعض جعل أعمال المعبود كلها ابتداءً لا توليدًا؛ لأن المعبود لا يحتاج إلى سبب في مقابل الإنسان الذي لا يقدر أن يفعل ابتداءً ما يفعله بالتولد؛ لأنه في حاجة إلى الأسباب. وزيادة في التعظيم فإن ما يفعله المعبود يصح منه بدؤه. وحينئذٍ يكون السؤال: فما الداعي إلى التوليد؟٤٧
  • (٣)
    وقد ورد الأمر والنهي بالأفعال المتولدة كما ورد بالأفعال المباشرة، وذلك كحمل الأثقال في الحروب والإيلام. هناك أثر لفعل الإنسان بعد الموت في حياة الآخرين، مثل أثر القدوة على التغيرات الثورية وطاعة الجماهير، وأثر الفكر الثوري في تحقيق الثورة.٤٨ كما أن التوليد، بما أنه فعل الإنسان ومناط التكليف ويستحق عليه المدح والذم. النظر والعلم والاعتقاد وجميع أفعال الشعور قائمة على التوليد. ولا يعني وقوع ذلك في حياته فقط، بل يعني أيضًا ترتب نتائجَ سيئة وضارة لفعله عند الآخرين. ليس الفعل المتولد هو الفعل الساهي والنائم، بل هو فعلٌ إراديٌّ مقصود من حيث الأثر والاستمرار. إن استحقاق الذم والمدح لا يتم على الفعل الوقتي، بل على الفعل المستمر، فلا يتغير المدح والذم بعد ظهور الأثر لأنهما حكمان قائمان على الفعل في الزمان وليس على الفعل اللحظي. وهذا لا ينفي إمكانية تغيير الإنسان لفعله حين يشعر بإمكانية فعل أفضل، فإذا غير الفعل تغير الحكم. ولكن يتم ذلك في حياته. فبعد الحياة لا توجد إمكانية تغير أو استدراك لا عن طريق التمني أو في حياة الآخرين.٤٩

(٢-٢) أقسام التوليد

تنقسم أفعال التوليد إلى ثلاثة أقسام: الأوَّل عندما يفعل الإنسان في نفسه شيئًا يتولد عنه فعل في غيره. وفي هذه الحالة يكون الفعل هو المولد والغير المولد منه، ويكون الفعل هنا منتقلًا من الذات إلى الآخر. والثاني عندما يفعل الإنسان في غيره أفعالًا تولد عن أسباب يفعلها في نفسها. فالتولد هنا يخضع لقانون السببية دون ما حاجة إلى فاعل ومفعول. يكون الطرفان في هذه الحالة على المستوى نفسه، وتكون العلاقة مساواة بين علة ومعلول. والثالث عندما تكون المتولدات أفعالًا لا فاعل لها، بل تخضع لقوانينَ عامةٍ أو أن تكون الأعراض متولدة من أفعال الأجسام.٥٠ ولما كان التوليد ظاهرةً إنسانيةً خالصة تشير إلى أن الإنسان هو في الحقيقة إمكانية تتعدى وجوده الزمني وحدوده البدنية وتعييناته في المكان، كما أنها ظاهرةٌ طبيعية تشير إلى الكمون في الطبيعة وإلى أن الطبيعة تحوي في ذاتها أصل نمائها، وتكوينها وانتشارها، انقسمت أفعال التوليد إلى قسمَين: التوليد في أفعال الشعور، والتوليد في أفعال الطبيعة. وشمل الأوَّل أفعال التوليد بين الأنا والآخر.
  • (١)
    التوليد في أفعال الشعور. وهنا يكون التوليد في أفعال الشعور الداخلية؛ فالتركيز على فعل يولد فعلًا آخر، وذلك لأن الشعور الداخلي حر الأفعال. وقد يعني هذا التوليد استمرار القدرة على الفعل، إمَّا في حياة الإنسان بعد عجزه عنه أو بعد مماته بما يتركه من سنن وأفكار واتجاهات وجماعات وأحزاب وقوانين وتنظيمات وتشريعات؛ فأفعال الإنسان مستمرة حيًّا أو ميتًا، وبقاؤه مستمرًّا غير محدود بالآجال. فمن سن قانونًا بأن كل من يعترض أو يتظاهر فإنه يسجن، ثم يموت واضع القانون فإن أثره يظل من خلال قانونه، ويكون هو المسئول عن كل سجين ومعتقل إلى أن يتغير القانون بقانونٍ آخرَ يبطل فعل القانون الأوَّل. وقد لا تحدث آثار الفعل أثناء حياة الفاعلين قدر حدوثها بعد مماتهم في آثارهم وسننهم وقوانينهم بشرط توفر الهدف والقصد والنية.٥١ ويمكن ترك الفعل المتولد والإنسان على قيد الحياة بتغيير فعله المبتدأ مصححًا إياه؛ ومن ثَم يمَّحي أثره، والإنسان قادر على ذلك ما دامت الغاية واضحة والنية متوافرة. والقدرة على السلوك موجودة، والمانع غائب. فإذا ما تحقق من أن فعله ليس هو الفعل الأمثل، غيَّر الفعل الأوَّل إلى فعلٍ ثانٍ ومِنْ ثَمَّ يتغير أثره معه. ويمكن للآخرين بعد حياة الفرد القيام بتغيير فعله أو إدخال تعديل عليه أو تركه إلى فعلٍ آخر وتصحيح فعله؛ وبالتالي يتغير أثر الفعل الأوَّل ويحل محله الفعل الثاني.٥٢ بل إن مجرد الاحترام المعنوي لشخصٍ غائب نوع من بقاء الفعل بعد الاستطاعة الأولى. فاستطاعة الغائب فاعلة، إمَّا لاحترام شخصه أو تقدير أمره أو تخليدًا لذكراه. التوليد هو إثبات لفعل الجماعة ولوجود الجماعة ولحضور الجماعة وتأكيدٌ لجماعة الحياة والخلق والانتشار. لا يضير الإنسان أن يبدأ فعله من فعل غيره أو أن يؤثر الغير في فعله. وما دام هذا الفعل قائمًا على نفس القصد ويهدف إلى نفس الغاية، فإن اتفاق الباعث والهدف يجعل اتفاق الفعلَين أولى من الاختلاف. وإن حدث اختلاف في الأفعال فالفعل الأصح والأكمل يعدل ويصحح الفعل الآخر. وإن كان أحد الفعلين خطأً على الإطلاق غيَّره الفعل الثاني ونفاه وبدَّله إلى فعلٍ صحيح. ولا يعني عدم وقوع الفعل إبطال التوليد، بل دخول فعلٍ آخر أكمل من الفعل الأوَّل وابتلاعه له في ميدان السلوك.٥٣
    ليس الوقت الثاني والثالث في الأفعال هو وقت الحركة، بل توالي الأجيال. يستمر فيها طالما بقيت القدرة عليه حتى تأتي أفعالٌ مضادة أو يضعف الأثر أو تتغير الظروف.٥٤ يتضح بقاء الفعل في العالم بعد الاستطاعة الأولى في أثر الأفعال وبقائها بعد حياة الفاعل. بل إن كثيرًا من الأفعال لا يظهر أثرها الإيجابي أو السلبي إلا بعد حياة فاعلها. وهذا هو معنى الحضارة أو الإنسانية. الحضارة تراكم أفكار البشر وأفعالهم بعد انتهاء قائليها وفاعليها. تلك هي قدرة الإنسان على الخلود وتخليد ذاته بأفعاله الباقية. فلا تناقض إذن في وجود قدرة مع الموت لأن الموت في هذه الحالة قد تم التغلب عليه، فتحول إلى حياةٍ دائمة. كما تم التغلب على العجز فتحوَّل إلى قدرةٍ دائمة. ذاك هو وضع الإنسان في الحياة؛ يحقق رسالته فيتحول وجوده النسبي إلى وجودٍ مطلق، ووجوده الزماني إلى وجودٍ أبدي.٥٥ وتبقى الأفعال أيضًا بعد الاستطاعة الأولى؛ إذ يكفي أن يقرر الإنسان شيئًا وهو على فراش الموت ثم يبقى فعله بعده كما هو واضح في الوصية أو في آخر توجيهاته. لا يعني العجز أو الموت نهاية القدرة أو الاستطاعة بل يعني استمرارهما وفعلهما في الآخرين. لا يعني العجز والموت والعدم نهاية الفعل، بل يكشف عن استمرار الفعل عند الآخرين. خطأ الشبهة إذن ناتج عن تصور الفعل على أنه فرديٌّ خالص وعلى أنه فعلٌ بدني ينتهي بانتهاء الفرد أو بعجز العضو وليس الأثر المعنوي عند الآخرين وفي التاريخ.٥٦
    ولا يوجد واقعٌ خارج عن بقاء الاستطاعة يؤثر فيه الإنسان إذا كان الواقع ممتدًّا تحت طاقة الإنسان وعلى مداها. أمَّا الظواهر الطبيعية الصماء التي تخرج عن نطاق الفعل الإنساني ومدى الطاقة فهي تتبع نظام الطبيعة الثابت.٥٧ الفعل مرهون بالقدرة وحدها وليس بالمقدور عليه. إذا توفرت قدرة الكتابة فإنها لا تعني الكتابة على الهواء؛ لأن الفعل له ميدان تحققه الموضوعي وشروطه الموضوعية. كما أنه يتحقق بالقدرة وهي شرطه الذاتي مع الباعث والغاية. لا تزال الأفعال المتولدة أفعالًا مقصودةً مروية؛ فهي ليست مجرد أفعالٍ آلية. ويظل أثر القدرة طالما تمثلتها أفعالٌ بشريةٌ مقصودةٌ مروية. لا يقع الفعل بقوةٍ معدومة بل بقوةٍ موجودة مستمرة بعد الفاعل الأوَّل.٥٨ ولا يعني بقاء القدرة في الحال الثاني أنها تبقى آليًّا من نفسها بل تتجدد القدرة بحيوية الباعث المستمرة وبالوضوح الفكري الدائم وبمثول الغاية. يوجد العلم والإرادة مع الموت وذلك بتبني الآخرين الأحياء لهذا العلم ولهذه الإرادة. ليس الفعل فعلًا فرديًّا فحسب بل هو فعلٌ جماعي.٥٩ ويجوز أن يبطل التولد إذا ما حدث العجز في الثاني أو الثالث. ودون ذلك تبقى الاستطاعة بلا قدرةٍ متجددة. الفعل التام هو الذي يحدث في حالٍ واحد دون أن يتخلله زمان. هو فعل تتزامن فيه القدرة والباعث والغاية والفكر وغياب الموانع. لا يوجد فعل غير مقدور عليه أو قدرةٌ عاجزة. الفعل هو الفعل الواقع وإلا لما سُميَّ فعلًا.٦٠ وإذا حدث العجز في الحال الثاني فإن القدرة لا تبقى، والفعل ينقطع ولا يتم. والعلم بالعجز لا يتم بإسقاط العجز عن القدرة الأولى، أي بالرجوع إلى الوراء كما هو الحال في العدم المعبر عنه بأداة الشرط «لو». إذا حدث العجز فإمَّا لضعف القدرة بناءً على ضعف الباعث أو ضمور الغاية أو غموض الفكر أو وجود مانع. ويظل الإنسان في حال العجز الثاني قادرًا على الفعل كإمكانيةٍ خالصة وذلك بتغيير الموقف النفسي والاجتماعي إلى موقف الفعل في الحال الأوَّل.٦١
    والإنسان قادر على الفعل والترك، قادر على فعل الشيء وضده تعبيرًا عن حريته. لو كان قادرًا على الفعل وحده أو الترك وحده أو على أحد الضدين فقط لما كان حرًّا. ولما كان عمله ذا فعلٍ موجَّه يعبر عن طبيعته ويحقق غايته؛ كان الترك وفعل الضد لديه مستحيلًا عملًا.٦٢ كذلك يقدر الإنسان على فعل أو أكثر من الديمومة حين بقاء الاستطاعة نظرًا، ولكن عملًا يكون فعلًا من النوع نفسه، وإلا كان فعلًا غير صادق، ولانقلب السلوك الواحد إلى نفاق وتواطؤ ومساومة. يفعل الإنسان شيئًا واحدًا طبقًا لطبيعته. وإذا تصارعت الدوافع طبقًا لدرجة كمال الغايات تحقق الدافع الأقوى الذي يعبر عن شدة الباعث وكمال الغاية.٦٣ والبدل في السلوك ليس هو البديل المنطقي أو الآلي، بل هو الذي توجهه الطبيعة نحو غايةٍ واحدة لا تتبدل.٦٤ وكلما بعدت القدرة عن الحال الأوَّل انتابها الضعف والوهن بفعل الزمن والرتابة ما لم تتجدد باستمرار بحيوية الباعث ووضوح الفكر وتمثل الغاية. إن بقاء القدرة إمكانيةٌ خالصة قد تبقى إذا توافرت عوامل بقائها وهو التجدد الدائم. ليست القدرة واقعةً مادية تبقى حاضرة على الإطلاق، بل هي واقعةٌ إنسانية تتأرجح بين الحضور والغياب. والحقيقة أن هناك فرقًا بين الفعل الإنساني والفعل الطبيعي في التولد. فالفعل الطبيعي وإن كان يشابه الفعل الإنساني من وجه إلا أنه لا يشابهه من كل وجه؛ نظرًا لاختلاف المستويين. يمكن للآلة أن تفعل في الأوَّل والثاني ما دامت الطاقة موجودة ومستمرة دون ضعف ووهن. وفعل الإنسان أيضًا بتوافر الطاقة. ولكن احتمال التكرار في الآلة أكثر من احتماله في الإنسان، وديمومة الفعل في الآلة أكثر منه في الإنسان، واحتمال وجود الشرط في الإنسان أضعف من احتمال وجوده في الآلة. الفعل الطبيعي متكرر إذا توافرت الشروط، فالمطر يسقط كلما تحمل الجو بالبخار وتشبع به وانخفضت درجة الحرارة أو خفَّ الضغط، والحديد يتمدد بالحرارة كلما توافرت الحرارة الكافية. استمرار الفعل الطبيعي قائم على أفراد القانون الطبيعي، والفعل الكوني مثل حركة الكواكب قائم على اطراد قوانين حركة الأفلاك، أمَّا الفعل الإنساني فبالرغم من أن له قانونه كذلك، إلا أن هذا القانون نفسه تعبير عن الحرية الإنسانية دون أن يحتم عليها شيئًا. في الفعل الطبيعي لا استثناء، وفي الفعل الإنساني تحدث استثناءات طبقًا لقانونٍ آخر هو حرية الإنسان التي تفرض في كل وقت قانونًا جديدًا. فالحرية قانون ذاتها وممارستها وواقعها. والحقيقة أنه تصعب الإجابة على معظم أسئلة التوليد وبقاء الاستطاعة في الحال الثاني أو الثالث أو الرابع إجابة صورية خالصة دون الإشارة إلى تجاربَ إنسانيةٍ يمكن أن تعطينا مادة لتحليلها، وتكون في الوقت نفسه مصدرًا يمكن الرجوع له والاحتكام إليه. وليست المادة أفعال البدن وحدها أو أفعال الشعور وحدها أو أفعال الفرد وحده، بل الأفعال كلها ومسارها في الجماعة.
