خامسًا: أفعال الوعي الفردي والاجتماعي

أفعال الوعي الفردي والاجتماعي هي أفعال الشعور في ذاته وفي الآخر، في الفرد والمجتمع؛ فهي متجهة هذه المرة ليس إلى الطبيعة وعالم الأشياء، بل إلى المجتمع وعالَم الآخرين، فالتوليد هو استمرار لأفعال الشعور ليس فقط في الطبيعة من خلال حركة الأجسام في الأكوان والاعتماد والتأليف والمماسة والمجاورة، بل أيضًا من خلال أفعال الآخرين في المجتمع، وقد كان يبرز سؤال باستمرار: لماذا يوجد توليد الطبيعة ولا يوجد توليد في المجتمع والتاريخ؟ وقد سُمِّيَت أفعال الوعي وليس أفعال الشعور؛ لأن الأفعال هنا ليست مجرد موضوع لإثبات الحرية، بل لأنها تكشف عن الحرية القائمة على الوعي، سواء في أفعال الشعور الفردية أو في أفعال الشعور الاجتماعية، فالشعور هنا هو الوعي الفردي والوعي الاجتماعي.

والعجيب أن أفعال الوعي هذه عند القدماء ليست مهمةً ولا تدخل في صلب موضوع خلق الأفعال، وكلما كان الأمر مهمًّا تعمُّ به البلوى وتتوقَّف عليه مصالح الناس أبعده القدماء مثل هذه الأفعال ومثل موضوع الإمامة. فهي مجرد أمور «صرح بها القرآن وانعقد عليها الإجماع».١ وهي مجرد أمور تخرج عن حيز المختصرات إلى المطولات، وهي أمور لفظية خالصة تخرج عن العقائد والشرع ولا تحتاج إلا إلى تفسير لغوي، وهي أمور لا داعي لأن تخطر بالبال، وإن خطرت بالبال فلا معصية في عدم معرفتها وعدم العلم بأحكامها؛ لأن البحث فيها يتطلَّب معرفة حقائق الأمور، وهو أمر غير لائق بالعقائد التي يُراد منها مجرد تهذيب الاعتقاد! هي أمور غير مهمة في الدين؛ إذ يكفي إبعاد الشك عن النفس في الذات والصفات والأفعال، أي في التوحيد. أمَّا ما يتعلق بحياة الناس، ومصالح الأفراد والجماعات، فلا يجوز الخوض فيها؛ لأنها مضيعة للوقت وانشغال بما لا يهم، فلا فرق في ذلك بين أفعال الوعي الفردي والاجتماعي حتى يحتكرها السلطان ويقررها وَفْق هواه.٢ وهي أمور تدفع إلى الغلو أو التقصير وتبعد عن التوسط والاعتدال.٣ صحيح أنها مسائل يصعب إصدار الأحكام عليها أو التعرُّف إليها؛ نظرًا لأننا لم نشق قلوب الناس، ومع ذلك فإنه يمكن معرفة أوضاعها الاجتماعية وأبنيتها النفسية. فهي أمورٌ عقلية مثل القدرة والاستطاعة والفعل، كما أنها مسائل نفسية واجتماعية تكشف عن أوضاع سياسية يريد السلطان السكوت عنها، ويتبعه عالم الكلام بإبعادها عن حريات الناس وتهميشها في العقائد حتى يتم إحكام مؤامرة الصمت عمليًّا ونظريًّا، سياسيًّا ودينيًّا.

وتنقسم هذه الأفعال إلى قسمين، أفعال الوعي الفردي وأفعال الوعي الاجتماعي؛ الأولى مثل النصر والسداد، والتوفيق والخِذْلان، الشرح والطبع، الفتح والختم، الهداية والضلال، النعمة والفضل والإحسان، العصمة، القوة والعون، الحول والتيسير … إلخ، والثانية مثل: الأجل والرزق والسعر مفردًا، أو الآجال والأرزاق والأسعار جمعًا. ويُلاحَظ أن أفعال الشعور الفردي أكثر من أفعال الشعور الاجتماعي. الأولى متعدِّدة تقرب من الثمانية عشر فعلًا، والثانية محصورة في ثلاث. الأولى باستمرارٍ أفعال في صيغة المفرد، في حين أن الثانية تكون أفعالًا في صيغة الجمع؛ مما يدلُّ على الطابع الفردي للأولى والاجتماعي للثانية، ولكن أهم ما يفرق الفعلين هو أن الأفعال الفردية مزدوجة الطابع في معظمها، في حين أن الأفعال الاجتماعية ليست كذلك.

(١) أفعال الوعي الفردي

تنتظم أفعالُ الوعي الفردي في مجموعاتٍ ثنائية مزدوجة إيجابًا وسلبًا، وكأننا أمام فعلين متضادين أشبه بأحوال الصوفية، وذلك مثل: التوفيق والخِذْلان، الشرح والطبع، الفتح والختم، الهداية والضلال. وقد تختلف أطراف الأفعال المتضادة؛ فقد يكون النصر بدلًا من التوفيق في مقابل الخِذْلان، وقد تكون الأفعال المزدوجة متماثلة متشابهة وليست متعارضة متضادة، إمَّا إيجابًا مثل التوفيق والسداد، العون والتيسير، أو سلبًا مثل الطبع والختم، وقد يقع التجانس في أفعال ثلاثية وليست ثنائية، وغالبًا ما تكون إيجابًا لا سلبًا مثل النعمة والفضل والإحسان، وقد تكون رباعيةً وغالبًا ما تكون أيضًا إيجابًا لا سلبًا مثل القوة والعون والحول والتيسير، وقد يكون فعلًا واحدًا بمفردِه وغالبًا ما يكون إيجابًا مثل العصمة، فالأفعال في معظمها يغلب عليها الإيجاب (أربعة عشر فعلًا هي: النصر، السداد، التوفيق، الشرح، الفتح، الهداية، النعمة، الفضل، الإحسان، العصمة، القوة، العون، الحَوْل، التيسير) أكثر من السلب (أربعة أفعال وهي: الخِذْلان، الطبع، الختم، الضلال) مما يدل على أن الوعي الفردي أكثر إيجابية وتفاؤلًا وقدرةً على الخلق والإبداع والنجاح منه على السلبية والتشاؤم والاستسلام والرضوخ والفشل.

ويصعب تحديد المعاني الدقيقة لكل الألفاظ المتجانسة إيجابًا مثل: الهداية والعون والتيسير والتوفيق، أو لكل الألفاظ المتجانسة سلبًا مثل: الخِذْلان والضلال والطبع والختم. إنما المقصود منها شيء واحد وهو: هل يتمُّ الوعي الفردي من داخله بفعل إرادته الحرة، أم من خارجه بفعل إرادة خارجية؟ وقد تكون الألفاظ أقرب إلى الترادف وإلى التمرينات العقلية للإجابة على هذا السؤال المبدئي. فالإجابة بعدم قدرة الوعي من داخله على الأفعال تفرز تراث السلطة التي تتمثل الإرادة الخارجية مشخصة في الله أوَّلًا ثم في السلطان ثانيًا، والإجابة بقدرة الوعي من داخله على أفعاله تُفرز تراث المعارضة التي تتمثل في جموع المحكومين وعامة الرعية؛ لذلك قد يذكر منها البعض دون البعض، وقد يتم التركيز على البعض دون البعض. يذكر التوفيق والخِذْلان والهداية والضلال والعون والتيسير والعصمة والطبع والختم، ولا يكاد يذكر الشرح والفتح والنعمة والفضل والإحسان والقوة والحول، ولكن يمكن فهمها قياسًا، كما يمكن إضافة غيرها قياسًا.

وقد ظهر بعض هذه الأفعال مثل الإيمان والكفر في أفعال الشعور الداخلية، كما ظهر موضوع التوفيق والخِذْلان والإشقاء والإسعاد كعقائد فرعية من العقيدة الأم، عقيدة القضاء والقدر. وقد يدخل البعض منها في موضوع الحسن والقبح، أي في الشق الثاني من العدل وبوجه خاص في موضوع اللطف أو الصلاح، ومع ذلك فمكانه الطبيعي هو آخر باب خلق الأفعال وبداية الحسن والقبح؛ وبالتالي يكون هو الانتقال الطبيعي من شق العدل الأوَّل خلق الأفعال، إلى شقه الثاني الحسن والقبح.

(١-١) التوفيق والسداد

وتتصارع كل أفعال الوعي الفردي ابتداءً من التوفيق والسداد مع إرادتين، إرادة الله وإرادة الإنسان، هل التوفيق والسداد فعلان لله أم فعلان للإنسان؟ وكيف تكون أفعال الوعي الفردي لغير الإنسان وهي مرتبطة بالتمييز والعقل، وهما أخص خصائص الإنسان؟ إن التردُّد بين نسبة أفعال الوعي الفردي إلى الله أم إلى الإنسان إنما هو ناتج عن الخلط بين الانفعال والعقل، بين العاطفة والذهن، فليس الأمر مزايدةً في الإيمان وابتهالات لله، بل تحليل لأفعال الشعور ودفاع عن استقلال الإنسان.٤ ليس الأمر منافسة أو مبارزة أو تحدِّيًا بين الله والإنسان، ووضع الله مكان القادر والإنسان مكان العاجز دفاعًا عن الله وتضحية بالإنسان أمام السلطان أكثر منه أمام الله، ونفاقًا أكثر منه إيمانًا؛ إذ يعجز الإنسان عن الإجابة المضادة وإلا وقع تحت شتَّى ألوان الضغط النفسي والإرهاب السياسي وتملُّق إيمان العوام،٥ لا يعني جعل أفعال الوعي الفردي مسئولية الإنسان أي تعجيز لله، بل تثبيتًا لحكمته وغايته، وهو الدفاع عن حرية الإنسان واستقلاله ومسئوليته، ويزداد الأمر صعوبة إذا ما كان التوفيق والسداد بناءً على الدعاء والابتهال والسؤال والاستعطاف والاستجداء والمناجاة والطلب والبكاء؛ وبالتالي يقع الوعي في خطأين؛ الأوَّل التخلِّي عن الفعل إلى الانفعال ثم الطلب الفعل من الآخر وليس من الذات. وهل الدعاء قادرٌ على استجلاب الطاعة أم أن الفعل هو القادر على ذلك؟ إذا كان الفعل فالإنسان حر وإلا احتاج إلى قدرة ولزم الدور.٦ وكيف يتم التوفيق والسداد للبعض دون البعض؟ أليس من سمات صفات الذات أو الفعل الإطلاق؟ وإذا كان مقياس التمييز هو العمل الصالح فيكون فعل الإنسان هو علة التوفيق والسداد وليس فعل الله؟ إن التوفيق والسداد هما في حقيقة الأمر الميلُ النفساني المصاحب للفعل نتيجة لقوة الباعث وصدق النفس وكمال الغاية من داخل الشعور وليس من خارجه، وما يُسَمَّى بالتيسير والعون والتوفيق أو العصمة أو القوة أو الفضل أو النعمة أو الإحسان كل ذلك هو القوة التي يشعر بها الإنسان أثناء عمله بعد تخطيطه وبذل جهده. هي قوة الفعل الذاتي وهي تحقق والإمكانيات الجديدة التي تظهر، قوة الحق على الباطل، قوة حضور المبدأ على غيابه، وقوة الطبيعة على مناقضتها، وقوة التاريخ على مناهضته، هي ذلك التثبُّت والبرهان الذي يجده الإنسان في نفسه والثقة بالنفس ساعة الفعل. التوفيق أو العصمة أو التأييد أو الهداية، كل ذلك شعور إنساني بأن الفعل قد تم على أكمل وجه أكثر مما كان الإنسان يتوقع في البداية، وهو شعور موجود بالفعل ولكنه لا يدلُّ على تدخُّل إرادة خارجية مشخصة أحدثت هذا التوفيق، بل تدل إذا كان الفعل مرويًّا على حدوث الفعل بإرادة الإنسان طبقًا لباعثه وتخطيطه وغايته، أمَّا إذا لم يكن الفعل مرويًّا وحدث الفعل فإنه يدل على وجود علة أحدثته، أمَّا إرادة إنسان آخر أو تداخل الأحداث وتشابكها كما تتداخل الأمواج لحمل غريق على الشاطئ أو مجرد مسرى التاريخ الذي يتحقَّق بالإرادة البشرية العامة والتي يصل تأثيرها حتى هذا الفعل غير المروي فيجرفها أمامه كشيء طبيعي، فإذا ما حدث الفعل دون ما توقع من الإنسان الذي لم يقصده ولم يفعله حُسب ذلك توفيقًا وعصمةً وسدادًا وعونًا وقوةً وحولًا وتيسيرًا أو فضلًا ونعمةً وإحسانًا!٧ إن التوفيق والسداد هما وقوع الأفعال حسب إرادة الإنسان وقصده ودواعيه، يفعل الإنسان في الحاضر والمستقبل ويظل مشروطًا بتدخُّل عوامل أخرى منها تدخل إرادات إنسانية أخرى في توجيه الفعل أو حدوث وقائع جديدة لم تكن في الحسبان يُسارع بأخذِها ووضعِها في مجال الفعل كعناصر إيجابية جديدة.٨ وليس هذا هو اللطف أو الصلاح لأن ذلك يُشير إلى تدخُّل إرادة خارجية، كما أنه يُثير إشكالات أكثر مما يحلها، فما مقياس اللطف أو الصلاح؟ ولماذا يُعطى لإنسانٍ دون غيره؟ وإذا كان مشروطًا بالفعل، فالفعل هو الأساس؟ وكيف يكون فعل الله، اللطف أو الصلاح مشروطًا؟ فإذا ما كان التوفيق والسداد الثواب بعد الفعل فإن ذلك يحدث طبقًا لقانون الاستحقاق ولا يكون تدخلًا قبل الفعل باستطاعة زائدة ولا أثناء الفعل بقدرة إضافية، وإذا كان يعني مجرد الحكم فإنه يحدث أيضًا بعد إتمام الفعل وليس قبله أو أثناءه، وهو حكم يقوم على تصوُّر إلهي كما يمكن أن يقوم حكم على تصورٍ إنساني خالص. وإذا كان يعني مجرد اللطف دون الإلجاء أي خلق قدرة دون جبر، فإنه يصطدم بعموم اللطف وخصوصه وشروطه، ويكون بمثابة حل مشكلة بإثارة مشكلة أعظم، فإذا ما كان يعني علم الله فإن علم الله بَعديٌّ وليس قبليًّا، لا يجبر على فعل بل يسجل نتيجة أفعال؛ وبالتالي يستحيل فَهْم التوفيق والسداد بمعنى اللطف أو الصلاح.٩

(١-٢) النصر والخِذْلان

إذا كان التوفيق والسداد فعلين متجانسين، فإن النصر والخِذْلان فعلانِ متضادان، وقد يأتي التوفيق في مقابل الخِذْلان، وإذا كان من الطبيعي، على أكثر تقدير، أن يوفِّق الله ويسدِّد الخُطا فكيف به يخذل؟ وإذا كان من الطبيعي ألَّا يصدر عن الخير إلا الخير، فكيف يصدر عن الله الشر؟ إذا كان الله فاعلًا للخير فكيف يكون فاعلًا للشر؟ وإذا كان مقياس النصر والخِذْلان هو إيمان الإنسان وصدقه في الفعل تصبح الإرادة الإلهية مشروطة بالفعل الإنساني، ويصبح الإنسان هو الذي يحدِّد اختيار الفعل الإلهي إمَّا النصر وإمَّا الخِذْلان. وإذا كان الأمر كله مرهونًا بالاستطاعة التي يخلقها الله في ساعة الفعل، فإن هذه الاستطاعة لا تكون محايدةً يستعملها الإنسان بعد ذلك إمَّا للخير أو الشر إمَّا للعمل الصالح أو العمل المفسد، إمَّا للنفع أو للضر، بل تتوجَّه إيجابًا أم سلبًا بفعل الله، تنصر أو تخذل، تهدي أو تضل، تشرح أو تختم، تفتح أو تطبع، ويستحيل أن يتم هذا التوجه بتميُّز مسبق أو عفويًّا عشوائيًّا بالمصادفة. وإذا كان المقياس هو حسن النية والصدق في أفعال الإنسان يكون الإنسان هو الذي حدَّد اختيار الله ووجهة أفعاله، وإذا كانت الاستطاعة محايدة، تكون للخير وتكون للشر، بفعل الإنسان ودون توجيه من الله يكون الإنسان قادرًا على التمييز بين الحسن والقبح وقادرًا على توجيه الاستطاعة نحو الخير أو الشر، وبالتالي ينصر نفسه أو يخذل نفسه، وتظل الاستطاعة التي يجدها الإنسان من نفسه على غير توقُّع مجرد تحقُّق لإمكانيات الفعل وطاقاته أثناء الفعل، لما كان الفعل يولد باستمرار طاقات جديدة غير المتوقعة أوَّلًا في بداية الفعل، وهل الإنسان غير قادر من نفسِه على الطاعة وغير مسئول عن المعصية؟ وهل تكون القدرة التي يخلقها الله ساعة الفعل محايدة، قدرة على الخير أو قدرة على الشر بصرف النظر عن البواعث والغايات؟ وكيف يعطي الله الإنسان القدرة على الشر؟ وإذا كان الخير من الله والشر من الإنسان، فالإنسان حر قادر على الإفلات من إرادة الله وقدرته، ولكن في الشر دون الخير، بالإضافة إلى أنها قسمة تقوم على تبرئة الآخر واتهام الذات، تقوم على التطهُّر والبراءة بالنسبة إلى الوعي الخالص، وعلى تعذيب الذات بالنسبة للوعي المتعين. أليست هذه قسمة ضيزى؟ لله البنين وللإنسان البنات؟ وكيف يدعو الإنسان على الآخرين بالخِذْلان ويستجيب له الله إن كان من الصالحين؟ أليس هذا تمنيًا للشر للآخرين واستجابةً لله لفعل الشر؟ ألا يدلُّ ذلك على عجز الإنسان على المقاومة؛ مقاومة الشر بالفعل دون استعداء أحد عليه يكون أقوى منه بالمقاومة بدلًا عنه، ويكتفي الإنسان بأضعف الإيمان وهو الدعاء على الأعداء وطلب النجدة من الأقوياء؟ إذا كان النصر والخِذْلان من الله يسلب من الإنسان فرحه بالتوفيق وحزنه من الإخفاق، فإنه يعيش في الدنيا بلا رجاء أو خوف، بلا فرح أو حزن، بلا أمل أو يأس، ويظل مجرد آلة طيعة في يد فاعل أعظم ينصره ويخذله كيف يشاء.١٠ ويصعب إيجاد الحلول المتوسطة بين الفعلين. لا يوجد إلا «إمَّا … أو». فإن قيل إن القُوى التي تحدث للإنسان أثناء الفعل ثلاثة أنواع: الأولى موفقة هي التوفيق، والثانية خاذلة وهي الخِذْلان، والثالثة محايدة وهي القوة أو العون أو الحول أو التيسير، أمكن إذن وجود قوة محايدة لا تتدخَّل في أفعال الوعي إيجابًا أو سلبًا، والحياد على أية حال أقرب إلى المحافظة على حرية الأفعال من القوة الموجهة. إن كانت تسلب الإرادة إلا أنها تُبقي على الحرية.١١ قد تعني مثل هذه القوة في أحسن الحالات مجرد حضور الأسباب وسلامة الآلات، وبالتالي تكون قوة إنسانية مرئية بدنية أو شعورية يعرفها الإنسان، ويعمل بها قبل الفعل أو أثناء الفعل كقوةٍ متولدة من حركة الفعل ذاته وطبيعة الطاقة المتولدة منه،١٢ فإن أمكن تقسيم التوفيق إلى عموم وخصوص بالنسبة إلى الخلق، فعموم التوفيق شاملٌ للخلق وكذلك نصب الأدلة والأقدار والاستدلال وإرسال الرسل وتسهيل الطرق لئلا يكون للناس حجةٌ على الله بعد الرسل، وخصوص التوفيق لمن علم الله منه هدايته وإرادته الاستقامة، وهذه قد تكون على أصناف، منها كمال الاعتدال في المزاج، من جهة الطبيعة أو الشريعة، النفس والنطفة والخلقة، أو من جهة تربية الأبوين أو الأستاذ أو المعلم أو أهل البلد أو القرابة، وحتى في هذه الحالة تكون الأفعال غير مكتسبة؛ فالإنسان غير مسئول عن الخِلقة كما أنه غير مسئول عن تعليم الأبوين، وفي هذه الحالة يكون جبر التوفيق العام متفقًا مع جبر التوفيق الخاص، ومع ذلك يمكن للوعي الفردي أن يخترق جبر الخِلقة والتعلم نظرًا لاستقلاله؛ فالطبيعة أقوى من الخِلقة، وحرية الفعل أقوى من التعليم.١٣ ومع ذلك فالتخصيص خارج الأمور الطبيعية كالمزاج والتعلُّم تميز أو فعل بلا مبرر.١٤ ويتم النصر والخِذْلان على مستويين؛ معرفي مثل النظر بالحجج والأدلة وشرح الصدر، وعملي أي التدخل الفعلي المباشر في أفعال الإنسان، فإذا كان التوفيق هو اللطف فإنه في هذه الحالة يشمل اللطف النظري، أي إظهار الآيات الدالة على الوحدانية والنبوة، ويتم ذلك عادةً دون حاجة إلى لطف وقتي لكل فعل على حدةٍ وهو التوفيق العملي، والأول أقل خطورة على حرية الأفعال من الثاني؛ لأنه مجرد توليد أفعال نظرية مثل توليد النظر للعلم ويترك الإرادة حرة لتحقيق الفعل، في حين أن الثاني يهدِّد حرية الأفعال تهديدًا مباشرًا؛ لأنه يكون بديلًا عن الفعل الإنساني وأقوى منه إيجابًا أم سلبًا.١٥ واللطف الخاص في نهاية الأمر تعجيز لله وكأن الله لا يتصف بالاقتدار على اللطف بجميع الخلائق.

ولا يعني الخِذْلان أي عدم حدوث فعل، تدخل أية إرادة خارجية منعت الفعل من الوقوع أو امتناع تدخلها، بالرغم من الدعاء والابتهال، بل يعني الخِذْلان إذا كان الفعل مرويًّا أن هناك عواملَ في الموقف كانت غائبةً عن الفاعل وأن هناك نقصًا إمَّا في الباعث أو الفكرة أو الغاية. قد يكون الأساس النظري للفعل غير محكم، وقد يكون الباعث ضعيفًا أو معدومًا، وقد تكون الغاية غير طبيعية أو وقتية. وفي مثل هذه الحالات لا يحدث الفعل من الإنسان بل يحدث فعل آخر من إنسان آخر باعثه أقوى وفكرته أوضح، وغايته أعمُّ وأشمل وأكثر تعبيرًا عن اكتمال الطبيعة. أمَّا إذا كان الفعل مرويًّا وذا أساس نظري سليم وقائمًا على باعث قوي، له غاية تعبِّر عن اكتمال الطبيعة، ثم لم يحدث، فهذا أيضًا لا يعني تدخل إرادة خارجية منعت الفعل من الوقوع، بل يعني وجود عوامل أخرى في ميدان الفعل هي التي منعت الفعل من الوقوع، وقد حدثت هذه الموانع في لحظة إتيان الفعل، وكيف تأتي في الخِذْلان إرادة خارجية تساعد الإنسان على فعل الشر، وهي صفة من صفات الكمال المطلق؟ كيف يصدر الشر عن الخير؟ كيف تساعد الإرادة الخارجية على فعل الشر وهي الإرادة الكاملة؟

(١-٣) الهداية والضلال

مفهومان متضادان مثل النصر والخِذْلان، وقد يكون التوفيق مع الهداية، وقد يُوضع الضلال مع الختم والطبع. يثبتان بحججٍ نقليةٍ كثيرةٍ لتبين أن الله هو الذي يؤتي كل نفس هداها، أو عقلية بدليل دعاء الإنسان لله وطلبه الهدى، والحقيقة أن الحجج النقلية كلها لا تُثبت شيئًا لأنها ظنية؛ إذ يمكن إعادة تأويلها لصالح حرية الأفعال ومعارضتها بحجج مضادة على ما وضح في نظرية العلم.١٦ كما أن الدعاء بهما عجز وتخلٍّ عن تحقيقات الغايات بالفعل. الدعاء سلوك شعبي عام وليس من سلوك العقلاء، من صفات العاجزين وليس من شيمة المناضلين، وما الضامن أن يكون الدعاء أو الابتهال ليس موجهًا إلى المؤله المشخص بل إلى الإنسان ذاته الذي يشخص انفعالاته، إلى شخص حقيقي ذي سلطة أو من يُعطيه الإنسان نفسه سلطة بتوهمه أنه من الأنبياء والأولياء والصالحين؟ وإذا كان التوفيق والخِذْلان والعون والتيسير نتيجةً للابتهال والدعاء، أي نتيجة لفعل الإنسان في السؤال والطلب، سواء أعطى إليه أم لم يُعط، فقد تتدخل الإرادة الخارجية حتى بلا سؤال أو طلب تدخلًا مجانيًّا خالصًا بالإضلال أو الطبع أو الختم في حالة منع اللطف! والحقيقة أن هذا إسقاط من شعور سوداوي على المؤله المشخص، ولماذا يبدأ المؤله المشخص بلا سبب أو باعث منه أو سؤال أو طلب من الإنسان بالإضلال والختم والطبع؟ أليس الأكثر اتفاقًا مع طبيعته الكاملة إعطاء اللطف بلا سؤال؟ وكيف يصدر الإضلال والختم والطبع عن الكمال المطلق؟ وكيف يصدر بلا داعٍ إنساني أو استحقاق؟ وإذا حدث فكيف يمكن تبرير استحقاق الإنسان للمدح والذم إذا ختم وطبع على قلبه؟ وكيف يمكن فهم التكليف إذا بدأ بالختم والطبع والإضلال الذي ليس للإنسان حيلة فيه؟
وقد تنقسم الهداية إلى عامة وخاصة مثل التوفيق واللطف؛ الأولى هداية نظرية، مجرد بيان الحق ونصب الأدلة عليه، والثانية هداية عملية تقوم بفعل الهداية، الأولى يقدر عليه الله كما تقدر عليه الرسل، في حين أن الثانية لا يقدر عليه إلا الله. الأولى عامة للناس جميعًا والثانية خاصة للمهتدين.١٧ وهنا تبرز نفس الإشكالات السابقة في التوفيق والسداد واللطف، فمع أن الهداية النظرية أقل خطورة على حرية الأفعال من الهداية العملية، إلَّا أن كلتا الهدايتين يضعان سؤالًا: ما مقياس الاختيار بين العام والخاص؟ وإذا كان الفعل الإنساني هو المقياس تكون له الأولوية على الفعل الإلهي وتثبت حرية الأفعال، وكيف يمكن التفريق بين هداية الله وهداية الرسول؟ أليس ذاك وضعًا لله والرسول على المستوى نفسه من الفعل؟ وإذا ما حدث توفيق أو هدى، ما المانع أن ينسبه الإنسان إلى الأشخاص الموجودين بالفعل وليس إلى المؤله المشخص؟ لا يستطيع الأشخاص إلا التوجيه أو الإرشاد، حتى الأنبياء تعلِّم وتعطي الفكر ولا تفعل أكثر من ذلك، ولما كان من الصعب على الإنسان التمييز بين المشخص والتشخيص، حدثت الوساطة وطلب الهدى والتوفيق من الأشخاص، وهروبًا من الإرادة المشخصة وتدخلها إثباتًا للحرية أو اقترابًا منها تصبح الأفعال إمَّا من الكون أو من الطبيعة أو من الخلقة، ولما كان الكون إثباتًا للشر الكوني خارج الفعل الإنساني لم تبقَ إلا الطبيعة أو الخلقة، والطبع هو في الحقيقة فعل الطبيعة وليس فعل إرادة خارجية. قد يكون الإنسان بطبعه يقظًا أو خاملًا، متوقدًا أو باردًا. قد يزدهر هذا الطبع أو يتقلَّص بالتربية داخل الجماعة نسبيًّا، قد يصبح المتألِّق أقلَّ إشراقًا إذا لم تحدث التربية الاجتماعية، وقد يصبح الخامل أكثرَ نشاطًا بالتربية الاجتماعية، ولكن التربية الاجتماعية لا تخلق شيئًا من عدم ولا تعدم شيئًا بعد وجود.١٨

إن الهداية والضلال تجربتان نفسيتان بناءً على موقف اجتماعي؛ الهداية هي القدرة على النظر السليم والحكم الصائب والتخطيط الدقيق قبل تحقيق الفعل، وهي قوة مفاجئة أو طاقة غير متوقعة ساعة تحقيق الفعل يشعر بها المناضل، يشعر بأن قوته زادت ساعة النضال إلى مائتين؛ إذ يأتي الإنسان في لحظات التوتر الانفعالي الشديد بأعظم مما يأتي به في اللحظات العادية، تظهر هذه القدرة غير المتوقعة كغيرها من العوامل ساعة الفعل، في التوِّ واللحظة. الإنسان حرية، بالرغم من تدبيره المسبق وتخطيطه لما سيحدث ساعةَ الفعل، إلا أن عوامل جديدة تدخل في ميدان الفعل أو تظهر في الفاعل تجعل تخطيطه الأوَّل مجرد تقدير مسبق لا يُطابق الواقع تمامًا، وهذا هو الفرق بين العمل النظري المسبق والعلم الحيوي الحركي.

