ثانيًا: تعريف الحسن والقبح

تختلف النظريات في الحسن والقبح طبقًا للفرق، وتتفاوت التعريفات لهما بين الحسن والقبح الكونيين الوجوديين أو الحسن والقبح الذاتيين النسبيين أو الحسن والقبح العقليين الفعليين. الأولى تُثبت الوجود الموضوعي للشر والثانية تُثبت الوجود الذاتي الحسي له، والثالثة تجعله أقرب إلى أحكام العقل الثابتة والقيم المعيارية.

(١) النظرية الكونية

وهي النظرية التي تثبت الحسن والقبح كموضوعاتٍ أو أشياء أو وقائع، داخلة في نسيج الكون سواء في الخلق أو في التكوين أو في المصير والتاريخ. وفي هذه الحالة يكون الحسن والقبح العقليان هما الخير والشر الكونيان على ما هو معروف في الديانات الشرقية القديمة، خاصةً المانوية، وكما نقل الحكماء أو المتكلمون المتفلسفون. فالخير والشر مطلقان، كائنان ماديان في الوجود. هناك خير مطلق وشر مطلق، وخير وشر ممتزجان. الخير المطلق هو العقل ذاته والشر المطلق فوضى العقل، الصراع بين العلم والجهل، بين الفضيلة والرذيلة. ولما كان العقل الإنساني يتوق إلى الخير المحض ويتصل به، تنتهي النظرية الكونية في الحسن والقبح إلى نظرية إشراقية في المعرفة، كما تنتهي إلى نظرية في الفضائل تُعطي الأولوية للفضائل النظرية على الفضائل العملية. وقد يتشخَّص الخير والشر في الكون في الثقافة الدينية فيصبح الخير المحض ملاكًا والشر المحض شيطانًا. وفي حال الامتزاج قد يكون الخير أكثر والشر أقل كما هو الحال في الكون، وفي الحال الغالبة. ولا توجد حالات في الكون يكون الشر فيها أكثر والخير أقل، فهذه نظرة تشاؤمية تجعل الشر أساس الخير كما هو الحال في عقيدة الخطيئة الأولى في النصرانية. ولا توجد حالة أخرى في الكون يتساوى فيها الخير والشر. فهذه المانوية وفرق الثنوية. ولا تختلف عن ذلك نظرية العقول العشرة ومراتب الكون عند الحكماء وتقابلها مع درجات المعرفة ومراتب الفضيلة ومراتب السعادة والشقاء في المعاد، ولكنها أدخل في علوم الحكمة، بعد أن انتشرت في علم أصول الدين عند المتأخرين.١ وقد يتخصَّص الكون ويصبح عالم الأفلاك وقسمة العالم إلى عالم سفلي تحت أثر الكواكب وعالم علوي، عالم مادي وآخر روحاني مدبر الكواكب، وأن لحركاتها آثارًا في العالم من سعد ونحس، وخير وشر، وحسن وقبح في الخلق، يستطيع كلُّ ذي عقل سليم إدراكَها. فالبشر متساوون في العقل دون ما حاجة إلى شارع متحكِّم في العقول.٢ ثم زادت التناسخية على الصابئة درجة أكثر في التخصيص بالتركيز على النوع الإنساني وحده، صاحب الأفعال الاختيارية والنطق والعقل في العلوم، والقدرة على الارتفاع عن الدرجة الحيوانية إلى الدرجة الإنسانية أو إلى الملكية أو إلى النبوة، ويكون الارتفاع والهبوط نتيجةً أو جزاءً لأفعاله. ليس الحسن والقبح من الشرع ولا من العقل، بل من الصور الحيوانية أو الإنسانية التي تتراءى للإنسان، ولا شيء يحدث من ثواب وعقاب خارج العالم.