    وهناك أفعال لا تكون إلا متولدة، ولا تحدث ابتداءً، مثل النظر المتولد عن العلم أو العلم المتولد عن النظر أو الفكر المتولد عن الباعث أو الباعث المتولد عن الفكر، وذلك لأن وجود المسبب مشروط بوجود السبب.٦٥ وأفعال القلوب المبتدَأة هي أفعال الشعور. وقد يحدث فيها التولد حين تتولد فكرة من أخرى أو ظن من فكر أو إرادة من كراهة. وإذا كانت بعض الأفعال متولدة فذلك لا يعني أن تكون كل الأفعال متولدة وإلا وقعنا في مغالطة وهي تعدية حكم الجزء على الكل. لا تنقسم الأفعال المتولدة إلى أفعال شعور وأفعال جوارح، بل الذي يحدد البدء والتولد هو مدى أثر الفعل. الفعل القصير المدى يحدث منذ الحال الأولى، ولكن الفعل الطويل المدى هو الفعل المتولد. ويتحدد قصر المدى أو طوله بغاية الفعل، خاصة أم عامة، وبكمال الغاية، حسية أو معنوية، وبقوة الفعل، فردي أم جماعي، وبوضوح الرؤية، سطحي أم علي، افتراضي أم واقعي، مفروض أم يعبر عن مطلبٍ حقيقي.٦٦ الإرادة متولِّدة من الباعث؛ لأنها ليست شيئًا آخر إلا قوة الباعث الذي يتولد منه المراد؛ لذلك جعل البعض الأفعال المتولدة هي أفعال الشعور لا أفعال الجوارح؛ لأن الفعل الإنساني هو فعل الشعور، أمَّا أفعال الجوارح فهي أفعالٌ بدنية خالصة تحدث بطبيعة العضو وتكوين الكائن الحي. والسبب في الأفعال المتولدة هو بقاء الاستطاعة الأولى في الحال الثانية، وهي أقرب إلى أفعال الشعور.٦٧ وقد تكون أفعال الشعور وأفعال الجوارح معًا أفعال الإرادة، وتقع كلها حسب الدواعي والقصود. كما أن الأفعال ابتداءً أو الأفعال المتولدة كلاهما يقعان حسب الدواعي والقصود. وقد ثبت التولد بإثبات أفعالٍ متولدة تقع حسب القصود والدواعي.٦٨ ويؤثر البعض جعل أفعال الإنسان أفعال الجوارح أي أفعال الإرادة لأنها هي التي تظهر فيها الحرية وما سوى ذلك من أفعال الشعور فإنها تحدث طباعًا.٦٩ وربما تُترك أفعال الجوارح وأفعال الشعور معًا بلا تحديد لفعلها، فكلاهما قد يحدث مرة طباعًا ومرةً أخرى اختيارًا. وتثبت الأفعال المتولدة بإثباتها ناشئة عن القدرة كالأفعال ابتداءً.٧٠ وأحيانًا يصعب التفرقة بين الاثنين كما هو واضح في سؤال: هل المقتول بإرادة القاتل أم بقتل المقتول؟٧١ وقسمة الأفعال إلى بدنية من فعل الإنسان وشعورية من فعل الله قسمة تقوم على الرغبة في الجمع بين الفعلين كمحاولةٍ أخيرة قبل خروج الفكر العلمي واستقلاله. وكان من الطبيعي إعطاء الإنسان الفعل البدني الخالص، والله الفعل الشعوري الخالص؛ فهو أكرم وأشرف.٧٢ وقد يكون هناك خلاف على الأشرف؛ فقد يكون الأشرف لله أن ننسب إليه أفعال الطبيعة وليس أفعال الإرادة؛ تنزيهًا له عن فعل القبيح وحرصًا على حرية الإنسان. ولما كانت الطبيعة أقوى من الإنسان، فإنه يكون شرفًا أن تعطى لله أفعال الطبيعة دون أفعال الإنسان.٧٣ ولما كان الإنسان قادرًا على الأفعال المتولدة، فإنه يقدر على الصفات الثانية للأشياء في الطبيعة كالألوان والأصوات والطعوم والأراييح.٧٤ فالإحساسات الخمس متولدة فيما بينها، أي مولدة إحساسات وليست أفكارًا حسية. وكثير من أفعال الإنسان تصدر بالتوليد مثل الأصوات والآلام والتأليف، بل إن أعمال الخلق كلها قائمة على التوليد.٧٥
  • (٢)
    التوليد في أفعال الطبيعة. ويظهر التوليد أيضًا في أفعال الطبيعة وفي أفعال الكائن الحي باعتباره موجودًا طبيعيًّا؛ فالطبيعة قائمة على تسلسل العلل واعتماد بعضها على البعض.٧٦ يحدث التولد في أجسام الطبيعة طبقًا لقوانين الطبيعة. ولا ينفي التوليد أنه حاصل في الطبيعة كظاهرةٍ طبيعية. التوليد ليس خلقًا من الله أو اكتسابًا للعبد أو حتى فعلًا حرًّا له؛ لأنها أفعالٌ طبيعيةٌ صرفة تخضع لقوانين الطبيعة، فالأفعال المتولدة لا فاعل لها.٧٧
    والاعتماد وصف بديهي لأثر حركة اليد أو الجسم على الأشياء.٧٨ ولكن هل يولد الاعتماد أم يتولد بالحركة والنظر والمجاورة؟ هل الاعتماد جسمي أم معنوي؟ هل يستطيع الإنسان أن يفعل من غير مماسة؟٧٩ الحقيقة أن تحليل الفعل على المستوى الطبيعي هو خروج على المستوى القصدي. فسواء كان الإدراك يتم بفتح إرادي للجفن أم لا، فذلك وصفٌ خارجيٌّ محض لعملية الإدراك أو التأليف الحاصل عن المجاورة وأنواع المجاورة. والألم الحادث عن الوهن، كل ذلك أوصاف لا دلالة لها بل افتراضٌ عقليٌّ خالص، كقسمة التأليف الحادث عن المجاورة إلى خمسة أجزاء، وتقسيم القدرة إلى خمسة أجزاء لكل جزء قدرة.٨٠
    وبصرف النظر عن أنواع التوليد الطبيعي لأفعال الجسم أو الكائن الحي، فإنها تجري جميعًا بالعادة أو بالطباع، أي طبقًا لقانون. والقول بالعادة هو أيضًا قول بالطباع، ولكن بلفظٍ آخر مثل لفظ الخلقة.٨١ وحدوث الأشياء في المحل شبيه بحدوثها بالعادة أو بالطبع. ولا يعين المحل الكائن الطبيعي كواقعةٍ مصمتة، بل هو موقفٌ إنساني تتداخل فيه عوامل الفعل الإنساني كالباعث والقصد. ولا يعني نفي المحل كموقفٍ مصمت أنها واقعة تحت فعل إرادةٍ خارجية.٨٢ ولكن يظل لفظ «الطباع» هو اللفظ المفضل.٨٣ ولا تعني الطباع نفي السبب؛ فهي ليست ضرورة أو حتميةً عمياء، بل تخضع لقانونٍ طبيعي تجعل الحوادث تحدث طبقًا له وتُسَمَّى طباعًا.
    وبالرغم من أن الأفعال المتولدة قائمة على القصود والدواعي، إلا أنها أيضًا تثبت بالطباع.٨٤ فإثبات القصود والدواعي لا شأن له بإثبات القديم عن طريق الغائية، بل هو تحليلٌ علميٌّ موضوعي لبواعث الأفعال ومقاصدها.٨٥ والطبع لا ينافي القصد. يقوم الإنسان بفعله الذي يعبر عن طبعه وهو قصده. ويحقق الإنسان قصده وهو طبعه. ومقاصد الوحي طبيعة وفطرة، والفطرة لا تعارض القصد.٨٦ ولا يمنع الترجيح بين الدوافع بالطبع. ليس الطبع منافيًا للغائية، إنما كان إثبات الأفعال حسب القصود والدواعي موجهًا ضد نوعين من الجبر، الجبر الديني الإلهي الذي يجعل المعبود فاعلًا لكل شيء، والجبر العلمي الذي يثبت الأفعال بالطبائع. ومع أن الجبر العلمي أكبر رد فعل على الجبر الديني الإلهي القائم على التشخيص، إلا أنه ينكر القصد والباعث والغائية التي هي أيضًا من الطباع. ليست الطبيعة عمياء، بل هي طبيعةٌ عاقلةٌ هادفة.٨٧
    وكل محاولة للتوفيق بين فعلَين لا تأتي بجديد؛ فالفعل الباقي باقٍ بالاستطاعة الباقية. وهذا تفسير كافٍ ولا يحتاج إلى علةٍ زائدة. والوصف العلمي يقوم على التفسير بعللٍ أقل لا بعللٍ أكثر.٨٨ فالقول بالطباع وبفعل المعبود في آنٍ واحد تفسير لظاهرة بعلَّتين، الأولى كافية والثانية زائدة. بل إن القول بالسبب بالإضافة إلى الطبيعة رغبة في إثبات أفعال المعبود وخوف من الاستقلال التام للطبيعة. وفي هذه الحالة تحدث الأفعال المتولدة باجتماع السبب والطبيعة معًا. والقول بالطباع وإن كان يمثل تقدُّمًا هائلًا بالنسبة للفكر اللاهوتي في الطبيعيات إلا أنه حين يفسر بقاء الفعل والاستطاعة يغفل أثر القدرة الأولى وكأن الواقع يتحرك بنفسه دون ما تدخل من إرادة الإنسان المستمرة في الأثر. ليست حركة الواقع فقط نتيجة طبيعة الأشياء، بل نتيجة طبيعة الأشياء والفعل الإنساني معًا. لا يتغير الواقع بنفسه. ولا يغير الإنسان الواقع ضد طبيعة الأشياء. لا يحدث شيء في الواقع إلا وله محدِث وهو الإنسان أو طبيعة الأشياء. ولا يحدث من شيء من الخارج، فالإنسان وطبيعة الأشياء كلاهما في العالم.٨٩ لذلك فإن القول بالطباع دون التوليد هو إنكار لأثر الإرادة في الواقع واستحالة لشكر الإنسان وثنائه وإحساسه بالتوفيق في إتمام مهمته.٩٠ وهو قول بطبيعة غير عاقلة وغير مريدة وإعطاء الطبيعة كل القوة وسلبها عن الإنسان٩١ هو فعل للطبيعة خارج الشعور واعتبارها إمَّا قديمة لا شأن للإنسان بها أو حادثة بلا سبب وتحتاج إلى محدث.٩٢ يؤدي القول بالطباع دون الاختيار إلى إنكار البعثة والوحي. صحيح أن الواقع يتأزم ويستدعي الفكر ويمكن للطبيعة أن تبدع فكرها ويكون في الوقت نفسه مطابقًا للوحي، ولكن ذلك يحتاج إلى طبيعةٍ كاملة وإلى وقتٍ طويل، ولا يبرأ من احتمال الخطأ؛ فالوحي هو عقل الطبيعة وفعل مع الطباع.٩٣

    ولا يؤدي القول بالطبائع إلى إنكار الصانع، بل إلى إثبات حكمته. ليس الصانع حاويًا أو ساحرًا، بل حكيم خلق الأجسام وجعلها تتحقق طباعًا طبقًا لقوانين الكون من طبيعة الخلق. وموضوع التوليد هو تحليل لأفعال الطبيعة وليس الهدف منه صياغة أدلة على وجود الصانع. هو موضوع موجَّه إلى أسفل وليس إلى أعلى، وبالتالي تظل المحافظة على المستويات قائمة. وهو أكثر مدعاة للتنزيه؛ تنزيه الله عن القبائح والشرور، وأكثر مدعاة للعدل بالتأكيد على مسئولية الإنسان عن أفعاله واستمرارها في الكون. كما أنه أكثر مدعاة إلى تأسيس العلم الآلي وجعل الأفعال كلها متولدة عن بعضها البعض تجنبًا للتشخيص. كل شيء خاضع لقانون سواء الأفعال الإرادية أم غير الإرادية، العضوية البدنية أم الشعورية الخالصة.