وإذا كان تجوز من الله الهدايةُ فكيف يجوز منه الإضلال؟ وإذا كان الإضلال بالشيطان فهل يوضع الله على المستوى نفسه مع الشيطان في الإضلال كما وُضع من قبل على المستوى نفسه مع الرسول في الهداية؟ وكيف يخلق الله الضلال في القلوب ويقضي على العقل والقدرة على التمييز وعلى إمكانية الوعي منذ البداية؟ وإذا كان الضلال جزاءً واستحقاقًا، فإن الأولوية تكون لفعل الفشل الإنساني وليس لفعل الإضلال من الله. وإن كان الإضلالُ مجردَ ضيق النفس وحرج الصدر وانتهاء السبل بالإنسان، فإنه يكون مجرد حالة نفسية من الفشل والضياع، وعدم القدرة على السيطرة على ميدان الفعل، وقد يصل الأمر إلى حد الهزيمة والنكوص والتراجع، ولكنها حالةٌ مؤقتة، إذ سرعان ما يستعيد الإنسان قواه، ويكسب من تجاربه، ويُعيد تخطيطه ويراجع حساباته حتى يعاودَ الكرَّة؛ فالفشل أحد تجارب النجاح، والنكوص أحد مراحل التقدُّم.١٩ وقد توضع المسألة كلها على مستوى اللغة وتحليل الألفاظ دفاعًا عن الحرية وإثباتًا لأفعال الوعي الفردي؛ فالهداية والضلال مجرد أسماء أو أحكام أو أخبار وإعلام خارج القدرة والفعل، هي مجرد إرشاد نظري وليس تدخلًا عمليًّا في أفعال الإنسان، والإرشاد النظري موجود في الوحي سلفًا بفهمه وتأويله والكشف عن مضمونه في المصالح العامة، وليس فعلًا جديدًا من الله. وقد يكون مجرد تفويض من الله للإنسان أن يفعل مكانه وأن يحقِّق أفعاله باسمه طبقًا لخلافة الإنسان لله على الأرض.٢٠ وفي أصل الوحي الهداية مشروطة بالإدراك وبالإيمان وبالعمل الصالح وبالاعتصام وبالاتِّباع وبالجهاد، وهي اختيارٌ إنسانيٌّ خالص وفعل حر للإنسان، كما أنها فعل للرسول وللأئمة وللأمة، وقد يكون الطريق إليها تأمُّل الإنسان في آيات الطبيعة أو قراءته لآيات الوحي، فكلاهما يؤديان إلى الهدى.٢١
أمَّا الضلال فإنه لا يعني بالضرورة فعل الله، بل هو فعل حر للإنسان واختيار مشروط بالإدراك والنقل، وقد يأتي الضلال من التبعية والتسلُّط ويكون سببًا للعقاب والاستحقاق؛ لأنه نتيجة لفعل الإنسان، ولا يكون إلا فعل شر؛ ومِنْ ثَمَّ لا يكون فعلًا إلهيًّا، بل هو إنساني اجتماعي سياسي يظهر في وضع إنساني خالص.٢٢
ولا يتعدَّى الفعل الإلهي كونه العلم البعدي بالفعل الإنساني، ومجرد البيان بالوحي، فالله لا يفعل الضلال ولا الرسول، بل هو أساس الاستحقاق بعدما تتكشَّف الحقائق.٢٣

(١-٤) العون والتيسير

وهما لفظان متجانسان إيجابيان، مثل التوفيق والسداد، ويقرن بهما لفظَا الحول والقوة، ولا تعني هذه الألفاظ أيضًا تدخُّل إرادة خارجية مشخصة في أفعال الوعي الفردي لتعينه وتيسر له. العون أو التيسير هو مجرد إحساس النفس بقوتها وقدرتها قبل الفعل، ولتحقيق الأفعال العادية وليس الخارقة للعادة. وهل يحتاج الإنسان إلى إرادة خارجية مشخصة أو غير مشخصة للإتيان بالأفعال العادية، القيام أو القعود، الحركة أو السكون؟ وهل أصبح الإنسان مجرد آلة صماء تحركها إرادة خارجية؟ قد تكون هذه القوة بدنية خالصة تتغلب على الوهن البدني، وقد تكون نفسية تتغلب على الضعف النفسي، ولكنها في كلتا الحالتين قوة في الإنسان.٢٤ وهل يلزم العون لدرجة أن يفقد الإنسان حريته كليةً فلا يستطيع الإتيان بفعل إلا بوجود هذا العون الخارجي، في حين أن الإتيان بالفعل أو تغييره بفعل آخر سواء كان من أفعال الشعور أو من أفعال البدن إنما يحدث بتغير الفكر أو الباعث أو الغاية؟ ليس العون تدخُّلًا من إرادة خارجية، بل هو فعل الإرادة الإنسانية وحدوث أفعال غير متوقعة نتيجة لشد الباعث وقوة الدافع وصدق الطوية. والاستعانة تجربة بشرية. فعندما يطلب الإنسان العون لا يعني ذلك فقط وجود إرادة خارجية محتملة قد تعطيه العون كما هو الحال في الكسب، بل يعني أن لديه إرادته الخاصة، وأنه يطلب مزيدًا من القوة لها بالاستعانة، لا يأتي العون هنا بالضرورة من مصدر خارجي، بل قد يأتي من الإرادات الإنسانية الأخرى، ويكون الفعل حينئذٍ فعلًا جماعيًّا، وقد يأتي من شدة الباعث أو من تغيُّر الموقف إلى موقف أفضل أو من ارتفاع بعض الموانع أو كلها.٢٥ إن البناء الفردي أو الجماعي الذي يقوم على العون الخارجي يفقد حريته واستقلاله بالضرورة، فالعون في هذه الحالة تبعية، وفقدان للإرادة المستقلة وارتهان لها طالما استمر العون، والعون الخارجي بطبيعته مشروط بالطاعة والولاء له، يقابل العون إذن الاعتماد على النفس، وتقوية الذات، والاستعانة بالآخرين.
وليس صحيحًا أن العون محايد غير مشروط وغير موجَّه، وإلا فما مقياس إعطاء العون لهذا دون ذاك؟ لذلك قد يُرفض العون أحيانًا إن كان مشروطًا، يهدف إلى القضاء على استقلال الإرادة وحرية الفعل، والتيسير مثل العون، مجرد قدرة الإنسان على فعل أي شيء، وهو أيضًا ليس من فعل إرادة خارجية من حيث هي إرادة مسيطرة، بل هو فعل الإنسان من حيث هو إنسان فاعل، وكأن مجرد إتيان الإنسان لفعل وحدوث ذلك الفعل أمرٌ غريب لا يتأتَّى إلا بتدخُّل قوة خارجية تجعل فعله ممكنًا وتسهل له الأمور وتذلل له العقبات.٢٦ وقد يكون التيسير أيضًا مثل العون استدراجًا لارتهان الإرادة المستقلة، إعطاء للقليل بيد وأخذ بالكثير باليد الأخرى.٢٧

(١-٥) الطبع والختم

وهما لفظان متجانسان سلبًا، يقابلهما الشرح والفتح، ولكن التركيز عليهما سلبًا أكثر من التركيز عليهما إيجابًا، وكأن الله يفعل الشر أكثر من فعله للخير، أليس ذلك سوداوية وتشاؤمًا وعداءً للإنسان؟ وكيف يصدر عن الله الشر؟ كيف يصدر الشر عن الخير؟ وهل يتم الطبع والختم بأفعال الله مباشرةً من الخارج أم أنها تتم بفعل الطبع والخلقة؟ وهل الخلقة طبع مستمر ودائم لا تغيير فيه؟ وهل الطبيعة شر أكثر منها خير؟ إن الطبيعة مفتوحة متغيرة وقابلة للتعديل والتقدُّم والازدهار، الطبيعة متجهة نحو الكمال، الطبيعة خيرة يولد فيها الإنسان خيِّرًا حُرًّا قبل أن يُصبح شريرًا مجبرًا، ليست الخلقة شعورًا مبهمًا مستغلقًا خاملًا، بل هي شعور واضح مفتوح يقظ لا يتحوَّل إلى شعور مضاد إلا بفعل التربية وبضغط المجتمع وبقهر السياسة، ليست الخلقة حتمية أبدية مطردة، مرة واحدة وإلى الأبد، بل هي خلقة متحولة متغيرة متبدلة، طيِّعة لخلق الأفعال. وأي معنى للحرية وأية فرصة لها إذا كان الطبع هو السائد، والفعل الإلهي هو الخاتم؟ ومتى يتميز الطبع من الشرح والفتح من الختم؟ إذا حدث التمييز طبقًا لفعل الإنسان واختياره يكون لفعله الأولوية على الفعل الإلهي ويفرض اختياره الحر على الاختيار الإلهي المجبر، وإذا كان بما لا مقياس للتمييز فإن الفعل الإلهي يصبح بلا مبرر، عشوائيًّا بالمصادفة أو تمييزًا بلا سبب، وهو ما يناقض الاستحقاق وتكافؤ الفرص والعدل، وإن انتظر الإنسان الشرح والفتح، ودعا برفع الختم والطبع، فإن ذلك يكون إدانة لكل جهد وإلغاء لكل محاولة ذاتية للفعل، ولا يكون أمام الإنسان إلا انتظار المخلص أو الاستسلام للقدر المحتوم، إن الختم والطبع تجربتان نفسيتان للغموض النظري ونقص الوعي الفردي أو الاجتماعي، وليسا نتيجة مسبقة لتدخل إرادة خارجية مشخصة، وليس الشرح والفتح معطيين مسبقين أبديين، بل هما نتيجتان يتحول فيهما الغموض إلى وضوح وغياب الوعي إلى حضوره من خلال الفعل الذاتي وليس نتيجة لإرادة خارجية مشخصة. إن أفعال الشعور الفردية مرتبطة بكيانه الذاتي وتعبر عن استقلال الإرادة والقدرة على التمييز والاختيار الحر.٢٨

(١-٦) العصمة

وتعني العصمة في الأصل اللغوي المنع، أمَّا في معناها الاصطلاحي فتعني وقوع فعلٍ مع غياب الموانع أمامه، وكأن الإنسان مدفوعٌ بجبره الذاتي وبفعل طبيعته وبتوجُّهه نحو هدفه ومصيره، وبهذا المعنى يكون اللطف عصمة لأنه امتناع عن القبيح. والحقيقة أن فهم العصمة على أنها طبيعة وليس على أنها لطف لا تقضي على حرية أفعال الوعي الفردي، بل تكون عاملًا مساعدًا ومقويًا تقوم على قوة البواعث الداخلية والإحساس بالرسالة واتِّباع الطبيعة، ومع ذلك يظل الإشكال قائمًا؟ كيف يكون الإنسان مكلَّفًا ومعصومًا؟ وكيف تتم محاسبة فعل العصمة ما دام الاختيار بين الحسن والقبح ليس قائمًا؟ وماذا لو احتجَّ البعض بالإمام المعصوم وأعطَوْه العصمة المطلقة وهو نوع من الجبر نحو الخير وبالتالي تنتفي المسئولية وتضيع حرية الاختيار؟ قد تعني العصمة مجرد الاسم أو الحكم أو الإبلاغ والإخبار أي الوصف الخارجي للشيء دون فعله، وقد تكون ثوابًا وجزاءً بعد الفعل وليس فعلًا قبل الفعل، ولا تأتي العصمة نتيجةً للدعاء أو للوعد والوعيد، فذلك مجرد تمنٍّ نظري وجداني انفعالي لا يأتي بشيء فعلي، إنما الزيادة في الفعل تأتي من الطبيعة، ومن القدرة على اتِّباعها، وهنا يتفاضل الناس في صدق الفعل. قد تكون العصمة ما يعطي صلاحًا عامًّا للناس بدافع الطبيعة، وهو أمر مشاهَد في سِيَر الأنبياء والزعماء والأبطال.٢٩

(١-٧) الاستثناء في الإيمان

هو نتيجة للسؤال عن أفعال الشعور الداخلية، وهو إرادة الكفر والإيمان، وفيه تتحول القدرة الإلهية تحولًا مباشرًا ضد الحرية الإنسانية من أجل إثبات سلطان القدرة المطلقة، حتى ولو ابتلعت الحرية الإنسانية وقضت عليها نهائيًّا، فالرد بالإيجاب يُعطي للقدرة الإلهية كل سلطانها على حساب الحرية الإنسانية مغالاة في عواطف التأليه وهي المغالاة التي تتحوَّل أحيانًا إلى عكس المقصود، ولما كان باستطاعة العقل التمرُّد ضد القدرة الإلهية دفاعًا عن الحرية الإنسانية يحدث إثبات القدرة لا بالقياس بل بالاتِّباع، ودون العقل بل بالنقل، هذا فضلًا عن أن مقولتي الإيمان والكفر أكثر غموضًا من السؤال المطروح، ويُجيبان عن الغامض بغموضٍ أكثر، وهل العبرة بالنهاية وحدها دون أخذ في الاعتبار تجربة الحياة الإنسانية ومسار التاريخ؟٣٠ أمَّا الرد بالنفي فإنه يُقيم التنزيه على أساس إنساني وهو إثبات الحرية الإنسانية دون ما مزايدة في الإيمان، اعتمادًا على العقل دون النقل، وتأكيدًا على شرعية الموقف الإنساني ومقاومة لكل اغتراب ديني؛ فالإنسان يعيش في هذا العالم إنسانًا وليس إلهًا، والله يخاطبه في وحيه إنسانًا وليس إلهًا، والغرض في كلتا الحالتين إثبات الحرية الإنسانية.٣١
وقد يتم الجمع بين الإثبات والنفي بالإقلال من حدة القدرة، لا من حيث السلطان بل من حيث المعنى؛ فالإرادة الإلهية هنا لا تعني التدخُّل المباشر، بل تعني الحكم النظري، وبالتالي تصبح الإرادة حقًّا نظريًّا لله وليس إجراءً عمليًّا منه، ولكن حتى في هذه الحالة فإن تحوُّل الإرادة من العمل إلى النظر قضاء على أحد مظاهر سلطانها، وبالتالي يكون الجمع بين الإثبات والنفي أقربَ إلى النفي.٣٢
وقد ينقلب السؤال على نحو آخر، وبدل أن تتدخل القدرة الإلهية لصالح الإنسان تتدخَّل لغير مصلحته، فيكون: هل الله مريد للمعاصي؟ ويؤكد الرد بالإيجاب على سلطان القدرة المطلقة، ولكنه من ناحية أخرى يقضي على الحرية الإنسانية، كما أنه يجعل الله مصدرًا للشر ومسئولًا عنه ويجعله مضادًّا للمصلحة الإنسانية وضارًّا بحاضر الإنسان وبمستقبله.٣٣ وقد يُجمع بين الإثبات والنفي لإثباتِ المطلبَيْن معًا، القدرة المطلقة ومصلحة الإنسان؛ وذلك بالتفرقة بين فريقين: من يستحقُّ المدح وهو المؤمن ومن يستحق الذم وهو الكافر، يأتي الأوَّل نفع في الحقيقة ويصيب الثاني ضرر في الحقيقة.٣٤ والحقيقة أن هذه التفرقة لا تقوم على أساس واضح، فما هو الإيمان وما هو الكفر؟ تصوران يصعب تحديدهما، وبالتالي يكون ذلك بمثابة توضيح مسألة بمسألة أخرى أكثر منها غموضًا، كما أنها تفرقة قد تُثبت الضرر الفعلي للإنسان وتجعل المؤله مصدرًا للضرر، وهو ما يتنافى مع عواطف التأليه في أن الله مصدر للنعمة والعفو والرحمة، وهي أيضًا تفرقة لا يقوم بها إلا من استحق المدح حتى يستأثر بالنعمة بمفرده ويفرح بأضرار الغير، فهي قسمة إذن تقوم على إحساس «صادي»، حب الذات، وكراهية للغير. وقد يتم الجمع بين الإثبات والنفي بالتفرقة في ميدان الضرر، فالضرر لا يقع في الدين بل في الدنيا، ولا يقع في عالم الأرواح بل في عالم الأبدان.٣٥ والحقيقة أن هذه القسمة أيضًا تثبت الضرر، وتجعل الله أيضًا مصدرًا للشر، وتواري عنه صفات الرحمة والعفو كما تقتضي بذلك عواطف التأليه؛ وهي قسمة تُثبت الضرر المادي مع أن الضرر المادي ليس أقسى أنواع العذاب، بل هو مجرد تخويف في الدنيا من السلطان لحرص الناس على مصالحه في الدنيا، وهي أيضًا نظرية صادية تقوم على التلذُّذ بتعذيب بدن الآخرين، إن هذه الأسئلة التقليدية حول موقف قدرة الله ممن علم أنه لا يُؤمن تضع صفتَيْن مطلقتَيْن كاملتَيْن؛ القدرة والعلم موضع تعارض تمرينًا للذهن في عملية التأليه، وتثير إشكالات أعظم مما تحل التمرين، وإذا كان الرد بالإيجاب فكيف لا تمنع القدرة المطلقة الكاملة الإنسان من فعل الشر؟ وكيف يخص الله أحدًا بنعمة الإيمان ابتداءً ولا يخص الآخر قبل انقضاء الحياة ونفاد تجربة العمر؟ ألا يؤدي ذلك إلى الاختيار المسبق بلا سبب وإلى الاختيار العشوائي، وبالتالي يؤدي إلى التحيُّز وعدم تكافؤ الفرص.٣٦
ويكون السؤال أصعب عندما يكون: هل يجوز القول: أنا مؤمن «إن شاء الله»؟ هل يجوز الاستثناء في الإيمان؟ هل يمكن أن يُقال «أنا مؤمن حقًّا» في الحال دون الاستقبال؟ إن تعليق الإيمان في الحال أو في الاستقبال هو وقوع في الشك وعدم الثقة بالنفس وربط أفعال الشعور الفردية بأسس خارجية، وبالتالي تضعف القناعات ويحدث التردد في الأفعال، والثقة في التخطيط تجعل الإنسان قادرًا على أن يرى المستقبل دون شك أو تردُّد مع توقع عوامل غير متوقعة قد تحدث أثناء الفعل يقدر الإنسان على احتوائها وإعادة أخذها في الاعتبار. إذا قال الإنسان: «أنا مؤمن إن شاء الله»، ولم يحدث الإيمان في المستقبل يحنث الإنسان بوعده، إذا ما حكم الإنسان على الماضي في فعل الشعور فإنه يقوم دائمًا بقراءة جديدة للماضي طبقًا لتجارب الحاضر، وإذا ما حكم على الحاضر فإنه يكون بناءً على معرفة الذات وتحليل النفس، وإذا ما حكم على المستقبل فإنه يكون تعبيرًا عن العزيمة وعقد العزم دون الوقوع في التصلُّب والتخشُّب وترك الميدان مفتوحًا لمزيدٍ من التجارب والخبرة وإعادة النظر والمراجعة من أجل مزيدٍ من الإحكام النظري والدقة العملية في السلوك، صياغةً وتحقيقًا، إنَّما يُقال ذلك عادةً تعبيرًا عن إيمان شعبي موروث بالأعراف، وأحيانًا يعبِّر عن العجز عن السيطرة على الجهد لنقص في حسابات المستقبل وضعف في رؤيته، ويتَّضح ذلك بصورةٍ خاصةٍ في أفعال الشعور في الطبيعة كالتوليد أو أفعال الشعور الاجتماعي كالآجال والأرزاق والأسعار وعدم القدرة على السيطرة عليها في المستقبل.٣٧ أمَّا المشيئة في أصل الوحي فإنها لا تعني الاستثناء في الإيمان والشك فيه، بل تعني مجرد جعل الفعل الإلهي محتملًا ومتوقفًا على وضع إنساني نظري أو عملي، فردي أو اجتماعي مستحيل، والمتوقف على المستحيل مستحيل مثله.٣٨

(٢) أفعال الوعي الاجتماعي

تشير أفعال الوعي الاجتماعي إلى ما أورده القدماء في نهاية أصل العدل في موضوعات ثلاث: الآجال والأرزاق والأسعار، سواء في كتب التوحيد الأولى أو في كتب العقائد المتأخرة.٣٩ ويدخل في موضوع حرية الأفعال بعد أفعال الوعي الفردي؛ لأنها تتعلق بوجود الإنسان وحياته ورزقه ومعاملاته، وظهورها في خاتمة التوليد، أي أفعال الإنسان في الطبيعة، يجعل منها أيضًا جزءًا من التوليد، ولكن هذه المرة توليد الأفعال في الحياة الاجتماعية، وظهور الوعي الفردي كوعي اجتماعي في المجتمع وفي التاريخ، والآجال أكثر الموضوعات تناولًا تتلوها الأرزاق ثم الأسعار، وكأن عمر الإنسان أهم من رزقه وكسبه، ثم تأتي أسعار السوق في النهاية، وإن شئنا فإن موضوع الأسعار أقل الموضوعات الثلاث تناولًا، فكلما اقتربت العقائد من المصالح العامة توقَّفت واقتصرت على النظر دون العمل، مع أن الأرزاق والأسعار تعمُّ بهما البلوى، ثم تدخل مسألة الفقر والغنى في «اللطائف» مع بعض المسائل الطبيعية وكأنها لا أهمية لها أو كأنها مسألة طبيعية كونية قدرية وليست مسألة اقتصادية اجتماعية سياسية.٤٠ وتظهر مسألة الآجال والأرزاق والأسعار في مباحث العدل والتجوير بعد الختم والاستثناء والهدى والضلال.٤١ وقد تظهر الأرزاق في أول مسألة العدل كما يظهر الغنى والفقر في وسطه أو في آخره.٤٢ وقد تظهر في ختام خلق الأفعال قبل موضوعات خلق الأفعال مثل شمول الإرادة للكائنات والقضاء والقدر، وبعدها تأتي الحسن والقبح مما يدل على أنها إحدى موضوعات العدل، وهي جزء من السمعيات لاعتمادها على الأدلة السمعية أكثر من اعتمادها على الأدلة النقلية.٤٣ مما يدل على اعتمادها على حجة السلطة وليس على حجة العقل، ولما كان السلطان هو المثل للسلطة، فإنه قام بتفسيرها لحسابها؛ ومِنْ ثَمَّ ظلت خارج التعقيل والتنظير دون برهان.٤٤

(٢-١) الآجال

الأجل لغويًّا هو الوقت، والآجال هي الأوقات، أوقات مخصوصة نحو الحياة والموت، ويتفاوَت الوقت أحيانًا بين أن يكون وصفًا للوجود الإنساني أو وصفًا للموجود الطبيعي.٤٥ ولكن المقصود هنا بالأجل هو الوقت الإنساني أي العمر؛ يعني الأجل إذن الحياة الزمنية والوجود الزماني وليس الوقت الطبيعي زمان الأفلاك وولوج الليل في النهار والنهار في الليل. الزمان توتر وطاقة وجهد وليس حسابًا وعددًا وحركةً طبيعيةً، ومع ذلك يحاول القدماء عدم تخصيص الزمان بالوجود الإنساني وحده، بل تعميمه على جميع أجناس الموجودات، ربما لإثبات العالم ونهاية الأشياء بنهاية الزمان الطبيعية أو لإثبات قِدَم الصانع وخلود النفس، وتجديد الوقت في الحقيقة ليس مقولة للأشياء، بل وصف للشعور الداخلي بالزمان، ولماذا إثبات أوقات لا نهاية لها والإنسان متناهٍ في الزمان؟ وقد يُفيد الأجل أيضًا قضاء الدين للمعسر، وكأن الحياة هي المال، وكأن عمر الإنسان هو قضاءٌ للدين، وكأن انقضاء أجل الدين هو انقضاء العمر، فأداء الدين حياة قبل الأجلين، أجل الدين وأجل الإنسان!
ويحلل القدماء الآجال بطريقتين لتحديد السبب في البداية وهو الموت أو السبب في النهاية وهو انقضاء الأجل، فهل الموت قتلًا بالسكين يكون موتًا بالأجل أم موتًا بالآلة أم موتًا بالقتل أو موتًا في المقتول أو موتًا في القاتل؟ وهنا يُسار إلى التولُّد من جديد لمعرفة سبب القتل؛ الله أم تولَّد الفعل عن القاتل، وفي هذه الحالة يمكن وصف عملية القتل وصفًا طبيعيًّا جسميًّا خالصًا. فالقتل حز الرقبة، أعراض أي حركات في يد الضارب بالسيف وافتراقات في أجزاء رقبة المضروب اقترب بها عرض آخر وهو الموت، فإن لم يكن بين الحز والموت ارتباط لم يلزم من تقدير نفي الحز نفي الموت، فالاقتران بالعادة، وللموت علل أخرى وأسباب باطنة غير الحز عند القائلين بالعلل إلا إذا انتفت العلل، وهنا يبدو أن الأمر ليس موضوعًا طبيعيًّا صِرفًا، بل الغاية منه إثبات قدرة خارجية تكون سبب الموت دون ما نظر في حياة الإنسان وسبب الموت المباشر، وهو على هذا النحو هروب من الموضوع وفقد لمدلوله، ويمكن تحليل الموت الطبيعي بدقَّةٍ وتفصيل أكثر ثم الانتهاء إلى مجموعة من العلل تؤدِّي إلى علة أولى، وبالتالي ترجع المشكلة إلى أصلها.٤٦ إن الموت الطبيعي بانقضاء شروط الحياة وتحلُّل الأجسام، أي الموت العضوي؛ هو من حيث العلم لا من حيث الإنسان والمجتمع والحياة، وحديث حز الرقبة إنما يشير إلى السبب المباشر في المعامل الجنائية مثل أسفكسيا الغرق أو نزيف المخ.٤٧
وعلى الطرف النقيض من تحديد الأجل بالموت يتم تحديد الأجل بالقضاء والقدر؛ فكل مقتول ميت بأجله، وبالتالي يكون الموت هنا أحد موضوعات الجبر والاختيار قبل أن يكون بداية موضوع آخر بلحظة الموت أو ما بعدها وهو موضوع المعاد.٤٨ فالمقتول ميت لأجله والأجل واحد، والله خلق الآجال وقدرها.٤٩ ومن مات رغمًا عنه، حتف أنفه أو قُتل، فقد مات بأجله، وكان يمكن ألَّا يموت وأن يزيد الله في عمره، ولكن ما دام أجله قد حان يجب عليه الموت، فلكل أجل كتاب، سبب القتل هنا هو سبق العلم وشمول الإرادة، وإن لم يمت بقدر الله مات بغيرِه حتف أنفِه، وبالتالي يتحوَّل الأجل إلى جبرٍ أو إلى موت جبر، ويصبح الموت مطارِدًا للإنسان كما يصبح طريد الموت أينما يفرُّ منه الإنسان؛ فهو ملاقيه كما في أسطورة أورفيوس عند القدماء، فلا زيادة ولا نقصان في العمر، وإذا كانت الزيادة بركة فهل النقص قلة في البركة؟٥٠ إن استخدام الأجل والقضاء لتبرير الموت والتعمية عن حوادث الطريق والفقر والاغتيالات وكل الشرور والآثام؛ لَهو تعميةٌ عن الحقائق في سبيل مزايدة في الإيمان يرضى عنها السلطان ليتستَّر وراءها إخفاء للأسباب المباشرة لموت الرعية.٥١ مع أن المحافظة على الحياة أساس الشرع.٥٢ إن عدم الالتفات إلى الأسباب المباشرة للموت جهلٌ بالأوضاع الاجتماعية وعدم حرمة لحياة الناس وتعمية وتغطية على حوادث الطرقات وأسلاك الكهرباء العارية والبالوعات المفتوحة والمنازل الآيلة للسقوط والبنايات الهشة رغبةً في الربح وسرقة للأموال، والأغذية الفاسدة والأمراض العضالة، والقتل من أجل السرقة والفقر والجوع، والحروب العدوانية، ويُستعمل «لكل أجل كتاب» في الدين الشعبي لتبرير كل شيء للسلوى ولدفع الأحزان، ولماذا تفريغ الغضب؟ أليست مسئولية الحاكم في المدينة أن يسويَ الطريق لبغلتِه حتى لا تعثر في الطرق؟ فما بال أمم بأكملها تتعثَّر بأيدي الحكام قبل أن تكون بأيدي الأعداء؟ وما الفائدة من إعطاء الله الحق النظري لإطالة العمر ثم لا يُطيله بالفعل؟ ما الفائدة من نيةٍ لا تتحقَّق في فعل أو قدرة لا تخرج في قرار؟ ولماذا لا يعيش الإنسان أكثر حتى ينتج أكثر ويعلم أكثر ويحقِّق الرسالة في مراحل أخرى؟ ولماذا الدفاع عن الموت وعن القتل والقاتل؟ ولماذا لا يبقى طول العمر وإطالة الحياة؟ وإن فن العيش كله في إطالة الحياة ومحاربة الأمراض وتقوية البدن واكتشاف العقاقير، وكثيرًا ما صاغ الشعراء والفنانون شعر الحياة وفن الحياة وحب الحياة، ونحن نقدِّس الموت والمرض، فيموت الإنسان رغم أنفه ويلاقي حتفه، فنتمنَّى العدم أكثر مما نعشق الوجود.٥٣ إن رفض الموت قتلًا على الأقل يُبقي على الحياة كقيمةٍ، ولماذا لا يتمنَّى الإنسان حياةً أكبر دون موتٍ يقضي على رسالته؟ قد يُقبل الإنسان على الموت اختيارًا لا رغمًا عنه حتف أنفه لإكمال الرسالة، قد يموت الإنسان شهيدًا باختيارِه وليس رغمًا عنه، تضحيةً بحياته وليس رغمًا عنه للقاء حتفه مدفوعًا إليه دفعًا، وهل القتل فرديٌّ أم جماعي؟ هل قتل الشعوب المناضلة من أجل حرياتها والثائرة من أجل تحرُّرها موت بآجالها أم أن الله هو الذي قتلها أم أنها ضحت بالملايين في سبيل حريتها؟
لولا أسباب الموت لكان ممكن للإنسان أن يعيش أكثر، ولولا الجوع وحوادث الطريق والأمراض لعاشت كثيرٌ من الشعوب، ولقلَّت نسبة الوفيات وزادت نسبة الأحياء، وبالصحَّة ترتفع نسبة المعمَّرين، المقتول غير ميت لأن الموت من الله أو من القاتل وكان يمكنه أن يحيا، المقتول مقطوع عليه أجله، فوجب على القاتل أن يُقطَع عليه أجله في القصاص، لو لم يُقتل الإنسان لما مات في ذلك الوقت، ولا يمكن أن يموت الإنسان بلا قتل، إن معنى أن تزيد الطاعات في العمر أن وفرة الصحة والسعادة تطيل في العمر؛ فالطاعات سببٌ أول يؤدِّي إلى أسبابٍ أخرى ثانيةٍ مثل الاستيقاظ المبكِّر للصلاة، وعدم التخمة والصوم، والاطمئنان الداخلي؛ أي الصحة النفسية، أمَّا في أصل الوحي فيتدرَّج الأجل من الأجل بين الزوجين إلى أجل الدين إلى أجل الفرد في عمره إلى أجل الأمة وحياتها في التاريخ إلى أجل الكون كله وانتهاء الزمان.٥٤