والحقيقة أن هذه النظرية إنما ترمز على نحو كوني حسي أسطوري إلى عدة حقائق؛ فالخير والشر بُعدان للوجود. وهما في حقيقة الأمر إسقاطٌ لأحكام الأفعال الخمسة في علم أصول الدين على الوجود؛ فالحسن والقبح في الأفعال وليس في الموجودات. وإن موضوعية القيم التي تركِّز عليها النظرية لا تعني بالضرورة وجودًا شيئيًّا. فالوجود قد يكون شعوريًّا كمعانٍ مستقلة ومناطق وجود في الشعور. أمَّا تشخيص القيم فإنه يحدث نتيجة الفكر الأسطوري الذي يمتزج فيه العقل بالإشراق، والفلسفة بالتصوف كما هو الحال في الفلسفة الإشراقية. والشيطان تجسيم للشر وصورة فنية له تشير إلى القبح كصفة للفعل أو كوضع اجتماعي. فالشر لا صانع له، بل هو بناء اجتماعي أو فعل في موقف إنساني دون ما حاجة إلى إرجاع ظواهر الوجود إلى علة خارجية.٣ وإن إثبات الوجود الموضوعي للخير حق ولكن الخطأ في إثبات الوجود الموضوعي للشر. ولا يعني ذلك إثبات وجودين، وجود الأشياء ووجود الخير، بل هو وجود واحد لأن الخير طبيعة الأشياء والشر طارئ عليه، والحسن هو الأصل والقبح غياب له أو إحدى درجاته. إن إثبات خير شيئي يتضمن إثبات شر شيئي، في حين أن الشر لا وجود له في العالم أو في الشعور لأن الشر ليس معنى، بل هو غياب معنى، ليس وجودًا بل عدم. وإثبات خير وشر شيئين ممتزجين يخرج الحكم القيمي من الأفعال إلى الأشياء، أي أنه يقوم على خلط بين عالم الإنسان وعالم الأشياء، وتشخيص للطبيعة على مستوى القيم أو تشخيص للقيم في الطبيعة، كما أن موضوعية القيم تنفي ذاتيتها الخالصة وكأن الإنسان خارج اللعبة وأن الخير والشر كونيان غير ذاتيين، يظهران في وجود الإنسان كظواهر كونية وليس كأفعال إنسانية نتيجة لحرية الإنسان واختياره وبناءً على عقله وقدرته على التمييز، كما أن موضوعية القيم ليست نتيجة لأثر الكواكب العلوية على الكوكب السفلي وهو الأرض. فالأفلاك موضوع لدراسة علم الفلك. وكل ما يُقال عن أثرها في الأرض ما هو إلا تشخيص لها. فالأعلى يحكم الأدنى. والحقيقة أنه على الأرض يسود الفعل الحر، ويقرِّر الإنسان مصيره. ولا مكان فيها للحظ أو النحس. الحظ وقوع نتيجة غير متوقعة يرضى عنها الإنسان لفعل حر، والنحس حدوث نتيجة لفعل حر لا يرضى عنها الإنسان. إن النظرية الكونية سواء عند الفلاسفة أو الصابئة أو التناسخية نظرية غيبية تقوم على الإيمان بالغيبيات، لا يُساندها عقلٌ ولا يؤيدها برهان، ولا تنتج عن ممارسة الحرية الإنسانية. كما لا تعني موضوعية القيم حصول أفعال في الإنسان ليس هو صاحبها كما هو الحال في نظرية التناسخ. فإذا كانت القيم تفعل فيه فذلك إسقاط للحرية أو تنكر لها. الحسن والقبح حكمان للأفعال التي يأتي بها الإنسان ممارسًا لحريته معتمدًا على عقله وتمييزه.

وفي الوقت نفسه لا يعني إثبات صفات موضوعية وقيم مستقلة وجود مثل أفلاطونية يتأمَّلها العقل ويبغيها الروح وينسِّقها الفكر، بل هي معانٍ مستقلَّة في الشعور وبواعث على السلوك وأنظمة مثالية للعالم يتحقَّق فيها نظام الطبيعة الإنساني في كماله. ولما كانت القيم نظريات سلوك وتوجيهات فعل، فهي ليست للتأمُّل والتعبُّد لكائنات مشخصة قيمتها ليست في معرفتها، بل في تحقيقها. إن إثبات صفة موضوعية لا تعني انحراف الذات في تأملها، بل تعني تمثل الجماعة لها. والوجود الموضوعي للقيم ليس من أجل تمتُّع الفرد بها تمتُّعًا فرديًّا وتلذُّذًا شخصيًّا، بل من أجل تحقيق الجماعة لها. بل إن هذا التمتُّع الفردي تطهر وانعزال وتصوف وإشراق. فجماعية القيم امتداد وانتشار وتحقُّق ثانٍ لفرديتها. إن حركة القيم ليست حركة رأسية من أسفل إلى أعلى، في التعبد والتأمل حتى تحدث حركة مقابلة من أعلى إلى أسفل في الإشراق والرؤية، ولكنها حركة أفقيةٌ من الأمام إلى الخلف في التأخُّر أو من الخلف إلى الأمام في التقدم.