    وإثبات المتولدات في الأفعال الإنسانية بإرجاعها للإرادة وترك أفعال الطبيعة متولدة لا فاعل لها هو إثبات لحرية الإنسان ولاستقلال الطبيعة في آنٍ واحد؛ ومِنْ ثَمَّ يمتد فعل الإنسان الحر إلى العالم من خلال حتمية قوانين الطبيعة.٩٤ وقد يصل الأمر إلى حد اعتبار أن أفعال الإرادة أيضًا خاضعة للأسباب وأن الإنسان قادر متى أخذ بالأسباب على إتيان كل الأفعال، أفعال الإرادة وأفعال الطبيعة، على سبيل التولد. وهنا يتأسس العلم الطبيعي الآلي، وتصبح الإرادة الحرة جزءًا من قوانين الطبيعة وأحد عوامل الخلق فيها.٩٥ وقد يكون التولد بالطبع دون تفصيل في الأسباب. كما قد يصل القول بالطبع إلى أن تكون أفعال الإرادة ذاتها بالطبع وأن يكون الإنسان قادرًا حتى على خلق أفعال الشعور الداخلية بالطبع.٩٦ وقد يقع فعلٌ واحد من فاعلَين لما كان الفعل يحدث في الطبيعة وكانت الطبيعة قابلة لأفعال الإنسان، ودون أن يكون أحد الفعلين خلقًا والآخر كسبًا، أحدهما لله والآخر للإنسان. فكلاهما للإنسان، لفاعلَين مختلفَين.٩٧
    وإذا ما فعل الله يفعل طباعًا، طبقًا لقوانين الطبيعة وليس ضدها.٩٨ وقد يؤثر البعض جعل التولد في أفعال الإنسان وحدها في نفسه وليس في غيره خوفًا من حتمية الطبيعة وإيثارًا للحرية. موضوع التولد إذن هو مبحث في الطبيعة كما أنه مبحث في الفعل الإنساني، في حرية الأفعال وبقائها في الطبيعة بقوتها الذاتية الكامنة وبآثارها في الأغيار. يصارع فيه الفكرُ الإنساني الطبيعي الفكرَ الديني الإلهي حفاظًا على حرية الإنسان وإثباتًا لاستقلال قوانين الطبيعة.
١  في العصر الوسيط الأوروبي وفي بداية النهضة الأوروبية الحديثة بدأت ترجمة علم الكلام؛ فأخذ الأوروبيون هذا الجانب عن الحركة في الطبيعة، حركة الأجسام، التماس والاعتماد، والأكوان وصاغوا نظرية imputus. وأصبح علم الطبيعة مستقلًّا عن الجانب الإلهي، في حين بقي الجانب الإلهي عندنا وأسقط العلم الطبيعي.
٢  انظر: الباب الأوَّل، المقدمات النظرية، الفصل الثالث، نظرية العلم، خامسًا: كيف يفيد النظر العلم، نظرية التولد.
٣  أمَّا المتخلفون من المجبرة فقد قسموا التصرفات إلى قسمَين، فجعلوا أحد القسمَين متعلقًا بنا وهو المباشر، والقسم الآخر غير متعلق بنا وهو المتولد. فشاركوا الأولين في المذهب وزادوا عليهم في الإحالة، حيث فصلوا بين المباشر والمتولد مع أنه لا سبيل إلى الفصل بينهما (الشرح، ص٣٦٣). ويشارك فريق من الروافض الجبرية. فالفاعل لا يفعل في غيره فعلًا ولا يفعل إلا في نفسه. وليس الإنسان فاعلًا لما يتولد من فعله كالألم المتولد عن الضربة، واللذة التي تحدث عند الأكل وسائر المتولدات (مقالات، ج١، ص١١٣-١١٤).
٤  الخالق هو الله وحده، وإن كل الممكنات مستندة إليه بلا واسطة … الكل بخلق الله (شرح التفتازاني، ص١٠٨). لا اكتساب في جميع المتولدات (حاشية الخيالي، ص١٠٨؛ حاشية الإسفراييني، ص١٠٧). عند أهل السنة والجماعة الحوادث كلها لا بد من محدث صانع، وأكفروا ثمامة وأتباعه من القدرية في قولهم إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها (الفِرَق، ص٣٣١-٣٣٢). يصح من الإنسان اكتساب الحركة والسكون والإرادة والتولد والعلم والفكر وما يجري مجرى هذه الأعراض، ولكن لا يصح منه اكتساب الألوان والطعوم والروائح والإدراكات (الفِرَق، ص٣٣٩). وعلى أصل أبي الحسن الأشعري لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض. فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في قضية حدوث كل محدث حتى تصلح لإحداث الألوان والطعوم والروائح، وتصلح لإحداث الجواهر. فالأجسام تؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة، غير أن الله أجرى سنة بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له وسمى هذا الفعل كسبًا فيكون خلقًا من الله وإبداعًا واحدًا وكسبًا من العبد مجبولًا تحت قدرته (الملل، ج١، ص١٤٥-١٤٦)؛ لذلك يدخل عند الأشاعرة كفرع للقدرة، القدرة على كل المقدورات (الاقتصاد، ص٥١–٥٣). التولد أن يخرج جسم من جوف جسم كما يخرج الجنين من بطن الأم والنبات من بطن الأرض، وهذا محال في الأعراض؛ إذ ليس لحركة اليد جوف حتى تخرج منه حركة الخاتم، ولا هو شيء حاوٍ لأشياء حتى يرشح منه بعض ما فيه. فحركة الخاتم إذا لم تكن كامنة في ذات حركة اليد فما معنى تولدها عنها؟ وقال أهل الإثبات غير ضرار: لا فعل للإنسان في غيره (مقالات، ج٢، ص٨٣).
٥  والأسباب العادية لا تأثير لها كالطعام والشراب والثواب والجدار والنار والسراج والشمس والقمر ونحو ذلك. بأقل الطعام يخلق الله الشبع إن شاء، والطعام ليس له تأثير. وعند شرب الماء يخلق الله الري إن شاء، والماء ليس له تأثير. وعند لبس الثوب يخلق الله الستر، والثوب ليس له تأثير. وعند الجدار يخلق الله الظل إن شاء، والجدار ليس له تأثير. وعند النار يخلق الله الإحراق إن شاء، والنار ليس لها تأثير. وعند السراج والشمس يخلق الله الضوء إن شاء، والسراج والشمس والقمر ليس له تأثير (الجامع، ص٢٢). لا تأثير للأمور العادية في الأمور التي اقترنت بها؛ فلا تأثير للناس في الإحراق، ولا للطعام في الشبع، ولا للماء في الري ولا في إنبات الزرع، ولا للكواكب في إنضاج الفواكه وغيرها، ولا للأفلاك في شيء من الأشياء، ولا للسكين في القطع، ولا لشيء في دفع حر أو برد أو جلبهما أو غير ذلك؛ لا بالطبع ولا بالعلة ولا بقوة أودعها الله فيها، بل التأثير في ذلك كله لله وحده بمحض اختياره عند وجود هذه الأشياء. أمَّا أهل الضلال من الفلاسفة فيقولون بتأثير الطبع، أي الطبيعة، أو تأثير العلة. الأولى ليس فيها اختيار، والثانية بها اختيار. الأولى توقف على الشرط والمانع، والثانية علاقة ضرورية بين العلة والمعلول. «ولا شك في كفرهم عند المسلمين!» والحاصل أن الفاعل بحسب الفرض والتقدير ثلاثة: فاعل بالطبع، وفاعل بالعلة، وفاعل بالاختيار. والثالث كالإنسان عندهم. «وأمَّا المسلمون فلم يقولوا إلا بالأخير ثم هو مخصوص بالواحد القهار. ومن يقل من أهل الزيغ إن هذه الأمور تؤثر بواسطة قوة أودعها الله فيها كما أن العبد يؤثر بقدرته الحادثة التي خلقها الله فيه؛ فالنار تؤثر بقوةٍ خلقها الله فيها وكذا الباقي بدعة خلاف السنة … التمسك بقوة أهل السنة من أنه لا تأثير لما سوى الله أصلًا بطبع ولا علة ولا بواسطة قوة أُودعت فيها، وإنما التأثير لله وحده بمحض اختياره» (شرح الخريدة، ص٢٥–٢٧). وليس للقدرة الحادثة تأثير، وإنما لها مجرد مقارنة. فالله يخلق الفعل عندها لا بها كالإحراق عند مماسة النار للحطب (شرح الخريدة، ص٢٤-٢٥). وقد قيل شعرًا:
والفعل في التأثير ليس إلا
للواحد القهار جلا وعلا
ومن يُقال بالطبع أو بالعلة
فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالقوة المودعة
فذاك بدعة فلا تلتفت
(الخريدة، ص٢٣–٢٦)
وما يوجد من الألم في المضروب عقيب ضرب الإنسان، والانكسار في الزجاج عقيب كسر إنسان وما أشبهه كل ذلك مخلوق لله، لا صنع للعبد في تخليقه (النسفية، ص١١١-١١٢).
٦  بطلان دعوى أن شيئًا يؤثر بطبعه أو بقوة فيه. فمن اعتقد أن الأسباب العادية تؤثر في مسبباتها بطبعها وذواتها فهو كافر بالإجماع أو بقوة خلقها الله فيه في كفره قولان، والأصح أنه ليس بكافر بل مبتدع فاسق مثل المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية بقدرة خلقها الله فيه. ومن اعتقد أن المؤثر هو الله ولكن جعل الأسباب والمسببات تلازمًا عقليًّا بحيث لا يصح تخلفها فهو جاهل وربما جره ذلك إلى الكفر لأنه قد ينكر معجزات الأنبياء لكونها على خلاف العادة. ومن اعتقد أن المؤثر هو الله وجعل بين الأسباب والمسببات تلازمًا عاديًّا بحيث يصح تخلفها فهو المؤمن الناجي (التحفة، ج٢، ص٣؛ الأمير، ص٩٩). وقد قيل شعرًا:
في الاكتساب والتوكل اختلف
والراجح التفضيل حسبما عرف
(الجوهرة، ج٢، ص٢٩٣)
وهما يختلفان باختلاف أحوال الناس (التحفة، ص٩٣). وهي مسألة من التصوف لتعلقها بمبحث الرزق (الإتحاف، ص١٤٨–١٥٠). ويصبح المرجع هو: «الرسالة القشيرية» للقشيري. التوكل من الفرائض، من شروط الإيمان في بعض الحركات الحديثة (الكتاب، ص١٩). وقد حاول صاحب القول المفيد التوفيق بين التوكل والأسباب (القول، ص١٧). وتبعه آخرون (التحفة، ص٣-٤؛ الإتحاف، ص٩٨-٩٩؛ الأمير، ص٩٨). وقد قيل في ذلك شعرًا:
والأخذ بالأسباب لا ينافي
توكلًا أرجح الخلاف
لأن الوقوف والإيقان
بأن يكون ما قضى الرحمن
مع اتِّباع سنة البشير
في السعي في تحصيل الضروري
كمطعم ومشرب وكسوة
تحرز عن صاحب العداوة
وهكذا تفعل الأنبياء
كما أتى بذلك استقراء
(الوسيلة، ص٩٧)
٧  حُكي عن صالح قبة أن جميع أفعال الله تقع ابتداءً. ويقول إنه يجوز أن يدرك الإنسان الأمور مع السلامة ويعلمها. وأن يحصل فيه العلم بخلاف ما يشاهد، وكأن يجيز أن تقرب النار من الحطب اليابس فلا تحرقه من غير منع، وأن يخلق الله بها التبريد وهي على حالها، وأن يقطع جسم الإنسان فلا يألم، وأن يوضع على جسم الإنسان الثقيل فلا يجد ثقله. وكذلك يجوز أن يدرك ما وراء الساتر ومع عدم الضياء والمقابلة إذا خلق الله له الإدراك، ويجيز أن يخلق الله الأمل والعلم في الميت (المغني، ج٩؛ التوليد، ص١٢-١٣). ويقول: إن الإنسان لا يؤمل إلا في نفسه. وإن ما حدث عند فعله كذهاب الحجر عند الوقعة واحتراق الحطب عند مجامعة النار، والألم عند الضربة، فالله الخالق له، وكذلك المبتدئ له، وجائز أن يجامع الحجر الثقيل الجو الرقيق ألف عام فلا يخلق الله فيه هبوطًا، ويخلق سكونًا، وجائز أن يجتمع النار في الحطب أوقاتًا كثيرة ولا يخلق الله احتراقًا، وأن توضع الجبال على الإنسان فلا يجد ثقلها، وأن يخلق سكون الحجر الصغير عند وقعة الدافع له ولا يخلق إذهابه ولو دفعه أهل الأرض جميعًا واعتمدوا عليه. وجائز أن يحرق الله إنسانًا بالنار ولا يألم بل يخلق فيه اللذة، وجائز أن يضع الله الإدراك مع العمى، والعلم مع الموت. وكان يجوز أن يرفع الله ثقل السموات والأرضين حتى يكون ذلك أجمع أخف من ريشة ولم ينقص ذلك من أجزائه شيئًا. وقال: فما تنكر أن تكون في هذا الوقت بمكة جالسًا في قبة قد ضُربت عليك وأنت لا تعلم ذلك لأن الله لم يخلق فيك العلم به، هذا وأنت صحيح سليم غير متوفًّى. قال: لا أنكر. فلُقِّب قبة! وقيل له في أمر الرؤيا إذا كان بالبصرة فرأى كأنه بالصين: أكون في الصين إذا رأيت أني في الصين. فقيل له: فلو ربطت رجلك برجل إنسان بالعراق فرأيت كأنك في الصين؟ قال: أكون في الصين وإن كانت رجلي مربوطة برجل إنسان في العراق (مقالات، ج٢، ص٨٢-٨٣).