(٢-٢) الأرزاق

ليس خلق الأفعال مسألةً فلسفية نظرية خالصة، بل يتعدَّاها إلى موضوعات عملية ترتبط بمصالح الناس مثل الرزق والكسب والمال والسوق والأسعار والغنى والفقر، إلا أن موضوع الأرزاق أهم من موضوع الآجال؛ لأن قدرة الإنسان على السيطرة على الحياة والموت محدودةٌ نظرًا لتشابك وجودِه في عديد من العلاقات البدنية والبيئية والاجتماعية، أمَّا الأرزاق فللإنسان قدرةٌ أعظم للسيطرة عليها، وإذا كانت الآجال، على أكثر تقدير، أقربَ إلى الإرادة الإلهية، فإن الأرزاق على أقل تقدير أقرب إلى الأفعال الإنسانية، والعجيب أن يعتبرَها القدماء غير مهمة وهي موطن الصلة بين التوحيد والنشاط الاقتصادي، والانتقال من توحيد الذات والصفات والأفعال إلى توحيد الثورة والمجتمع والنشاط الإنساني والإنسان في العالم.٥٥ ومع ذلك يذكرها القدماء وكأنها من أفعال الله بقضاء الله وقدره! وأن كل المصائب والمحن والشدائد وما يصيب الإنسان من فقر وبؤس وحرمان كلها بتقدير الله وقضائه، وكيف يكون الرزق بقضاء الله وقدره وليس بجهد العباد في إطار النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يوجد فيه الإنسان؟ ولما كانت جماهير الأمة فقيرةً وبائسة ومحرومة يُضرب بها المثل بالقحط وسوء التغذية والجوع، وتصنَّف ضمن الشعوب المتخلفة أو العالم الرابع، أي عالم ما تحت خط الفقر، فإن جعْلَ الرزق بقضاء الله وقدره تبريرٌ للفقر والبؤس والحرمان وقبولٌ للضنك وشَظَف العيش، ولماذا تكون جماهير الأمة ضحية القضاء والقدر ويكون الحكَّام من محظياته؟ إن ذلك يؤدي لا محالة إلى الإبقاء على الأوضاع القائمة من استغلالٍ وفقرٍ واحتكارٍ وتفاوتٍ شديدٍ بين الطبقات والقضاء على أية إمكانية في التغيير وتحقيق العدالة بين الناس وتطبيق النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للشريعة، وهنا تكون العقيدة ضد الشريعة وليس أصلًا لها، وتكون الأوضاع الاجتماعية مناهضة للشريعة والعقيدة معًا. والقضية من جديد هي العلة الأولى التي تعلق عليها أخطاء البشر والتي تمثِّلها الأقلية ضد الأغلبية في مواجهة العلل الثانية التي تعجز الأغلبية حتى عن تمثُّلها.٥٦

ولتثبيت ذلك إلى الأبد تُكتب الأرزاق في «اللوح المحفوظ» الذي لا يمَّحي فيه شيء؛ فلا يمكن الزيادة في الرزق أو النقصان منه، زيادة رزق الفقير والنقصان من رزق الغني؛ فالله هو الخالق والرازق، وكأن الخلق هو الرزق مع أن الخلق حق الله والرزق حق الإنسان، لله كل شيء وللإنسان بعض الشيء، وبالرغم من أن الله هو الرازق الحق للخلق وأن السلطان هو الرازق بالمجاز للرعية والأمير هو الرازق بالمجاز، إلا أنه ما أسهل التوحيد بين الله والسلطان والأمير، وما أسهل أن تتحوَّل الحقيقة إلى مجاز والمجاز إلى حقيقة، خاصةً في نظام يعتمد على حجَّة النقل والتأويل الحرفي للنصوص، وأن الاستدلال بالنقل على أن الأرزاق مقسومةٌ تمنع الفقير من المطالبة بحقِّه في مال الغني، فتفسير النص موكول لفقيه السلطان.

فإذا ما كان لجهد الإنسان دورٌ في تحديد رزقه، فإن هذا الجهد لا يظهر في أفعال التقوى أو الفجور، فيزداد رزق التقي ويقلُّ رزق الفاجر، بل في الأفعال الاقتصادية من إنتاج وربح ومشاركة وأجر؛ فالأخلاق في باطن الاقتصاد وليست بديلًا عنه، وإن تصور الأخلاق بديلًا عن الاقتصاد هو حل للقضية الاجتماعية عن طريق الأخلاق الفردية دون ما تغيير بجوهر النظام الاجتماعي، وإن الإقرار بالظلم لا يكفي للتغير الاجتماعي، فقد ينتج عنه مجرد الندم دون تغير اجتماعي أو ثورة، وإن عدم استيفاء الرزق لا يكون بالضرورة مشروطًا بالموت، فهناك من الأحياء ما لا تُستوفى أرزاقهم؛ ومِنْ ثَمَّ فلا سبيل لهم إلا الموت انتظارًا لاستيفاء الرزق!٥٧ وقد تحول ذلك كله إلى دين شعبي يؤمن به الناس، فقد تحوَّلت عقيدة السلطة إلى عقائد الجماهير بفعل السيطرة على أجهزة الإعلام وتوجيه التربية الدينية في المدارس، وحتى في هذا الاعتراف بالزيادة والنقص في جهد الإنسان، هل الموضوع دراسة علمية للدخول والأجور أم مجرد تمرين عقلي مقلوب لإظهار القدرة الإنسانية في مقابل القدرة الإلهية، كرد فعل على اعتبارها من أفعال الله وليست من أفعال الإنسان نتيجة لعمله وأنماط الإنتاج في مجتمعه وتوزيع الدخل القومي فيه وسياسة الأجور ونوع النظام الاقتصادي؟ وإذا كانت الأرزاق من أفعال الله، فكيف يَقْتِر الرزق على المؤمنين ويبسطه على الكافرين؟ وهل بسطه الرزق لدى المؤمنين وضيقه على الكافرين من الله؟ وهل زيادة رزق المؤمن من ممارسته للشعائر والعبادات وأدائه للصلوات وذَهابه مع الحجيج سبع مرات؟ إن الأرزاق أوضاعٌ اجتماعية وسياسية واقتصادية لها قوانينها في أحوال المعاش كما يبدو ذلك في أصل الوحي وتنظيمه لسيولة الأموال في المجتمع، ويعتمد القدماء على الحجج النقلية دون العقلية حتى يمكنَهم الارتكان إلى حجة السلطة وإبعاد العقل عما يمسُّ الناس ومعاشهم طالما أن فقيه السلطان هو المفسر الأعظم لنصوص الوحي!
وهناك ثلاثة تعريفات للرزق: الأوَّل: الرزق هو الملكية، ورزق الإنسان هو ما يملكه الإنسان؛ ومِنْ ثَمَّ لا تُرزق البهائم لأنها لا تملك، أمَّا مصدر الملكية فهي إمَّا الحيازة أو الإرث أو المبايعة أو الهبة، وكلها مصادر شرعية! والسؤال الآن: ألَا توجد ملكية عن طريق السرقة والاغتصاب؟ وماذا عمَّن لا يملك؟ أليس له رزق؟ وكيف يأكل ويعيش؟ وماذا عن الملايين المعدمة التي لا تملك شيئًا؟ إن تحديد الرزق بالملكية أي بالاستحواذ هو تأكيد على الملكية كمصدر رزق بصرف النظر عن أنماط الإنتاج أو علاقات الإنتاج كطرق للكسب.٥٨ مع أنه في أصل الشرع لا وجود إلَّا للملكيَّة العامة، فالله وحده هو المالك، والله وحده هو الوارث، والإنسان مستخلَف فيما أودعه الله بين يديه، له حق التصرف والانتفاع والاستثمار وليس له حق الاستغلال أو الاحتكار أو الاكتناز، يبدو أن الأشعرية تنسى أن علم الأصول واحد بشقيه، أصول الدين وأصول الفقه، وتذكر الله عندما يتعلق الأمر بحق الله وتنساه إذا ما تعلَّق الأمر بحقوق الناس!
والمعنى الثاني هو كل ما يأتي الإنسان، سواء كان حلالًا أم حرامًا، وأحيانًا يتم التضييق فيصبح فقط ما لم يحرم تناوله، في المعنى الواسع الرزق كسب حلال أم حرام؛ لذلك نشأ السؤال التقليدي: هل يرزق الله عباده الحرام؟ والغرض من السؤال ليس الإجابة عليه بنعم أو بلا، بل إعطاء فرصة أخرى لعواطف التأليه؛ فالذات المشخصة تمثل القيمة المطلقة ولا تفعل إلا الخير، فلا يرزق الله إلا الحلال، كما يدل على رغبة في البحث عن أساس نظري للفعل خارج الفعل ذاته وبعيدًا عن الموقف الإنساني الذي يحدث فيه الفعل، فهو سؤال يقوم على افتراض الجبر وعلى إمكانية تدخُّل قدرة مشخصة من تقدير الإنسان للموقف وسلوكه فيه، وكيف يكون الحرام رزقًا وهو يستحق عليه العقوبة؟ وكيف يكون الحرام رزقًا خاصة وأن كل ما هنالك هو أنه يستحق العقوبة؟ ولماذا لا يمنع الرزق الحرام من الأساس؟ إن اعتبار الحرام رزقًا يفصل بين الواقع والقيمة، ويكون ذريعة للكسب الحرام واعتباره رزقًا، إن الدفاع عن الرزق الحرام وجعْله جزءًا لا يتجزَّأ من الرزق يُعطي ذريعةً للمجتمعات الحالية لتحليل الحرام وتحريم الحلال، وهي التي تعاني من أوضاع الفقر والغنى، والشبع والجوع، والاستغلال والاحتكار، إن الحلال والحرام من المسائل الاقتصادية يفيدان معنى الفعل القائم على الجهد والقيمة في مقابل الفعل القائم على الاستغلال، كما يشيران إلى قوانين السوق وقواعد الكسب ونظم الاقتصاد وقوانين الدولة، إن الذي يسمح بالتلاعُب في الأرزاق والأسعار والتحايل على القوانين من أجل سلب الغير عملَهم ومن أجل استغلالهم هي طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يعيش فيه الإنسان ومدى ولاء الإنسان له أو تحايلِه عليه وتمثيله لحقوقه أو استغلاله، وليس قوة خارجية تمنع الفاضل منه وتدفع الشرير نحوه، هو النظام الذي يعيش الإنسان فيه والذي يعمل الإنسان إمَّا على إبقائه أو على تغييره، إن الحديث عن الرزق الحرام باعتباره رزقًا هو إحساس بفعل الاستغلال إمَّا نفيًا أو إثباتًا، نفيًا بالإيحاء بالاقتراب عنه وإثباتًا بالإيحاء بالابتعاد عنه طِبقًا للمثل الشعبي «يكاد المريب يقول خذوني»، ومهما كانت هناك من حجج عقلية فإنه يبدو فيها التشريع للنهب والسلب مثل الاعتماد على أن ما أكلتْه الدابة وما أخذه اللص رزق، فالإنسان ليس دابةً وليس لصًّا، الإنسان ذو عقل ووعي وعمل وجهد، وكيف تُدافع الأشعرية عن الرزق الحرام دون التأكيد على أن الرزق الحلال وحده هو الرزق، وهل انعدم الرزق الحلال وعم الرزق الحرام؟ وماذا عن المحرومين الذين ليس لديهم لا هذا ولا ذاك، لا رزقًا حلالًا ولا رزقًا حرامًا؟٥٩ وكيف يرزق الله الحرام؟ لذلك استعمل المتأخرون مفهوم الحلال المباح الذي لا يُبحث عن أصله واعتباره رزقًا هكذا بفعل الوجود، ثم تضفي عليه الشرعية ويصبح مباحًا بنص أو إجماع أو قياس جلي حتى يحدث الاطمئنان الداخلي الإيماني الشرعي الضروري للوضع الخارجي الاجتماعي اللاشرعي. فتحدث السرقة باسم الدين، ويتم الكسب الحرام تحت غطاء الإيمان، والحاكم مطمئن والمحكوم قانع.٦٠ لذلك كان من الطبيعي أن يكون الرزق هو الحلال وحده دون الحرام توحيدًا بين الشيء والقيمة، فالحرام ليس رزقًا يتغذَّى به الجسم كموجود طبيعي. ليس الرزق هو المواد الغذائية، بل طريقة كسبها والعمل وراءها، أي أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج قبل أن يكون هو الشيء المنتج، ليس الرزق غذاءً وملكًا، أي غذاءً ومسكنًا وملبسًا، ما يدخل في بطن الإنسان، وما يكون فوقه أو تحته أو يمينه أو يساره أو أمامه أو خلفه. الرزق هو جهد الإنسان ونتيجة عمله وفائض قيمته، ليس الرزق ما يقيم الأَوَد فحسب، بل هو أيضًا رغد العيش ورحابة الحياة رفعًا لمستوى الفقراء ومساواة لهم بالأغنياء لو وُجهت الدعوة إلى الجميع فقراء وأغنياء وليس إلى الأغنياء وحدهم، إن الذي يحدِّد كون الكسب من الجهد الذاتي أو من الاستغلال للآخر هي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو ما لم يتعرَّض له القدماء قصدًا لأنها من الفروع أو من المطولات، وكأن الأصول هي مجرد الموضوعات النظرية الخالصة كالذات والصفات، وأن كل ما يمسُّ صالح الناس من المطولات، ويكفي أنها من اختصاصات الله أو السلطان، والحقيقة أنه يمكن معرفة منطق أحكام الشعور الاجتماعي، الأرزاق والأسعار، وما يتعلَّق بها من نشاط اقتصادي وتوزيع الثروات ومعرفة مظاهر الاغتصاب والاحتكار والاستغلال. وبالتالي يكون علم أصول الفقه أقرب إلى تحقيق التوحيد من علم أصول الدين عند الأشعرية.٦١
والمعنى الثالث للرزق هو المنتفع به؛ فالرزق ما ينفع الإنسان ولا يرزق الإنسان ما يضره، ولكن ما مدى هذا الانتفاع وحدوده؟ متى يتحول الانتفاع إلى أثرة وأنانية واستغلال؟ وهل ترتزق البهائم لمجرد انتفاعها؟ وما هي شروط الانتفاع؟ هل يجوز الانتفاع بما ليس ملكًا؟ هل يجوز الانتفاع بالاغتصاب وهل كل انتفاع رزق؟ هل الأطعمة والأشربة والأقوات رزق أم حق طبيعي؟ ومع ذلك قد تبدو للانتفاع بعض المزايا على تحديد الرزق بالمعنى الأول، أي بالملكية؛ إذ إنه يمنع الاحتكار لأنه ملكية بلا انتفاع، وهو أقرب إلى تحديد المعنى الشرعي للملكية بأنها حق التصرف والاستثمار والانتفاع، وتعريف الرزق بالانتفاع هو تنويع على تعريفه بالملكية؛ فالرزق اثنان، انتفاع وملك، مشاع وخاص.٦٢ وينقسم الرزق إلى عدة أنواع؛ منه ما هو ظاهر على الأبدان كالأقوات، ومنها ما هو باطن في القلوب كالعلوم والمعارف، والأرزاق المقصودة فقط من النوع الأوَّل لأنها تتعلَّق بأفعال الشعور الخارجية وبأفعال الوعي الاجتماعي.٦٣ وقد تكون الغاية من ذلك الإيحاءُ بأن الرزق هو العلم، رزق القلب وليس هو الأجر والكسب أي الرزق الخارجي، رزق الجوارح، وبطبيعة التكوين الديني تؤثِر العامة رزق القلوب على رزق الجوارح، وتفضِّل العلم على الكسب تعويضًا عن جهلها راضيةً بفقرها، أمَّا قسمة الرزق إلى ما يحدث ابتداءً من الله بالإرث وما يحدث كسبًا من العبد، فإنه يجعل القسم الأعظم من الرزق خارج التساؤل؛ لأنه هبة للوارث من الله أو من الأب، أمَّا القسم الثاني وهو الأقل فإنه متروك للتوكل، فما لم تقضِ عليه الأشعرية قضى عليه التصوُّف؛ فالطلب والجهد والكسب والعمل قبيح؛ لأنه ضد التوكُّل ولأنه قد يوقع في الخطأ وفي ظلم الناس؛ فالأولى إذن عدم الطلب والكسب.٦٤ والحقيقة أن الرزق الأوَّل لم يأتِ عن طريق الجهد والكسب، والإرث احتمال قد يقع وقد لا يقع بدليل الصياغة الشرطية له في أصل الوحي، كما أنه في الأوضاع القائمة وحاجة الأمة إلى الاستثمار يصعب ترك مال دون استثمار، وإذا كانت الأنبياء قدوة، فإنها لا ترثُ ولا تُورَّث؛٦٥ لذلك قامت الحركات الإصلاحية الحديثة بنقد التوكل في التصوف دون أن تذهب إلى جذوره في العقيدة في علم أصول الدين، وفي أصل الوحي صحيح أن الرزق فعل الله كحقٍّ نظري وكنتيجة للخلق إلا أنه مشروط ﺑ«لو» التي تعبر عن الاستحالة، كما أنه مشروط بالهجرة والجهاد والتقوى والإيمان والعمل الصالح والمغفرة، هدفه الشكر وليس الاغتناء عن طريق الاغتصاب وأكل المال الحرام، وهو أيضًا فعل للإنسان في الكسب الحلال دون الحرام، ينفق منه الإنسان دون اكتناز حتى يأخذ المال دورته في الاستثمار مما يحقِّق النفع العام.٦٦

(٢-٣) الأسعار

وهو أقل الموضوعات تناولًا من الآجال والأرزاق، مع أنه هو الذي يكشف التلاعب في الأسواق وأسباب زيادة الأسعار، ومشاكل التضخم والبطالة والفقر كلها ترجع إلى غلاء الأسعار، وهو الذي يحرِّك الجماهير؛ لأنها تمس لقمة العيش والحياة اليومية.٦٧ لم يتناولها القدماء إلا لأن الله هو الذي يحدِّدها وليس السوق، وكأن الله هو الذي ينزل إلى الأسواق وإلى تجار الجملة ويتحكم في الأسعار من أجل مزيد من الربح، وغالبًا ما يكون التحكم في طريق الزيادة أي ارتفاع الأسعار ولا يكون أبدًا من أجل خفضها أي رخص الأسعار، وكأن التحكم الإلهي في الأسعار يسير طبقًا للتضخم وارتفاع مستوى المعيشة باستمرار، ولصالح التجار ضد مصالح المستهلكين، وما دام الرزق يكون حلالًا أو حرامًا، فإن الأسعار بالتالي تكون أحد مصادر الرزق الحرام، فكل ارتفاع في الأسعار يدخل في جيوب التجار فهو ربح، وكل ربح رزق، وكل رزق يُنتفع به بصرف النظر عن الحلال والحرام!٦٨ ويتم الاعتماد في ذلك على بعض الأحاديث الآحاد أو الضعيفة التي يمكن تأويلُها على معنى آخر، وهو عدم إزعاج المسلمين بارتفاع الأسعار وخفضها؛ بعثًا للطمأنينة في نفوسهم ولاستقرار الأسواق أو طبقًا لقوانين السوق وحاجات المسلمين وكما هو مقرر في علم أصول الفقه في أحكام السوق، والمعنى الحرفي للنص معارض بالاقتصاد الإسلامي وحق الحاكم في التأميم والمصادرة للمال المستغل دفاعًا عن المصالح العامة.٦٩
الأسعار من أفعال العباد ومن وضع الناس طبقًا لحاجات السوق.٧٠ وهناك فرق بين السعر والثمن؛ فالسعر اتفاق بين المشتري والبائع في حين أن الثمن هو علاقة السعر بقيمة الشيء، الأسعار تعلو وتهبط طبقًا للحاجة، ولكن الثمن يظل كما هو، ويمكن التحكُّم في الأسعار بقوانين السوق ووضع حدود على الربح فيما عمت فيه الحاجة، فإذا ما تم التوحيد بين السعر والثمن يحدث البيع بسعر التكلفة دون هامش للربح، ويعظم الربح ويتحول إلى استغلال للتجارة كلما زاد الفرق بين السعر والثمن، وتحول الثمن في السعر إلى أضعاف مضاعفة.٧١
وإذا ما جعل التسعير من أفعال العباد أمكن معرفة أسباب الغلاء والرخص التي رآها القدماء في عاملَي البلد والوقت فقط؛ أي المكان والزمان، دون بيان لأنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وكأن المكان والزمان هما المحددان الوحيدان لمظاهر النشاط الاقتصادي في المجتمع، أمَّا قانون العرض والطلب إن لم يكن هو المقصود بعامل الوقت فما زال من الله ولا يتوقَّف على حاجة السوق وكمِّ المعروض، وإذا كان السلطان قادرًا على التحكُّم في التسعير وذلك بتثبيت الأسعار، فهنا يظهر الله والسلطان معًا متداخلَيْن في النشاط الاقتصادي دون ما تحليل للنشاط الإنساني في الإنتاج وللبنية الاجتماعية وأثرها في توزيع الدخول.٧٢ وهل النشاط الاقتصادي كله مركَّز في الأسعار؟ ماذا عن الإنتاج والأجر ورأس المال والربح وتوزيع الدخل ومقدار العمل كقيمة للشيء؟ يبدو أن تحديد الأسعار فيها كان عند القدماء هو الوسيلة الأولى للتحكُّم في الأسواق في المجتمع التجاري القديم، والعجيب أنه في أصل الوحي لا وجود لمفهوم السعر، أمَّا الثمن فلا يعني إلا القليل.٧٣
(د) الفقر والغنى؛ وهو الموضوع الأخير في خلق الأفعال، وأحيانًا يكون الغنى والفقر، يبدو أحيانًا أصلًا مستقلًّا، ويبدو أحيانًا فرعًا على الأرزاق، وهو موضوع اقتصادي يُظهر البعد الاجتماعي لأفعال الشعور والأوضاع الاجتماعية الناتجة عنها، وقد وضعه القدماء في صيغة تفاضل، أيهما أفضل: الفقر أم الغنى، دون تحديد لمعاني الفقر ومعاني الغنى، ودون وصف للبنية الاجتماعية التي يظهر فيها الفقر والغنى، ودون تحليل لأسبابهما أو لمقدارهما أو لكيفية التقريب بينهما أو تركهما على ما هو عليه، يوضع السؤال هكذا على العموم دون تفصيل، وعلى الإطلاق دون الإشارة إلى مجتمع معين أو حالة معينة، فالتفضيل نظري خالص، وكأن الأمر مجرد استحسان وتذوق لحالَيِ الغنى والفقر كما هو الحال في الأمثال العامية والآداب الشعبية التي تقرظ الفقر أو تلك التي تمدح الغنى، والحقيقة أنه لا يمكن التفاضل بين مقولتين مجردتين، الغنى والفقر، أو حتى بين شخصين معينين، الغني والفقير؛ لأنهما وضعان اجتماعيان يوجدان في زمان ومكان معينين، وقد يوجد فقير مناضل ثوري، وغني مستغل محتكر، وفي هذه الحالة يكون الفقير الأوَّل أفضلهما، وقد يوجد فقير كسول خامل متواكل، وغني نشط منتج يستثمر أمواله للصالح العام، لا يحتكر ولا يستغل ولا يكتنز، وفي هذه الحالة الغني الثاني أفضل.٧٤ وماذا يعني الغنى؟ هل هو غنى المال أم النفس أم الحق أم النبوة؟ وما هو الفقر؟ قد يكون الفقر هو فقر النفس والروح والعقل والقلب. وما هي حدود الغنى وحدود الفقر؟ كل غني يريد أن يزيد غناه فهو فقير، وكل فقير يزداد فقرًا كان غنيًّا من قبل ثم افتقر، ما هو الحد العاقل بين الغنى والفقر؟ هل هو خط الفقر؟ هل هو إشباع الحاجات الأولية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن؟ وماذا عن طبيعة المجتمع ومقدار الدخل القومي فيه؟ إذا كان ناتجُه القوميُّ ضئيلًا وسكانُه كُثر. فالكل فقير، وإذا كان سكانه أقل يزداد الدخل الفردي، وإذا كان الدخل القومي مرتفعًا والعدد كثير فالكل غني، وإذا كان سكانه أقل فالكل أيضًا غني ولكن بدرجة أقل، ليس المهم التفاضل في الآخرة بل في الدنيا، التفاضل في الآخرة جزاء وثواب، في حين أن التفاضل في الدنيا كسب وعمل، الأوَّل لا يمكن تغييره في حين أن الثاني يجب تغييره، والأول مشروط بالثاني لما كان الجزاء من جنس العمل طبقًا للاستحقاق، والتفاضل في الدنيا أساسًا في العمل وليس بالغنى أو الفقر، قد يؤدي العمل إلى الغنى، ولكن يكون الغنى في هذه الحالة مشروطًا بقيمة العمل من ناحية وبمقدار الإنتاج والدخل القومي من ناحية أخرى، فلا يمكن لعملٍ أن يؤدي إلى غنًى في بلد محدود الدخل مهما كان هذا العمل فاضلًا، ولا يمكن لعمل فاضل أن يؤدي إلى فقر أو إلى ما تحت خط الفقر، وهل اعتبار العمل الصالح مقياسًا للتفضيل وليس الفقر أو الغنى هروبًا من النشاط الاقتصادي إلى العمل الأخلاقي، أو إيهامًا للفقير بأنه أفضل من الغني بالعمل الصالح وبأن الغني أشر منه بعمله الفاسد؟ ولماذا لا تُطرح قضية العدالة الاجتماعية مباشرةً في مجتمع به الأغنياء والفقراء لإعادة توزيع الدخل القومي طبقًا لقيمة العمل وحده؟ ليست المشكلة أخلاقية، بل هي مسألة اقتصادية تعبِّر عن مضمون العقيدة وعن مضمون التوحيد، ولا توجد حجج نصية لها فحسب، بل تقوم على تحليل النشاط الاقتصادي في المجتمع ونسبته إلى العمل والقيمة والربح والدخل.
ومع ذلك فقد أجاب القدماء على الأخلاق بأفضلية الغنى على الفقر، وأن الغني مطالبٌ بالشكر، وأن الفقير الذي لا غنى له مطالبٌ بالصبر،٧٥ وكيف يكون الغني الشاكر خيرًا من الفقير الصابر؟ وهل الشكر على الغنى فضيلة أم تستُّر على مصادر الغنى طلبًا للمزيد؟ وهل الصبر على الفقر فضيلة أم تسكين وتخدير للفقراء؟ وكيف يتساوَى الاثنان في التقوى؟ وهل تقوى الغني صادقة أم ظاهرة؟ وهل تقوى الفقير ممكنة أم عزاء وسلوان وتعويض عن حرمان؟ ألَا تعني الاستعاذة من فتنة الفقر وفتنة الغنى ضرورة تغيير الأوضاع الاجتماعية ودرء الفتنتين معًا، فتنة الغنى وفتنة الفقر؟ إن كل الحجج النقلية والتاريخية لتفضيل الغنى على الفقر إنما يُردِّدها الأغنياء ترويجًا للغنى وتأكيدًا عليه كفضيلة، فإغناء الله للرسول لم يكن بالمال بل بالقناعة والزهد والعلم والنبوة، ولم يكن كل الأنبياء أغنياء، بل كان فيهم الفقراء المعدمون الذين لا يملكون شيئًا من حُطام الدنيا، ولم يكن الصحابة أغنياء بل كان فيهم فقراء المهاجرين، وإن إدانة الفقر ليست لطلب الغنى ولكن للصراع ضد الأوضاع الاجتماعية التي تنتج الفقر ولتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين الناس، وليست حرصًا على مكسب خاص أو زيادة ربح أو تراكم ثروة شخصية لغني.
ويستحيل أن يكون في الغنى جمعٌ بين عبادة النفس وعبادة المال، فلا بد أن تطغى الثانية على الأولى ويتحوَّل الإيمان إلى ستار ليخفي عبادة المال، صحيح أن المال الصالح ينتج مع الرجل الصالح، ولكن ما الضمان على أن المال الصالح يكون باستمرار بين يدي الرجل الصالح؟ إن المعروف اجتماعيًّا وتاريخيًّا أن المال مَفْسدة، وأن المال في غالبيته فاسد، بل ويُفسد الرجل الصالح، والمال الصالح لا يكفي الرجل الفاسد، والأخلاقيات لا تغيِّر من الوضع الاجتماعي والنشاط الاقتصادي والنظام السياسي شيئًا،٧٦ وفي أصل الوحي يشير الغنى إلى أنه فعل أكثر منه اسم، أي أنه نشاط أكثر منه شيء، وهو وإن كان فعل الله إلا أنه أيضًا فعل الإنسان، فالغنى صفة لله ومطلب للإنسان، ولكن معظم الاستعمالات الفعلية نافية؛ فالغنى والكسب والمال والأولاد والمتاع كل ذلك لا يُغني. والنذر والشفاعة والمولى والآلهة كلها لا تُغني، فالغنى زائل. ويظهر البعد الاجتماعي للموضوع في حثِّ الأغنياء على التعفُّف وعلى ضرورة دورة المال في المجتمع دون أن يكون حكرًا على حفنة من الأغنياء. وأموال الأغنياء وإنفاقها في الحرب ضرورة لا استئذان فيها.٧٧
وكيف يكون الفقر أفضل من الغنى، والفقير أفضل من الغني؟ كيف يكون الفقير الصابر خيرًا من الغني الشاكر؟ ألا يعني ذلك بقاء الفقير في فقره واستمرار الغني في غناه؟ ولماذا لا يكون الفقراء أفضل من الأغنياء لا بمعنى التسكين والتخدير، ولكن لثورتهم على الأغنياء ومطالبتهم بحقوقهم ولتحقيق مجتمع العدل والمساواة. فهم أكثر إنتاجًا وجهدًا وعملًا ومقاومةً. والأغنياء أكثر بطالةً ورخاءً وبطنةً وترهلًا. ولا تعني أفضلية الفقراء على الأغنياء دخولهم الجنة قبلهم، بل تغيير حالهم في الدنيا. كما لا تعني أن الإنسان يولد فقيرًا ويعيش فقيرًا ويموت فقيرًا، وأنه قد استغنى عن الغنى، فالاستغناء عن العالم المادي ليس تخليًا عن المبادئ فيه. والزهد في العالم ليس انعزالًا عنه، بل تقوية للنفس واستعدادًا للجهاد كنوع من البساطة وضرب المثل لجماهير الفقراء بشظف العيش وقدوة للناس. وإن الدعوة بالحياة مع المساكين والموت والبعث معهم إنما تعني الالتحام بجماهير الأمة، وبأغلبيتها الصامتة وأن تكون القيادة معهم مثلهم كالسمك في الماء وليست أعلى منهم تتكسَّب على قضاياهم وتعيش على حسابهم؛ ولذلك كان الأنبياء فقراء باعتبارهم قادة أمم ومحرري شعوب. قد يسعد الغني بغناه في الدنيا، ولكن إذا ما قامت ضده الثورة فقط تُطاح الرقاب. وشقاء الفقير في الدنيا إنما هو مؤقَّت ريثما تتحقَّق العدالة والمساواة. وهناك عالم يتساوى فيه الجميع ليس فقط في الآخرة ضرورة بل في الدنيا إمكانًا.٧٨