(٢) النظرية الحسية

وهي النظرية النسبية الذاتية على عكس النظرية السابقة، والتي تجعل الحسن والقبح هما اللذيذ والمؤلم والنافع والضار وهي النظرية النفعية الحسية. فعلى مستوى الحس يكون الحسن هو اللذيذ والقبح هو المؤلم. وعلى مستوى النفع يكون الحسن هو النافع والقبيح هو الضار، وقد يُعبَّر عن ذلك بالمصلحة والمفسدة، فالحسن هو المصلحة والقبح هو المفسدة. وقد يَتحدَّد الحسن والقبح بمدى ملاءمة الغرض ومنافرته. فما اتفق مع الغرض يكون هو الحسن وما نافرَه يكون هو القبيح.٤ وبطبيعة الحال لا يوصف فعل الله بالحسن والقبح بهذا المعنى لتنزهه عن الغرض وأنه لا تجري عليه الملاءمة والمنافرة، وبالتالي فهي صفات للأفعال الإنسانية. ويدل ذلك على ضرورة إثبات الحرية قبل العقل، والاختيار قبل الحسن والقبح. وهي النظرية نفسها التي سادت في كبرى الحركات الإصلاحية الحديثة مع تأسيسها على العقل والبداهة والوجدان، بالإضافة إلى الجمع بين القيم الثلاث: الحق والخير والجمال. فالحسن هو الجميل والنافع والخير، والقبيح هو القبيح والضار والشرير. وهذا هو الذي يميز بين الإنسان والحيوان.٥ الحسن والقبح خبرتان حسيتان وعقليتان معًا. هناك الحسن والقبح الحسيان في الجمال وفي الطبيعة، والحسن والقبح المعنويان في السلوك والعلاقات الإنسانية، وتتراوح مراتب الحسن والقبح. فالحسن الحسي قد يكون قبحًا معنويًّا مثل الإفراط في الطعام، والحسن المعنوي قد يكون قبحًا حسيًّا مثل مشاق العمل. ينطبق الحسن والقبح على الأفعال كما ينطبقان على الأشياء. فإن كان الحسن والقبح هما اللذيذ والمؤلم أو النافع والضار، فهما إحساسان بديهيان يشارك فيهما كل موجود حي يتميز بهما الإنسان عن الحيوان، خاصةً قوة الوجدان ومرتبة الجمال والقبح. لقد عرف العقل البشري هذا التمييز بين الضار والنافع، بين الشر والخير، بين الرذيلة والفضيلة، وهو تمييز يقوم النظر به نظرًا للتفاوت الفكري بين العقول. بهما شقاء الإنسان وسعادته، وقام عليهما العمران البشري.
ويمتاز هذا التعريف بأنه مادي حسي قريب، يجعل الحسن والقبح قريبَيْن من الأفعال وواقعَيْن في الحياة المادية بعيدًا عن الصورية والشرعية والقانونية، وعلى عكس النظريات الكونية الأسطورية، كما أنه تعريف غائي نظرًا لأن الملاءمة والمنافرة طبقًا للغاية. فالفعل المحايد فعل عابث، خالٍ من الغاية، بل إنه لا يُسَمَّى فعل؛ لأن الفعل هو بالضرورة الفعل الغائي، وهو تعريف إنساني خالص يجعل الحسن والقبح إنسانيين، لا يصفان أفعال الله أو أفعال الجمادات، بل أفعال الإنسان.٦
ولكن عيوب هذا التعريف أكثر؛ فهو تعريف فردي يجعل الفرد هو مدرك الحسن والقبح دون الجماعة، في حين أن الحسن والقبح إدراك جماعي ووجود في التاريخ. يوقع هذا التعريف في الفردية، وليس القبح الفردي قبحًا عينيًّا. ثم يحدث بعد ذلك خطأ في التعميم والانتقال من الفردي إلى العام ومن الجزء إلى الكل، بل إن الفرد ذاته قد يتغيَّر من حالٍ إلى حالٍ طبقًا لأحواله النفسية ويغير احتياجاته ومصالحه وأهدافه طبقًا لمراحل عمره وأوضاعه الاجتماعية. بل وتتغير طبقًا لإدراك الفرد من حين إلى حين وانتقال الأحكام من الغموض إلى الوضوح، ومن الخفاء إلى الجلاء أو العكس.٧ وهو تعريف نسبي وذلك لأن الملاءمة والمنافرة تختلف باختلاف الأفراد والجماعات والعصور والأمكنة، وليس لهما أساس موضوعي شامل، كما أن الغاية هي الوجود والطبيعة والتاريخ، ولا تأتي فقط من نسبية الأهواء والانفعالات والمصالح. هي أقرب إلى المبادئ العامة والغايات القصوى. وهي تعريف مادي يقصر الحسن والقبح على اللذيذ والمؤلم وعلى الضار والنافع وعلى المصلحة والمفسدة وعلى الملائم والمنافر دون أن يكون له أساس عقلي. فالغرض ليس بالضرورة الغرض المادي المباشر، بل قد يكون تحقيق الغاية والرسالة في الحياة. وقد دعا ذلك إحدى الحركات الإصلاحية إلى تأسيس التعريف القديم على العقل حتى يكون أكثر تأسيسًا وثباتًا وشمولًا، ولا تنقسم الغاية إلى دنيا وآخرة، الغاية