٨  عند أهل السنة جميع ما سمَّته القدرية متولدًا هو من فعل الله، ولا يصح أن يكون الإنسان فاعلًا في غير محل قدرته (الأصول، ص١٣٨). القدرة الحادثة لا تتعلق إلا بقائم محلها، وما يقع مباينًا لمحل القدرة فلا يكون مقدورًا بها، بل يقع فعلًا للباري من غير اقتدار العبد عليه. فلماذا اندفع حجر عند اعتماد العبد عليه، فاندفاعه غير مقدور للعبد، فإذا اندفع حجر عند اعتماد العبد عليه فاندفاعه غير مقدور للعبد (الإرشاد، ص٢٣٠). إذا حركنا جسمًا فعند المعتزلة حركة يدنا أوجبت حركة الجسم، وهو عندنا باطل (المحصل، ص١٤٠–١٥٠).
٩  عند الأشعرية: الاستطاعة عرض، والعرض لا يبقى زمانين (الملل، ج٢، ص١٤٤). وعند الجويني: القدرة الحادثة عرض من الأعراض، وهي غير باقية. وهذا حكم جميع الأعراض (الإرشاد، ص٢١٧). الاستطاعة عرض، والعرض لا يبقى، ولا يصح أن يوجد بعد الفعل (الإنصاف، ص٤٧). عند فريق من الإباضية الخوارج؛ يحيى بن كامل ومحمد بن حرب وإدريس الإباضي: الاستطاعة لا تبقى وقتين (مقالات، ج١، ص١٧٤). ويستدل الجويني على ذلك بعدم القدرة لوجود الضد (الإرشاد، ص٢١٧-٢١٨). وعند البلخي وبعض المعتزلة أيضًا القدرة لا تبقى، ولا توجد في جارحةٍ ميتة ولا عاجزة. وعندهم أن الاستطاعة لا تبقى وقتين، وأنه يستحيل بقاؤها (مقالات، ج١، ص٢٧٥، ص٢٧٧). كما أنكر الصالحي أن يكون الإنسان يفعل فعلًا عن طريق التولد (مقالات، ج١، ص٢٧٧). وكذلك عند الحسين بن محمد النجار: الاستطاعة الواحدة لا يُفعل بها فعلان، ولكل فعل استطاعة تحدث معه إذا حدث. الاستطاعة لا تبقى، في وجودها وجود الفعل، وفي عدمها عدم الفعل (مقالات، ج١، ص٢١٥).
١٠  استناد جميع الممكنات إلى الله ابتداءً (المواقف، ص٣١٦).
١١  يقول الرازي: إذا التصق جزءٌ واحد بيد زيد ثم جذبه أحدهما حال ما دفعه الآخر فليس وقوع حركته بأحدهما أولى من وقوعها بالآخر. فإمَّا أن يقع بهما معًا وهو محال؛ لأنه يلزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال على ما تقدم أوَّلًا بواحد منهما وهو المطلوب (المحصل، ص١٤٥). الحجة نفسها في «المواقف» كالآتي: إذا التصق جسم بكف قادر وجذبه أحدهما ودفعه الآخر إلى جهة، فإن قلنا حركة تولدت من حركة اليد فإمَّا بهما فيلزم مقدور بين قادرين وإمَّا بأحدهما وهو تحكمٌ محضٌ معلوم بطلانه، وهذا لا يلزم ضرارًا وحفصًا القائلَين بعدم التوليد فيما قام بغير محل القدرة (المواقف، ص٣١٦).
١٢  يقول الرازي: احتجوا بحسن الأمر والنهي بالقتل والكسر … الله لما أجرى عادته بخلق هذه الآثار في المباشر عقيب حصول هذه الأفعال في المباشر صح الأمر والنهي (المحصل، ص١٤٥). ويقول الإيجي: لم لا يكفي إجراء العادة بخلق هذه الأفعال المتولدة بعد الفعل المباشر في ذلك؟ (المواقف، ص٣١٧).
١٣  فإن قالوا: ولم زعمتم أن القدرة لا تبقى؟ قيل لهم: لأنها لو بقيت لكانت لا تخلو أن تبقى لنفسها أو لبقاء يقوم بها. فإن كانت تبقى لنفسها وجب أن تكون نفسها بقاءً لها وألا توجد إلا باقية. ومن هذا ما يوجب أن تكون باقية في حال حدوثها. وإن كانت تبقى ببقاء يقوم بها، والبقاء صفة، فقد قامت الصفة بالصفة والعرض بالعرض، وذلك فاسد. ولو جاز أن تقوم الصفة بالصفة لجاز أن تقوم بالقدرة قدرة، وبالحياة حياة، وبالعلم علم، وذلك فاسد (اللمع، ص٩٤).
١٤  شبهة الأشاعرة هي أن التوليد يؤدي إلى أن الفاعل فاعل وهو ميت أو وهو غير قادر أو معدوم! ويرد القاضي عبد الجبار: الفاعل هو مقدوره، والفعل يحتاج إلى قدرة تتقدم الفعل وليس بالضرورة إلى المصاحبة. إذا لم يفتقر إليها جاز حدوث ضدها بدلًا منها. فالأفعال على ضربَين: (أ) مباشر يصحُّ وجود أقل قليل الأجزاء منه في حال موته وزوال كونه قادرًا ما لم يكن يفتقر إلى حياة مثل أفعال القلوب، وما زاد على الجزء الواحد فلا يجوز. (ب) المتولِّد الذي يولد إمَّا شيئًا واحدًا ولا بد لتجديد المسببات من تجديد الأسباب مثل النظر والعلم والاعتقاد والكلام والمجاورة والتأليف والتفريق، وهو يجوز أن يوجد في حال الموت ما لم يحتج إلى حياة كالعلم وإمَّا يولد حالًا فحالًا فلا يحتاج إلى تجديد وهو يجوز في وجوده في حال الموت والعجز (المحيط، ص٤٠٢-٤٠٣).
١٥  وقضيتم باختصاص العبد بمقدورات لا تتناهى، ولا يعنيكم بعد ذلك مناقضتكم أصلكم في الحكم بخروج بعض الأجناس من مقدورات العباد (الإرشاد، ص٢٣٢).
١٦  هذه هي شبهة الأشاعرة، ويرد عليها أبو هاشم قائلًا إن الإنسان يستحق الذم والعقاب على المسبب في حال وقوع السبب من جهة (المحيط، ص٤٠٣-٤٠٤).
١٧  هذه هي شبهة الأشاعرة، ما يتراخى لا يقدر عليه. ويرد عليها القاضي عبد الجبار قائلًا: المبتدأ لا بد من قدرته عليه قبل وجوده بوقتٍ واحد، ولا يزيد، وكذلك التولد الذي يصاحب السبب. فأمَّا إذا تأخر عنه مثل النظر والعلم والاعتقاد والحركة، فإنما يراد بذلك الوقت الواحد. فسبيل القدرة أن يتقدم بوقتَين. وأمَّا إن كان السبب يولد أمثاله فالواجب تقدمه على هذا السبب الأوَّل بوقتٍ واحد ثم يصح أن يعدم. والمسبب يقع بعد أوقاتٍ كثيرة (المحيط، ص٤٠٦-٤٠٧).
١٨  الذي يوجد في حيز الإنسان هو فعله دون ما تعداه إلى فعل غيره. ما تعداه ما تفرد به الله، وهذا هو مذهب المجبرة في قولهم بالكسب ورأي صالح قبة (المحيط، ص٣٨٠).
١٩  المتولد مقدور، فإن قضي بذلك خاصةً كان مصرحًا بأنه ليس فعلًا لفاعل السبب، فإن شرط الفعل كونه مقدورًا للفاعل. وإذا جاز ثبوت فعل لا فاعل له جاز أيضًا المصير إلى أن ما نعلمه من جواهر العلم وأعراضه ليس فعلًا لله ولكنه واقع عن سببٍ مقدور موجب لما عداه، وذلك خروج من الدين وانسلال عن مذهب المسلمين (الإرشاد، ص٢٣٢). وكل ما دلنا على تفرد الباري بخلق كل حادث فهو جاء ردًّا على من يزعم المتولدات مخترعة لفاعل الأسباب (الإرشاد، ص٢٣٢). من قال بالتولد من فعل إنسان أوحى بأنه من فعل الإنسان والحي، وما تولد من غير حي فهو من فعل الطبيعة، أبطل الحقائق وغابت عنه موجبات العقول. والصواب أن كل ما في العالم من جسم أو عرض من جسم أو أثر من جسم خلق الله بنص القرآن وحكم الله، سواء كان من حي أو جماد (الفصل، ج٥، ص١٣٢-١٣٣).
٢٠  الذي وصفوه بكونه متولدًا لا يخلو إمَّا أن يكون مقدورًا أو غير مقدور. فإن كان مقدورًا كان ذلك باطلًا من وجهَين، أحدهما أن السبب على أصولهم موجب للسبب عند تقدير ارتفاع الموانع. فإذا كان المسبب واجبًا عند وجود السبب أو بعده فينبغي أن يستقل بوجوبه ويستغني عن تأثير القدرة فيه. ولو تخيلنا اعتقاد مذهب التولد وخطر لنا وجوب السبب وارتفاع الموانع واعتقدنا مع ذلك انتفاء القدرة أصلًا، فيوجد المسبب بوجود السبب … والوجه الثاني أن المسبب لو كان مقدورًا لتصور وقوعه دون توسط السبب. والدليل عليه أنه لما وقع مقدورًا للباري إذا لم يتسبب العبد إليه فإنه يقع مقدورًا له من غير افتقار إلى توسط سبب (الإرشاد، ص٢٣١). ويقول الأشاعرة: حدوث كل فعل لا من فاعل فيه إبطالٌ لدلالة الموحدين على إثبات الصانع. يمد الإنسان وتر قوسه، ويرسل السهم من يده فلا يخلق الله في السهم ذهابًا، ويقع السهم على ما أرسله ولا يكسره ولا يقطعه. ويجوز الجمع بين النار والقطن بلا احتراق، وخلق الولد قبل الوطء، وخلق السمن قبل العلف، ووقوف الحجر في الهواء (الأصول، ص١٣٨-١٣٩). وكل من زعم من القدرية أن المخلوق يجوز أن يُحدث في غيره أعراضًا وتأليفًا فلا دليل له عن طريق العقل على أن الله هو الفاعل لتأليف أجزاء السماء وحركات الكواكب (الأصول، ص١٣٨-١٣٩). المباشر خلق الله فينا من حيث الكسب أمَّا المتولد فإن الله متفرد بخلقه (الشرح، ص٣٢٤).
٢١  ذهب الباقلاني وسائر الأشعرية إلى أنه ليس في النار حر، ولا في الثلج برد، ولا في الزيتون زيت، ولا في العنب عصير، ولا في الإنسان دم! وهذا تخليط وإنكار لما يعرف بالحواس وضرورة العقل. ثم هم يقولون مع ذلك إن للزجاج والحصى طعمًا ورائحةً وإن لقشور العنب رائحة وإن للفلك طعمًا ورائحةً. دعواهم أن الله خلق كل حَرٍّ نجده في النار عند مَسِّنا إياها، وكذلك خلق البرد في الثلج عند مسِّنا إياه، وكذلك خلق الزيت عند عصر الزيتون والعصير عند عصر العنب، والدم عند قطع الشرايين. فإذا كانت هذه شهادة الحواس فمن أين أن للزجاج طعمًا ورائحةً وللفلك طعمًا ورائحةً؟ لعل الناس ليس في الأرض منهم أحد وإنما ذلك خلقهم الله عند رؤيتهم، ولعل البطون لا مصارين فيها، والرءوس لا أدمغة فيها ولكن الله خلق ذلك عند الشدخ والشق. كل ذلك مكذَّب بالنصوص التي ترى أن الحر في النار، وأن الشجرة تُنبت وبأن السكر والعصير مأخوذ من التمر والعنب. وقد قيل أحلى من العسل وأمرُّ من الصبر وأحرُّ من النار (الفصل، ج٥، ص١٣٥-١٣٦). الاعتماد على رأي المحققين من الحكماء على نفي تأثير الجسم في إيجاد الجسم مع أنهم يقولون بالفيض وأقرب إلى إثبات العلية والسببية (الملل، ج١، ص١٤٩-١٥٠).
٢٢  عند القديم المبتدأ من فعله إن صحَّت إعادته لم يزل تعلُّقه به (المحيط، ص٤٠٧).