(٣) خاتمة. هل الحرية مشكلة؟

يبدو أن موضوع العدل إنما يجد حله في أصل التوحيد؛ فقد أدى إثبات أن الصفات زائدة على الذات إلى القضاء على استقلال الطبيعة وإثبات خضوعها إلى إرادة وقدرة خارجية عنها؛ فالذات فعالة في العالم من خلال الصفات والأفعال، وهي علَّة الكون وسيد الطبيعة. في حين انتهى إنكار كون الصفات زائدةً على الذات إلى استقلال الطبيعة وحتمية قوانينها وارتباط العلَّة بالمعلول ارتباطًا ضروريًّا؛ لأنه لا توجد صفات مطلقة، إرادة أو علم تتدخل في مسارها. فالمؤلَّه ذات خالصة لا يتدخل في قوانين الطبيعة؛ لأنه لا صفات له، وهو التصور العلمي للطبيعة، كما تنشأ المشكلة في إثبات الصفات مع تصور تضاربها وتصور أن العلم مضاد للإرادة أو أن الإرادة معارضة للقدرة: هل ما يعلمه الله يكون أو هل يكون ما لا يعلمه مع أن الأقرب اتفاق الصفات وليس تضاربها ووحدة الله وليس تعدُّده.

(٣-١) الطرف الآخر المقابل للحرية؛ الله أم العالم؟

وأحيانًا تتشعَّب الموضوعات كلها حتى يغيب الموضوع الأساسي والتحليل الدال؛ وذلك لأن الحرية ليست في العالم، وأن الطرف الحقيقي لها لفعل الإنسان هو الله وليس العالم، وأن القيد هو إرادة الله الشاملة وليس الموقف والعقبة والقيد والنظم الاجتماعية والسياسية. وقد أدى ذلك إلى تصوُّر الإنسان والله أعداء، بقدر ما يكون الله حرًّا يكون الإنسان مجبرًا، وبقدر ما يكون الإنسان مجبرًا يكون الله حرًّا بدلًا من تصورهما متعاونين كإخوة أعداء.٧٩ والسؤال الآن: هل هناك مشكلة حقيقية تُسَمَّى مشكلة الجبر والاختيار أو مشكلة القضاء والقدر أو مشكلة الحرية؟ لقد أفاض القدماء فيما سموه مشكلة أو مسألة، وتضاربت الآراء بين جبر وكسب واختيار، كل رأي يعتمد على نصوص وحجج لتأييده. والحقيقة أن هذه المشكلة، كباقي مشاكل علم الكلام الأخرى، إنما تنشأ من هذا الوضع المقلوب للعلم ذاته «علم الله» بدلًا من «علم الإنسان». فالسؤال الآتي: كيف تتفق إرادة الله المطلقة مع إرادة الإنسان أو علم الله المطلق وقدره المسبق مع حرية الإنسان؟ صياغة خاطئة لموضوع إنساني هو الفعل. لا يستطيع الإنسان إلا أن يشعر بإرادته وليس لديه أية وسيلة للشعور بإرادة خارجية تحدُّ من قدرته وتقف أمامه بالمرصاد أو تساعده وتؤيده. صحيح أن هناك عقباتٍ أمام الفعل الإنساني وهي الموانع الموجودة بالفعل، في الواقع، من قيد بدني أو ضعف باعث أو عدم وضوح فكر أو نقص في كمال غاية أو وجود موانع في البناء الاجتماعي أو عدم حلول لحظة الفعل المواتية كي يتحقق بنجاح، ولكن هذه العقبات عوامل مادية موجودة بالفعل يمكن معرفتها. وتصورها على أنها إرادة خارجية تحد من الفعل وتفرض نفسها عليه تشخيص لها، والتشخيص الانفعالي ضد التحليل العقلي؛ فالأول إدراك خاطئ ووهم بينما الثاني علم ويقين. فإذا لم تقف هذه الإرادة الخارجية للحرية الإنسانية بالمرصاد — مع أن هذا هو الشائع في التراث القديم كله — فإنها تأتي للعون والمساعدة والتوفيق. وهذه المساعدة في حقيقة الأمر ما هي إلا القوة المفاجئة التي تحدث للإنسان صاحب الحق ومحقق الرسالة أثناء الفعل ودون توقع من طبيعة الحركات ومكونات الموقف. هي قوة نفسية خالصة تعبر عن درجة تمثل الإنسان للغاية وشدة الباعث. وهنا لا يكون الكم هو المقياس، بل يُضاف إليه الكيف. وكم من مرة انهار كم أمام كيف. كل ذلك تحليل للإرادة الإنسانية ووصف لمضمونها وتحققها في أفعال. ويستطيع الإنسان أن يعلم ذلك بتحليل شعوره ورؤية ما يدور في باطنه واستقراء مسار التاريخ ومعرفة قوانين تطور المجتمعات البشرية.

فإذا أخذ الإنسان هذا الموقف الإنساني بدافع من الأمانة الفكرية والتواضع العلمي، والعلم بمصادر معرفته وبعمليات الشعور، لم ير إلا حريته من خلال وصفه لشعوره وأفعاله، ولم يقع في تشخيص عوامل موجودة بالفعل كالعقبات أو ظهور قوى مؤيدة لم تكن في الحسبان نتيجة لطهارة الوعي، ونقاء الضمير، وصفاء النفس، وكمال الغاية. ولم ير إلا الحرية من خلاله، ولم يشخص إرادة خارجية مطلقة تقف له بالمرصاد. ذلك لا يتم إلا من نقصان في الوعي وسيادة الانفعال على العقل، والإحساس بالضعف أمام العقبات، فيشخصها إلى إرادة أقوى منه مضادة له أو إلى مصدر قوة أخرى يأخذها في صفه ويستمد منها قوته ويعوض فيها عجزه، يتعبدها ويتقرَّب إليها ويتزلَّف لها ويُرضيها إلى حد النفاق ببناء البيوت كما يفعل لأميره أو لأسرته أو لحبيبته. صحيح أن الوحي المتضمن في الكتاب أخبر عن قدرة مطلقة وإرادة شاملة تعمُّ كل شيء كصفة، ولكن هذه القدرة ضمن وظيفة التوحيد العامة، وهي الإحساس للإنسان بأنه في عالم واحد يشمله قانون واحد. ومهمة الإنسان في معرفة هذا القانون وتحقيق فعله طبقًا لمساره وليس مضادًّا له لأنه هو طبيعة الأشياء، بل إن إرادة الإنسان، بنص الوحي، هي الموجهة والمحققة للإرادة الشاملة. وتنشأ الحركة في هذه الإرادة الخارجية بفعل الإنسان الذي يفعل فيها بفعله. يفعل الإنسان الخير ثم يُعطى الجزاء. ولا جزاء قبل فعل الإنسان للخير. ويفعل الإنسان الشر وينال العقاب، ولا عقاب قبل فعل الإنسان للشر. ويستغفر الإنسان وينال المغفرة، ولا مغفرة قبل أن يستغفر الإنسان، ويتوب الإنسان فينال التوبة، ولا توبة قبل أن يتوب الإنسان. ويمكن أن يُقال نفس الشيء على مستوى الانفعال لا على مستوى الفعل فحسب، فإذا فعل الإنسان الخير حدث الفرح والسرور عند الآخر، ولا يفرح الآخر أو يسر قبل أن يفعل الإنسان الخير. ويحزن الآخر ويأسى إذا فعل الإنسان الشر، ولا يحزن الآخر ويأسى قبل أن يفعل الإنسان الشر.

مهمة الوحي الإيحاء للإنسان بأن هناك قدرةً في الكون أقوى من كل قوة طبيعية أو إنسانية أخرى، بمعنى أن لا شيء في هذا العالم بمستعصٍ على الحركة والتغيُّر. فيتمثل الإنسان حريته ويغيِّر بناء واقعه. فلا شيء بثابتٍ في هذا العالم، وكل شيء خاضع لإرادة عامة، هي الإرادة التي يتَّحد بها الإنسان بسيره وَفْق طبيعة الأشياء ومسار التاريخ. مهمة الوحي الإيحاء للإنسان بأن الطبيعة عاقلة، وأن الإنسان يعيش في عالم من المعاني. وأنه لا يوجد شيءٌ في هذا العالم بلا سبب أو غاية. رسالة الإنسان قائمة على وجود سببٍ هو أنه ليس من طبيعة الأشياء وليس على مستواها؛ لذلك فهو سيد الكون، وأنه كلما تأمَّل في حياته وجد أنه بقدرتِه أن يفعل كل شيء وأن يكون سيدًا مطلقًا في هذا الكون. والسبب قد يؤدي إلى الغاية؛ فالإنسان يعيش في هذا العالم لغاية. فهو رسالة، والكون غاية. والإيحاء بأن هناك قدرةً شاملة تعمُّ كل شيء، تعني أن الرسالة موضوع قوة وصراع شامل يوجِّهه الإنسان لتحقيق رسالته. ولما كان الوحي موجهًا نحو الإنسان ومعطى له، فهو قصد إنساني موجه إلى الإنسان كغاية. الوحي والإنسان معًا غاية واحدة موجهة نحو العالم. كيف إذن يحاول عالم الكلام أن يتصور أن إرادة الوحي وإرادة الإنسان يسيران وجهًا لوجه في اتجاهين متعارضين، كل منهما يقابل الآخر ويقف له بالمرصاد؟ هذا القلب المبدئي هو سبب هذا التراث العريض من النظريات والحجج لحل مشكلة وهمية لا وجود لها ناتجة عن وضع خاطئ لعلاقة إرادة الوحي بإرادة الإنسان حتى يظهر الصراع بالقيام بمعركة في الهواء تتم في خيال المتكلم وتعبر عن عجزه في الواقع، وعلى سيطرة الانفعال على عقله، وعلى أنه يعيش في عالم حسي خالص. كل ذلك ناشئ عن الوهم بأن الطرف المقابل للحرية هو الله وليس الموقف، وأن الله هو ميدان الحرية وليس الطبيعة، وأن الإرادة الإلهية هي التي تقف للحرية بالمرصاد وليست صنوف القهر وأنواع العقبات التي تمنع الإنسان من التحرر.

(٣-٢) نظرية أم موقف؟

إن الجبر والاختيار في واقع الأمر ليسا نظريتين مبدئيتين، بل موقفان سياسيان كل منهما يحاول أن يجد تبريرًا نظريًّا له بالاعتماد على النقل أوَّلًا ثم على التعقيل ثانيًا. الموقف الأساسي موقف سياسي يكشف عن صراع قوى سياسية واجتماعية متناحرة من أجل السلطة والحكم، موقف السلطة وموقف المعارضة، موقف الحاكم وموقف المحكومين. والجبر والاختيار من أولى المشاكل التي ظهرت في الجماعة، ليس كموضوع نظري فحسب، بل كدلالة عملية وبوجه خاص كطرح سياسي. فإذا ما أراد الحاكم أن يتسلَّط وأن يتحكم بلا بيعة أو شورى، فإنه سرعان ما يجد مبررًا له في الدعوة إلى الجبر في أفعال العباد، والحرية المطلقة لإرادة شاملة يتمثلها الحاكم حتى يصعب بعدها التفرقة بين إرادة الله وإرادة السلطان، فكما أن الله حرٌّ يفعل ما يشاء فكذلك السلطان يفعل ما يريد، وكما لا يُجبَر الله على الشيء فكذلك لا يُجبَر السلطان على شيء.٨٠ أمَّا إنكار القدر وإضافة الخير والشر إلى الإنسان، فإنه يُعطي الإنسان مسئولية ويجعله مسئولًا عن كل ما يحدث في الواقع من أنظمة. فالحاكم مسئول، والرعية مسئولة. ويمكن التعامل بينهما على قَدَم المساواة. لا يوجد قدر خارجي يجعل من الحاكم حاكمًا أو يملي عليه أفعالًا لا يُعترَض عليها. ولا يوجد قدر خارجي يجعل الرعية ساكنة مطيعة للحاكم وكأن الحاكم قدرها.٨١ نظريات الجبر أو الكسب أو الحرية لها وظيفة في كل عصر، سواء من حيث النشأة أو من حيث الغاية. فهي تنشأ تعبيرًا عن طبيعة المجتمع وصراع القوى فيه. فإذا كان مجتمع ضغط وإرهاب تنشأ نظريات الجبر لتبرير وجوده ولمطالبة الجماهير بالتسليم والإيمان بالقضاء والقدر والترويج لمعتقدات القسمة والنصيب والحظ. تنشأ أوَّلًا كتبريرات عبقرية ممن جعلوا أنفسهم منظرين للأنظمة الاجتماعية والذين في العادة يقلبون الحق باطلًا والباطل حقًّا كما تهوى السلطة وكما يريد النظام، وقد يقوم الأفراد بذلك لمصلحتهم الشخصية لنيل الحظوة لدى الحاكم ثم تتبنَّى السلطة مقالاتهم للاستفادة بها على نطاق أوسع لإضفاء الشرعية على النظام وفرض الطاعة والولاء على العباد.٨٢ ثم تظهر صور المقاومة في هذه المجتمعات الضاغطة في الإيمان مثلًا بظهور مخلِّص يأتي ليخلِّص الناس من القهر والضغط والظلم ولينشر لواء العدل، وهي صورة خيالية للتحرُّر الفعلي أو عن طريق الحركات السرية لتحقيق انتصار عن طريق الخيال والتعويض النفسي حتى يتحول الضعف إلى قوة، والهزيمة إلى نصر. وتنشأ عند الجماهير الأخرويات أي أمور المعاد وتتخيَّل عالمًا آخر في نهاية الزمان يسود فيه العدل ويمحق الظلم. ينال فيه الجائع خبزه، والفقير غناه، والعاري ملبسه، والشريد مأواه، والمهضوم حقَّه، والضعيف قوتَه. وهي كلها مذاهب وعقائد تدل على أن الإنسان رسالة وأنه يضاد الظلم بالعدل، والباطل بالحق، والضعف بالقوة، والهزيمة بالنصر، ولكنه في موقف عاجز لا يستطيع أن يقوم بالرسالة الآن بالفعل فيحوِّلها إلى معتقدات وإيمان انتظارًا للفرج القريب. وفي المجتمعات المنتصرة، ولدى سلطة واثقة من سلطانها وإحساسها بأنها سلطة شرعية قامت على حق وليست بناءً على اضطهاد وقمع، فإنها قد تنشر نظريات الحرية المطلقة للإرادة الشاملة للحصول على مزيدٍ من التأييد ما دامت السلطة شرعية، وحث الناس على الكسب والعمل، كل حر فيما يريد باستثناء التعرض لسلطة الحاكم. ثم تظهر المقاومة في مثل هذا المجتمع المنتصر بإعطاء معنى آخر للحرية وهي حرية الإنسان في الاختيار حتى في الحكم وفي العمل من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الاختيار الحر في السياسة والاقتصاد، في الحكم والمال. المقاومة هنا سياسة اجتماعية في مواجهة النظام القائم، علنية وليست سرية، داخلية وليست خارجية. وفي المجتمعات المموهة التي تبغي إبقاء الوضع الحاضر على ما هو عليه دون تغيير تروج نظريات تجمع بين الجبر والاختيار حتى يغمض الفكر، ويتراخى الباعث، وتضمر الغاية، فلا يعود الناس يدرون شيئًا من عالم يحيط به الغموض وتغلفه الأسرار. ويصبحون أنصاف مجبرين، أنصاف أحرار، ويصعب التمييز حينئذٍ بين الرضوخ والتمرد، بين الإذعان والثورة، وفي الغالب ما يمتد نصف الجبر فيحتوي نصف الحرية، وينتهي الأمر كله بالرضوخ والإذعان والتسليم، ويُصبح نصف الحرية مجرد غطاء نظري يعبر عن حق لا وجود له.