واحدة تهدف إلى الحفاظ على الوجود الإنساني الذي هو وجود مستمر من خلال الأفراد. الحياة واحدة والغاية واحدة. ولا يوجد في التعريف ترتيب للغايات أو سلم للقيم؛ إذ تترتَّب الغايات بين ما هو قصير المدى وما هو بعيد المدى أو بين أغراض محددة وأغراض شاملة أو أغراض خاصة وأغراض عامة. وهو تعريف ذاتي غير موضوعي يقضي على موضوعية الصفات ووجودها في الأشياء، ويبرِّر غضب الناس إن لم يوافق الفعل أغراضهم. والصفات العينية ليست فقط صفات نفسية، بل هي صفات طبيعية للأشياء وتعبر عن أوضاع اجتماعية. وهي أيضًا صفات للأفعال ليست قائمة على الوهم والارتباطات الشرطية، بل تحدِّدها الغايات وتؤسِّسها الطبيعة. فموضوعيتها مؤسسة بالعقل والغاية والطبيعة، في الذهن الإنساني وفي ميدان القيم وفي عالم الطبيعة.٨ وإن الرجوع إلى الطبع كمحل للصفات الذاتية للأفعال لا يعني إسقاطها على الطبيعة الخارجية وأنها وجود ذاتي خالص. فللصفات وجود موضوعي من طبيعة الإنسان. وطبيعة الإنسان ليست ذاتية فحسب، بل هي حقيقة الوجود. والصفات النفسية وإن كانت كذلك فإنها لا تنشأ من التكوين البدني للجسم والإثارة الحسية واختلال النسب في مكونات الدم وزيادة طراوة الدماغ، بل هي صفات شعورية تجاوز الوهم ولها استقلال موضوعي بحكم الفطرة والطبع والعقل والقيمة؛ إذ يتضمَّن الموقف الخلقي الباعث والحكم والواقعة الخاصة والنتيجة. وهذا كله لا يعني غياب صفة الموضوعية للفعل والبناء الموضوعي للواقعة الخلقية. وهو تعريف لا عقلي ليس له أي مقياس آخر شامل وعام. فالصفات النفسية ليست وهمًا أو خيالًا وإنما هي قائمة على الترابط الشرطي وتداعي المعاني، وهي أيضًا ماهيات مستقلة في الشعور. ويغفل قيمًا أخرى مثل التضحية والإيثار القائمة على قبول التكليف بأفعال تجر الآلام والمتاعب والمشاق والأوجاع عن رضا. فالاتفاق مع الغاية قد يسبِّب المضرة الوقتية، ومن هنا كانت ضرورة سلم القيم. قد يجعل هذا التعريف الإنسان يكفر إذا ما أدى الفعل الشرعي إلى عدم اتفاق مع الغرض. فالنافع والضار أحد أوجه الحسن والقبح، ولكنهما ليسا مساويين للحسن والقبيح. ولم يحدث استقرار كامل للعادات والقوانين حتى يمكن إصدار الأحكام العامة على الحسن والقبح والملاءمة والمنافرة. فقد تنقضها بعض الوقائع حتى ولو كانت واقعة جزئية واحدة. وماذا عن الحكمة الإلهية، وهي الغائية في الطبيعة، والعلم المسبق والإرادة المسبقة التي تشملهما الحكمة ويظهران في قوانين الطبيعة الثابتة، الحكمة التي تجعل الحسن والقبح أقل مباشرةً وأبعد نظرًا من الملاءَمة والمنافرة للغرض؟ ويضع هذا التعريف الحسن والقبح متقابلين، ويثبت وجود كل منهما على المستوى نفسه، في حين أن القبح ليس ما يقابل الحسن. هذا تعريف بالضد، ولكن القبح أصلًا لا وجود له؛ فالقبيح درجة من درجات الحسن أو هو غياب مؤقت للحسن أو هو وجهة نظر فردية خالصة قائمة على الهوى أو الغرض أو المصلحة. ليس القبيح أعم من الحسن، وليس الحسن أخص من القبيح؛ لأن الحسن هو الأساس والقبيح هو الاستثناء. والأخطر من ذلك هو نسبة الشر إلى غير مصدره مثل الدهر أو الفلك، وبالتالي اللحاق ببعض الجوانب الأسطورية في النظرية الكونية، مع أن الشر مصدره اجتماعي. يغفل التعريف الأوضاع الاجتماعية، وأن الحسن والقبح مشروطان بالاستعمال الاجتماعي وبالاتفاقات والمواضعات.٩ تنشأ القيمة في المجتمع، وتُلقن في مناهج التربية، ومع ذلك تظل الصفات النفسية للأفعال وإن كانت مكتسبة من التجارب في نشأتها، وينقصها العموم، مستقلة بذاتها، يمكن للعقل إدراك عمومها وشمولها. إن الصفات الموضوعية للأشياء أو الذاتية للأفعال لا تأتي من التقليد أو التعصُّب أو الهوى أو التحزُّب أو التحيُّز، بل هي صفات تأتي من الغايات وتنبع من طبيعة الإنسان الأولى.١٠ وقد يكون الهدف من النظرية الحسية توجيه وعي الناس نحو الحسن المباشر دون الذهاب إلى ما وراء ذلك من غايات بعيدة يدركها العقل وتتجاوز اللذة والألم والنفع والضرر كحاجات للبدن.