٢٣  عند ضرار بن عمر الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل (الفِرَق، ص٢١٤)؛ لذلك سوَّى ضرار بين المباشر والمتولد (الشرح، ص٣٢٤)، في أن المتولد كالمباشر من فعل العبد (المحيط، ص٣٨٠). أطبقت المعتزلة على بقاء القدرة (الإرشاد، ص٢١٧)، إثبات التولد (المحيط، ص٢٢٩). لما أسندت المعتزلة أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتيبًا قالوا بالتوليد، وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلًا آخر نحو حركة اليد والمفتاح (المواقف، ص٣١٦). كما يقول أبو الهذيل وبشر بن المعتمر وهشام الفوطي بالتولد (الانتصار، ص١٧٠-١٧١). الأفعال إمَّا مبتدأ أو متولد (المحيط، ص٣٨٩)، المباشر هو الذي يحل محل القدرة والتولد ما عداه (المحيط، ص٣٩١). والحقيقة أن المعتزلة في سؤال: هل تبقى الاستطاعة أم لا؟ على مقالين: (أ) أبو الهذيل وهشام وعباد وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر والإسكافي وأكثر المعتزلة يقولون بالبقاء. (ب) البلخي ورفاقه يقولون بأنها لا تبقى وقتَين، وأنه يستحيل بقاؤها، وأن الفعل يوجد في الوقت الثاني بالقدرة المتقدمة المعدومة. ولكن لا يجوز حدوثه مع العجز بل يخلق الله في الوقت الثاني قدرة فيكون الفعل واقعًا بالقدرة المتقدمة (مقالات، ج١، ص٢٧٥). أجاز البعض مثل البلخي وجعفر بن حرب والإسكافي وقوع الفعل مباشرة بقوةٍ معدومة (مقالات، ج١، ص٢٧٦-٢٧٧). انظر شبهة «لو صح التوليد لصح الفعل ابتداءً» وعدم انطباقها على المعتزلة؛ لأنهم يقولون بالفعل المباشر ابتداءً وليس فقط بالفعل المتولد (المحيط، ج٩، التوليد، ص٢٧١، ص٧٦-٧٧).
٢٤  قسَّمت المعتزلة المتولد إلى ما توليده في ابتداء حدوثه دون حال دوامه، وإلى ما توليده حال حدوثه ودوامه. الأوَّل كالمجاورة المولدة للتأليف والوهن المولد للألم، والثاني كالاعتماد اللازم السفلي (المواقف، ص٣١٨).
٢٥  المتولد من السبب المقدور بالقدرة الحادثة يمتنع أن يقع مباشرًا بالقدرة الحادثة عن غير توسط السبب، وإلا جاز اجتماع مباشر ومتولد في محلٍّ واحد وهما مثلان، واجتماع المثلَين محال مع أنه يُفضي إلى جواز حمل الذرة للجبل العظيم بأن يحصل فيه أعداد من الحمل موازية لأعداد أجزائه فيرتفع بها وذلك محال (المواقف، ص٣١٦-٣١٧). علمنا فيما تفعله من الحركات والتأليف في الكتابة والبناء ومحل الأجسام أنها تقع بحسب السبب، وما يقع من جهة غيرنا لا يقع بحسب ما يفعله من الأسباب بل لا يقع أصلًا مع حصول السبب مِنَّا (المغني، ج٩؛ التوليد، ص٤٢).
٢٦  ذهبت المعتزلة إلى أن ما يقع مباينًا لمحل القدرة أو للجملة التي محل القدرة منها فيجوز وقوعه متولدًا عن سببٍ مقدورٍ مباشر بالقدرة. فإذا اندفع الحجر عند الاعتماد عليه فاندفاعه متولِّد عن الاعتماد والقائم بمحل القدرة. ثم المتولد عندهم فعل لفاعل السبب وهو مقدور له بتوسط السبب. ومن المتولدات ما يقوم بمحل القدرة كالعلم النظري المتولد عن النظر القائم بمحل القدرة (الإرشاد، ص٢٣٠). ليس السبب هو المولد بل القادر والمسبب واسطة بينه وبين الفاعل وإن كُنَّا نمنع إطلاق الموجب على الفاعل لأن الطريقة الفعلية تنافي الإيجاب. لا يصح أن يُقال إن السبب هو المولد لأنه من أسماء الفاعلين، ولا يُقال حادث بالسبب لأن حدوثه بالقادر، بل يُقال أحدثه القادر بهذا السبب. ويجيز أبو علي وأبو هاشم في المتولِّد أن يجامع السبب، كما يجيزان أن يتقدم المسبب الذي يولده بلا واسطة بأكثر من وقتٍ واحد. ويقولان فيما يتقدمه في الوجود إنه قد خرج من أن يكون في مقدوره للقبح أمره ونهيه (التوليد، ص١٤). السبب إمَّا أن يقترن بسببه أو يتراخى عن سببه بعد وجود المسبب. قد يصح وجود عارض يمنع وجود المسبب، وهذا ممتنع في المبتدأ (المحيط، ص٣٩٢-٣٩٣).
٢٧  اختلفت المعتزلة في التولد ما هو؟ (أ) هو الفعل الذي يكون بسببٍ مني ويحل في غيري. (ب) الفعل الذي أوجبت سببه فخرج مني دون أن يمكنني تركه وقد أفعله في نفسي وأفعله في غيري. (ج) الفعل الثالث الذي يلي مرادي ثم الألم الذي يلي الغربة. (د) الإسكافي، كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ دون القصد إليه والإرادة له فهو متولد وإلا كان مبشرًا (مقالات، ج٢، ص٨٤-٨٥).
٢٨  اختلفوا هل يجوز أن يُترك التولد إذا تُرك سببه أم لا؟ على مقالين: (أ) عباد والجبائي: يترك السبب؛ فأمَّا المسبب فمُحال أن يكون الترك لسببه تاركًا له. (ب) قد نترك المسبَّب بتركنا السبب (مقالات، ج٢، ص٨٥).
٢٩  اختلفوا في التولد إذا بعُد عن السبب هل يكون المسبب الأوَّل؟ (أ) الإسكافي وكثير من مثبتي التولد، الإحراق لمن رمى نفسه في النار. (ب) فعل للرامي بالسهم والمضرب بالنار. (ج) فعل للمعترض بجسم الطفل.
٣٠  اختلف مثبتو التولد من المعتزلة في الأسباب التي تكون عنها المسببات هل متقدمة لها أو موجود معها؟ (أ) السبب مع المسبب لا يتقدمه. (ب) منها ما يتقدم ومنها ما يصاحب. (ج) منها ما يتقدمه. (د) جواز التقدم أكثر من وقتٍ واحد (مقالات، ج٢، ص٨٧).
٣١  هل السبب موجِب للمسبب أم لا؟ (أ) أكثر المعتزلة المثبتين للتولد يجيبون: نعم. (ب) الجبائي يجيب بلا (مقالات، ج٢، ص٨٨). واختلفوا في التوجه مما يتولد من الفعل إذا حدث سببه ولم يقع التولد: (أ) نعم. (ب) لا (مقالات، ج٢، ص٨٨).
٣٢  واختلفوا في الشيء المولد للفعل ما هو؟ (أ) هو الفاعل للسبب. (ب) السبب دون الفاعل (مقالات، ج٢، ص٨٩-٩٠).
٣٣  واختلفوا في القدرة على الفعل المتولد: (أ) عند أكثر أهل النظر مقدور عليه ما لم يقع سببه، فإذا وقع سببه خرج من أن يكون مقدورًا. (ب) مقدور مع وجود سببه (مقالات، ج٢، ص٩٠).
٣٤  اختلفوا في القديم: هل يجوز أن يقع الفعل منه متولدًا عن سبب؟ (أ) لا بل عن الاختراع. (ب) نعم عن طريق التولد إلا الأجسام (مقالات، ج٢، ص٨٩). وهذا يدل على أن الفكر الآلي ليس غائبًا عن الفكر الطبيعي، بل إن الفكر الطبيعي هو تطور للفكر العِلمي، فكرٌ علميٌّ موضوعي بعد القضاء على العواطف والانفعالات، والصور والتشبيهات.
٣٥  اختلفوا في العلل على عشرة أقاويل: (١) الإسكافي: العلة علتان، فعل مع المعلول وعلة قبل المعلول، علة الاضطرار مع المعلول وعلة الاختيار قبل المعلول. (٢) بشر: علة كل شيء قبله وليس معه. (٣) العلة بل المعلول من حيث كانت. والعلة علتان؛ علة موجبة وعلة قبل معلولها، وقد يكون معها التصرف والاختيار. (٤) الجبائي: العلة علتان؛ علة قبل المعلول متقدمة بوقتٍ واحد، وعلة مع معلولها. (٥) العلة لا تكون إلا مع معلولها وما تقدم ليس علة. (٦) إبراهيم البخاري: العجز يوجب الضرورة، والاستطاعة توجب الاختيار. (٧) العجز لا يوجب الضرورة، والاستطاعة توجب الاختيار. (٨) في المدرك للشيء طبيعة تولد الإدراك، رأى البعض ذلك. (٩) عباد بن سليمان: العلة لا تكون إلا مع معلولها، وأنكروا أن تكون الاستطاعة علة. (١٠) النظام، العلل فيها ما يتقدم المعلول وعلة تكون مع معلولها (مقالات، ج٢، ص٦٩–٧١).
٣٦  عند أبي علي وأبي هاشم لا تقع الإرادة لسبب ولا تكون سببًا لغيرها.
٣٧  هذا ما قصده الشاعر بقوله:
عليَّ أن أسعى وليـ
ـس عليَّ إدراك النجاح
٣٨  اختلفت المعتزلة في الألم الحاصل من الاعتماد على الغير بضرب أو قطع. فقيل إنه يتولد من الاعتماد. وقال أبو هاشم في المعتمد من قولين إنه يتولد من الوهن، والوهن من الاعتماد لأن الألم بقدر الوهن قلة وكثرة لا بقدر الاعتماد؛ ولذلك يؤلم الاعتماد الواحد العضو الرقيق الرخو أضعاف ما يؤلم القويَّ المكتنز، وما هو إلا لاختلاف ما يوجب فيها من الوهن (المواقف، ص٣١٨-٣١٩).
٣٩  المغني، ج٩؛ التوليد، ص١٢.
٤٠  قد تكون الدواعي من فعل الله. فلو ولدت لوجب أن تكون الإرادة من فعله، وأن السبب يجب كونه فعلًا لفاعل السبب (المغني، ج٩؛ التوليد، ص١٣١).
٤١  منع بعض المعتزلة من ثبوت الفعل المتولد لله، بل جميع أفعاله بالمباشرة، ووافقهم عليه أبو هاشم في أحد قولَيه وإلا احتاج في فعله إلى سبب (المواقف، ص٣١٨). من رام دفع حجر في جهة اندفع إليه بحسب قصده وإرادته. وليس الاندفاع مباشرًا بالاتفاق؛ فهو بواسطة مباشرة من الدفع، ويؤيده اختلاف الأفعال باختلاف المقدور. فالأيِّد يقوى على حمل ما لا يقوى على حمله الضعيف. ولو كان واقعًا بقدرة الله لجاز تحرك الجبال باعتماد الضعيف النحيف وعدم تحرك الخردلة باعتماد الأيد القوي (المواقف، ص٣١٧). نسبة الفعل إلى العبد دون الله، استحالة مقدرٍ واحد لقادرين (المغني، ج٩؛ التوليد، ص١٧، ص٨١).
٤٢  لذلك منع أبو علي هذه الأسباب إذا وُجدت من جهة الله أن تولد (المحيط، ص٣٩٥، ص٣٩٨–٤٠١). ويمكن إيجاز أوجه الفرق في التوليد بين الإنسان والله في الآتي: (أ) أجناس لا يقدر على إيجادها إلا بالأسباب، والله قادر على إيجادها ابتداءً. (ب) السبب يصح وجوده ويعرض له عارض على عكس أسباب الله التي قد يوجدها دون مسبباتها. (ج) ما يفعله الله لسبب يصح أن يفعله ابتداءً على عكس الإنسان. (د) رابطةٌ ضرورية بين السبب والمسبب عند الإنسان على عكس الله (المحيط، ص٣٩٧–٤٠١). السبب لا يمتنع حصوله ثم لا يحصل المسبب (الشرح، ص٣٨٨). ولا يجوز عند أبي علي وأبي هاشم توليد المسبب الواحد من سببين (المغني، ج٩؛ التوليد، ص١٤).
٤٣  في أنه سبحانه يصح أن يفعل على جهة التوليد كصحته مِنَّا (المغني، ج٩؛ التوليد، ص٩٤، ص٩٨).
٤٤  المغني، ج٩؛ التوليد، ص١٠٢–١٠٥.
٤٥  المغني، ج٩، ص١٠٧–١٠٩.
٤٦  المصدر السابق، ص١٠٩–١١١.
٤٧  المصدر السابق، ص٩٤، ص١١٩، ص١٢٠.
٤٨  هذا هو معنى الحديث المشهور: «من سنَّ سُنةً حسنة فله مثلها، ومن سن سنة سيئة فله مثلها.» مع أن الغرامة والعوض ليست متولدة لأنها نتاج الفعل الشرعي (المحيط، ص٣٩١). وقد فرق أبو الهذيل بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح. وقال: لا يجوز وجود أفعال القلوب من الفاعل مع قدرته عليه ولا مع موته، وأجاز وجود أفعال الجوارح مع الفاعل مِنَّا بعد موته وبعد عدم قدرته إن كان حيًّا لم يمت. وقال إن الميت والعاجز يجوز أن يكونا فاعلَين لأفعال الجوارح بالقدرة التي كانت موجودة قبل الموت والعجز (الملل، ج١، ص٧٧).