(٣-٣) حرية أم تحرُّر؟

إن ما سمَّاه القدماء امتحانًا أو اختبارًا أو ابتلاءً هو في الحقيقة إعادة لوضع السؤال الوضع الصحيح؛ فالحرية ليست موضوعًا نظريًّا يُسأل عنه ثم يُجاب عنه بالإثبات أو بالنفي، بل هو موقفٌ نفسي اجتماعي تظهر فيه وقد لا تظهر. فالإنسان يوجد في موقف، ويجد في نفسه بواعث عديدة، ويشعر بإمكانيات عديدة للسلوك، يحقِّق الإنسان إحداها عندما يتبع الباعث الأقوى النابع من رسالته؛ لذلك آثر البعض إلغاء المشكلة النظرية كأحد حلولها وكأن حلها الوحيد هو إعادة وضع السؤال أو الانتقال من الحرية النظرية إلى الممارسة العملية.٨٣ لا تظهر الحرية إلا في موقف، كما لا يوجد الإنسان إلا في عالم. فالحرية في العالم. الموقف أو العالم هو الطرف الآخر لحرية الإنسان وليست أية إرادة خارجية مشخصة. وعلاقة الطرفين، الحرية والعالم، ليست علاقة رأسية كما هو الحال في الوضع القديم بين إرادة الإنسان وإرادة العالم المشخصة، بل علاقة أفقية يتحدَّد فيها سلوك الإنسان بين الإحجام والإقدام، بين الوراء والأمام. فما ظنَّه القدماء على أنه علاقة بين الإنسان والله هو في حقيقة الأمر علاقة بين الإنسان والعالم العريض، بين الإنسان والتاريخ بسلوك الإنسان فيه بين التأخُّر والتقدُّم. كما أن القيم لا تتفاوَت رأسيًّا بل تتفاوت أفقيًّا. القيمة الأكمل هي التي تحقِّق أكبر قدرٍ ممكن من العدالة لأكبر عدد ممكن من الناس، وأكبر قدرٍ ممكن من الحركة والتقدم لأكبر قدر ممكن من البشر. القيم مادية، في مادتها وصورتها وليست صورية فارغة. القيم محسوسة ملموسة وليست مضمرة متطهرة يتستَّر وراءها الشبق المادي. والقيم اجتماعية وليست فردية، عامة وليست خاصة، تعبِّر عن وجود الإنسان وكماله وطبيعته وليس عن عدمه ونقصه وزيفه وافتعاله. ولا يعني الابتلاء أو المحنة وقوع المصائب وأن الحياة هي مجموعة من المآسي تقع على رءوس البشر، بل تعني المحنة أو الابتلاء أن الحياة مجموعةٌ من المواقف أو التجارب أو الصعاب أو العقبات يتخطَّاها الإنسان بحريته. لا يثبت الفعل إلا بالمقاومة والجهد ولا يصقل إلا بالعقبة. ليست المحن هي المصائب البدنية أو المادية أو النفسية، بل هي التجارب التي يمر بها الإنسان والتي يوجد فيها وهو يحقِّق رسالته. المحنة في الدين شاملة لمحن الدنيا.٨٤
وهذا هو معنى التكليف؛ إذ يعني التكليف أن للإنسان رسالةً في الحياة، وأنه هو الذي قبلها باختيارها بما أنه سيد الكون وملك الطبيعة بما لديه من قدرة على القرار والاختيار الحر، وبما لديه من قوةٍ على التحقيق، قوة معنوية تطلق من حدوده البدنية وتجعله أقوى من السموات والأرض والجبال.٨٥
وكما تم هذا التكليف بحرية الإنسان وبإرادته، فإنه في الوقت نفسه يتحقَّق بحرية تامة دون قدر مسبق في علم مسبق أو بإرادة شاملة لوجود مطلق تفعل كل شيء. إن هذا التكليف ذاته عملية تحرر لولاها لارتكن الإنسان إلى بدنه، وتحول إلى طبيعة خالصة كسائر الموجودات ولأصابَه الوهن والثقل واعتراه الخمول والسكون.٨٦ وقد يعبَّر عن رسالة الإنسان في الحياة فنيًّا بالصورة فتنشأ الأخرويات وتكون الحياة الدنيا دار عمل والأخرى دار جزاء. وقد تتحوَّل رسالة الإنسان في الحياة إلى صورة كونية أخرى، فينشأ الإنسان في الوجود غافلًا ويستمر كذلك في جو من النعيم الدائم كالملاك، ثم يختار البعض منهم رسالته ويأتي إلى الحياة ليحققها؛ فمن حقق رسالته ارتفع إلى أعلى عليين في مكانة أفضل من الذين استمروا في النعيم الدائم لأنهم حصلوا على جزائهم بجهدهم لا بخلقهم. وإذا لم يحققوا الرسالة هبطوا أسفل سافلين. تُسلب منهم الرسالة ويتحوَّلون إلى أقل مرتبة في الوجود، وهي مرتبة غياب الوعي وانعدام حياة الشعور. ثم تعطى لهم فرصة ثانية للاختيار والتكليف، وهكذا تستمر الحياة تكليفًا برسالة ونجاحًا أو فشلًا في التحقيق، بلا نهاية وبلا يأس، وتستمر العملية طالما بقي الزمان.٨٧
وتحقيق رسالة الإنسان في الحياة تعبيرٌ عن طبيعته وحريته دون انتظار أي جزاء. يكفي كمال الإنسان وازدهاره، وخلقه وإبداعه، وشوقه إلى الغاية وعمله لها. الإنسان بطبيعته حياة وحركة، وخلق وإبداع، وتمدد وازدهار.٨٨ يحقق الإنسان رسالتَه طبقًا لطبيعته، ويتحدَّد سلوكه طبقًا للدافع الأقوى، ويتحدَّد الدافع الأقوى باختلاف شدة البواعث أو بتفاوت الوضوح الفكري أو باختلاف درجات الكمال في الغاية. لا تعني الطبيعة نفي الحرية، بل تأسيس الحرية على أساس واقعي من التجربة وبناء على الإحساس بالحياة كدافع حيوي. ليست الحرية اختيارًا عقليًّا صوريًّا بين طرفين متساويين في البواعث، بل هي اتِّباع للطبيعة، أي للباعث الأقوى، تعبيرًا عن الدافع الحيوي. ولما كان الإنسان رسالته، وكانت رسالته وجوده، فإن الحرية تحقيقٌ لهذه الرسالة، وحياته تعبير عن هذا الوجود، الحرية كمال للطبيعة.٨٩
ليست الحرية واقعةً مادية توجد أو لا توجد، بل هي عملية تحرُّر يشعر بها الإنسان، قد توجد وقد لا توجد، وكذلك الوجود الإنساني قد يشعر به الإنسان وقد لا يشعر، وكما أن الوجود إيجاد، فالحرية تحرُّر. ولما كان الإنسان مجرد إمكانية تحقق أو مشروع وجود، فكذلك الحرية مجرد إمكانية حرية أو مشروع تحرُّر. فالموقف الإنساني يفرض على الإنسان وضعه، ولكن الفعل الحر قادر على أن يظهر من خلال هذا الوضع. تقف الحرية في مواجهة الحتمية، والاختيار الحر في وجه الأوضاع القائمة. ممارسة الحرية إذن هي في القدرة على إيجاد البدائل المفروضة وتحرير الفعل الإنساني من نطاق الفرض إلى نطاق الاختيار، ومن ميدان الضرورة إلى ميدان الحرية. ولا ينشأ الجبر إلا إذا تخلَّى الإنسان عن وجوده الذي هو حريته، ولا ينشأ الطاغية إلَّا إذا تخلَّت الجماعة عن حريتها التي هي وجودها. صحيح أن هناك صلةً بين الحرية والخبز عامة وشائعة، إلا أنها ليست صلة حتمية. قد يتنازل الإنسان عن الخبز ولا يتنازل عن الحرية.٩٠ فالوعي مملكة الإنسان، مهما كانت هناك من تحديدات خارجية له، إلا أنه يظل فعل الإنسان الحر واختياره الأوَّل.
ويستطيع الإنسان أن يمارس حريته بعدد من الصور، ومهما تعدَّدت العقبات أمامه، فإن الحرية تظل ممارسة لا تغيب عنه أبدًا إلا برغبة في النكوص أو تبريرًا لضعف أو هروبًا من موقف أو تخليًا عن رسالة. الممارسة المثلى للحرية هي الممارسة لها في أكمل صورها، ممارسة فعلية بالعمل لتغيير الواقع، والجهر بالقول، وتمثل الشعور المستمر للغاية، فإن استحال العمل في الواقع لوجود موانع بدنية أو لصعوبة الحركة مارس الإنسان حريته بالقول الجهور، ونشر الوعي، وإيضاح ضرورة التغيير. يكون الحق على الأقل واضحًا على مستوى النظر، وإذا انتشر النظر وضح الفصم بين النظر والواقع، فظهرت ضرورة الفعل لتجاوز هذا الفصم والتوحيد بين النظر والعمل، بين المثال والواقع. إذا صعبت حرية العمل، وقامت العقبات، واستحالت الحركة فإن الحرية تمارس بالقول ورفض الواقع بالكلمة. فإذا صعبت حرية القول أيضًا، وقامت العقبات أمام حرية التعبير تمارس الحرية بالشعور، ويظل الشعور حرًّا بإحساساته وعواطفه وانفعالاته، فالشعور مملكة الإنسان الخاصة التي لا تستطيع العقبات الخارجية أن تنال منها. ولا تضمر حرية الشعور إلا إذا خفت البواعث واضمحلَّت الغاية وخفَّت الطاقة. فإن ضاعت حرية الضمير ضاع الإنسان، وعدم الوجود، وانتهت الغائية، وتحوَّلت إلى تناقص أو عشوائية، وانتهى كل شيء.٩١
١  هذا هو موقف الإيجي إذ يقول: «في البحث عن أمور صرَّح بها القرآن، وانعقد عليها الإجماع وهم يُؤوِّلونها.» ويذكر خمسة: (١) الطبع والختم والأكنة. (٢) التوفيق والهداية. (٣) الأجل. (٤) الرزق. (٥) الأسعار. المواقف، ص٣١٩-٣٢٠.
٢  هذا هو موقف الغزالي إذ يقول: في الاعتذار عن الإخلال بفصول شحنتها المعتقدات فرأيت الإعراض عن ذكرها أولى لأن المعتقدات المختصرة حقها ألا تشمل إلا على المهم الذي لا بد منه في صحة الاعتقاد. أمَّا الأمور التي لا حاجة إلى إخطارها بالبال وإن خطرت بالبال فلا معصية في عدم معرفتها وعدم العلم بأحكامها، فالخوض فيها بحث عن حقائق الأمور، وهي غير لائقة بما يُراد منه تهذيب الاعتقاد. وذلك الفن تحصره ثلاثة فنون: (أ) عقلي، كالبحث عن القدرة الحادثة أنها تتعلَّق بالضدين أم لا وتتعلق بالمختلفات أم لا. وهل يجوز قدرة حادثة تتعلَّق بفعل مباين لمحل القدرة وأمثاله. (ب) لفظي كالبحث عن المُسَمَّى باسم الرزق ولفظ التوفيق والخِذْلان والإيمان ما حدودها ومسبباتها. (ج) فهي كالبحث عن الأمر بالمعروف متى يجب وعن التوبة ما حكمها إلى نظائر ذلك. وكل ذلك ليس بمهمٍّ في الدين! بل المهم أن ينفي الإنسان الشك عن نفسه في ذات الله على القدرة التي هي حق في القطب الأوَّل وصفاته وأحكامها كما هي حق في القطب الثاني وفي أفعاله بأن يعتقد فيها الجواز دون الوجوب كما في القطب الثالث. وفي رسول الله أن يعرف صدقه ويصدقه في كل ما جاء به كما ذكرناه في القطب الرابع، وما خرج عن هذا فغير مهم، ونحن نورد من كل فن ما أهملناه مسألة ليُعرف بها نظائرها ويحقق خروجها من المهمات والمقصودات في المعتقدات (الاقتصاد، ص١١١-١١٢)، ثم حاولوا في حد الرزق وحد النعمة وتضييع الوقت بهذا أو أمثاله دأب من لا يميز بين المهم وغيره ولا يعرف قدر بقية عمره، وأنه لا قيمة له، فلا يبتغي أن تضيع العمر إلا بالمهم، وبين يدي النظار أمور مشكلة، البحث عنها أهم من البحث عن موجب الألفاظ واقتضاء الإطلاقات، فنسأل الله أن يوفقنا للاشتغال بما يعنينا! الاقتصاد، ص١١٦.
٣  ويقول البغدادي: وللفريقين في التوفيق والخِذْلان والشرح والطبع وأمثالهما كلام على طرفَي الغلو والتقصير. والحق بينهما دون الجائز منهما. النهاية، ص٤١١.
٤  يقول الشهرستاني: والحق الذي لا غبار عليه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ محافظة على العبودية، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ استعانة بالربوبية، والتوفيق والخِذْلان والشرح والطبع والفتح والختم والهداية والضلال تنتسب إلى الله بشرط أن يكون أحق الاسمين به أحسن الاسمين وأولى الفعلين بحكمه وتقديره أولى الفعلين وجودًا وأجدرهما حصولًا، اللهم من أحسن فبفضلك يقدر، ومن أساء فبخطيئته يهلك، لا المحسن استغنى عن رفعك ومعونتك، ولا المسيء عليك ولا استبد بأمر خرج بمحض قدرتك، فيا من هكذا لا هكذا غيرك صلِّ على محمد وعلى آله أحظى به ما أنت أهله، إنك أهل لكل جميل (النهاية، ص٤١٤-٤١٥).
٥  يمارس الأشعري هذا الإرهاب في الإبانة، ص٥١، ص٥٧؛ وتبعه الجويني في الإرشاد، ص٢٥٤-٢٥٥.
٦  تبدو هذه الابتهالات والأدعية بالتوفيق والمحبة والولاية لأهل الطاعة وخِذْلان أهل المعصية في الإنصاف، ص٢٨؛ الإتحاف، ص٩٩؛ الأمير، ص٩٩.
٧  وعند الأشعري إذا كانت الاستطاعة نعمةً من الله وفضلًا وإحسانًا، فإنها تكون توفيقًا وسدادًا (الإبانة، ص٥٠).
٨  الداعية هي الميل النفساني المصاحب للفعل (الأمير، ص٩٩)، وعند الأشعري أيضًا هي التثبت والبرهان الذي وقع ليوسف (الإبانة، ص٥٥).
٩  تختلف الأسماء على اللطف، فربما يُسَمَّى توفيقًا وعصمةً (الشرح، ص٥١٩)، في معنى وصف اللطف بأنه توفيق يُفيد موافقة الطاعة له (المغني، ج١٣؛ اللطف، ص١٢–١٤). القول في التوفيق والتسديد. اختلفت المعتزلة على أربعة أقاويل: (أ) التوفيق عن الله ثواب يفعله مع إيمان العبد. ولا يُقال للكافر موفق وكذلك التسديد. (ب) هو الحكم من الله أن الإنسان موفق وكذلك التسديد. (ج) جعفر بن حرب، التوفيق والتسديد لطفان لا يوجبان الطاعة في العبد، فإذا أقر الإنسان بالطاعة كان موفقًا مسددًا. (د) الجبائي، هو اللطف في معلوم الله إذا فعله وُفِّق الإنسان للإيمان في الوقت ويفعله الكافر في الوقت الثاني؛ التوفيق أو السداد هو اللطف الذي يوافق الملطوف فيه في الوقوع وليس يجب أن يكون مأمون الغيب (الشرح، ص٧٨١)، وعند المعتزلة هو موقف وسط، اللطف من الله والحرية من الإنسان (الإرشاد، ص٢٥٤-٢٥٥)، وعند أهل الإثبات هو قوة الإيمان وكذلك العصمة (مقالات، ج١، ص٣٠٠)؛ وبهذا المعنى يفهم الأشعري اللطف أو الصلاح؛ فالله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر إليهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين، ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلح لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، وإن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنه خذلهم وطبع على قلوبهم (الإبانة، ص٩)، وندين بأنه يقلِّب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله، (المصدر السابق، ص١٠)، واللفظان موجودان في أصل الوحي وإن لم يوجد المعنيان كثيرًا؛ فقد ذكر لفظ التوفيق ٤ مرات، اثنان لله: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا (٤: ٣٥)، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ (١١: ٨٨). ويتم التوفيق إمَّا بين الزوجين أو في المجتمع، أي أن التوفيق هنا بمعنى المصالحة وإعادة التوحيد للأطراف المتنازعة، وما دامت النية صادقة والغاية كاملة والباعث قويًّا، والإرادة متوافرة فلا بد وأن يحدث التوفيق. توفيق الله هنا معناه ضرورة حدوث النتيجة إذا ما توفرت مقدماتها، أمَّا لفظ السداد فقد ذُكر خمس مرات لا بمعنى التسديد الاصطلاحي، فقد ذكر «السد» ثلاث مرات، و«السدين» مرة واحدة بمعنى الختم والطبع والمنع وليس السداد. وذكرت صفة «سديد» للقول الصائب مثل: فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٤: ٩)، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٣٣: ٧٠).
١٠  التوفيق خلق قدرة على الطاعة، والخِذْلان خلق قدرة على المعصية، والموفَّق لا يعصي إذ لا قدرة له على المعصية، وعند الأشعرية التوفيق والخِذْلان ينسبان إلى الله نسبة واحدة على جهة واحدة، والقدرة للشيء وضده (النهاية، ص٤١٢)، الهدى والتوفيق هما تيسير الله المؤمن للخير الذي خلقه، وأن الخِذْلان تيسيره للشر الذي له خلقه (الفصل، ص٣٨-٣٩؛ التحفة، ص٤-٥)، وعند الأشعري الإيمان والطاعة بتوفيق من الله، والكفر والمعصية بخِذْلانه. خلق القدرة على ذلك (الملل، ج١، ص١٥٦). خلق الله الخلق سيَّما الكفر والإيمان، ثم خاطبهم وأمرهم ونهاهم بتوفيق الله إياه ونصرته له (الفقه، ص١٨٥؛ شرح الفقه، ص٤٥). وقد قيل شعرٌ في العقائد المتأخرة:
ومثل توفيق ذوي السعادة
وخِذْلان أهل الحشر والشقاوة
(الوسيلة، ص٢٣٤؛ القول، ص٣٦-٣٧)
وأيضًا:
فخالق لعبده وما عمل
توفيق لمن أراد أن يصل
وخاذل لمن أراد بُعده
ومنجز لمن أراد وعده
فوز السعيد عنده في الأزل
وكذا الشقي ثم لم ينتقل
(الجوهرة، ص١١)
وعند الحسين بن محمد النجار استطاعة الإيمان توفيق وتسديد وفضل ونعمة وإحسان وهدى، وأن استطاعة الكفر ضلال وخِذْلان وبلاء وشر، وأنه جائز كون الطاعة في حال المعصية التي هي تركها بألَّا تكون كانت المعصية التي هي تركها في ذلك الوقت وبألَّا يكون كان الوقت وقتًا للمعصية التي هي تركها. وأن المؤمن مؤمن مهتدٍ دفعه الله وهداه، وأن الكافر مخذول خذله الله وأضلَّه، وطبع على قلبه، ولم يهده ولم ينظر له وخلق كفره ولم يُصلحه، ولو نظر له وأصلحه لكان صالحًا (مقالات، ج١، ص٣١٥)، وعند المعتزلة بوجه عام: التوفيق من الله إظهار الآيات في خلقه الدالة على الوحدانية وإبداع العقل والسمع والبصر في الإنسان، وإرسال الرسل وإنزال الكتب لطفًا منه وتنبيهًا للعقلاء من غفلتهم، وتقريبًا للطرق إلى معرفته، وبيانًا للأحكام تمييزًا بين الحلال والحرام، وإذا فعل ذلك فقد وفق وهدى، وأوضح السبيل وبين الحجة ولزم الحكمة، وليس يحتاج في كل فعل ومعرفة إلى توفيق مجرد وتسديد معجز، بل التوفيق عام وهو سابق على الفعل، والخِذْلان لا يُتصوَّر مُضافًا إلى الله بمعنى الإضلال والإغواء والصد عن الباب وإرسال الحجاب على الألباب؛ إذ يبطل التكليف ويكون العقاب ظلمًا (النهاية، ص٤١١)، وعند الإباضية الخوارج استطاعة الكفر ضلال وخِذْلان وطبع وبلاء وشر (المحيط، ص٢٣٢)، ثم يكون السؤال للخوارج: كيف يتم التوفيق بين ذلك وبين اعتمادهم على خلق الأفعال عند المعتزلة في أصلي التوحيد والعدل؟
١١  إجماع الأمة كلها على سؤال الله التوفيق والاستعاذة به من الخِذْلان، فالقوة التي ترد من الله على العبد فيفعل بها الخير تُسَمَّى بالإجماع توفيقًا وعصمةً وتأييدًا، والقوة التي ترد من الله فيفعل بها الشر تُسَمَّى بالإجماع خِذْلانًا، والقوة التي ترد من الله على العبد فيفعل بها ما ليس طاعة ولا معصية تُسَمَّى عونًا أو قوةً أو حولًا؛ ولذلك يُقال لا حول ولا قوة إلا بالله، لذلك تُسَمَّى تيسيرًا (الفصل، ج٣، ص٣٠–٣٢).
١٢  عند إمام الحرمين: التوفيق والخِذْلان هما سلامة الأسباب والآلات. وعند الأشعري الفرض المقارن للطاعة (التحفة، ص٤-٥).
١٣  النهاية، ص٤١٢–٤١٤.
١٤  في جواز التخصيص بالنعم دينية أو دنيوية، دنيا أو آخرة؛ عند القدرية سوى الله بين العقلاء في النعم الدينية ولم يخصَّ الأنبياء والملائكة بشيء من التوفيق والعصمة، ولا بشيءٍ من نعم الدين دون سائر المكلفين، وفي هذا بطلان فائدة دعاء الصالحين أو يوفِّقهم الله لما وفَّق له الأنبياء (الأصول، ص٢٥٢-٢٥٣).
١٥  عند أهل الإثبات، النصر من الله، ما يفعله ويقذفه في قلوب المؤمنين من الجرأة مع الكافرين، وتُسَمَّى القوة على الإيمان نصرًا. أمَّا الخِذْلان فاختلفوا: (أ) ترك الله أن يحدث من الألطاف والزيادات ما يفعله بالمؤمنين (معنى سلبي). (ب) تسميته وحكمه بأنهم مخذولون. وقال أهل الإثبات قولين: (أ) الخِذْلان قوة الكفر. (ب) خلق كفرهم. والثانية أكثر تدميرًا للحرية من الأولى (مقالات، ج١، ص٣٠١-٣٠٢)، وعند أبي علي النصرة كلها ثواب والخِذْلان كله عقاب، وعند المعتزلة قد يكون النصر بالمحبة وقد يكون بمعنى زلزلة أقدام الكافرين ورعب قلوبهم فينهزمون. فإن هُزم المؤمنون لم يكن ذلك بخِذْلان من الله بل هم منصورون بالحجَّة على الكافرين (اللطف، ص١١١–١١٣). ولفظ «نصر» موجود في أصل الوحي، فقد ذكر ١٥٩ مرةً بمشتقاته المختلفة، منها ٧٠ مرة فعلًا، ٥٩ مرة اسمًا. صحيح أنه في الأفعال يغلب فعل الله (٥٠ مرة) على فعل الإنسان فردًا أو جماعةً (٢٠ مرة)، ولكن هذه المرات العشرين تجعل فعل الله مشروطًا بها مثل: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (٤٧: ٧)، وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ (٢٢: ٤٠)، وأن النصر الإنساني بَعْدي وليس قبليًّا في علم الله: وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ (٥٧: ٢٥)، وبالتالي تئول أفعال نصر الله طبقًا لعلاقة الشارط بالمشروط، وباقي الأفعال تجعل النصر من الإنسان فردًا وجماعةً بناءً على الإيمان أو إثباتًا له: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا (٨: ٧٤)، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٥٩: ٨)، والترابط الاجتماعي: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (٨: ٧٣)، ونصرة الرسول من المؤمنين: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (٣: ٨١)، ولكن أهم شيء هو النصر رفعًا للظلم ونتيجة للقتال كعمل جماعي كاختبار للإنسان وصراعه في الحياة مثل: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (٣٧: ٢٥)، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤٢: ٤١)، وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ (٤٧: ٤)، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٤٢: ٣٩)، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (٥٤: ١٠)، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ (٨: ٧٢). أمَّا استعمالات النصر كفعل لله فإنها تعني أن النصر مقياس للآلهة، وأن المنتصر لا يكون إلا غالبًا مثل: هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٢٦: ٩٣). أمَّا مشتقات الاسم فالغالب عليها النصر (٢٢ مرة)، وصفة نصير (٢٤ مرة)، ثم أنصار (١١)، نصارى (١٤)، ناصرين (٨)، ناصر (٣)، منتصر (٢٢)، منتصرين (٢)، ثم منصور، منصورون؛ وهي تشير إلى المعاني نفسها السابقة، فإن كان الغالب عليها إعطاء النصر كصفة لله إلا أن ذلك في نطاق أن النصر هو مقياس للألوهية، كما تظهر أيضًا صلة النصر بالظلم مثل: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٢: ٢٧٠)، (٣: ١٩٢)، (٥: ٧٢).
أمَّا بالنسبة للفظ «خذل» فقد ذُكر ثلاث مرات في أصل الوحي كفعل للشيطان: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (٢٥: ٢٩)، وليس كفعل لله، وذلك لأن النصر مقياس للإله: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ (٣: ١٦٠)، ومقياسًا للإله الحق الواحد: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (١٧: ٢٢)، فالخِذْلان لفظ إضافي بالنسبة للنصر وليس لفظًا أصليًّا حتى لا يُنسب فعل الشر إلى الله، فالخِذْلان هو مجرد غياب النصر.
١٦  عند أصحاب الحديث والسنة الله فعَّال لما يريد، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه، موفق أهل محبته وولايته لطاعته وخاذل لأهل معصيته، فدل ذلك كله على تدبيره وحكمته، وأنه عادل في خلقه بجميع ما يبتليهم به ويقضيه عليهم من خير وشر ونفع وضر، وغنى وفقر، ولذة وألم، وصحة وسقم، وهداية وضلال (الإنصاف، ص٢٨)، والله يفعل ما يشاء ويهدي من يشاء (النسفية، ص١١٠؛ شرح التفتازاني، ص١١٠-١١١؛ حاشية الخيالي، ص١١٠؛ حاشية الإسفراييني، ص١١١) التوفيق والهداية، أي الدعوة إلى الإيمان والطاعة، ويقدم الإيجي ثلاث حجج: (أ) إجماع الأمة على اختلاف الناس فيها والدعوة عامة لا اختلاف فيها. (ب) الدعاء بها نحو اللهم اهدنا الصراط المستقيم والدعوة حاصلة واختلاف الناس في الانتفاع بها. (ج) كونه مهديًّا وموفقًا من صفات المدح دون كونه مدعوًّا (المواقف، ص٣١٩-٣٢٠) في أن الهداية والإضلال من فعل الله (الأصول، ص١٤٠-١٤١؛ الفصل، ص٣٤-٣٥). الهداية والإضلال من فعل الله، نفوذ مشيئته في مراداته، في معنى التوفيق والخِذْلان والشرح والختم والطبع ومعنى النعمة والشكر (النهاية، ص٣٩٧–٤١٦)، هل شاء الله كون الكفر والفسوق وإرادة من الكافر أو الفاسق أم أراد كونه (الفصل، ص١٠٤–١٢٠)، هل لله نعمة على الكفار (الفصل، ص١٣٦-١٣٧)، عند أهل الإثبات لو هدى الله الكافرين لَاهتدوا فلما لم يهدهم لم يهتدوا وقد يهديهم بأن يقوِّيَهم على الهدى فتسمَّى القدرة على الهدى هدى، وقد يهديهم بأن يخلق هداهم (مقالات، ج١، ص٢٩٨).
١٧  في الهدى والضلال والختم والطبع (الفصل، ج٥، ص٢١٠–٢١٣)، عند أهل السنة الهداية على وجهين: (أ) من جهة إبانة الحق والدعاء إليه ونصب الأدلة عليه، وعلى هذا الوجه يصح إضافة الهداية إلى الرسل. (ب) من جهة أن هداية الله لعباده خلق الاهتداء في قلوبهم، ولا يقدر عليه إلا الله. الأولى شاملة للجميع، والثانية خاصة للمهتدين (الأصول، ص٣٤٠)، وفي هذا المعنى النظري يفسر ابن حزم آية: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (٤١: ١٧) على النحو الآتي: (أ) دعوناهم. (ب) بَيَّنَّا لهم السبل. (ج) أعلمناهم الهدى من الضلالة. (د) هدينا فريقًا وأضللنا فريقًا. (ﻫ) فريقًا آمنوا ثم ارتدُّوا، وهذا المعنى الأخير يفيد قدرة الإنسان على الفعل الحر (الإنصاف، ص١٦٥-١٦٦)، وعند ابن حزم أيضًا الهدى الواجب على النبي هو الدلالة والتعليم الديني وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه وإنما هو لله وحده (الفصل، ج٣، ص٣٥)، من أعطاه الله الهدى فقد اهتدى ومن أضلَّه فلا يهتدي (الفصل، ج٣، ص٣١-٣٢)؛ الله يهدي من يشاء فضلًا منه ويضل من يشاء عدلًا منه، وإضلاله وخِذْلانه وتفسيره الخِذْلان أنه لا يوفِّق العبد إلى ما يرضاه منه وهو عدل منه، وكذا عقوبة المخذول على المعصية (الفقه، ص١٨٧؛ الفصل، ج٣، ص١١٨).
١٨  الشر الكوني كما هو الحال عند الثنوية التي ترى أن الهداية من النور والضلال من الظلمة (الأصول، ص١٤٢)؛ عند الجاحظ ومعمر الإضلال فعل الطبيعة (الفصل، ج٣، ص٣٧)، ولا تعني الخلقة أو الطبيعة الجبر وعدم استطاعة الإنسان تغيير أي شيء. الطبيعة اختيار، والخلقة حرية. يقول ابن حزم مثلًا مفسرًا الطبيعة على أنها جبر: «ومن عرف تراكيب الأخلاق المحمودة والمذمومة علم أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل مما خلقه الله فيه، فتجد الحافظ لا يقدر على تأخُّر الحفظ، والبليد لا يقدر على الحفظ، والفهم لا يقدر على الغباوة، والغبي لا يستطيع ذكاء الفهم، والحسود لا يقدر على ترك الحسد، والنزيه النفس لا يقدر على الحسد، والحريص لا يقدر على ترك الحرص، والبخيل لا يقدر على البذل، والجبان لا يقدر على الشجاعة، والكذاب لا يقدر على حفظ نفسه عن الكذب، كذلك يوجدون من طفولتهم، والسيئ الخلق لا يقدر على الحِلم، والحيي لا يقدر على القِحَة، والوقح لا يقدر على الحياء، والعيي لا يقدر على البيان، والطيوش لا يقدر على الصبر، والغضوب لا يقدر على الحِلم، والصبور لا يقدر على الطيش، والحليم لا يقدر على الغضب، والعزيز النفس لا يقدر على المهانة، والمهين لا يقدر على عزة النفس، وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقدر أحد إلا على ما يفعل بما يتم الله فيهم القوة على فعله». وإن كان خلاف ذلك متوهمًا منهم بصحة البنية وعدم المانع، فالحتمية الخلقية متحدة هنا مع الفعل الإلهي وإن كانت الحرية تقتصر على مجرد أفعال البدن وتحريك الأعضاء (الفصل، ج٣، ص٣٣).
١٩  عند المجوس: الهداية من الإله والإضلال من الشيطان (الأصول، ص١٤٢؛ الفصل، ج٣، ص٣٦-٣٧) ما لم يتفضَّل عليه ولم يرحمه اتبع الشيطان (الفصل، ج٣، ص٣٢-٣٣)، وقد فسَّر بعض أهل السنة الإضلال بمعنى اللطف الذي يقع به الإيمان! الإضلال هو تضييق الصدور وتحريجها والختم على القلوب والطبع عليها وأكنانها عن أن تفقه الحق (الفصل، ج٣، ص٣٧). الإضلال من الله عند أهل السنة على معنى الضلال في قلوب أهل الضلال، ومعناه على وجهين: (أ) تسمية الضلال ضلالًا. (ب) جزاء أهل الضلال على ضلالتهم (الفِرَق، ص٢٤٠-٢٤١؛ الأصول، ص٢٤١)؛ الله أضل من شاء (الفصل، ص٣٦).
٢٠  من القدرية صِنف يُقال لهم المفوضة، قالوا إنهم موكلون إلى أنفسهم أنهم يقدرون على الخير كله بالتفويض الذي يذكرون دون توفيق الله وهداه (التنبيه، ص١٧٤) اختلفت المعتزلة في الهدى: هل يُقال إن الله هدى الكافرين أم لا على مقالتين: (أ) أكثر المعتزلة، أن الله هدى الكافرين فلم يهتدوا ونفعهم بأن قواهم على الطاعة فلم ينتفعوا، وأصلحهم فلم يصلحوا. (ب) لا تقول إن الله هدى الكافرين على وجه بأن بيَّن لهم ودلهم لأن بيان الله ودعاءه هديٌ لمن قبل دون من لم يقبل، كما أن دعاء إبليس إضلال لمن قبل دون من لم يقبل، وقالت القدرية أيضًا إن الهداية من الله على معنى الإرشاد والدعاء وإبانة الحق وليس من هداية القلوب في شيء (الأصول، ص٢٤١)، واختلف الذين قالوا إن الله هدى الكافرين بأن بيَّن لهم ودلَّهم: (أ) سمَّاهم مُهتدين وحكم لهم بذلك. (ب) ما يزيد الله المؤمنين بإيمانهم من الفوائد والألطاف. (ج) لا نقول سمى وحكم ولكن هدى الخلق أجمعين بأن دلَّهم وبيَّن لهم وأنه هدى المؤمنين بما يزيدهم من الطاقة. وذلك ثواب يفعله بهم في الدنيا ويهديهم إلى الجنة في الآخرة (الجبائي)، وعند النظام يجوز أن يُسَمَّى طاعة المؤمنين وإيمانهم بالهدى (مقالات، ج١، ص٢٩٨-٢٩٩)، كما اختلف المعتزلة في الإضلال: (أ) التسمية والحكم بأنهم ضالون، أو أمرهم لهم أو إخبارهم أو ترك أحداث اللطف والتسديد والتأييد. (ب) إهلاكهم عقوبة لهم. (ج) عند أهل الإثبات الإضلال عن الدين قوة على الكفر. وقالوا: هو التَّرك (الكوساني)، وقالوا: خلق ضلالهم، ولكن امتنعت المعتزلة عن القول بأن الله أضل عن الدين أحدًا من خلقه (مقالات، ج١، ص٢٩٩)، وقالوا إن الإضلال على وجهين: (أ) سماه ضالًّا. (ب) أجازه على ضلالته (الأصول، ص١٤١-١٤٢) منها ١٠ مرات.