(٣) النظرية العقلية

وتمثل رد فعل طبيعي على النظريتين السابقتين الكونية الأسطورية، والحسية النفعية المباشرة، تجعل الحسن والقبح عقليين، إمَّا تعبيرًا عن الكمال والنقص النظري العام أو كأحكام للأفعال؛ فقد يكون الحسن والقبح تعبيرًا عن صفتَي الكمال والنقص. فالعلم حسن والجهل قبيح. ولا نزاع في أن العقل يدركه بصرف النظر عن الملاءمة والمنافرة والمدح والذم. فهي صفات حقيقية وليست إضافية، وبالتالي فهي كذلك عند جميع العقول ولا تختلف بالنسبة إلى الأشخاص على عكس الملاءمة والمنافرة التي تختلف بالنسبة للأفراد وبالنسبة إلى المدح والذم اللذين يختلفان بالنسبة إلى الشرائع. فكمال الطبيعة أو نقصها نتيجة للفعل الإنساني الإيجابي أو السلبي وليس كمالًا أو نقصًا مباشرًا. والطبيعة الإنسانية قادرةٌ على مثل هذا الكمال.١١ وهو تعريف أقرب إلى العقل ولكنه يظل عامًّا دون تفصيل في السلوك البشري وأنواع الأحكام للأفعال والتروك على حد سواء، كما أن الأحكام تنقصه، أحكام المدح والذم، أي قيمة الأفعال الذاتية في السلوك البشري.
لذلك تبدو النظرية العقلية أكثر أحكامًا وتفصيلًا في الأحكام الخمسة في علم أصول الفقه. وهنا تبدو وحدة علم الأصول. فالحسن والقبح وما يتعلق بهما من مدح وثواب. وينطبق على الأفعال الشرعية الخمسة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام (المحظور). فالحسن هو الواجب والقبيح هو المحظور، وهما القطبان اللذان يشملان المدح والذم عند الفعل أو الترك؛ لذلك ركزت عليهما النظرية العقلية دون المندوب والمباح والمكروه باعتبارها فرعية. فالمندوب فرع على الواجب، والمكروه فرع على المحرم، والمباح هو فرع على نفس الأصل.١٢ فالفعل الإنساني يتراوح بين الفعل والترك في موقف من المصلحة أو المفسدة. فما تركه مفسدة فهو الواجب، وما فعله مفسدة فهو الحرام. وما تركه مصلحة فهو المكروه، وما فعله مصلحة فهو المندوب. وما لا يدخل في الفعل أو الترك في المصلحة أو المفسدة فهو المباح. فالواجب فعل ترك وليس فعل إتيان لدرء المفاسد قبل أن يكون لجلب المصالح، والحرام فعل إتيان وليس فعل ترك لجلب المصالح قبل أن يكون لدرء المفاسد، ومِنْ ثَمَّ يكون الترك أولى من الفعل، ويكون الترك فعلًا أولى بالفعل من الفعل. والواجب والمندوب متقابلان في الترك والفعل وفي المفسدة والمصلحة لما كان الواجب تركه مفسدة والمندوب فعله مصلحة. كما أن المحروم والمكروه متقابلان أيضًا في الفعل والترك وفي المفسدة والمصلحة لما كان المحرم فعله مفسدة وكان المكروه تركه مصلحة. ويتفق الواجب والمكروه في أن كليهما ترك ولكن يختلفان في المفسدة والمصلحة، فالواجب تركه مفسدة، والمكروه تركه مصلحة. كما يتفق المندوب والمحرم في أن كليهما فعل ولكن يختلفان أيضًا في المصلحة والمفسدة، فالمندوب فعله مصلحة والمحرم فعله مفسدة، أمَّا المباح فهو خارج الفعل والترك كما أنه خارج المصلحة والمفسدة هو الفعل الطبيعي الذي يعبِّر عن وجود الإنسان في العالم خارج العقل وخارج الإرادة باللجوء إلى الفطرة وبالعودة إلى الأشياء.١٣

(٣-١) بنية الأحكام الخمسة