٤٩  عند القاضي عبد الجبار يؤدي القول بالطباع دون التوليد إلى إخراج الله من الفعل وعدم استحقاقه النعمة والشكر (المحيط، ص٣٨٦). بإثبات الطباع يستحق الله المدح والذم، ويُضاف إليه القبيح (الشرح، ص٣٨٩). المتولد والمباشر من حيث الأحكام سيان في استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب حتى حصل في كل منهما الشرط (المحيط، ص٣٩٢). المتولد كالمباشر فيه تأثير ومدح وذم وإرادة وطبع واختيار (الشرح، ص٣٨٨). ورود الأمر والنهي والمدح والذم (الأفعال المتولدة) كالأفعال المباشرة، وذلك كحمل الأثقال في الحروب والمعارف والإيلام (المواقف، ص٣١٦-٣١٧).
٥٠  عند أصحاب التولد قد يفعل الإنسان في نفسه شيئًا يتولد منه فعل في غيره، وعند أكثر القدرية قد يفعل الإنسان في غيره أفعالًا تتولد عن أسباب يفعلها في نفسه. وعند ثمامة، المتولدات أفعال لا فاعل لها. وعند بشر وأتباعه: قد يفعل الإنسان الألوان والطعوم والروائح على سبيل التولد، يصح منها فعل الرؤية في العبد وفعل إدراك المسموع في محل السمع. وعند معمر لم يخلق الله شيئًا من الأعراض وأن الأعراض كلها من أفعال الأجسام (الفِرَق، ص٣٣٩). ويعطي ابن حزم تقسيمًا آخر في قوله: تنازع المتكلمون في معنًى عبروا عنه بالتولد وهو أنهم اختلفوا فيمن رمى سهمًا فجرح به إنسانًا أو غيره أو في حرق النار وتبريد الثلج وسائر الآثار الظاهرة في الجمادات. (أ) ما تولد من ذلك عن فعل إنسان أوحى فعل الإنسان والحي. (ب) وما تولد من غير حي فهو إمَّا فعل الله أو فعل الطبيعة. (ج) كل ذلك فعل الله، وهؤلاء مبطلون للحقائق، غائبون عن موجبات العقول (الفصل، ج٥، ص١٣٢-١٣٣). وعند إحدى فرق الروافض الفاعل يحدث الفعل في غيره. وإن ما يتولد عن فعله كالألم المتولد عن الضربة، والصوت المتولد عن اصطكاك الحجرَين، وذهاب السهم المتولد عن الرمية لمن تولد ذلك من فعله (مقالات، ج١، ص٧٣–٨٤).
٥١  قال الجبائي وابنه أبو هاشم إن أفعال القلوب كأفعال الجوارح يصح وجودها بعد فناء القدرة عليها مع وجود العجز عنها. وقد سبقهما أبو الهذيل في إجازة كون الميت والعاجز فاعلَين لأفعال الجوارح. وقاس الجبائي وابنه عليه إجازة كون العاجز فاعلًا لأفعال القلب (الفِرَق، ص٢٢٨-٢٢٩). ويقول ابن الراوندي تشنيعًا على أبي الهذيل وجميع من وافقه من المعتزلة على إثبات التولد إن الموتى يقتلون الأحياء والأصحَّاء الأشداء على الحقيقة دون المجاز، وإن المعدومين يقتلون الموجودين ويخرجون أرواحهم من أجسادهم على التحقيق دون الاتساع والإطلاق! ويرد الخياط: إن الأحياء القادرين على الأفعال يفعلون في حياتهم وصحتهم وسلامتهم وقدرتهم أفعالًا تتولد عنها أفعال بعد موتهم؛ فينسب ما يتولد عن أفعالهم بعد موتهم إليهم؛ إذ كانوا قد سنوه في حياتهم وفعلوا ما أوجبه؛ وذلك كرجل أرسل حجرًا من رأس جبل فهوى إلى الأرض، ثم إن الله أمات المرسل للحجر قبل أن يصل الحجر إلى الأرض. فنقول: إن هويَّ الحجر بعد موت المرسل متولدٌ عن إرساله إياه؛ فهو منسوب إليه دون غيره. وكذلك رجل نزع في قوسه يريد الهدف، فلما خرج السهم عن قوسه أمات الله الرامي؛ فإن ذهاب السهم بعد موت الرامي متولد عن رميته؛ فهو منسوب إليه لا إلى غيره (الانتصار، ص٧٦-٧٧).
٥٢  المغني، ج٩، التوليد، ص٧٢.
٥٣  (المصدر السابق، ص٨٢–٨٥). هل يوصف بالقدرة على ما يكون في الوقت الثالث أو الثاني؟ (أ) يوصف بالقدرة في الثاني دون الثالث. (ب) يوصف بالقدرة في الثاني والثالث إلى ما لا يتناهى (مقالات، ج١، ص٧٩). واختلفت المعتزلة هل يقدر الإنسان على الحركة في الثاني؟ (أ) أبو الهذيل، يقدر في الثاني وسكون على البدل. (ب) يقدر متضادات وسكون على البدل (مقالات، ج١، ص٢٧٩-٢٨٠).
٥٤  ردًّا على سؤال: هل يجوز فناء الاستطاعة في الوقت الثاني؟ هناك عدة إجابات: (أ) أبو الهذيل: يحتاج إلى الاستطاعة قبل الفعل. وقد يوجد العجز في الثاني فيكون الفعل دافعًا بقدرةٍ معدومة. (ب) أكثر المعتزلة: لا يحتاج إلى استطاعة ليفعل بها ما فعل ولكن يحتاج إليها في حال العجز. (ج) جعفر بن حرب، الإسكافي: يستحيل وقوع الفعل المباشر بقوةٍ معدومة، وأجاز وقوع الأفعال المتولدة بقدرةٍ معدومة. (د) البلخي: يجوز وقوع الفعل المباشر بقوةٍ معدومة. (ﻫ) الصالحي: لا يجوز وقوع الفعل بقدرةٍ معدومة (مقالات، ج١، ص٢٧٦-٢٧٧).
٥٥  إذا تقدمت القدرة على المقدور بحالةٍ واحدة فيجوز أن يقع في الحالة الثانية بمجرد مضاد للقدرة ثم يظهر العجز في الحالة الثالثة من وجود القدرة، وهي في الحالة الثانية من وجود العجز. فيجوز وقوع المقدور في الحالة الثانية مع العجز. وكذلك لو مات القادر في الحال الثانية تصور وقوع المقدور مع الموت إذا لم يكون الفعل المقدور مشروطًا بالحياة (الإرشاد، ص٢٢١). واختلفت المعتزلة هل يُقال للإنسان قادر في الأوَّل أن يفعل فيه أو أن يفعل في الثاني؟ على أقوال: (أ) أبو الهذيل: نعم، والفعل الأوَّل واقع في الثاني، والأول يفعل والثاني فعل. (ب) بشر: القدرة مضمر مقدور عليه، كما أن العجز مضمر مع المعجز. (ج) النظام وأكثر المعتزلة: نعم، وقبل الوقت الثاني. (د) النظام: إن عجز في الحال الثانية علمنا أنه لم يكن قادرًا في الحالة الأولى. (ﻫ) أكثرهم: قادر في الثانية حل فيه العجز أو لم يحل. (و) آخرون: إن عجز في الثانية فالفعل واقع مع العجز. (ز) آخرون: إن حلَّت الآفة في الثانية كان الإنسان في الأولى عاجزًا. (ﺣ) عباد: الإنسان قادر أن يفعل في الثاني (مقالات، ج١، ص٢٧٧-٢٧٨).
٥٦  الطريقة التي تعرف بها أن الشيء يولد أن يحصل غيره بحسبه (المحيط، ص٣٨٩). أمَّا التولد فقد يجوز عندهم أن يحدث بقدرةٍ معدومة وأسبابٍ معدومة ويكون الإنسان في حال حدوثه ميتًا أو عاجزًا (مقالات، ج١، ص٢٧٥). ويجوز عند أبي علي وأبي هاشم أن يفعل المباشر إذا كان مما يعلم وجوده مع عدم الحياة وهو ميت بالقدرة المتقدمة. فأمَّا التوليد فيجوز أن يفعل وينكر ذلك منه حالًا بعد حال (المغني، ج٩، التوليد، ص١٤).
٥٧  عند القاضي عبد الجبار: كل ما كان سببه من جهة العبد حتى يحصل فعلٌ آخر عنده وبحسبه واستمرت الحال فيه على طريقةٍ واحدة فهو فعل للعبد، وما ليس هذا حاله فليس بمتولد عنه ولا يُضاف إليه عن طريق الفعلية، ولا يجوز أن يحدث ولا محدث له (المحيط، ص٣٨٠–٣٨٤). وعند معمر: كل ما وجد في حيز الإنسان فهو فعله وما جاوز حيزه فهو فعل ما وجد فيه طباعًا (المغني، ج٩، التوليد، ص١١).
٥٨  يثبت المعتزلة التوليد بالضرورة، ومن رام دفع حجر في جهة اندفع إليها بحسب قصده وإرادته وليس الاندفاع مباشرًا بالاتفاق؛ فهو بواسطة ما مباشرة من الدفع، ويؤيده اختلاف الأفعال باختلاف القدر؛ فالأيِّد يقوى على حمل ما لا يقوى على حمله الضعيف (المواقف، ص٣١٧). وفعل السهم إمَّا أن يكون فعلًا لله أو للسهم أو لا فاعل له أو للرامي، وتبطل الثلاثة الأولى (الانتصار، ص٧٧-٧٨).
٥٩  الإنسان قادر على أن يفعل في الوقت الأوَّل والثاني عند أكثر المعتزلة وعلى رأسهم أبو الهذيل والنظام. وعند أكثر المعتزلة، وأبي الهذيل، وهشام، وعباد بن جعفر، وجعفر بن مبشر، والإسكافي، تبقى الاستطاعة دون ما حاجة إلى قدرةٍ متجددة (مقالات، ج١، ص٢٧٥-٢٧٦).
٦٠  يقول بشر بن المعتمر: القدرة مضمر مقدور عليه. والعجز مضمور معجوز عنه (مقالات، ج١، ص٢٧٧).
٦١  بالنسبة للقدرة، والعجز في الأولى والثانية (مقالات، ج١، ص٢٧٨).
٦٢  اختلفوا في الأفعال المتولدة: هل يجوز أن يتركها الإنسان أم لا؟ (أ) الجبائي، عباد: لا يجوز على الأفعال المتولدة الترك. (ب) يجوز، وأن الإنسان قد يترك الكثير من الأفعال في غيره بتركه لسببه (مقالات، ج٢، ص٦١-٦٢). واختلفوا: هل يقدر الإنسان في الوقت الأوَّل أن يفعل في الثاني أشياءَ متضادةً أو شيئَين؟ (أ) يقدر أن يفعل في الثاني أشياءَ متضادةً على البدل. (ب) قادر في الوقت الثاني على البدل (مقالات، ج١، ص٢٧٩).
٦٣  واختلفوا: (أ) الإنسان قادر على أن يفعل في الثاني ولا يوصف بها في الثالث. (ب) قادر على الفعل في الثاني والثالث إلى ما نهاية. (ج) قادر عليه في الثالث بعد الثاني، ثم الرابع بعد الثالث (مقالات، ج١، ص٢٧٩).
٦٤  عند أبي الهذيل، الإنسان قادر على حركة في الثاني وسكون على البدل، ويقدر على حركات في الثاني متضادات وسكون على البدل (مقالات، ج١، ص٢٧٩-٢٨٠؛ المغني، ج٩. التوليد، ص١٤). اختلفوا في توليد الحركة للسكون والطاعة للمعصية. أقره البغداديون ونفاه بشر. أمَّا الجبائي فقال إنه لا يجوز أن يولد السكون شيئًا، في حين أن الحركة قد تولد حركة (مقالات، ج٢، ص٨٨).
٦٥  الأفعال المبتدئة مثل الإرادة والكراهة والظن والفكر (المحيط، ص٣٨٩). شبهة الحكم بالجزء على الكل (المغني، ج٩، التوليد، ص٧٩-٨٠).
٦٦  المتولد قسمان: إمَّا أن يكون محل السبب والمسبب واحدًا أو يتغاير محلاهما. فإن كانا متغايرين نحو الألم والوها فلا شبهة في أنه لا يصح أن يثبتاه لأن المبتدأ يجب أن يكون في محل القدرة. أمَّا إذا حل المتولد في محل السبب فإمَّا أن يحصل في محلٍّ واحد ومحل القدرة كالألم الذي يتولد عن الوها أو العلم المتولد عن النظر فهي تحل في محل القدرة (المغني، ج٩، التوليد، ص١١٣). العلم المتولد عن النظر الصحيح نفعله ابتداءً ولكن ماذا عن جهة النظر؟ (المصدر السابق، ص١١٦، ص١٢٥). الإرادة لا تقع إلا مبتدئة (المصدر السابق، ص١٣١-١٣٢، ص١٣٩، ص١٦١). العلم النظري يتولد من النظر ابتداءً ولا يتولد من تذكر النظر (المواقف، ص٣١٧-٣١٨).