٢١  ذكر لفظ الهداية في أصل الوحي ٣٠٧ مرة، منها ١٩١ مرة فعلًا (ومن ٧ مرات أفعل التفضيل)، ١٣٦ مرة اسمًا، اسم فعل هادي فردًا أو جمعًا، ٢١ مرة اسم مفعول. ونجد أن الأفعال والأسماء كلها ١٧٥ مرة الهدى فعل إنساني، ومن الأسماء وحدها ٩٠ مرة الهدى فعل إنساني، فالغالب في الهدى أولوية الفعل الإنساني على الفعل الإلهي؛ فالهدى كفعل السهي مشروط بعمل الحواس والإدراك الإنساني: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ (٤٣: ٤٠)، أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (١٠: ٤٣)، وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ (٢٧: ٨١). ومشروط بالإيمان: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللهُ (١٦: ١٠٤)، ومشروط بالعمل الصالح: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ (١٠: ٩)، ومشروط بالتوبة: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢)، ومشروط بالإنابة: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (٤٢: ١٣)، ومشروط بالاتِّباع: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ (١٩: ٤٣)، ومشروط بالاعتصام: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ (٣: ١٠١)، ومن هذه الحالة يكون الهدى نتيجة طبيعية للشرط وليس فعلًا إلهيًّا، ومشروطًا بالجهاد: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (٢٩: ٦٩)، وشرط في الزيادة بفعل الإنسان: وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (١٩: ٧٦)، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى (٤٧: ١٧)، وينجلي الشرط في حرف الشرط إن مثل: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا (٢: ١٣٧)، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ (٣: ٢٠). فشرط الهدى هو الإيمان والإسلام، أي أفعال الشعور الداخلية وليس فعل الإرادة الخارجية، والشرط يعني أن الهدى أيضًا ليس ضروريًّا؛ لذلك يعبر عنه بصيغ الاحتمال مثل: «إن»، «لو»، «لعل»، «عسى»، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (٩٦: ١١)، وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (٢٨: ٦٩): وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٢: ١٥٠)، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٣: ١٠٣)، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٦: ١٥)، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٤٣: ١٠)، فالهداية لها سبيل مثل النعمة والآية الطبيعية أو الآية النصية، أو الإنذار مثل: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣٢: ٣)، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (٢٠: ١٠)، كما يعبِّر عن الاحتمال بعسى مثل: فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٩: ١٨)، وقد يكون الشرط والاحتمال بإن أو متى مثل: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (١٦: ٣٧)، فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢: ٣٨)، والهدى مشروط بالطاعة: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا (٢: ١٣٥). والهداية اختيار حر للإنسان وليس فرضًا عليه من إرادة خارجية مثل: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (٤١: ١٧)، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (٥٣: ٣٠). وعلم الله بعدي؛ بعد أن يتحقق الفعل، وسبأ لا تهتدي أو تهتدي فالأمر لها: قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٢٧: ٤١)، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (١٨: ٥٧)، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (٤٦: ١١)، فالهداية متصلة بعقل الإنسان وإدراكه: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (٢: ١٧٠)، ومتصلة بالوسائل والا فلا هداية لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٤: ٩٨) ومتصلة بالعلم أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (٥: ١٠٤) اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى (٢: ١٦)، (٢: ١٧٥)، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ (٧: ١٩٣)، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا (٧: ١٩٨)، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا (١٨: ٥٧)، والهدى غير ملزم للإنسان في شيء: هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٤٥: ١١)، قد يتبعه الإنسان وقد لا يتبعه: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى (٤٧: ٢٥)، وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى (٤٧: ٣٢)، وقد استعمل أفعل التفضيل ٧ مرات مما يدل على المقارنة وأن هناك فعلًا أهدى من قبل على الإنسان أن يختار بينهما مثل: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٤: ٥١)، أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٦٧: ٢٢)، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ (٤٣: ٢٤)، لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ (٣٥: ٤٢)، والهداية كفعل إلهي مشروطةٌ بالفعل الإنساني سلبًا، فالله لا يهدي الظالمين، وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢: ٢٥٨)، (٥: ٥١)،(٢٨: ٥٠)، (٤٦: ١٠)، (٦١: ٧)، (٦٢: ٥)، (٢٨: ٥)، ولا يهدي الكافرين: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢: ٢٦٤)، (٥: ٦٧)، (٩: ٣٧)، (١٦: ١٠٧)، ولا يهدي الفاسقين: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٩: ٢٤)، (٩: ٨٠)، (٦١: ٥)، (٦٣: ٦)، ولا يهدي الخائنين: أَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (١٢: ٥٢)، ولا الضالين: فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (١٦: ٣٧)، ولا الكاذب الكافر: إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣٩: ٣)، ولا المسرفين: إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٤٠: ٢٨)، وقد يكون الهدى وهمًا: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٧: ٣٠)، ولا تكون الهداية من الله وحده بل يُنافس الشيطان بالغواية: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٧: ٢٤)، وقد يكون الاهتداء بالتقليد: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٤٣: ٢٢)، ولكن الغالب أن الاهتداء ذاتي: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٦: ٨٢)، والاهتداء للنفس وبالنفس: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ (١٠: ١٠٨)، (١٧: ١٥)، (٢٧: ٩٢)، (٣٩: ٤١)، (٥: ١٠٥)، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (٥: ١٠٥)، فهو فعل لازم ولا يتعدَّى، وبالتالي لا يكون فعل هداية من آخر. وكما لا يكون فعل الهداية من الله وحده فإنه قد يكون من أثر الرسول: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٢: ٥٢)، أو من فعل الرسل: فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا (٦٤: ٦)، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (١٨: ٥٧)، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ (٩: ٣٣)، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا (١٧: ٩٤)، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٨: ٥٥)، وقد يكون الهدى فعل الأئمة: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ (٢١: ٧٣)، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا (٣٢: ٢٤)، وقد يكون فعل الأمة؛ أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (٧: ١٨١)، وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ (٧: ١٥٩)، والهداية أيضًا فعل الطبيعة والتأمل فيها: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا (٦: ٩٧)، ولكن الفعل الأعظم في الهداية الوحي أو الكتاب، التوراة والإنجيل والقرآن، وهو الاستعمال الأكثر شيوعًا (أكثر من أربعين مرة)، مثل: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٣: ١٣٨)، وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى (٤: ١١٥)، إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (٥: ٤٤)، وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ (٥: ٤٦)، قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ (٦: ٩١)، ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً (٦: ١٥٤)، وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ (٧: ١٥٤)، قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (١٠: ٥٧)، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٢: ١١١)، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٦: ٨٩)، إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ (٧٢: ١-٢)، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢: ٢)، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (٢: ١٨٥)، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ (٣: ٣-٤)، فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧: ٥٢)، وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٢: ١٧)، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢٧: ١-٢)، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣١: ٢-٣)، وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٣٢: ٢٣)، في حين أن الكعبة لم تُذكَر إلا مرة واحدة كهدى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٣: ٩٦).
٢٢  ورد لفظ «الضلال» في أصل الوحي ١٩١ مرة منها ١٢٦ فعلًا (منها ٩ أفعال تفضيل)، والباقي أسماء: «ضال» ١٤ مرة (مرة مفردًا، ١٣ جمعًا)، «تضليل» مرة واحدة، «مضل» ٣ مرات (٢ مفردًا وواحد جمعًا)، «ضلال» ٣٨ مرة، «ضلالة» ٩ مرات. فهو في الغالب فعل وليس اسمًا أو صفةً، وهو فعل للإنسان؛ إذ إنه لم يُضف إلى الله إلا حوالي ٢٠ مرة أو عشر الاستعمالات، والتسعة أعشار الأخرى للإنسان. الضلال إذن فعل إنساني أكثر منه فعلًا إلهيًّا، وهو فعل إنساني حر باختيار الإنسان مثل: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (١٨: ١٠٤)، قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٦: ١٤٠)، يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤: ٤٤)، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (٢٢: ٩)، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (٣١: ٦)، رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ (١٠: ٨٨)، لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (٤٤: ١٨)، والاختيار وارد بين الاثنين: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٤: ٢٤)، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى (٢: ١٦)، (٢: ١٧٥)، قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا (٩: ٧٥)، فالفعل الإلهي هنا امتداد للفعل الإنساني وليس سابقًا عليه، والاختيار حر بين الإيمان والكفر وتبديل أحدهما بالآخر: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، واختيار حر بين الإيمان والشرك: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَجَعَلَ لِلهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ (٣٩: ٨)، (١٤: ٣٠)، بل إن الإنسان حرٌ في أن يتبع الأنبياء أو لا يتبع الرسول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (٢٠: ١٢٣)، والفعل الحر يختلف باختلاف الأفراد: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى (٢: ٢٨٢)، هو فعل إنساني خالص مرتبط بالإدراك والعقل ودرجة الوعي وإلا كان الإنسان كالحيوان والبشر كالأنعام: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (٧: ١٧٩)، وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ (٣٧: ٨١)، (٣٠: ٥٣)، وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (١٧: ٧٢)، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٢٥: ٤٤)، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٣: ٤٠)، والضلال نتيجة لأفعال الشعور الحرة من كفر أو فسوق أو عصيان. فالكفر كفعل حر للإنسان ضلال: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (٥: ١٢)، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (٤: ١٦٧)، الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤٧: ١)، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤٧: ٨)، وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (٤: ١٣٦)، ومِنْ ثَمَّ لا يحق للكافرين الدعاء: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٤٠: ٥٠)، وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٤٠: ٢٥)، والضلال نتيجة للعصيان: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣٣: ٣٦)، ونتيجة للفسق: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢: ٢٦)، ونتيجة للظلم: وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ (١٤: ٢٧)، لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٩: ٣٨)، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣١: ١١)، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (٧١: ٢٤)، ونتيجة للكذب: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ (٦: ١٤٤)، وهو نتيجة للهوى في الغالب: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٦: ٥٦)، وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ (٥: ٧٧)، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ (٤٥: ٢٣)، وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (٣٨: ٢٦)، وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (٦: ١١٩)، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ (٢٨: ٥٠)، وهو نتيجة للضياع الإنساني: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٣٤: ١٠)، ونتيجة للإسراف والارتياب أوَّلًا ثم فعل الله ثانيًا: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٤٠: ٣٤)، ومرتبط بقسوة القلب: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٩: ٢٢)، والضلال ليس فعلًا لله بل هو أقرب إلى ضيق الصدر: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا (٦: ١٢٥)، وتدل صيغة أفعل التفضيل «أضل» على الفعل الحر وأن هناك درجات في الفعل: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٥: ٦٠)، أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٢٥: ٣٤)، مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٤١: ٥٢)، ولكن الشر الأعظم يأتي من التضليل، أي من التبعية وإيقاع إنسان إنسانًا آخر في الضلال، قهر الأوَّل وتسلطه وتبعية الثاني وإنكاره لعقله وحريته وطواعيته له: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (٢٥: ١٧)، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٣٦: ٦٢)، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ (١٤: ٣٦)، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي (٢٥: ٢٩)، قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٢٠: ٨٥)، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (٧١: ٢٤)، رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ (٧: ٣٨): إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٣٣: ٦٧)، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ (٤: ١١٩)، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ (٧: ١٥٥)، لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ (٤: ١١٣)، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (٦: ١١٦)، وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (١٦: ٢٥)، قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٥٠: ٢٧)، فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٥٤: ٢٤)، قد يقع الإضلال من فرعون: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٢٠: ٧٩)، وقد يأتي من الجن والإنس: رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ (٤١: ٢٩)، وقد يأتي من أهل الكتاب: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ (٣: ٦٩)، وقد يأتي من الشيطان وبالتالي هل يكون مزاحمًا لله في الإضلال؟ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٤: ٦٠)، قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (٢٨: ١٥)، وقد يأتي من المجرمين: وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٢٦: ٩٩)، إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٥٤: ٤٧)، فالضلال في النهاية مشروط بفعل الإنسان: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (٦٠: ١). هو فعل ذاتي صرف، يعود من النفس وإليها، منها ويعود عليها، خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧: ٥٣)، (١١: ٢١)، فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا (١٠: ١٠٨)، (١٧: ١٥)، (٣٩: ٤١)، (١٧: ١٥)، قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي (٣٤: ٥٠)، وهو ضلال يقع في التاريخ بعصيان الأنبياء: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٣٧: ٧١)، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (٢: ١٩٨)، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٣٧: ٦٩)، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣: ١٦٤) إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦: ٧٤) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٧: ٦٠) إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٢: ٨)، لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢١: ٥٤)، تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٦: ٩٧).
٢٣  الله لا يُضل ولا الرسول، فالله يعلم ولكنه لا يفعل: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ (١٦: ٢٥)، (٥٣: ٣٠)، (٦٨: ٧)، (٦: ١١٧)، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٨: ٨٥)، (٢٧: ٩٢)، الله يعطي البيان: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٤: ١٦٧)، ولكنه لا يفعل الضلال: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ (٩: ١١٥)، إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (١٦: ٣٧)، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤٧: ٤)، والرسول لا يُضل أحدًا: وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ، إن الذي يهدي ويضل هو المثل في الطبيعة: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٢٥: ٩)، إن الضلال هو نتيجة الاستحقاق: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٣٨: ٢٦)، يعترف الإنسان في النهاية بالشقاوة: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (٢٣: ١٠٦)، قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٦: ٢٠)، والضلال في مقابل الحق: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ (١٠: ٣٢)، وهو الطريق المعوج في مقابل القوة التي ترد من الله على العبد فيفعل بها ما ليس بطاعة ولا معصية تُسَمَّى عونًا أو قوةً أو حولًا (الفصل، ج٣، ص٣٠). المعونة تمكين الغير من الفعل مع الإرادة ولا بد من اعتبار الإرادة (الشرح، ص٧٧٩)، ورفض ابن حزم أن يكون الكافر مستطيعًا الإيمان على البدل إلا بالعون (الفصل، ج٣، ص٤٠).
٢٤  لا يجوز إطلاق القول بأن أفعالنا كلها من الله على معنى أنه أعاننا عليها؛ لأنه لا يصح أن يُقال إنه يُعيننا على المعاصي لأنه لم يردها وإنما يُتصور ذلك في الطاعات (الشرح، ص٧٧٩).
٢٥  الاستعانة عند القدماء حجَّة نصية تحول إلى تجربة بشرية عند المعاصرين (الفصل، ص١٤٣؛ المواقف، ص٣١٩؛ المطالع، ص١٩١؛ المحيط، ص٣٧٩).
٢٦  القوة التي لا يكون لأحد البتة فعل إلا بها تُسَمَّى تيسيرًا (الفصل، ج٣، ص٣٠).
٢٧  «العون» لفظ لا وجود له في أصل الوحي كاسم فعل، ولكنه ذكر أحد عشرة مرة، ثمانية منها كفعل، مرتين منها فقط الاستعانة بالله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (١: ٥)، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا (٧: ١٢٨)، والمرات الستة الأخرى العون من الآخرين أو من الجماعة أو بالصبر والصلاة، أي بالأفعال أو التعاون المتبادل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (٥: ٢). ويذكر اسم «المستعان» مرتين، وكأن طلب العون من الله يأتي من الإنسان ولا يعطى من الله ابتداءً مثل: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ (١٢: ١٨)، وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (٢١: ١١٢)، والمرة الثالثة عوان أي وسط: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ (٢: ٦٨). أمَّا لفظ التيسير فليس مصطلحًا في أصل الوحي، ولكن اللفظ مذكور ٤١ مرة في القرآن، ١٥ مرة فعلًا، ١٦ مرة صفة، ١٠ مرات اسمًا. وموضوع الفعل هو القرآن مثل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ (٥٤: ١٧)، (٥٤: ٢٢)، (٥٤: ٣٢)، (٥٤: ٤٠)، ثمان مرات، أي أن التيسير نظريًّا بإعطاء الوحي، ثم بعد ذلك تيسير السبيل (مرة واحدة) واليسرى (ثلاث مرات)، والأمر (مرة واحدة)، والهدى (مرتان)، أمَّا الصفة فإنها تعني السهولة على الله في إتيان أفعاله مثل: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢: ٧٠)، (٢٩: ١٩)، (٥٧: ٢٢)، (١١ مرة)، وكذلك لوصف اليوم والقبض واللبث والحساب. ويوصف القول بأنه ميسور. أمَّا الاسم «اليسر» فإنه يأتي في مقابل العسر أو «اليسرى» في مقابل العسرى (٥ مرات)، ويشير إلى الأمر اليسير أو الجاريات بيسر، فلا توجد إشارة واضحة إلى تدخُّل الله بفعل التيسير في حياة الإنسان الدنيوية.
٢٨  قال أهل الإثبات قوة الكفر طبع. وقال بعضهم معنى الطبع أن الله خلق الكفر (مقالات، ج١، ص٢٩٧)، وتذكر أدلة نقلية مثل: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ (الإبانة، ص٥٤-٥٥؛ الإنصاف، ص٢٤)؛ في الطبع والختم والأكنة (المواقف، ص٣١٩). الله يصرف بالطبع والختم عن سنن الرشاد (الإرشاد، ص٢١٣-٢١٤)، وعند بكر ابن أخت عبد الواحد بن يزيد، أن الإنسان إذا طبع الله على قلبه لم يكن مخلصًا أبدًا، وحُكي عن زرقان أن الإنسان مأمورٌ بالإخلاص مع الطبع وأن الطبع الحائل بينه وبين الإخلاص عقوبة له، وأنه مأمور بالإيمان مع الطبع الحائل بينه وبين الإيمان، وحكى زرقان أنه كان يقول إنه غير مأمور بالإخلاص، وحكى أنه كان ينكر الأمر بما قد حيل بينه وبينه (مقالات، ج١، ص٣١٧)، وعند المعتزلة: الذين ختم الله على قلوبهم هداهم الله في الطبع، والختمة والأكنة يُؤوِّلونها بوجوه: (أ) سِمَاها فقط. (ب) وَسْمها بسماتٍ للتمييز. (ج) منع اللطف المقرِّب للطاعات. (د) منعهم الإخلاص الموجِب لقبول العمل. ورفض الإيجي لهذه التأويلات (المواقف، ص٣١٩)، وعند البصريين هي تسمية الربِّ الكفرةَ بنبذ الكفر والضلال، وهذا هو معنى الطبع، ورفض الجويني له، وعند الجبائي: من كفر وَسَم الله قلبَه بسِمَة يعلمها الملائكة، ورفض الجويني ذلك أيضًا (الإرشاد، ص٢١٣-٢١٤)، وعند أبي علي هي عقوبة وعند أبي هاشم لطف (المغني، ج١٣؛ اللطف، ص١٠٣)، وعند بعض شيوخ المعتزلة: إذا عصى العبد الله طبع على قلبه فيصير غير مأمور ولا منهي (الفصل، ج٥، ص٤٤)، وعند هشام بن عمر الفوطي أن الله لا يؤلِّف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤمنون باختيارهم، الله لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزيله من قلوبهم؛ مبالغةً في نفي إضافة الطبع والختم والسد (الملل، ج١، ص١٠٨)، واختلفت المعتزلة في الختم والطبع على مقالين: (أ) الختم من الله والطبع على قلوب الكفار هو الشهادة والحكم بأنهم لا يؤمنون، وذلك لا يمنعهم من الإيمان. (ب) الختم والطبع سواد في القلب، طبع السيف إذا صدأ دون أن يكون مانعًا عمَّا أُمروا به، تلك سِمَة تعرفهم الملائكة بها (مقالات، ج١، ص٢٩٧). ويقول بعض المعتزلة: لا ندري معنى الإضلال والختم والطبع، إلا أنه سماهم خَتَّالين وحكم بأنهم ضالُّون، وقال آخرون: معنى ذلك أضلَلْناهم، وكلها دعاوى بلا برهان (الفصل، ج٣، ص٣٥–٣٧)، وفي أصل الوحي ذُكر لفظ «طبع» ١١ مرة، كلها أفعال وليس فيها أسماء أو صفات، وذكرت معللة بأسباب سبع مرات، أي في الاستعمال الغالب، فقد يكون الطبع بسبب الكفر: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤: ١٥٥)، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (٧: ١٠١)، وقد يكون بسبب الهوى: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (٤٧: ١٦)، وقد يكون بسبب العدوان: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (١٠: ٧٤)، أو بسبب عدم العلم: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠: ٥٩)، أو بسبب عدم الفقه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٦٣: ٣)، أو بسبب التكبُّر والجبروت: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٤٠: ٣٥)، أمَّا لفظ «ختم» فقد ذُكر ٨ مرات، ثلاث منها أسماء وصفات «خاتم» «أختام» «مختوم» لا تعني الختم على القلب، فالغالب في الاستعمال هو الفعل، ومن الاستعمالات الخمسة للأفعال واحد منها مسبب بالهوى مثل الطبع: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ (٤٥: ٢٣)، ومرة بصيغة شرط سواء بالهمزة: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ (٦: ٤٦)، ومرة بإن الشرطية: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ (٤٢: ٢٤).
٢٩  لم يتكلم الأشاعرة في العصمة مع أنهم أَوْلى بها، ولم يتكلم فيها إلا المعتزلة؛ والعصمة في الأصل المنع والذي يُشدُّ به رأس الدابة عصام، وفي العرف لطفٌ يقع معه الملطوف لا محالة حتى يكون المرء معه مدفوعًا لئلا يرتكب الكبائر؛ ولهذا لا يُطلق إلا على الأنبياء أو من يجري مجراهم (الشرح، ص٧٨٠)، واختلفت المعتزلة في العصمة على أقوال: (أ) من الله ثوابًا للمعتصمين. (ب) لطف من الله فيكون العبد معتصمًا. (ج) أمَّا الدعاء والبيان والوعود والوعيد وفعله بالكافرين فلا يطلق أنه معصوم، بل يُقال الله عصمه فلم يعتصم أو ما يزيد الله المؤمنين إيمانهم من الألطاف والأحكام والتأييد، وقد يتفاضل الناس في العصمة، ستزداد على من ينتفع وتمتنع على من تزيده كفرًا. (د) يجوز أن يكون في شيءٍ صلاحًا لواحد ضرارًا على غيره. (ﻫ) قد يعصم الله من الشيء باضطرار كالعصمة من قتل نبيه (مقالات، ج١، ص٣٠٠-٣٠١).