وتنطبق هذه الأحكام الخمسة على أفعال الإنسان وليس على أفعال الله؛ لأنها أحكام لأفعال القصد والإرادة، وإن كان لا بد من وصف أفعال الله بالحسن والقبح، فإن ذلك يكون نتيجة لإسقاط الإنسان وصف أفعاله على غيره وليس لأنه يصحُّ من الله أن تقع أفعال حسنة لها صفات زائدة على حسنها إلا العقاب، ثم تكون في هذه الحالة تفضُّلًا ورحمةً وإحسانًا وليس وجوبًا، فذلك أيضًا إسقاط مقلوب، أي إسقاط أفعال الإنسان على الله ثم قلبها بدلًا من أن تكون وجوبًا إيجابًا أم سلبًا تكون عطاءً وكرمًا. وكيف يكون الله لطيفًا بنفسه إن كان اللطف للغير؟ فإن لم تجز عليه الأفعال صلاحًا مثل النوافل فذاك أيضًا إثبات لوجوب الأفعال صلاحًا عند الإنسان ثم نفيها عن الله كأحد مظاهر النقص، مع أن أفعال الله اختيار لا وجوب، أي أنها تشارك أفعال الإنسان في حرية الاختيار، وكأن الحرية إسقاط مقبول من الإنسان على الله والوجوب إسقاط مقبول من الله على الإنسان. إن موضوعات الفعل الإرادي القصدي الذي يتصف بالحسن والقبح وأنواع الأفعال المستقبلة لأحكام الوجوب والندب والإباحة كلها أحكام للفعل الإنساني وليست لأفعال مطلقة للذات المشخص إلا بالإسقاط. فإذا ما أدى الإسقاط إلى التشبيه تُرك الإسقاط واستعمل التنزيه المطلق بالفصل بين المستويين. فأفعال الله لا يصح فيها وجوب أو إلجاء أو ضرر أو نفع أو تستحق المدح والذم أو تجوز عليه المشقة والنصب. ولا توصف أفعاله بأنها ندب. ولا يفعل القبيح بل لا يختار بين الحسن والقبيح. أفعاله تفضل ويدخل في ذلك بداية الخلق والتكليف. لا يجب عليه إلا ما أوجبه بالتكليف والتمكين والألطاف والاستحقاق والآلام والأعواض. والخلاف فقط في وجوب الأصلح، وكأن وجوب الأصلح وحده هو الذي لا يتم الإسقاط فيه من الإنسان على الله، ولا يجوز عليه الترك لاستحالة كونه قادرًا بقدرة حالة في محل أو ينتابه العجز. كل ذلك في الحقيقة تنزيه لله عن الوقوع في التشبيه بالإنسان في الأفعال. ويكون في هذه الحالة كل خطاب الإنسان عن الله مجازًا مقلوبًا. أحكام الأفعال إذن هي أحكام إنسانية خالصة تصف الأفعال، وهي تتحقَّق وتتحوَّل إلى أبنية في الواقع، وليس منها وصف لله سواء كانت حسنًا أم قبحًا. هي أفعال إنسانية خالصة وليس منها لله شيء لطفًا أو صلاحًا. اللطف إن وقع فإنه لتحبيب الأفعال إلى النفس والصلاح إنما يقع تحقيقًا لصلاح الإنسان. بل إن الخلق ذاته إنما هو لإثبات أن الذات لا بد لها من موضوع يدركه وأن الموضوع لا بد له من ذات تدركه، وأن الحقيقة هي علاقة بين الذات والموضوع. وإن كان الموضوع ذاتًا تكون الحقيقة علاقة بين الذوات. والواجب لا يثبت ابتداءً إلا لعلة بما في ذلك التكليف. فغاية التكليف الفعل والتحقيق وأداء الرسالة وتحقيق المثال إلى واقع، والواقع إلى مثال. والإثابة والتعويض كل ذلك داخل في بنية الفعل الإنساني الذي هو مقدمة لنتائج، والذي تتداخل فيه الأفعال سلبًا وإيجابًا طالما تتم في الزمان.١٤
وكل فعل حسن أو قبيح ينقسم إلى قسمين: فعل يحسن لأمر يخصه مثل الإحسان وفعل يحسن لكونه لطفًا أو مؤديًا إلى فعل حسن مثل ذبح البهائم. والقبيح أيضًا على ضربين: أحدهما يقبح لأمر يخصه لا لتعلُّقه بالغير مثل كون الظلم ظلمًا والكذب كذبًا، وإرادة القبح والجهل وتكليف ما لا يُطاق وكفر النعمة، والثاني لتعلُّقه بما يؤدي إليه مثل القبائح الشرعية التي تؤدي إلى قبح عقلي أو الكف عن الواجبات. فكذلك الواجب باعتباره فعلًا حسنًا ينقسم إلى قسمين: واجب لأمر يخصه مثل شكر المنعم والإنصاف والتفرقة بين المحسن والمسيء، وواجب لأمر يتعلق به مثل الواجبات الشرعية وكونها مصلحةً ولطفًا.١٥ فاللطف هو الذي يمنع أن يكون الفعل مصلحة للفرد ومفسدة لغيره، وكأن اللطف هو تبرير للشر ودعوة لقبوله ما دام الصلاح للفرد والفساد للغير، قسمة غير عادلة في أصل العدل! يأخذ الإنسان النصيب الأوفى ويطلب من الآخر الصبر والسلوان.