٦٧  عند الجاحظ وثمامة: لا فعل للعبد إلا ما يحل في قلبه من الإرادة، وربما أضيف الفكر. أمَّا ما يوجد في الجوارح والأبعاض والأطراف فليس بفعل عند ثمامة ما عدا الإرادة حدثًا لا محدث له. وعند الجاحظ ما عدا الإرادة يقع طباعًا، وأنه لا يقع باختياره إلا الإرادة (المحيط، ص٣٨٠). وعند الجاحظ المتولدات مثل أفعال الجوارح والمعرفة بالطبع، ولم يجعل الواقع عند الاختيار سوى الإرادة دون الحركات أو ما شاكلها (الشرح، ص٣٨٧). لما كانت الأفعال إمَّا للقلوب أو للجوارح، فالمولد إمَّا أفعال قلوب أو جوارح. أفعال القلوب المسببة هو العلم. المسببات فيه ما يتولد عن السبب في الثاني وفيه ما يتولد في الحال. والذي يتولد في الثاني ليس إلا النظر والاعتماد، وما يتولد عن الكون فإنه يجاور ولا يتراخى (المحيط، ص٣٨٩). من الأفعال ما لا يصح أن نفعله إلا لسبب مثل الصوت والألم والتأليف، ومنها ما نفعله ابتداءً مثل الاعتماد والكون والعلم مرة مبتدأ ومرة متولدًا، ومنها ما نفعله مبتدأً دون سبب مثل الإرادة والكراهة والظن والنظر والعلم والاعتقاد (المحيط، ص٣٩١-٣٩٢). لا فعل للعبد إلا الفكر وما بعده من الإرادة والمراد فليس بفعله له تحدث بالطبع. ومنهم من قال إن غير الإرادة قد يفعله الإنسان اختيارًا (المغني، ج٩، التوليد، ص١١). في أن القادر مِنَّا يقدر على المراد من أفعال الجوارح والقلوب كما يقدر على الإرادة والفكر (المصدر السابق، ص٢٥).
٦٨  عند أبي علي وأبي هاشم أفعال الجوارح (حركات، اعتمادات، تأليف، آلام، أصوات) وأفعال القلوب (فكر، إرادة، اعتقاد، وأضدادها) ابتداءً بالقدرة في محلها … وما لا سبب له إمَّا يفعله مباشرًا ومتولدًا (الأكوان، الاعتماد) أو متولدًا (أصوات، آلام) (المصدر السابق، ص١–١٤). العلم النظري يتولد من النظر ابتداءً، الآلام تتولد من الوها دون الاعتماد والتأليف (المصدر السابق، ص١٦٠). واختلفوا في الأفعال كلها سوى الإرادات: هل يجوز أن تقع متولدة بعد الإجماع على أن الإرادات لا تقع متولدة؟ (أ) يجوز أن تكون كلها متولدة. (ب) المتولد منها ما حل في الفاعل وما حل فعل في نفسه فليس بمتولد. (ج) المتولد ما جاز أن يقع على طريق السهو والخطأ وما سوى ذلك فليس بمتولد. (د) قد تحدث في الإنسان أفعال غير الإرادة متولدة وأفعال غير متولدة (مقالات، ج٢، ص٨٩). واختلف مثبتو التولد هل يجوز أن يفعل الإنسان في غيره علمًا؟ فعند أبي الهذيل والجبائي لا يجوز، ولا يجوز أن يفعل في نفسه إدراكًا ولا في غيره إدراكًا، وعند غيرهم يجوز (مقالات، ج٢، ص٨٥-٨٦).
٦٩  عند ثمامة والجاحظ يفعل الإنسان الإرادة فقط. وعند الجاحظ ما سوى الإرادة يقع من الإنسان بطبعه وأنه ليس باختيار له. وعند ثمامة فيما عدا الإرادة لا فاعل له، فعل الله بمعنى أنه طبع الجسم طباعًا أو فعل للجسم طباعًا (المغني، ج٩؛ التوليد، ص١١).
٧٠  ورد في كلام الجاحظ في المعرفة أن الإرادة نفسها قد تقع طبعًا مرة واختيارًا مرة وكذا القول في النظر عند تقابل الدواعي (المصدر السابق، ص١١). المتولدات التي هي حركات تقع بحسب القدرة (المصدر السابق، ص٤٠).
٧١  اختلفت المعتزلة: هل المقتول ميت أم لا؟ (أ) كل مقتول ميت لأن كل نفس ذائقة الموت. (ب) المقتول ليس بميت (مقالات، ج٢، ص٨٤). كما اختلفوا في القتل أين ينحل، في القاتل أم في المقتول؟ (مقالات، ج٢، ص٤–٨، انظر «خامسًا: أفعال الوعي الفردي والاجتماعي، الآجال»).
٧٢  عند أبي الهذيل كل ما تولد من فعله مما تُعلم كيفيته فهو فعله كالألم الحادث عن الضرب وذهاب الحجر عند دفعه. قد يفعل في نفسه وفي غيره بسبب يحدثه في نفسه. أمَّا اللذة والألوان والطعوم والأراييح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والجبن والشجاعة والشبع والإدراك والعلم الحادث في غيره عند فعله فمن الله. وذلك لا يتولد عن فعله (على عكس بشر)، ولا يعلم كيفيته، يفعل الإنسان في غيره الأفعال بالأسباب التي يحدثها في نفسه (مقالات، ج٢، ص٨٠). وهناك فرق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح، فلا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة والاستطاعة معها في حال الفعل. وجوَّز ذلك في أفعال الجوارح وقال بتقدمها بها. ما تولد من فعل العبد من فعل غير اللون والطعم والرائحة وكل ما يعرف كيفيته، أمَّا الإدراك والعلم الحالَّين في غيره عند استماعه وتعليمه فمن الله (الملل، ج١، ص٧٧؛ مقالات، ج٢، ص٨٨).
٧٣  عند الجاحظ والنظام: الفاعل المخلوق إنما يحدث بالإرادة وما سواها من الحوادث فعل الإله. وعند القدرية المتولدات وسائر أكساب العباد ليست مخلوقة لله (الأصول، ص٨٤). واختلفوا في الشيء المتحرك إذا حركه اثنان: (أ) من نفى التولد قال بحركةٍ واحدة، فالله فاعل. إلا معمَّرًا فإن الشيء المتحرك يفعله في نفسه. (ب) من أثبت التولد البعض قال بحركة فعلها اثنان فهو حركةٌ واحدة لفاعلَين غيريَّين، والبعض قال بحركتَين فعلين للمحركَين للشيء المحرك (مقالات، ج٢، ص٨٥).
٧٤  عند أبي الهذيل (رواية ابن الراوندي) الإنسان يقدر على فعل الألوان والطعوم والأراييح والحر والبرد واليبس والبله واللين والخشونة وجميع هيئات الأجسام (الانتصار، ص٦٣). وعند البغداديين كل ما يحدث من فعل من جهتنا هو من فعلنا حتى اللون والطعم والإدراك والعلم (المحيط، ص٣٨٠). أفعال الجوارح المتولدة خمسة: الآلام والتأليف والأصوات والألوان والاعتماد (المحيط، ص٣٨٩). عند بشر وجعفر اللون والطعم والرائحة ما يفعله الإنسان على سبيل التولد. وقالا أيضًا في الإدراك إنه يتولد من فعل العبد (التوليد، ص١٢).
٧٥  الأصوات والآلات الحاصلة بفعل الآدميين لا تحصل إلا بالتوليد. وزاد أبو هاشم التأليفات ومنعه أبو علي في التأليف القائم بجسمين هما أو أحدهما محل القدرة كما ضم أصبعه إلى أصبعه أو إلى جسمٍ آخر بخلاف التأليف القائم بمحلَّين غير محل القدرة (المواقف، ص٣١٨). ولا يختلفان (أبو علي وأبو هاشم) في أن كل ما نفعله نحن في غير محل القدرة لا يكون إلا متولدًا إلا في التأليف الذي يختص بخصوص المحلين … والسبب المولد للفعل في غير محله أو في محله في غير محاذاته ليس إلا الاعتماد (المغني، ج٩، التوليد، ص١٤). الأصوات والآلام الحاصلة بفعل الآدميين لا تحصل إلا بالتوليد، وزاد أبو هاشم التأليفات، واختلفوا في الطعوم والألوان التي تحصل بالضرب، واختلفوا في الألم الحاصل من الاعتماد على الغير بضرب أو قطع. هل يمكن إحداث الألم بلا وهي؟ (المواقف، ص٣١٨-٣١٩).
٧٦  اختلفت المعتزلة في الموت المتولد من الجرح، والنافي له مراغم لأصله والمثبت له مراغم للإجماع، والكتاب (المواقف، ص٣١٨؛ المغني، ج٩، التوليد، ص١٢٤، ص١٢٧–١٣٠). الاعتماد يولد السكون وهو على وجهَين في محله والثاني يصادفه من الأجسام ويماسه (المصدر السابق، ص١٤٢، ص١٦٥).
٧٧  والمعتزلة لما أسندوا بعض الأفعال إلى غير الله قالوا: إن كان الفعل صادرًا عن الفاعل لا بتوسط فعلٍ آخرَ فهو بطريق المباشرة وإلا فبطريق التوليد. ومعناه أن يوجب الفعل لفاعله فعلًا آخر كحركة اليد توجه حركة المفتاح. فالألم المتولد من الضرب، والانكسار من الكسر، وليسا مخلوقَين لله (شرح التفتازاني، ص١٠٨). عند ثمامة الأفعال المتولدة لا فاعل لها (الفِرَق، ص٣٣١-٣٣٢، ص٣٣٩). أكثر ما في العالم من الحركات وغيرها متولدات يتولد بعضها من بعض بالضرورة، فإن حركة اليد مثلًا بالضرورة تولد حركة الخاتم، وحركة اليد في الماء تولد حركة الماء وهو مشاهد. والعقل أيضًا يدل عليه؛ إذ لو كانت حركة الماء والخاتم بخلق الله لجاز أن يخلق بحركة اليد دون الخاتم وحركة اليد دون الماء وكذا في المتولدات مع انشعابها (الاقتصاد، ص٥١–٥٣).
٧٨  ما يدل على أن ما نفعله من الاعتماد في محل القدرة يولد الفعل في غيره أن الواحد مِنَّا إذا ماس الشيء بيده أو ماسه واعتمد عليه حصلت فيه الحركات. ومتى لم تحصل المماسة لم تحصل الحركات (المغني، ج٩، التوليد، ص٦٠). ما يتولد من الكون من التأليف والألم فالشرط في وجود التأليف أن يكون المحلان متجاورَين (المصدر السابق، ص٤٤؛ المحيط، ص٣٩٣).
٧٩  عند الجبائي لا يولد الاعتماد شيئًا وإنما المولد الحركة والنظر والمجاورة. النظر يولد العلم، والمجاورة تولد التأليف، والحركة تولد الحركة (الشامل، ص٥٠٣–٥٠٦). وعند أبي هاشم الحركة والسكون لا يتولدان إلا من اعتمادات. وعند أبي إسحاق بن عياش من معتزلة البصرة الاعتماد يولد الحركة والسكون، والحركة تولد الحركة (الشامل، ص٥٠٦). ويُلاحَظ اضطراب الجبائي وابنه في أحكام التأليف إجابة على سؤال: هل يتصور وقوع التأليف مباشرًا بالقدرة أم لا يقع إلا متولدًا؟ فعند الجبائي يجوز مباشرةً بالقدرة ويجوز متولدًا في حين أنه عند أبي هاشم لا يقع إلا متولدًا لأن المباشر لا يولد، ولا تأليف دون مجاورة (الشامل، ص٤٧٣). وقد ألزموه بثلاثة أقساط بعد أن قال بقسطين فيما هو متولد عنه قسط لأنه لم يفعله، وقسط لأنه لم يفعل سببه (الفِرَق، ص١٨٧-١٨٨؛ مقالات، ج٢، ص٨٦).
٨٠  اختلفوا: منهم من قال إنه يتولد عن اعتماد الجفن وحركته ومنهم من قال يقع عند الفتح والإرادة، ومنهم من قال عند فتح الجفن ومقابلة الشبح لبصره فيقع العلم، وقد كان العلم من قبل مستورًا في القلب (المغني، ج٩، التوليد، ص٢٢، ص٤٣–٦٠).
٨١  الزائد على مقدار ما يولد أثره هو من فعل العادة (المصدر السابق، ص٢٢، ص٥٣).
٨٢  المصدر السابق، ص٨٧–٨٩، ص٩٣.