وفي أصل الوحي ذُكر لفظ «العصمة» ١٢ مرة، منها ٩ مرات فعلًا، ٣ مرات اسمًا، مما يدلُّ على أن العصمة فعلٌ من أفعال الشعور وليست اسمًا أو موضوعًا مُعطًى سلفًا، قد تأتي العصمة من شيء مادي كالجبل: قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ (١١: ٤٣)، ولكن الغالب أنها تأتي من الله بشرطٍ من الإنسان وبأسبقية فعل الإنسان على فعل الله مثلًا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. فالعصمة هنا مشروطة بالتوبة والإصلاح قبل العصمة والإخلاص بعدها. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ (٤: ١٧٥). فالعصمة هنا مسبوقة بالإيمان. فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ (٢٢: ٧٨)، والعصمة هنا أيضًا مسبوقة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. فإذا ما كانت الأولوية للفعل الإلهي فإنها تكون مقرونةً بالفعل الإنساني وتمهيدًا لوضع إنساني اجتماعي مثل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (٣: ١٠٣). فالعصمة كفعل إلهي مقدمة لتحقيق وحدة الجماعة، وعصمة بالله بلا ترابط اجتماعي تكون عصمة فارغة. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣: ١٠١)، فالعصمة مقدمة للهداية إلى الحق والطريق القويم، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (٥: ٦٧)، فالعصمة هنا حماية للإنسان الحر من جماعات الطاغوت، وقد يكون الفعل احتمالًا بصيغة إن الشرطية: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا، والاحتمال الممكن غير التحقيق الضروري، والعصمة فعل ذاتي للإنسان إذا ما استعصم: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ (١٢: ٣٢)، أمَّا استعمالات الاسم فإن الله هو العاصم سلبًا بمعنى أنه لا كيان ولا قوام للباطل: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ (١٠: ٢٧)، قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ (١١: ٤٣)، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ (٤٠: ٣٣).
٣٠  هذا هو موقف أهل السنة الأشاعرة بوجه عام؛ إذ يقدر الله ما لو فعله لكفر الناس كلهم وإلا لحقوا بعلي الأسواري (الفصل، ج٣، ص١٢٤)، وهو أيضًا موقف بعض المعتزلة، فلم يزل الله راضيًا عمَّن يعلم أنه يموت مؤمنًا وإن كان أكثر عمره كافرًا ساخطًا على من يعلم أنه يموت كافرًا وإن كان أكثر عمره مؤمنًا (مقالات، ج٢، ص٢٠٣).
٣١  هذا هو موقف جمهور المعتزلة بوجه عام؛ فقد منع هشام بن عمرو الفوطي من القول إن الله ألَّف بين قلوب المؤمنين وأضلَّ الفاسقين، أو خلق الكافر لأن الكافر اسم لشيئين إنسان وكفر وهو لم يخلق الكفر (الفرق، ص١٦٠-١٦١)، كما منع عباد بن سليمان الناس من قول أن الله أملى للكافرين (الفِرَق، ص١٦١).
٣٢  عند جعفر بن حرب يجوز القول بأن الله أراد الكفر مخالفًا للإيمان، وأراد أن يكون قبيحًا غير حسن أي حكم بذلك (مقالات، ج٢، ص١٧٧).
٣٣  عند أبي موسى المردار، خلى الله بين العباد وبينها (مقالات، ج٢، ص١٧٩).
٣٤  عند أهل الإثبات أن الله ينفع المؤمنين ويضرُّ الكافرين في الحقيقة في دنياهم وآخرتهم (مقالات، ج٢، ص١٩٥-١٩٦).
٣٥  عند الجبائي أن الله لا يضر أحدًا في باب الدين، ولكنه يضر أبدان الكفار بالعذاب (مقالات، ج٢، ص٢٩٥-٢٩٦)، وعند أهل السنة يقدر الله أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد ألَّا يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أرد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم وطبع على قلوبهم (مقالات، ج١، ص٣٢١).
٣٦  عند الأشعري خص الله أبا بكر بنعمة الإيمان دون أبي جهل ابتداءً (الإبانة، ص٥٤).
٣٧  عند الأشعري يجوز الاستثناء في الإيمان (الإبانة، ص٥٥)، يجوز أن يقول «أنا مؤمن حقًّا»، ويعني به في الحال فقط، ولكنه يجب أن يقول: «أنا مؤمن إن شاء الله» ويعني به في المستقبل، لا تجوز «إن شاء الله» في الماضي والحاضر لأن ذلك يكون شكًّا، الاستثناء في المستقبل وحده (الإنصاف، ص٦٠)، وعند أكثر الأصحاب: «أنا مؤمن إن شاء الله» تُقال لا لقيام الشك بل للتبرُّك أو للصرف إلى العاقبة (المحصل، ص٢٧٥؛ الغاية، ص٣١٢-٣١٣)، وهو أيضًا رأي عبد الله بن مسعود وتبعه جمع من عظماء الصحابة؛ فقد كره أن يقول المسلم: «أنا مؤمن» دون إضافة «إن شاء الله»، وعند ابن حزم كل من أقر باللسان وصدق بالقلب ويعترف بذلك فيقول أنا مؤمن مسلم لم يستوفِ بعدُ جميع الطاعات (الفصل، ج٣، ص١٦٥-١٦٦)، وهو أيضًا رأي الشافعي وأصحابه؛ وذلك لأنه ليس شكًّا في الإيمان بل تبركًا، وإن عني الشك فإنه لا يكون في الحال بل في العاقبة والدعاء بالسؤال على الحال، ولما كان الإيمان القول والعمل والاعتقاد، وكان حصول الشك في العمل يقتضي حصوله في الباقي حصل الشك في الإيمان ووجب إزالته (المعالم، ص١٤٨-١٤٩). وقد قيل في ذلك شعرًا عند المتأخرين:
وصحَّ أني مؤمنٌ قد صحبا
إن شاء الله فاتخذْه مذهبَا
(الوسيلة، ص٣٨؛ وأيضًا التحفة، ص٧؛ الإتحاف، ص١٠٠)، وهو أيضًا رأي محمد بن عبد الوهاب منعًا للشرك الأصغر وتجريدًا للإنسان عن الهوى (الكتاب، ص١٣٧–١٣٩، ص١٤٩-١٥٠)، ويجوِّزه من المعتزلة القاضي عبد الجبار، والمقصود به قطع الكلام عن نفاذ الإرادة، وقد يُراد به الشرط (الشرح، ص٨٠٣)، وعند الخوارج وبعض القدرية والمرجئة: الكراهة لا يستثنى في الإيمان في الحال وإنما يبين في المستقبل وعند بعض القاطعين بأن الإيمان هو التصديق من أصحاب الحديث أبو سهل محمد بن سليمان الصعلوكي، أمَّا المعتزلة فإنهم يمنعون الاستثناء في الإيمان؛ فاليقين لا يحتمل الشك والزوال؛ فقول القائل: أنا مؤمن إن شاء الله، لا يصحُّ إلا عند الشك أو خوف الزوال (تلخيص المحصَّل، ص١٧٥)، وأنكره أبو حنيفة وأصحابه لأن الإيمان هو الاعتقاد المجرد، ولم يكن الشك في العمل موجبًا للشك في الإيمان (المعالم، ص١٤٨-١٤٩)، وقال آخرون: من قال أنا مؤمن فليقل إنه من أهل الجنة (الفصل، ج٣، ص١٦٥-١٦٦)، ويُنقل عن الماتريدية قولها بأنه لا يجوز (القول، ص٣٨)، ومنعه أيضًا أتباع مالك (التحفة، ص٧؛ الإتحاف، ص١٠٠)، ومنعته الكراهة (الشرح، ص٨٠٣)، وعند جماعة من شيوخ العصر من القاطعين في الإيمان بأنه هو التصديق من أصحاب الحديث مثل ابن مجاهد والقاضي والأشعري والإسفراييني لا يجوِّزون الاستثناء في الحال (الأصول، ص٢٥٣)، وكذلك عند النسفي بقوله: إذا وجد من العبد التصديق والإقرار صح له أن يقول أنا مؤمن حقًّا، ولا ينبغي أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله (النسفية، ص١٣١).
٣٨  ذكر لفظ شاء في أصل الوحي ٢٣٦ مرة، كلها أفعال، ولا اسم فيها، مما يدل على عدم وجود مشيئة كموضوع أو شيء، منها ٢٧ مرة للإنسان والباقي لله؛ فالإنسان يشاء كالله، ومشيئته تدل على حريته بين الإيمان والكفر: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (١٨: ٢٩)، ومن شاء ذكر الله أو اتخذ إليه سبيلًا ومآبًا: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٧٤: ٥٤-٥٥)، قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٥: ٥٧)، إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٧٣: ١٩)، ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (٧٨: ٣٩)، ومن شاء تقدم أو تأخر ومن شاء أن يستقيم: نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٧٤: ٣٦-٣٧)، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٨١: ٢٧-٢٨)، والرسول حرٌّ في أن يشاء ويأذن: قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (١٨: ٧٧)، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ (٢٤: ٦٢)، وكل الناس تشاء في طعامها: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا (٢: ٥٨)، وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ (٧: ١٦١)، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا (٢: ٣٥)، (٧: ١٩)، كما تشاء في حرثها: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (٢: ٢٢٣)، وتشاء في عبادتها: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (٣٩: ١٥)، وتعمل ما تشاء: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤١: ٤٠)، فالناس تشاء كما يشاء الله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ (٧٦: ٣٠)، (٨١: ٢٩)، ولهم في الأرض ما يشاءون: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ (١٦: ٣١)، (٢٥: ١٦)، (٣٩: ٣٤)، (٤٢: ٢٢)، (٥٠: ٣٥)، وليوسف ما يشاء في الأرض: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ (١٢: ٥٦)، ومن الأفعال بالنسبة لله ٦١ مرة لبيان استحالة الفعل أو إمكانيته المستحيلة لتوقُّفها على أوضاع مستحيلة، ويعبر عن الاستحالة على ثلاث درجات بثلاث أدوات للشرط: «لو» ٢٩ مرة للاستحالة المطلقة، «إن» ٢٠ مرة للإمكان، «إذا» مرتان للتساوي بين فعل الشرط وجوابه إقرارًا للحقيقة، ولكن «لو» للاستحالة تمثِّل أكثر من نصف الحالات، أمَّا تعبير «إن شاء الله» فإنه يظهر ١٧ مرة، ١١ مرة «إن شاء» بدون الله، ثم ٦ مرات فقط كاملًا في صيغة «إن شاء الله»، مرتان للأمن: وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ (١٢: ٩٩)، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ (٤٨: ٢٧)، ومرتان للصبر: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (١٨: ٦٩)، قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (٣٧: ١٠٢)، ومرة للصلاح: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٨: ٢٧)، ومرة واحدة للهداية: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٢: ٧٠)، وهي كلها أفعال خارجية وليست إيمانية، أمَّا صيغة «إن شاء» دون الله فإنها مثل صيغ «لو»، تدل في معظمها على الاستحالة، مثل الذهاب بالوحي أو إنزال آية من السماء أو خسف الأرض أو الذهاب بالخلق أو إغراقهم أو إغنائهم، ولكن الله تركهم للحياة والاختبار، ويتَّضح ذلك أكثر في صيغ «لو» لبيان استحالة أن يشاء الله شيئًا مستحيلًا سواء بالنسبة للإنسان أم لله أم للطبيعة، فيستحيل ذهاب السمع والبصر أو جعلهما يدركان أكثر مما يدركان كحواس إنسانية، كما يستحيل جمع الناس على الهدى أو إدخال الإيمان في قلوبهم جميعًا أو فرض عبادة الله وحده عليهم أو إرسال نذير في كل قرية أو إعطاء كل نفس هداها أو تلاوة القرآن في قلوبهم؛ فهي استحالات إنسانية لأنها ضد التكليف والخلق والعقل والتمييز وحرية الأفعال، كما يستحيل ألا يكون هناك العنت الإنساني أو القتال أو الافتراء أو الاستحقاق أو جمع الناس أمة واحدة، وإلا لانتفى التعدُّد والإثراء المتبادل وإمكانية التعارف، كما يستحيل خرق قوانين الطبيعة مثل إنزال الملائكة من السماء أو جعل الظل ساكنًا أو رفع البشر بالآيات أو مسخهم أو تحويل الزرع حطامًا والماء أجاجًا أو أن يتخذ الله ولدًا، فتعليق المشيئة هنا على أمر مستحيل يجعل أيضًا تحقيقها مستحيلًا، تعبر «لو» عن حق نظري صِرْف وليس عن واقع عملي؛ لذلك لا تحدث في السلوك الفعلي، بل ومنهي عن استعماله في حديث: «لا تقولوا لو، فإن لو تفتح باب الشيطان». وقد اعتمدَت إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة عليه للدعوة إلى العمل وترك التمنِّي وألَّا يُقال في الندم (انظر «كتاب التوحيد» لمحمد بن عبد الوهاب).
٣٩  وذلك مثل: الفِرَق، اللمع، التمهيد، لمع الأدلة، النظامية، المسائل، المحصل، المعالم، الغاية، النسفية، الطوالع، العضدية.
٤٠  الفصل، ج٥، ص٩٧-٩٨.
٤١  (الإبانة، ص٥٥–٥٧). ذكرها في «الإبانة» لا في «اللمع» يدل على أنها من المسائل السمعية (الأصول، ص١٤٢–١٤٥)، (تذكر الآجال والأرزاق فقط دون الأسعار) (الإنصاف، ص٥٠-٥١) (تذكر الأرزاق فقط).
٤٢  يذكر النسفي في «البحر»، قال أهل السنة: الأرزاق مقسومة، ص٣٥، فصل، الغنى أفضل من الفقر (البحر، ص٥١–٥٣؛ النهاية، ص٤١٥-٤١٦) (تذكر الآجال والأرزاق دون الأسعار).
٤٣  في البحث عن أمور صرح بها القرآن وانعقد الإجماع عليها، المقتول عند أهل الحق ميت بأجله، مبحث الرزق، مبحث الأسعار (المواقف، ص٣١٩-٣٢٠).
٤٤  القطب الرابع وفيه أربعة أبواب: (أ) نبوة محمد. (ب) وجوب التصديق بأمور ورد الشرع بها ونفى بجوازها العقل. (١) قضاء العقل بما جاء الشرع به من الحشر والنشر وعذاب القبر والصراط والميزان. (٢) الاعتذار من الإضلال (الاقتصاد، ص١١١–١١٨)؛ وهي على ثلاثة أنواع: (أ) عقلية مثل الآجال (الاقتصاد، ص١١٢–١١٤). (ب) لفظية مثل الأرزاق والتوفيق والخِذْلان والإيمان (الاقتصاد، ص١١٤–١١٦). (ج) فقهية مثل الأمر بالمعروف والتوبة والفسق (الاقتصاد، ص١١٦–١١٨؛ أيضًا: الجوهرة، ص١٣) (الآجال فقط دون الأسعار).
٤٥  الوقت كل حادث يعرف به المخاطب حدوث الغير عنه (الوقت الطبيعي)، (الشرح، ص٧٨١-٧٨٢)، لا معنى للزمان إلا إذا اقترن بحادث متجدد أو قرن بمتجدد ومتجدد (الإرشاد، ص٣٦١-٣٦٢؛ الاقتصاد، ص١١٣-١١٤). الآجال يعبر بها عن الأوقات، فأجل كل شيء وقته وأجل الحياة وقتها المقارن لها (الإرشاد، ص٣٦١-٣٦٢).
٤٦  يبدأ الغزالي بتحديد ثلاثة أنواع من الارتباطات: (أ) التكافؤ (اليمين والشمال). (ب) التقدُّم كالشرط والمشروط. (ج) العلة والمعلول. ويحاول أن يضع الصلة بين القاتل والمقتول في أحد هذه الارتباطات الثلاثة (الاقتصاد، ص١١٢-١١٣).
٤٧  عند الفلاسفة للحيوان أجل طبيعي هو وقت موته بتحلُّل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين وآجال اخترامية على خلاف مقتضى طبيعته بحسب الأوقات والأعراض (شرح التفتازاني، ص١٠٩).
٤٨  فصل في الآجال، ووجه اتصاله بما تقدَّم أنه ربما يسأل عن الآجال: هل هي بقضاء الله وقدره (الشرح، ص٧٨١-٧٨٢).
٤٩  عند أهل السنة وأصحاب الحديث بوجه عام، والأشاعرة بوجه خاص؛ المقتول ميت لأجله، والأجل واحد، وقد خلق الله الآجال وقدرها (الأصول، ص١٣٨–١٥٢؛ حاشية الكلنبوي، ص١٨٩-١٩٠)؛ يعني الأجل والرزق (النهاية، ص٣٩٧–٤١٦)، من مات أو قُتل فبأجل مات وقتل (الإبانة، ص١١-١٢)، من يُقتل مات بأجله بمعنى أن الذي قتل في علم الله في أزله مآله أمره وما علم كونه لا بد أن يكون (الإرشاد، ص٣٦٢-٣٦٣). الميت من مات بأجله ومن قُتل قُتل بأجله (مقالات، ج١، ص٣٢٤؛ الإبانة، ص٥٥-٥٦)، والمقتول ميت بأجله (النسفية، ص١٠٨). والأجل واحد (النسفية، ص١٠٩). الأجل هو الزمان الذي علم الله أنه يموت فيه؛ فالمقتول عند أهل الحق ميت بأجله وموته بفعله تعالى، الله مستبد بالاختراع بلا قوله ولا يكون مخلوق علة، الموت استبد به الرب باختراعه مع الحز، فلا يجب من تقدير عدم الحز عدم الموت إبطال التعليل (الاقتصاد، ص١١٣-١١٤)، عموم قدرة الله وإبطال التولد، المقتول مات بأجله لأن الأجل هو الوقت الذي خلق فيه موته، قد انتهى أجل كل من مات لا يستأخر ساعةً ولا يستقدم (القول، ص٩٥)، وقد قيل شعرًا:
وميِّت بعمره من يُقتل
وغير هذا باطلٌ لا يُقبَل
(الجوهرة، ج٢، ص٦١-٦٢)
وأيضًا:
واعتقِد الموتَ إذا انتهى الأجل
لكل ذي روحٍ وجانِب الزلل
كقول بعض إنما أرحام
تُدفع لا يعمهم حمام
وقول آخرين لا آجال
بل باحتلال تعدم الأوصال
وكل مقتول موفى العمر
والموت جنس القتل ما مستقر
(الوسيلة، ص٩٤-٩٥)
دليل كل ما يليق من عمل
لكن الاعتبار بانتهاء الأجل
(الوسيلة، ص٣٤-٣٥)
٥٠  قال أهل السنة: إن كل من مات حتف أنفه أو قُتل إنما مات بأجله الذي جعل الله أجلًا لعمره، والله قادر على إبقائه والزيادة في عمره، لكنه متى لم يُبقه إلى مدة لم تكن المدة التي لم يُبقه إليها أجلًا له (الفِرَق، ص٢٤١؛ الأصول، ص١٤٢)، مذهب أهل الحق أن الأجل واحد لا يقبل الزيادة ولا النقصان، والطاعات في علم الله، صلة الرحم تزيد العمر، وهو خبر آحاد، وأن الزيادة بحسب الخير والبركة (التحف، ص٦١-٦٢؛ الإتحاف، ص١٣٢) وقال آخرون: لو لم يُقتل تقديرًا لمات حتف أنفه في الوقت الذي يقدَّر القتل فيه (الإرشاد، ص٢٦٢-٢٦٣)، من مات حتف أنفه مات بأجله وكذا من قُتل مات بأجله، الأجل هو وقت الموت.
٥١  إن بعض المعتزلة يشاطرون رأي الأشاعرة في أن المقتول ميتٌ بأجله في الخلاف المشهور في المقتول لو لم يُقتل كيف كان يكون في حال الحياة والموت؟ فالأجل هو الوقت الذي في معلوم الله أن الإنسان يموت فيه أو يُقتل، فإذا قُتل قُتل بأجله وإذا مات مات بأجله، ومنهم أبو الهذيل، فالمقتول يموت قطعًا ولا يكون القاطع قاطعًا لأجله (الشرح، ص٧٨٣-٧٨٤)، وعنده أن الرجل لو لم يُقتل لمات في ذلك الوقت، ولا يجوز أن يزداد في العمر أو ينقص (مقالات، ج١، ص٢٩٥؛ الملل، ج١، ص٧٨)، كما قال بالآجال والأرزاق مثل الأشاعرة (الملل، ج١، ص٤١)، وعنده أن المقتول أجله وهو لم يقتل لكن بدل القتل قطعًا (التحفة، ص٦٢؛ الإتحاف، ص١٣٢)، والجبائي مثل أبي الهذيل في قول أهل السنة بأن المقتول لو لم يُقتل مات في وقت قتله بأجله لأن المدة التي لم يعش إليها لم تكن أجلًا له ولا من عمره، ولا يجوِّز الجبائي غير ذلك إلَّا على تقدير الإمكان النظري (الأصول، ص١٤٢–١٤٤)، وعند الحسين بن محمد النجار؛ الميت يموت بأجله وكذلك المقتول يُقتل بأجله (مقالات، ج١، ص٣١٦). ويقارِب ذلك رأي متوسِّطي الأشاعرة التي لا تُنكر إمكان البقاء لو لم يمت المقتول، ولكن يقولون فقط إن المدة التي قُتل قبلها لم تكن أجلًا له (الوصول، ص١٤٢-١٤٣).
٥٢  لم يشر إلى ذلك إلا بعض القدماء في قولهم شعرًا:
ووصف شهيد الحرب بالحياة
ورزقه من تشتهي الجنات
٥٣  أمَّا جمهور المعتزلة فإنه يجيب على سؤال المقتول لو لم يُقتل كيف كان يكون في حالة الحياة والموت، هل يموت أم لا؟ فقد قال أكثر القدرية إن المقتول ميت ميتتين: (أ) موت من فعل الله. (ب) قتل من فعل القاتل، في حين قال الأشاعرة: القتل غير الموت، والمقتول ميت والموت قائم به والقتل يقوم بالقاتل (الأصول، ص٢٤٣)، بينما قال الباقون من القدرية إن المقتول مقطوع عليه أجله، فجعلوا العباد قادرين على أن ينقصوا مما أجَّله الله ووقته، ولو جاز ذلك لجاز أن يزيدوا في أجل من قضى الله له أجلًا محددًا، وإذا لم يقدروا على الزيادة في أجل آخر لم يقدروا على النقصان فيه، وهذا تشنيعٌ من الأشاعرة عليهم (الأصول، ص١٤٢-١٤٣)، صحيح قال المعتزلة بأن المقتول مقطوع عليه أجله (الفِرَق، ص٢٤١)، وأن المقتول تولَّد موتُه من فعل القاتل، وأنه لو لم يُقتل لعاش إلى أمد هو أجله ضرورة؛ بدليل ذم القاتل، ولو كان ميتًا بأجله لمات وإن لم يقتله؛ فهو لم يجلب بفعله أمرًا لا مباشرًا ولا توليدًا، فكان لا يستحق الذم، وبأنه ربما قتل في الملحمة الواحدة ألوفًا، نعلم بالضرورة أن موت الجم الغفير في الزمان القليل بلا قتل مما تحكم العادة بامتناعه، ما لا يخالف العادة واقع بالأجل منسوب إلى القاتل (المواقف، ص٣٢٠)، لو قُدِّر عدم القتل فيه لبقي مدة، والقاتل قاطعٌ بذلك أجله (الإرشاد، ص٣٦٢-٣٦٣)؛ فالأجل هو الوقت الذي في معلوم الله أن الإنسان لو لم يُقتل لبقي إليه هو أجله دون الوقت الذي قُتل فيه (مقالات، ج١، ص٢٩٥)، القاتل قطع على المقتول أجله، فالمقتول له أجل واحد وهو الوقت الذي علم الله موته فيه، فلو لم يُقتل لعاش إليه قطعًا (التحفة، ص٦٢؛ الإتحاف، ص١٣٢)، وعند المعتزلة البغداديين كان المقتول يعيش قطعًا (الشرح، ص٣٨٣-٣٨٤)، قطع الله عليه الأجل، واحتجَّت المعتزلة بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد في العمر وبأنه لو كان ميتًا بأجله لما استحق القاتل ذمًّا ولا عقابًا ولا ديةً ولا قصاصًا؛ إذ ليس موت المقتول بخلقه ولا بكسبه (شرح التفتازاني، ص١٠٨-١٠٩؛ حاشية الخلخالي، ص١٠٨؛ حاشية الإسفراييني، ص١٠٨)، وعندهم حاشا ضرار وبشر أن الله لم يُمت رسولًا ولا نبيًّا ولا صحابيًّا ولا أمهات المؤمنين، ولو أنهم عاشوا لفعلوا خيرًا طبقًا لسخرية ابن حزم (الفصل، ج٥، ص٤٤)، الأجل واحد عند المعتزلة والأشاعرة (باستثناء الكعبي)، إلا أنه لا يتقدَّم الموت عليه عند الأشاعرة ويتقدَّم عند المعتزلة (الإسفراييني، ص١٠٨)، أمَّا عند الكعبي فالمقتول ليس بميت (الفِرَق، ص٢٤١)؛ فالموت من قبل الله والقتل من قبل القاتل (الأصول، ص٢٤٣). القتل فعل العبد والموت فعل الله (التحفة، ص٦٢؛ الإتحاف، ص١٣٢)؛ فللمقتول أجلان: القتل والموت، لو لم يُقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت (شرح التفتازاني، ص١٠٩)، وعند القاضي عبد الجبار: يجوز أن يحيا ويجوز أن يموت دون القطع ليس إلا الجواز (الشرح، ص٧٨٣-٧٨٤). وعند علي الأسواري: لا يقدر الله على غير ما فعل، وأن من علم الله أنه يموت، لا يقدر الله أن يميته قبل ذلك (الفصل، ج٥، ص٣٨-٣٩)، وعند أبي هاشم لو طال عمر المحسن المسلم لجاز أن يعمل من الحسنات والخير أكثر مما عمل النبي، وقد نفى ابن حزم ذلك بالرغم من التسليم بزيادة الطاعات إمكانًا (الفصل، ج٥، ص٤٣)، عند جمهور المعتزلة إذن يجوز لو لم يقتل القاتل أن يموت المقتول أو يعيش، بينما أحال البعض ذلك وحكم بضرورة الحياة (مقالات، ج١، ص٢٩٥).
٥٤  ذكر لفظ «الأجل» في أصل الوحي ٥٥ مرة مفردًا دون جمع، ولم يذكر فعلًا إلا مرتين؛ ومِنْ ثَمَّ فالأجل وضعٌ وليس فعلًا لأحد، مرة للإنسان وحياته: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا (٦: ١٢٨)، ومرة للكون وعمره: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (٧٧: ١٢)، وقد استُعمل ٣٦ مرة بلا إضافة ضمائر ممَّا يدلُّ على أن الأجل أيضًا وجود وليس ملكية، ويعني الأجل إمَّا عجز الإنسان، وقد استُعمل هذا المعنى ٣٠ مرة، أي أكثر من نصف الاستعمالات، وهو المعنى الأوَّل مثل: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا (٦٣: ١١)، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٧: ٣٤)، (١٠: ٤٩)، (١٦: ٦١)، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا (٣: ١٤٥)، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (٦: ٢)، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (١٣: ٣٨)، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (٢٢: ٥)، مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ (٢٩: ٥)، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا (٦: ٢)، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى (٤٠: ٦٧)، ولا يؤخَّر الأجل بحالٍ حتى يفعل الإنسان ولا يؤجَّل عمله إلى الغد، وحتى يكون مضغوطًا بالزمان، وإلا فاته العمر ولم يفعل شيئًا: وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ (٤: ٧٧)، وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١١: ١٠٤)، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (١٤: ١٠). ويأتى الاستعمال الثاني للأجل بمعنى الزمن الكوني الطبيعي ٩ مرات للشمس والقمر والسموات والأرض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، (١٣: ٢؛ ٢١: ٢٩؛ ٣٥: ١٣؛ ٣٩: ٥)، مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ، (٣٠: ٨، ٤٦: ٣) والمعنى الثالث للأجل هو أجل النكاح، مدة العلاقة بين الزوجين، الدرجة الأولى للعلاقات الاجتماعية: وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ (٢: ٢٣٥)، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (٢: ٢٣١)، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ (٢: ٢٣٢)، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ (٢: ٢٣٤)، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (٦٥: ٢)، وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (٦٥: ٤). ثم يعني الأجل، أجل الأمة وعمرها في التاريخ، ٤ مرات: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً (٧: ٣٤)، (١٠: ٤٩)، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٢٣: ٤٣). وقد يعني الأجل مجرد مدة من الزمن: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (٧: ١٣٥). وقد يعني أخيرًا أجل الدين: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (٢: ٢٨٢)، وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ (٢: ٢٨٢)، أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ (٢٨: ٢٨).
٥٥  ثم طولوا في أمر الرزق وهو النعمة، وتضييع الوقت بهذا وأمثاله دأب من لا يميز بين المهم وغيره، ولا يعرف قدر بقية عمره، وأنه لا قيمة له، فلا ينبغي أن يضيع العمر إلا بالمهم وبين يدي النظَّار أمور مشكلة البحث عنهم أهم من البحث عن موجب الألفاظ ومقتضى الإطلاقات، فنسأل الله أن يوفقنا للاشتغال لما يعنينا (الاقتصاد، ص١١٥-١١٦).
٥٦  عند أهل السنة الأشاعرة الأرزاق مقسومة (البحر، ص٣٥–٣٧)، الأرزاق مقدَّرة على الآجال والآجال مقدرة عليها، ولكل حادثٍ نهاية ليستخلص النهايات بحياة الحيوانات وما علم الله إن شاء ينتهي عند أجل معلوم كان الأمر كما علم وحكم، فلا يزيد في الأرزاق زائد ولا ينقص منها ناقص، فإذا جاء أجلهم لا يتأخَّرون ساعة ولا يستقدمون، وقد قيل إن المكتوب في اللوح المحفوظ حكمان؛ حكم مطلق بالأجل والرزق، وحكم مقيد بشرط إن فعل كذا يُزاد في رزقه وأصله وإن فعل كذا نقص منها كذا، وعليه حمل ما ورد في الخبر عن صلة الرحم يزيد في العمر (النهاية، ص٤١٥-٤١٦)، قال أهل السنة كثَّرهم الله: الأرزاق مقسومة معلومة لا تزيد بتقوى المتقين ولا تنقص بفجور الفاجرين، والرزق الذي يتكفَّل الله به هو الغذاء! (البحر، ص٣٥–٣٧)، وأنه مقدر الأرزاق لجميع الخلق ومؤقت لآجالهم وخالق لأفعالهم وقادر على مقدوراتهم وإله ورب لها، لا خالق غيره، ولا رازق سواه، وأن بيده الخيرَ والشرَّ والنفعَ والضررَ، وأنه مقدر لجميع الأفعال لا يكون حادِثٌ إلا بإرادته ولا يخرج مخلوق عن مشيئته، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما أكثر استخراج الحجج النقلية لتبرير ذلك مثل ما يفتح الله للناس من رحمته فلا ممسك لها، ويمسك فلا مرسل له، وإن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله (البحر، ص٣٥–٣٧)، ثم يمتد ذلك إلى التعليل ذاته ورد كل شيء إلى العلة الأولى؛ فالدواء سبب الشفاء من الله، ورؤية الشفاء من الدواء أو من الطبيب كفر، بل الشفاء من الله لأنه اتخذ شريكًا مع الله من الشفاء، والكسب سبب، والرزق من الله، ورؤية الرزق من الكسب كفر، وليست الثياب سبب دفع الحر والبرد ودافع الحر والبرد هو الله، ورؤية دفع الحر والبرد من الثياب كفر (البحر، ص٣٥–٣٧)، وقد شارك بعض المعتزلة الأشاعرة في ذلك، فعندهم أن الله قدَّر الأرزاق، فمن قُتل فقد أعجله رزقه وبقي له من الرزق ما لم يستوفِه ولم يستكمله (التنبيه، ص١٧٦)، ويرى القاضي عبد الجبار مثل الأشاعرة أن الأرزاق كلها من جهة الله؛ فهو الذي خلقها وجعلها بحيث يمكن الانتفاع بها؛ فهو الرازق حقيقةً، وإذا وصف الواحد مِنَّا فيقال رزق الأمير جنده والسلطان رعيته كان على نوع من التوسُّع والمجاز (الشرح، ص٧٨٥-٧٨٦)، وكذلك قال أبو الهذيل بالآجال والأرزاق (الملل، ج١، ص٤١)، عند بعض المعتزلة الله خالق الأجسام وكذلك الأرزاق، وهي أرزاق الله (مقالات، ج١، ص١٩٦)، وقد قيل شعرًا في العقائد المتأخرة:
وجائز عليه كل ممكن
فعلًا وتركًا مثل رزق المؤمن
(الوسيلة ص٣٤-٣٥)
٥٧  عند المعتزلة قدَّر الله الأرزاق أيضًا، فمن قُتل فقد أعجله رزقه وبقي له من الرزق ما لم يستوفِه ولم يستكملْه (التنبيه، ص١٧٦)، ولكن تفرض على العبد الاكتساب وطلب المال (الملل، ج١، ص٥٣-٥٤)، ليست الشدائد والمحن بقضاء الله ولكن بترك جهد العبد؛ لأن الله لا يقضي بالشر والمحن ولا يريدها (البحر، ص٣٥–٣٧)، لم يقسم الله الأرزاق إلا على الوجه الذي حكم به من استحقاق المواريث وما فرض من سهام الصدقات لأهلها، وما فرض من الغنائم فلذوي القربى ومن ذكر منهم، قد يفوت الإنسان ما رزقه الله، وقد يأكل رزق غيره، إذا غصب شيئًا أكله. وأجاز المعتزلة أن يزيد الرزق بالطلب وينقص بالتواني (الأصول، ص١٤٤)؛ فالأرزاق عند المعتزلة تزيد وتنقص (البحر، ص٣٥–٣٧). انظر أيضًا: الفصل الحادي عشر، النظر والعمل، فالإيمان أيضًا يزيد وينقص.
٥٨  ذهب بعض المعتزلة إلى أن الرزق هو الملك، رزق كل موجود ملكه: «هل ملك الباري رزق له من حيث هو ملك؟» (الإرشاد، ص٣٦٤–٣٦٦؛ التحفة، ص٢٩١-٢٩٢؛ الإتحاف، ص١٤٩)، الرزق عندهم ملك الدراهم والدنانير الحاصلة بالكسب (البحر، ص ٣٥–٣٧)، وأسباب الملكية عند البشر: (أ) الحيازة. (ب) الإرث. (ج) المبايعة. (د) الهبة (الشرح، ص٧٨٥-٧٨٦).