وقد تكون القسمة ثلاثية، وبالتالي تنقسم الواجبات العقلية إلى ثلاثة أَضْرُب: ما يجب لصفة تخصُّه مثل رد الوديعة وشكر النعمة، وما يجب لكونه لطفًا في غيره كالنظر في معرفة الله والشرعيات، وما يجب من حيث كونه تركًا كالقبيح وتحرزًا من فعله، وهو الواجب عن طريق نفي الضد، فالترك فعل كالفعل. وكذلك تنقسم القبائح إلى ثلاثة أضرُب: ما يقبح لصفة تخصه مثل كونه ظلمًا وكذبًا وعبثًا، وما يقبح لكونه مفسدة في غيره، وما يقبح لأنه ترك لواجب معين ونافٍ لوجوده، فالترك أيضًا فعل.١٦ ولماذا لا ينقسم الترك أيضًا في كلتا الحالتين إلى ترك لأمر يخصه وإلى ترك لأمر يخص الغير؟ إن ما يهم في هذه القسمة هو التفرقة بين فعل الذات للذات، وفعل الذات للغير. فالحسن والقبح ليست فقط أفعالًا فردية، بل هي أيضًا أفعال اجتماعية.

(٣-٢) تعريف الأحكام الخمسة

الأحكام الخمسة يمكن إدراكها بالعقل. فبالرغم من أن الواجب والمحظور من وضع الشرع، إلا أن العقل يمكن إدراكهما كطرفَين متقابلَين بين الإيجاب والسلب، بل إن الأحكام المتوسطة اختيارًا مثل المندوب والمكروه يمكن أيضًا معرفتها بالعقل كذلك دون أن تكون محظورة كلها أو مباحة كلها، ودون أن تكون كلها على الإباحة أصلًا كالمباح. هناك فرق بين الوجوب والاستحالة والإمكان. فالوجوب والاستحالة هما الواجب والمحرم، والإمكان من طرف الوجوب هو المندوب، والإمكان من طرف الاستحالة هو المكروه. والمباح هو الفعل الطبيعي القائم على التوحيد بين شرعية الأشياء ووجودها دون حاجة إلى حكم قيمة من خارج طبائع الأشياء.١٧
والأحكام الشرعية الخمسة نموذج للأفعال الإرادية القصدية بصرف النظر عن تعريفاتها المتعلقة باستحقاق الثواب والعقاب عند الفعل أو الترك في حالة الأمر أو النهي أو حتى في فعل المباح على ما هو معروف في علم أصول الفقه. فالحسن والقبح مقولتان للأفعال، سواء كأفعالٍ اختيارية أو كأفعالٍ عاقلة. أمَّا ما يترتب عليها من وعد ووعيد فمكانها أمور المعاد، وهو موضوعٌ لاحق في علم أصول الدين يدخل في السمعيات ولا يدخل في العقليات.١٨ ولا تهم صيغة الأفعال هل هي الأمر أم لا، فتلك بحوثٌ لغوية تفيد في كيفية استنباط الأحكام من النصوص وليس في ممارسة الأفعال وإدراكها. ولا يهم أيضًا ما يعلم منها باضطرار أو باكتساب، بل المهم كيفية إدراكها عقلًا. ولا يهم هل المباح داخل في التكليف مثل باقي الأفعال الإرادية والقصدية، إذ إنه فعلٌ إراديٌّ قصدي ولكنه طبيعيٌّ فطري بلا أمر أو نهي وجوبًا أو إمكانًا.١٩
والواجب عند القدماء ما يستحق المدح على فعله والذم على تركه. ويوصف بأنه فرض. ولا يختلف حدُّه من جهة العقل أو السمع لأنهما طريقان للعلم به وليس اختلافًا في حده. والعلم بالواجب كما أنه علم بأن تركه قبيح لأن الواجب هو ما يكون تركه مفسدة على الأقل عقلًا إن لم يكن أحيانًا شرعًا. ويشترط أن يكون القادر على الترك والمتروك واحدًا وأن يكون بينهما تضاد وأن يحلَّا محل القدرة وأن يكون الفعلان مباشرَين غير متولدَين.٢٠ والواجب هو الحسن والحسن هو الواجب.٢١ وينقسم إلى ما يخصُّ المكلف وإلى ما يكون حقًّا لغيره، وهو على ضربَين، حق الله مثل شكر المنعم والثاني حق العباد. شكر المنعم معلوم عقلًا، ودفع الضر عن النفس والدين من الواجبات العقلية؛ لذلك يلزم على العباد المصالح والألطاف.٢٢ ويتم الواجب في الزمان. وفي الزمان موسع ومخير وفيه معين مضيق. الأوَّل كقضاء الدين والثاني كردِّ الوديعة. الأوَّل يستحق الذم عندما لا يفعل مقامه، والثاني يستحق الذم بعدم فعل بعينه. معرفة الله من الواجب الموسع المخير.٢٣ ليست القدرة على الواجب أو تركه بتحريك الجسم، ولكنها قدرةٌ شاملة تضم الباعث والغاية والقصد والداعي بالإضافة إلى القدرة البدنية، وإلا فقد تحليل الفعل شموله ومستواه الإنساني وأصبح فعلًا طبيعيًّا محضًا. فمن حق القادر أن يكون فاعلًا.٢٤ ويصح أن يعلم المكلف بما لم يفعل وإن لم يحدث منه فعل ولا ترك، أي يظل الوجوب على مستوى المعرفة الخالصة علمًا صحيحًا مثل العلم باستحقاق المدح عند الفعل، والذم عند الترك مع زوال الموانع.