٨٣  عند ثمامة فعل الله يعني أنه طبع الجسم طبعًا يقع فيه ذلك، وعند معمر سائر ما يفعله الله فعل الجسم بطبعه، وعند النظام كل ما جاوز حيز الإنسان فهو فعل الله بإيجاب الخلقة بمعنى أنه طبع الحجر طبعًا وخلقه خلقًا إذا دفعته ذهب. ويقول في الإدراكات خاصةً أن الله يفعلها بإيجاب خلقه وبحواس. ويقول أبو الهذيل في الإدراك إنه فعل لله على جهة الاختراع. ويقول أبو هاشم إنه تعالى يفعل على جهة التوليد لسبب كالواحد مِنَّا وإن كان يحيل كونه محتاجًا إلى السبب كحاجتنا إليه. وكان جزار يقول (رواية برغوت) كل ما وقع بالتوليد فإنه يكون بالسبب الموجب له وبالطبيعة جميعًا كذهاب الحجر الذي للرفعة وللطبيعة الجر (المغني، ج٩، التوليد، ص١١–١٣). وعند النظام لا فعل للإنسان إلا الحركة، وأنه لا يفعل الحركة إلا من نفسه وأن الصيام والصلاة والإرادات والكراهات والعلم والجهل والصوت والكذب وكلام الإنسان وسكوته وسائر أفعاله حركات وكذلك سكون الإنسان في المكان إنما معناه أنه كائن في وقتين أي تحرك في وقتين، وأن الألوان والطعوم والأراييح والحرارات والبرودات والأصوات والآلام أجسامٌ لطيفة ولا يجوز أن يفعل الإنسان الأجسام، واللذة أيضًا ليست من فعل الإنسان. إن ما حدث في غير حيزه، فهو فعل الله بإيجاب خلقه للشيء، وكذلك الإدراك أي إن الله طبع الأشياء طبعًا. الله خلق الأجسام ضربةً واحدة وإن الجسم في كل وقت يخلق. الإنسان هو الروح يفعل في نفسه، يفعل في ظرفه وهيكله (مقالات، ج٢، ص٨٠-٨١). وقد كفر الجبائي النظام في قوله إن المتولدات من أفعال الله بإيجاب الخلقة (الفِرَق، ص١٣٢). حكى الكعبي عن قول أن كل ما جاوز محل القدرة من الفعل فهو من فعل الله بإيجاب الخلقة (الملل، ج١، ص٨٣).
٨٤  المغني، ج٩، التوليد، ص٣٧.
٨٥  المصدر السابق، ص١٢.
٨٦  دواعي القادر تؤثر فيما يقع في جوارحه بالطبع (المصدر السابق، ص٢٩). إنما الفعل يقع بالطبع إذا غلبت الدواعي (المصدر السابق، ص٣٢). عند قوة الدواعي يفعل الفعل بالطبع وعند تساويها بالقدرة (المصدر السابق، ص٣٥). وقد عرف الجاحظ بذلك (المصدر السابق، ص٣٤-٣٥).
٨٧  فيجب القضاء بأن هذه الأفعال حادثة من الإنسان دون القديم، أو أنه لا يصح أن تكون واقعة بالطبع (المصدر السابق، ص١٧–٢٣).
٨٨  عند حفص: الفرد كل ما تولد عن فعله كالألم الحادث من الضربة وإصابة الحجر الحادث من الدفعة فعل الله والإنسان (مقالات، ج٢، ص٢١٣). وعند بشر ما كان من الألوان يقع بسبب من قبل الإنسان فهو فعله، وما لا يقع بسبب من قبله فذلك لله ليس له فعل منه (الانتصار، ص٢١٣). وعند بشر: ما كان من الألوان يقع بسبب من قبل الإنسان فهو فعله. وما لا يقع بسبب قبله فذلك لله ليس له فعل منه (الانتصار، ص٦٣)، وعند ضرار وحفص الفرد ما تولد من فعلهم لم يمكنهم الامتناع عنه متى أرادوا فهو فعلهم، وما سوى ذلك مما لا يقدرون على الامتناع عنه متى أرادوا ليس بفعلهم ولا وجب لسبب وهو فعلهم. وكان ضرار يقول إن الإنسان يفعل في غير حيزه وإن ما تولد عن فعل من حركته أو سكون كسب له خلق لله (مقالات، ج٢، ص٨٣؛ الفِرَق، ص٢٢٤).
٨٩  عند النظام كل ما جاوز حيز الإنسان فهو من خلق الله بإيجاب الخلقة أي طبع الأجسام (المحيط، ص٣٨٠). ويقول: المتولدات من أفعال الله بإيجاب الخلقة (الأصول، ص١٣٩). وعند معمر المتولدات أجمع وكذلك جميع الأعراض فعل الأجسام الموات بطباعها، ولا فعل لله إلا نفس المحل ولا للعبد عند سوى الإرادة (المحيط، ص٣٨٠). وعنده الأعراض كلها من أفعال الأجسام إمَّا بالاختيار وإمَّا بالطباع، وأن الله ما خلق كونًا ولا طعمًا ولا رائحةً ولا سكونًا ولا حياةً ولا موتًا ولا قدرةً ولا عجزًا ولا علمًا ولا صحةً ولا سقمًا ولا سمعًا ولا بصرًا ولا شيئًا من الأعراض (الأصول، ص١٣٥). وعند معمر والنظام: الله أوجد محال الحركات ثم هي توجبه بطبعها، وأخرجوا المتولدات من أن تكون فعلًا للعبد وأثبتوها لله بإيجاب الخلقة أو من فعل نفس المحل (الشرح، ص٣٨٧). وعند الجاحظ: تقع المتولدات من العبد طباعًا. أفعال الجوارح والمعارف إذا دعا الداعي إلى فعل وأراد ذلك الفعل وقع طباعًا. وليس هناك اختيار إلا الإرادة دون ما عداها (المحيط، ص٣٨٥-٣٨٦). وعند ثمامة: الأفعال المتولدة لا فاعل لها (الأصول، ص١٣٨). وعند بشر بن المعتمر: الألوان والطعوم والروائح والسمع منها ما هو فعل لله، ومنها ما هو فعل للعبد، ومنها ما هو اجتماع العباد (الأصول، ص١٣٥). وقد أجاز بشر بن المعتمر أن يكون السمع والرؤية وسائر الإدراكات وفنون الألوان والطعوم والروائح متولدة من فعل الإنسان. وأجاز مِنَّا فعل الألوان والطعوم والروائح والإدراكات على سبيل التولد (الأصول، ص١٣٨-١٣٩). وعند الجاحظ، ما بعد الإرادة فهو للإنسان بطبعه وليس باختيار له وليس يقع منه فعل باختيار سوى الإرادة (مقالات، ج٢، ص٨٣).
٩٠  عند القاضي عبد الجبار يؤدي القول بالطباع دون التوليد إلى إخراج الله من الفعل وعدم استحقاقه النعمة والشكر (المحيط، ص٣٨٦). بإثبات الطباع يستحق الله المدح والذم ويُضاف إليها القبح (الشرح، ص٣٨٨-٣٨٩؛ المحيط، ص٣٩٢).
٩١  عند القاضي عبد الجبار الطبائع لا تعقل وتؤدي إلى الدهرية (المحيط، ص٣٨٧). الطباع مما لا يعقل، وقد تؤدي إلى نفي الصانع (الشرح، ص٣٨٩). يؤدي القول بالطباع إلى إثبات أن الحوادث لا محدث لها في جميع الحوادث المبتدئات والمتولدات (الشرح، ص٣٨٩). وعند أبي علي وأبي هاشم أن القول بالطبع لا يعقل وهو باطل ولا يقع الفعل إلا من قادر وقدرة السبب عندهما هي قدرة المسبب (المغني، ج٩، التوليد، ص١٤، ص٢٥-٢٦).
٩٢  يقول القاضي عبد الجبار: الطبع إمَّا قديم أو حادث لا يكون قديمًا، ولو كان محدثًا لاحتاج إلى طبع (المحيط، ص٣٨٨؛ الانتصار، ص٧٧-٧٨).
٩٣  وكيف نثبت النبوات بطبع المحل؟ (الشرح، ص٣٨٩). وألزمهم على قولهم بالطبع ألا تصحَّ معرفة النبوات لأن أكثر معجزاتهم هي أعراض حالة في الأجسام. وعندهم أن المحل هو الفاعل لها. ولم يثبت أنه لا يفعل إلا الحسن فكيف يمكن أن يوثق بالنبوات؟ (المغني، ج٩، التوليد، ص٢٣).
٩٤  يتضح ذلك من أقوال أصحاب الطبائع أو الطبائعيين مثل ثمامة وبشر ومعمر والمردار والنجار وبرغوت، بالإضافة إلى أقوال الجاحظ والنظام السابقة. فعند ثمامة لا فاعل للإنسان إلا إرادة وأن ما سواها يُضاف إلى الإنسان على المجاز (مقالات، ج٢، ص٨٣). الأفعال المتولدة لا فاعل لها، وهي مقالة تجرُّ إلى إنكار صانع العالم لأنه لو صح وجود فعل بلا فاعل لصح وجود كل فعل بلا فاعل ولم يكن حينئذٍ في الأفعال دلالة على فاعلها ولا كان في حدوث العالم دلالة على صانعه، كما لو أجاز إنسان وجود كتابة لا عن كاتب ووجود مبنيٍّ أو منسوخ لا من بانٍ أو ناسخ (الفِرَق، ص١٧٣). الأفعال متولدة لا فاعل لها إذ لم يمكنه إضافتها إلى فاعل أسبابها حتى يلزم أن يضيف القول حيث مثل ما إذا فعل السبب ومات ووجد المتولد بعده ولم يمكنه إضافتها إلى الله لأنه يؤدي إلى فعل القبيح وذلك محال. فتخير وقال المتولد لا فاعل لها. المعرفة متولدة من النظر وهو فعل لا فاعل له كسائر المتولدات (الملل، ج١، ص١٠٦). الفعل يصح من غير الفاعل (اعتقادات، ص٤٢).
٩٥  وعند بشر بن المعتمر رئيس معتزلة بغداد: ما تولد من فعلنا حادث من الأسباب الواقعة مِنَّا (الطعوم، الروائح، الحركات، السكنات، إدراك جميع الحوادث)، الإنسان يفعل في غيره بسبب يحدثه في نفسه ويفعل في نفسه أفعالًا متولدة وغير متولدة (مقالات، ج٢، ص٧٩). أفرط في القول في التولد حتى قال إن الإنسان يفعل الألوان والطعوم والروائح والرؤية والسمع وسائر الإدراكات على سبيل التولد إذا فعل أسبابها وكذلك القول في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وقد كفَّره الأشاعرة وسائر المعتزلة في قوله إن الإنسان قد يخترع الألوان والطعوم والروائح والإدراكات (الفِرَق، ص١٥٧). أخذ هذا من الطبيعيين الذين لا يفرقون بين التولد والمباشر بالقدرة ولا يثبتون القدرة على منهاج المتكلمين وقوة الفعل وقوة الانفعال غير القدرة (الملل، ج١، ص٤٢، ص٩٦).
٩٦  عند معمر: الإنسان لا يفعل في نفسه حركةً ولا سكونًا وأنه يفعل في نفسه الإرادة والعلم والكراهة والنظر والتمثيل وأنه لا يفعل في غيره شيئًا وأنه جزء لا يتجزأ ومعنى لا ينقسم وأنه في هذا البدن على الندَّين لا على المماسة والحلول. المتولد وما يحل في الأجسام من حركة وسكون ولون وطعم ورائحة وطراوة ورطوبة ويبوسة، فهو فعل للجسم الذي حل فيه بطبعه، وأن الموات يفعل الأعراض التي حلت فيه بطبعه وأن الحياة فعل الحي وكذلك القدرة فعل القادر وكذلك الموت فعل الميت. الله لا يفعل عرضًا ولا يوصف بالقدرة على عرض ولا على حياة ولا على حدث ولا على سمع ولا على بصر، وأن السمع فعل السميع، والبصر فعل البصير، والإدراك فعل المدرك، والحس فعل الحساس، والقرآن فعل الشيء الذي سمعه منه إن كان ملكًا أو شجرةً أو حجرًا، وأنه لا كلام لله في الحقيقة. يفعل الله التلوين والإحياء والإماتة ليس أعراضًا لأن الله إذا لون الجسم فإنه إمَّا أن يتلون أم لا. فإن تلون فاللون بطبعه، وبالتالي فهو فعله. ولا يجوز أن يطبعه تبعًا لغيره كما لا يجوز أن يكون كسب الشيء خلقًا لغيره وإن لم يكن طبع الجسم متلونًا جاز أن يلونه الباري فلا يتلون (مقالات، ج٢، ص٨١-٨٢). حكى عنه الكعبي أن الإرادة من الله للشيء غير الله وغير خلقه للشيء وغير الأمر والإخبار والحكم، فأشار إلى أمرٍ مجهول لا يعرف. وقال: ليس للإنسان فعل سوى الإرادة مباشرةً كانت أو توليدًا، أفعاله التكليفية من القيام والقعود والحركة والسكون في الخير والشر كلها مستندة إلى إرادته لا عن طريق المباشرة ولا على التوليد (الملل، ج١، ص١٠٠-١٠١).
٩٧  أمَّا المردار فقد أجاز وقوع فعلٍ واحد من فاعلين مخلوقين على سبيل التولد مع إنكاره على أهل السنة ما أجازوه من وقوع فعل من فاعلين أحدهما خلق والآخر مكتسب. كفر بشر لقوله بتوليد الألوان والطعوم والإدراكات. وكفر النظام لقوله بالمتولدات من فعل الله لأنه يشابهه قول النصارى إن المسيح ابن الله عن فعل الله (الفِرَق، ص١٦٦؛ الملل، ج١، ص١٠٤).
٩٨  وقد مال برغوت إلى قول أستاذه وقال إن الأشياء المتولدة فعل الله بإيجاب الطبع. فالله طبع الحجر طبعًا والحيوان طبعًا (مقالات، ج١، ص٣١٦؛ الفِرَق، ص٢٠٩). ويرى الحسين بن محمد النجار أن الإنسان لا يفعل في غيره، ولا يفعل إلا في نفسه مثل الحركات والسكون والإدراكات والطعوم والكفر والإيمان وأن الإنسان لا يفعل ألمًا ولا إدراكًا ولا رؤية ولا يفعل شيئًا عن طريق التولد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