٥٩  عند الأشاعرة الحرام رزق، وكلٌّ يستوفي رزق نفسه حلالًا كان أو حرامًا، ولا يُتصوَّر ألَّا يأكل كل إنسان رزقه ويأكل غيره رزقه (النسفية، ص٩٩–١١٢؛ شرح التفتازاني، ص١٠٩-١١٠؛ حاشية الخيالي، ص١٠٩؛ حاشية الإسفراييني، ص١٠٩)، الرزق كل ما ساقه الله إلى العبد فأكله فهو رزق له من الله حلالًا كان أم حرامًا؛ إذ لا يقبح من الله شيء، ومن اغتصب ملكًا ما حرامًا وأكل جميع عمره حرامًا فهو رزق، وإن لم يكن رزقًا فبأي شيء اغتذى الجسم (الإبانة، ص٥٦-٥٧، ص٤٩)، وأيضًا في الأرزاق وتقديرها (الأصول، ص١٣٨–١٥٢)، معنى الأجل والرزق (النهاية، ص٣٩٧–٤١٦)، عند الأشاعرة الحرام رزق الله ولكن العبد يستحق على فعل نفسه (البحر، ص٣٥–٣٧)، كل ما ساقَه الله إلى العبد فهو رزق له من الله، حلالًا كان أو حرامًا؛ إذ لا يقبح من الله شيء (المواقف، ص٣٢٠)، ويجب أن يعلم أن أرزاق العباد وجميع الحيوان من الله، فلا رازق إلا الله حلالًا كان أم حرامًا، وقد أجمع المسلمون على إطلاق القول: «لا رازق إلا الله»، مثل: «لا خالق إلا الله» (الإنصاف، ص٥٠-٥١)، وقد قيل شعرًا:
فيرزق الله الحلال فاعلما
ويرزق المكروه والمحرما
(الجوهرة، ص٩١-٩٢)
وقال أهل الحق إن كلَّ من أكل أو شرب شيئًا فإنما تناول رزق نفسه، حلالًا كان أم حرامًا، ولا يأكل أحد رزق غيره (الأصول، ص٢٢٤-٢٤٥)، وعند قوم من أصحاب الحديث وأهل السنة: الأرزاق من قِبَل الله، يرزقها عباده حلالًا كانت أم حرامًا (مقالات، ج١، ص٣٢٤). قال أهل السنة بالأرزاق بما هي عليه الآن، وأن كل من أكل شيئًا أو شربه فإنما تناول رزقه حلالًا كان أو حرامًا (الفِرَق، ص٢٤١)، وأن الأرزاق من قِبَل الله يرزقها عباده حلالًا أو حرامًا (الإبانة، ص١٢). عند أهل الإثبات الأرزاق على ضربَيْن، منها ما ملَّكه الله للإنسان ومنها ما جعله غذاءً له وقوامًا لجسمه وإن كان حرامًا عليه، فهو رزقه إذ جعل الله غذاءً له لأنه قوام لجسمه (مقالات، ج١، ص٢٩٦). ومن المعتزلة الحسين بن محمد النجار الذي يرى أن الله يرزق الحلال ويرزق الحرام، وهو على ضربين: غذاء وملك (مقالات، ج١، ص٣١٦).
٦٠  الحلال لا ينبغي أن يسأل عن أصل الشيء؛ لأن الحلال ما جهل أصله؟ والأصول قد فسدت واستحكم فسادها، فأخذ الشيء على ظاهر الشرع أولى من السؤال عن شيء يتبين تحريمه (التحفة، ص٩٢).
٦١  عند المعتزلة: الحرام ليس برزق الله وأنه من فعل العبد؛ لأنه لو رزق الحرام لملك الحرام (البحر، ص٣٥–٣٧)، فالإنسان عندهم قد يأكل رزق غيره (الفِرَق، ص٢٤١)، الأجسام الله خالقها، وكذلك الأرزاق، وهي أرزاق الله، فمن غصب إنسانًا مالًا أو طعامًا فأكله وأكل ما رزق الله غيره ولم يرزق إياه. وقال أجمعهم إن الله لا يرزق الحرام كما لا يملك الحرام، إنما يرزق الذي ملكهم إياهم دون الذي غصبه (مقالات، ج١، ص١٩٩)، وأنكر صنف من المعتزلة أن يكون الرجل الذي سرق في عمره كله أو يأكل الحرام أن يكون ذلك رزق الله، لم يرزقه الله قط إلا حلالًا (التنبيه، ص٧٦)، وعند أبي الهذيل: الأرزاق على ضربَيْن: (أ) ما خلق الله من الأمور المنتفع بها يجوز أن يُقال خلقها رزقًا للعباد. (ب) ما حكم الله به من هذه الأرزاق للعباد ما أحل منها رزق وما حرم فليس رزقًا، أي ليس مأمورًا بتناوله (الملل، ج١، ص٧٨-٧٩)، والحرام عند المعتزلة لا يكون رزقًا بناءً على التحسين والتقبيح العقليَّيْن (التحفة، ص٩٢)، ومن الخوارج من قال بمثل قول المعتزلة في القدر؛ ومِنْ ثَمَّ لا يرزق الله عباده الحرام إذا غلبوه عليه وأكلوه، ومنهم من أثبت ذلك وقال إن الله يرزق عباده الحرام إذا غلب عليه وأكلوه (مقالات، ج١، ص١٩١)، وقد شارك بعض أهل السنة هذا الرأي بالتفرقة بين النعمة والرزق؛ فالنعمة عامة، وهي كل ما ينعم به الإنسان في الحال والمآل، في حين أن الرزق ما يتغذَّى به من الحلال والحرام، النعمة محمود العاقبة مقصور على الدين والرزق ما يكون مباحًا، والحرام لا يجوز الإنفاق منه (النهاية، ص٤١٥-٤١٦).
٦٢  زاد المتأخرون الأشاعرة هذا المعنى الثالث، فلم يقولوا ملكية بل مِلك، وحدَّدوا ذلك بأن رزق كل مرزوق ما انتفع به من ملكه، وقيَّدوا الملك بالانتفاع بصرف النظر عن الاعتراض عن أن البهائم تنتفع ولا تملك، الرزق ما يُنتفع به، ومن اتسع ملكه ولم ينتفع به لا يكون رزقًا (الإرشاد، ص٣٦٤–٣٧١)، الرزق يتعلق بمرزوق تعلق النعمة بمنعم عليه، والذي صح عندنا في معنى الرزق أن كل ما انتفعَ به منتفعٌ فهو رزقه، فلا فرق بين أن يكون متعديًا بانتفاعه، وبين ألَّا يكون متعديًا به (الإرشاد، ص٣٦٤) ما ساقه الله إلى الحيوان فانتفع به (الإتحاف، ص١٤٩)، وقد قيل ذلك شعرًا:
والرزق عند القوم ما به انتفع
وقيل لا بل ما ملك وما اتبع
(الجوهرة، ص٩١-٩٢؛ التحفة، ص٢٩١-٢٩٢؛ الإتحاف، ص١٤٩)
كذلك:
والعقل مثلها فعنه تمسك
والرزق رووا أنه ما يملك
بل كل نافع من الأجسام
الحل والمكروه والحرام
(الوسيلة، ص٩٥)
ويشارك المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار في تعريف الأشاعرة، فحقيقة الرزق لديه ما ينتفع به وليس للغير المنع منه؛ لذلك لم يفترق الحال بين أن يكون المرزوق بهيمةً أو آدميًّا، وينقسم إلى: (أ) رزق على الإطلاق نحو الكلأ والماء وما يجري مجراهما. (ب) الرزق على التعيين نحو الأشياء المملوكة، وكذلك الحال عند البهائم: (أ) رزق على الإطلاق مثل الكلأ والماء. (ب) رزق على التعيين وهو ما حواه فمه، والانتفاع هو الالتذاذ، والالتذاذ هو إدراك الشيء مع الشهوة إمَّا حادثًا مثل حك المجرب أو باقيًا كالطعوم والأراييح (الشرح، ص٧٨٥-٧٨٦)، وعند المعتزلة: الرزق هو الحلال بصرف النظر عن الاعتراض القائم على الحجة النقلية المنتقاة من الأشاعرة: «وما من دابة إلا على الله رزقها»، وبما لا يمنع من الانتفاع به، ولكن الأشعرية تجعل الانتفاع بالحلال والحرام معًا وإلا لزم المعتزلة أنه من أكل الحرام طول عمره فالله لم يرزقه وذلك خلاف للإجماع، وأن المعتزلة إنما تصدر في حكمها عن أن الانتفاع بالحلال إلى أصل الحكم فيما يجوز ولا يجوز على الله! (المواقف، ص٣٢٠).
٦٣  التحفة، ص٢٩١-٢٩٢.
٦٤  ينقسم الرزق إلى: (أ) ما يحصل من جهة الله ابتداءً، وهو ما يصل إلينا بطريق الإرشاد. (ب) ما يحصل بالطلب، بالتجارات والزراعات وغير ذلك، وينقسم إلى: (١) ما يلحق بتركه ضرر، فإنه يجب الاشتغال به. (٢) ما لا يلحق بتركِه ضرر، فإنه يجوز الاشتغال به. إن جماعة من المتآكلة الذين سموا أنفسهم المتوكلة خالفوا هذه الجملة، وذهبوا إلى أن الطلب قبيح، واحتجُّوا بوجهين: (أ) أن الطلب يضاد التوكُّل وينافيه ويمنع منه، فيجب القضاء بقبحه. (ب) أن الطالب لا يأمن فيما يجمعه ويُتعب فيه نفسه أن تغصبه الظلمة فيكون في الحكم كأنه أعانهم على الظلم وذلك قبيح، وهذا الذي ذكروه بخلاف ما في العقول، التوكل طلب القوت، التوكل أن تغدو الطير وتروح في طلب المعيشة، كما تقرر في العقل حسن التجارات والفلاحات (أين الصناعات؟) طلبًا للأرباح (الاقتصاد القائم على الربح). إن التاجر إنما يتجر لربح على درهم درهمًا أو أقل عن ذلك أو أكثر، لا يغتصبه السلطان، وكذلك الزارع، إعانة الظالم لا تثبت إلا مع الإرادة وليس مجرد الفلاحة أو التجارة (الشرح، ص٧٨٦-٧٨٧).
٦٥  انظر مقالنا «الأيديولوجية والدين»، قضايا معاصرة، ج١، ص١٢٨–١٤٦.
٦٦  في أصل الوحي ورد لفظ «رزق» ١١٣ مرة، منها ٥٢ مرة اسمًا، ٦١ مرة فعلًا، مما يدل على أن الرزق وضعٌ كما أنه إضافة، وفي الأسماء ٣٩ مرة بلا ضمير ملكية، ١٣ مرة مضافة إلى ضمير، مما يدل على أن الرزق وجود وليس ملكية، وصحيح أن الرزق فعل لله كحق نظري وكنتيجة للخلق، فالخالق هو الرازق كصفة أو كاسم من أسمائه: إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥١: ٥٨)، ولكن الفعل الإلهي مشروط بلو للاستحالة: وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ (٤٢: ٢٧)، ومشروط بالهجرة والجهاد: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا (٢٢: ٢٨)، ومشروط بالتقوى: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (٦٥: ٢-٣)، ومشروط بالإيمان: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٨: ٧٤)، وبالإيمان وبالعمل الصالح والمغفرة: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٢: ٥٠)، أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٤: ٢٦)، ومشروط بالإخلاص: إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٣٧: ٤٠-٤١)، وهو رزق من السماء والأرض، رزق من الخلق، رزق من الطبيعة، والطبيعة في حاجة إلى جهد في الزرع حتى يحصل الإنسان على الرزق؛ فالرزق فعل متوسط من الطبيعة ومن الإنسان: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (١٠: ٣١)، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (٢٧: ٦٤)، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (٣٥: ٣)، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (٤٥: ٥)، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ (٢: ٢٢)، (١٤: ٣٢)، كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ (٢: ٢٥)، تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا (١٦: ٦٧)، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (١٦: ٧٣)، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا (٤٠: ١٣)، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٥١: ٢٢)، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ (١٦: ١١٢). والرزق أيضًا فعل الإنسان المباشر وليس فقط فعله المتوسط: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ (٤: ٥)، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ (٤: ٨)، فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ (١٨: ١٩)، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥١: ٥٧)، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (٢: ٢٣٣)، وهو الرزق الحلال وليس الحرام، وهي الطيبات والرزق الحسن وليست الخبيثات والرزق القبيح: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا (٥: ٨٨)، (١٦: ١١٤)، قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا (١٠: ٥٩)، وأهم شيء في الرزق والأكثر استعمالًا هو الإنفاق من الرزق وعدم الاكتناز وسيولة المال في المجتمع للاستثمار والانتفاع العام، والرزق يكون سرًّا وعلانيةً، نفقةً واستثمارًا: وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا (١٦: ٧٥)، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٢: ٣)، (٨: ٣)، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً (١٣: ٢٢)، قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً (١٤: ٣١)، وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ (١٦: ٥٦)، وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٢٢: ٣٥)، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٢٨: ٥٤)، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٢: ١٦)، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (٣٥: ٢٩)، وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ (٤: ٣٩)، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا (١٦: ٧٥)، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ (٦٥: ٧).
٦٧  قامت مظاهرات ١٨ - ١٩ يناير في مصر ١٩٧٧م إثر رفع الأسعار وضد الغلاء.
٦٨  باب في الأسعار؛ الأسعار كلها جارية على حكم الله، وهي إثبات أقدار أبدال الأشياء؛ إذ السعر يتعلق بما لا اختيار للعبد فيه من عزة الوجود والرخاء وصرف الهمم والدواعي وتكثير الرغبات وتقليلها. وما يتعلَّق فيها باختيار العباد فهو أيضًا فعل الله، إذ لا مخترع سواه (الإرشاد، ص٣٦٧)، الأسعار هل هي بقضاء الله وقدره أم لا؟ قال الأشاعرة: نعم، ولم نحتَجْ إلى التقييد (الشرح، ص٧٨٨-٧٨٩).
٦٩  هذا هو الحديث الذي يجعل المسعِّر هو الله على أصل الأشاعرة، حين وقع غلاء في المدينة اجتمع أهلها إليه وقالوا: سعِّر لنا يا رسول الله، فقال: المسعِّر هو الله (شرح الجرجاني، ص٥٢٦). ويُلاحَظ ورود هذا الحديث في الشروح المتأخرة وليس في كتب العقائد الأولى أو المتقدمة.
٧٠  أطلقت المعتزلة القول بأن الأسعار من أفعال العباد (الإرشاد، ص٣٦٧)؛ قال بعضهم: (أ) فعل مباشر من العبد، إذ ليس ذلك إلا مواضعة منهم، فهم على البيع والشراء بثمن مخصوص. (ب) متولد عن فعل الله، وهو تقليل الأجناس وتكثير الرغبات بأسباب هي من فعله تعالى (المواقف، ص٣٢٠).
٧١  فصل في الأسعار: إن السعر شيءٌ والثمن شيء آخر غيره؛ فالسعر ما تقع عليه المبايعة بين الناس، والثمن هو الشيء الذي يُستحق في مقابلة البيع، ثم إن السعر يوصَف بالغلاء مرة وبالرخص مرة، فالرخص هو بيع الشيء بأقل مما اعتيد بيعه في ذلك الوقت وفي ذلك البلد، والغلاء بالعكس من ذلك، ولا بد من اعتبار البلد والوقت، فتأثيرهما مما لا يخفى (الشرح، ص٧٨٨-٧٨٩).
٧٢  إن الغلاء والرخص ربما يكون من قِبَل الله وربما يكون من قِبَل السلطان، ما يكون من قِبَل الله هو أن يقل ذلك الشيء وتكثر حاجة المحتاجين إليه أو يكثر ذلك الشيء وتقل حاجة المحتاجين إليه (قانون العرض والطلب من الله)؟ وأمَّا ما يكون من قبل السلطان فهو أن يسوم الرعية ألَّا يبيعوا إلا بقدر معلوم (تحديد الأسعار وتثبيتها من السلطان)! (الشرح، ص٧٨٨-٧٨٩).
٧٣  لم يرد لفظ السعر في أصل الوحي، بل ورد لفظ الثمن فقط ١١ مرة مجرورًا والباقي منصوبًا دون فعل أو إضافة ملكية مما يدل على أن الثمن «وضع» وليس فعلًا، وكلها بمعنى القليل والبخس، أي أقل من قيمة الشيء، مثل: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢: ٢٠)، وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٢: ٤١)، (٥: ٤٤)، ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (٢: ٧٩)، لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (٣: ١٩٩)، وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا (٥: ٤٤)، اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ (٩: ٩). وموضوع الشراء البخس ليس فقط الآيات، أي الحق والنبوة والوحي، بل أيضًا العهد، عهد الله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ (٣: ٧٧)، وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (١٦: ٩٥)، وهي مجرد صورة شعرية لقيمة الشيء وعدم بخسها.
٧٤  الكلام في الفقر والغنى، اختلف قوم في أي الأمرين أفضل، الفقر أم الغنى؟ وهذا سؤال فاسد؛ لأن تفاضل العمل والجزاء في الجنة إنما هو العامل لا محالة محمول فيه، إلا أن يأتي نص بتفضيل الله حالًا على حال، وليس ها هنا نص في فضل إحدى هاتين الحالتين على الأخرى، وإنما الصواب أن يُقال أيهما أفضل: الغني أم الفقير؟ (الفصل، ج٥، ص٩٧-٩٨).
٧٥  والجواب ما قاله الله، فإن الغني أفضل عملًا من الفقير، فالغني أفضل وإن كان الفقير أفضل عملًا من الغني، فالفقير أفضل وإن كان عملهما متساويًا فهما سواء، الغنى نعمة إذا قام بها ما لها بالواجب عليه فيها، أمَّا فقراء المهاجرين فهم كانوا أكثر وكان الغني فيهم قليلًا، والأمر كله منهم وفي غيرهم راجع إلى العمل بالنص والإجماع على أنه تعالى لا يجازي بالجنة على فقر ليس معه خير ولا على غنًى ليس معه عمل خير (الفصل، ج٥، ص٩٧-٩٨).
٧٦  الغنى أفضل من الفقر وبه أخذ بعض مشايخنا، (البحر، ص٥١–٥٣)، استعاذ النبي من فتنة الفقر وفتنة الغنى، وجعل اللهُ الشكرَ بإزاء الغنى والصبرَ بإزاء الفقر، فمن اتقى الله فهو الفاضل غنيًّا كان أم فقيرًا! (الفصل، ج٥، ص١٩٧)، ويعتمد أصحاب هذا الرأي على عدة حجج نقلية وتاريخية، منها: (أ) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى. (ب) كان الأنبياء أغنياء كداود وسليمان ويوسف وإبراهيم وموسى وشعيب. (ج) كان الصحابة أغنياء. (د) كاد الفقر أن يكون كفرًا رواية عن الرسول. (ﻫ) في الغنى جمع بين عبادة النفس وعبادة المال. (و) نعم المال الصالح مع الرجل الصالح (البحر، ٥١–٥٣). وقد ورد لفظ الغنى في أصل الوحي ٧٣ مرة، الغنى من الله لا يتعدَّى ٧ مرات، مثل: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٥٣: ٤٨)، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (٩٣: ٨)، وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ (٩: ٧٤)، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ (٤: ١٣٠)، وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (٢٤: ٣٣)، فالغنى ليس بالمال وحده، بل بالتوفيق والحفظ، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (٩: ٢٨)، أمَّا وصف الله بأنه غني (١٧) مرة، فمرة غني حميد (١٠ مرات)، مثل: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢: ٢٦٧)، ومرة مع حليم: وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢: ٢٦٣)، ومرة مع «ذو الرحمة»: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ (٦: ١٣٣)، ومرة مع كريم: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٢٧: ٤٠)، ومرتين غني عن العالمين: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٣: ٩٧)، (٢٩: ٦)، وثلاث مرات الغني: قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ (١٠: ٦٨)، إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ (٣٩: ٧)، وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ (٤٧: ٣٨)؛ لذلك لا يوصف الله بالفقر: لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (٣: ١٨١). أمَّا المعاني السلبية للأفعال في صيغة «لا يُغني»، فهي كثيرة؛ فالآلهة لا تُغني: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ (١١: ١٠١)، لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (١٩: ٤٢)، ولا شيء يُغني عن الله: مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ (١٢: ٦٨)، والجمع الكثير لا يُغني شيئًا: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٧: ٤٨)، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا (٩: ٢٥)، والسمع والأبصار والأفئدة لا تُغني عن الإدراك والوعي: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ (٤٦: ٢٦)، ولا أحد يُغني عن الله من شيء: وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ (١٢: ٦٧)، لا تُغني الشفاعة: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا (٣٦: ٢٣)، وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا (٥٣: ٢٦)، ولا تُغني النذر: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥٤: ٥)، وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠: ١٠١)، ولا تُغني الفئة: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا (٨: ١٩)، ولا يُغني الظن عن الحق: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (١٠: ٣٦)، (٥٣: ٢٨)، ولا يُغني المولى عمَّن يتولَّاه شيئًا: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا (٤٤: ٤١)، ولا شيء يُغني عن اللهب: لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٧٧: ٣١)، ولا شيء يُغني عن الجوع: لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٨٨: ٧)، ولا يُغني أحدٌ عن أحدٍ شيئًا: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٨٠: ٣٧)، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا (٦٦: ١٠)، وإذا استغنى الإنسان عن الله: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٨٠: ٤-٥)، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (٩٢: ٨–١٠)، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٩٦: ٦-٧) فإن الله يستغني عنه: وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ (٦٤: ٦)، ولا يستغنى الكفار عن النار: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ (١٤: ٢١)، إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (٤٠: ٤٧)، وكل المعاني النافية السابقة مجازًا ليست على المال وحده. والمعنى الحقيقي في المال أنه لا يُغني: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٦٩: ٢٨)، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (١١١: ٢)، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (٩٢: ١١)، وقد يقرن المال بالأولاد وكلاهما لا يُغني: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا (٣: ١٠)، (٣: ١١٦)، (٥٨: ١٧)، ولا يُغني كسب المال شيئًا: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٥: ٨٤)، (٣٩: ٥٠)، (٤٠: ٨٢)، وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا (٤٥: ١٠)، كما لا يُغني المتاع: مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٦: ٢٠٧)، والنتيجة أن الغنى زائل: فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (١٠: ٢٤)، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا (٧: ٩٢)، فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا (١١: ٦٧-٦٨)، (١١: ٩٤-٩٥).
٧٧  يظهر البعد الاقتصادي للغنى في عدة آيات، منها حث الأغنياء على الاكتفاء والعفاف وإيقاف الجشع والطمع: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ (٤: ٦)، فالعفة استقلال النفس عن المال: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ (٢: ٢٧٣)، والأغنياء مطالبون بالإنفاق في الحروب من أجل الجهاد: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ (٩: ٩٣)، ولا يجوز إبقاء المال في أيدي حفنة من الأغنياء: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (٥٩: ٧)، والله هو ولي الأغنياء والفقراء، أي أن كلَيْهما ينتسبان إلى مجتمع واحد: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا (٤: ١٣٥).
٧٨  أوردت عدة حجج نقلية وتاريخية على أفضلية الفقر على الغنى، منها: (أ) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. (ب) عُرضت عليَّ مفاتيح كنوز الدنيا فما كنت أقبلها فقلت أجوع يومين وأشبع يومًا. (ج) اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني يوم القيامة في زمرة المساكين. (د) كان الأنبياء فقراء مثل زكريا وعيسى ويحيى وخضر وإلياس، ويروى أنه مات ٤٠ نبيًّا من الجوع والقمل في يوم واحد. (ﻫ) محمد اختار الفقر، لكل نبي حرفة، وحرفتي اثنان؛ الجهاد والفقر، ومن أحبهما فقد أحبني. (ز) في الخبر: الغنى مسرةٌ في الدنيا ومشقةٌ في الآخرة، والفقر مشقة في الدنيا ومسرة في الآخرة، ومن أبغضهما فقد أبغضني. (ج) في الخبر: الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة سنة من سنين الدنيا، فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بكذا وكذا فرسخًا، الدنيا ملعونة وملعون فيها إلا عالم أو متعلم. وفي رواية إلا من ذكر الله (البحر، ص٥١–٥٣). وهناك أحاديث أخرى وأقوال مأثورة تحث على ثورة الفقراء مثل: «والله لو كان الفقر رجلًا لقتلته»، أو: عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه. وفي أصل الوحي ذُكر لفظ الفقر ١٣ مرة كلها أسماء بلا أفعال؛ مرة واحدة الفقر، ١٢ مرة الفقير والفقراء؛ ٤ مرات مفردًا، ٧ مرات جمعًا، فالفقر هو الفقير وهم الفقراء ولا وجود له وجودًا مجردًا. والفقر ليس صفة الله: لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (٣: ١٨١)، بل يأتي من الشيطان: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (٢: ٢٦٨)، وقد يُستعمل بمعنًى مجازي بمعنى الحاجة: فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٨: ٢٤)، وبهذا المعنى أيضًا يُغني الله الفقراء: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (٢٤: ٣٢)، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٣٥: ١٥)، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ (٣٧: ٣٨)، ولكن الفقير الوصي على الصبية الأغنياء يأكل بالمعروف: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (٤: ٦)، ولكن الأهم من ذلك كله هو البعد الاجتماعي للفقر وهو ضرورة سد حاجات الفقراء من أموال الأغنياء: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٢: ٢٨)، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا (٩: ٦٠)، لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ (٥٩: ٨)، لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ (٢: ٢٧٣)، وبهذا المعنى تكون الولاية من الله للفقراء والأغنياء، أي جمعهما في مجتمع واحد: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا (٤: ١٣٥).
٧٩  بل أنه لا يُستنكف أن توضع الإرادتان معطوفتين في عنوان واحد مثل: «إرادة الله وإرادة العبد» (لمع الأدلة، ص٩٧–٩٩).
٨٠  وهذا يفسِّر تعاون بعض متكلِّمي المعتزلة مع السلطة الأموية ودعوتهم لها؛ فقد زاد عمرو بن عبيد في مسائل القدر، وكان من دعاة يزيد الناقص أيام بني أمية ثم والي المنصور، وقال بإمامته ومدحه المنصور يومًا فقال: نثرت الحَب للناس فلقطوا غير عمرو (الملل، ج١، ص٤٠).
٨١  حدثت في أواخر أيام الصحابة بدعة معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري في القول بالقدر وإنكار الخير والشر إلى القدر ونسج على منوالهم واصل بن عطاء الغزال وكان تلميذ الحسن البصري (الملل، ج١، ص٣٩-٤٠).
٨٢  يروي الأشعري الحادثة الآتية بين شعيب وميمون تبين وظيفة نظريات الجبر والاختيار الاجتماعية، فيقول: كان لميمون على شعيب مالٌ فتقضاه فقال شعيب: أعطيكه إن شاء الله! فقال ميمون: قد شاء الله أن تعطينيه الساعة. فقال شعيب: لو شاء الله لم أقدر ألَّا أعطيكه! فقال ميمون: فإن الله قد شاء ما أمر وما لم يأمر لم يشأ وما لم يشأ لم يأمر! فواضح أن ميمون يحتج بأمر الله على أخذ ماله وشعيب يحتج بأمر الله لعدم الدفع. وعندما كتبوا لعبد الكريم بن عجرد رد عليهم قائلًا: إنَّا نقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يلحق بالله سوء، ففسر ميمون: «لا نلحق بالله سوء» كما يشاء وفسره شعيب: «ما شاء الله وما لم يشأ لم يكن» على هواه (مقالات، ج١، ص١٦٥-١٦٦).
٨٣  يقول الإيجي: وعند الإلباس يجب التوقُّف إلى التوقيف (المواقف، ص٣٢٠–٣٢٣).
٨٤  المحن في العالم معروفة؛ وهي إمَّا في الجسم بالعلل وإمَّا في المال بالإتلاف وإمَّا في النفوس بالخوف والهوان والهم بالأهل والأحبة والقطع دون الأمل. لا محنة في العالم لا تخرج عن هذه الوجوه إلا المحنة في الدين (الفصل، ج٣، ص١٢٥-١٢٦).
٨٥  عند الجبائي معني أن الله يمتحن عباده ويختبرهم هو أنه يكلِّفهم (مقالات، ج٢، ص٢٠١).
٨٦  يقول هشام بن الحكم الرافض: لو كان الله عالمًا بما يفعله عباده لم تصحَّ المحنة والاختبار (مقالات، ج١، ص١٠٨).
٨٧  هذا هو رأي أحمد بن خابط وأحمد بن بانوش (الملل، ج١، ص٩٤؛ الفِرَق، ص٢٧٥-٢٧٦). انظر أيضًا الفصل العاشر، مستقبل الإنسانية (المعاد).
٨٨  قال بعض الإباضية: إن جزاء الله في العباد أكثر من تفضله وعافيته أكثر من ابتلائه، والثواب واجب بالاستحقاق، والتفضل والابتلاء ابتداء (مقدمات، ج١، ص١٧٥).
٨٩  عند الجاحظ المعارف كلها طباع، وهي مع ذلك فعلٌ للعباد وليست باختيارهم. وعند الجاحظ وثمامة لا فعل للعباد إلا الإرادة، وسائر الأفعال تنسب إلى العباد على معنى أنها وقعت منهم طباعًا وأنها وجبت بإرادتهم (الفِرَق، ص١٧٥). وعند النظام ومعمر أفعال العباد كلها لا فعل لهم فيها وإنما تُنسب إليهم مجازًا لظهورها منهم وأنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة فقط فإنه لا يفعل الإنسان غيرها البتة (الفصل، ج٣، ص٤١)، والحرية النظرية يكشف عنها قول عمر الشهير: «لمَ استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.»
٩٠  وهذا طبقًا للحديث المأثور: «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها».
٩١  وهذا طبقًا للحديث المشهور: «من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