والمندوب هو الفعل الذي يقتضي حكمًا بالمدح عند فعله، وبالتالي يكون حسنًا ولا يقتضي حكمًا بالذم عند تركه، وبالتالي لا يكون قبيحًا. المندوب هو الفعل الحسن عند الفعل وغير القبيح عند الترك. هو فعلٌ تطوعيٌّ اختياري. لا يقال إنه نعمة إلا إذا كان إحسانًا. وهي النوافل تسهيلًا لفعل الواجب.٢٥
والمباح هو الفعل الذي لا يقتضي المدح أو الذم عند الفعل أو الترك. ويوصف بالحسن وبالحق إذا كان المراد المذهب الصحيح والخبر الصادق والفكر الصائب. والفرق بين المباح والأحكام الشرعية الأربعة الأخرى هو أنه ليس به صفةٌ زائدة يتعلق بها مدح أو ذم. هو فعلٌ محايد يحتوي على صفة في ذاته لا في حكمه، وكأن الفعل طبيعيٌّ خالص يكشف عن اتصال الإنسان بالطبيعة بلا صفات أو أحكام، ويكشف عن إمكانية العيش على الفطرة كالإنسان البدائي. وكل أفعال الاشتباه أصلها الإباحة، الأفعال التي يجوز حسنها أو يجوز قبحها والتي ليس لها حكم؛ فالأشياء في الأصل على الإباحة، والشعور على البراءة الأصلية.٢٦

والمكروه يقابل المندوب طبقًا للنسق وإن لم يظهر في تحليلات المعتزلة، وهو الفعل الذي يستحق المدح عند تركه ولا يستحق الذم عند فعله، وهو أيضًا فعلٌ تطوعيٌّ اختياري من حيث الترك.

والمحرم أو المحظور هو القبيح أو الضار مثل الكذب، يستحق الذم لفعله والمدح لتركه. وتترادف الأسماء على القبيح فيُقال المحظور والباطل والفاسد والشر والخطأ والمعصية والمنهيُّ عنه. والقبيح أدل على المحرم وبديل عنه على عكس الواجب الذي يجتمع فيه الشرع والعقل، فيُقال الواجب هو الحسن، في حين يقال القبيح هو المحرم وليس المحرم هو القبيح، أي البداية بالعقل نظرًا للمعنى الناهي في المحرم؛ فالظلم قبيح لأنه يؤدي إلى ضرر للغير. والضرر يقبح لكونه عبثًا وإن يكن ظلمًا، والظلم قبيح لأنه عبث. وقد يقبح الكلام لأنه عبث أو أمر بقبيح أو بما لا يُطاق أو نهي عن حسن وعما يُطاق. والأمر بما لا يُطاق قبيح وكذلك الأمر بالقبيح. وتقبح الاعتقادات لأنها جهل، ويقبح الظن لأنه عبث أو مفسدة، ويقبح الاعتقاد؛ لأنه تقليد، ويقبح ويقبح؛ لأنه عبث ومفسدة. ويقبح تصرف العبد إذا كان ظلمًا أو عبثًا أو مفسدة. ويقبح الكذب لأنه كذب والظلم لأنه ظلم والكفر بالنعمة لأنه كذلك، ويقبح تكليف ما لا يُطاق وإرادة القبح والجهل والأمر بالقبيح والعبث. وتقبح الإرادة لكونها عبثًا، ويقبح الندم إذا كان ندمًا على حسن، وتقبح الآلام لكونها ظلمًا وعبثًا، ويقبح الغم لأنه كذلك، وتقبح الملذات إذا ما أدت إلى ضرر أو دون استحقاق.٢٧
١  النهاية، ص٢٦٠–٢٦٣، ص٣٧٧، ص٣٩٢-٣٩٣؛ المواقف، ص٣٢٣؛ الطوالع، ص١٩٣؛ المطالع، ص١٩٥.
٢  هذا هو موقف الصابئة (النهاية، ص٣٧٧-٣٧٨، ص٣٩٤-٣٩٥؛ الغاية، ص٢٣٢).
٣  يتهم الأشاعرةُ القدريةَ بأنهم زعموا أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر (الإبانة، ص٧).
٤  ملاءمة الغرض ومنافرته وقد يعبر عنهما بالمصلحة والمفسدة، وذلك أيضًا عقلي ويختلف الاعتبار. فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه وموافقة لغرضهم فقد قام بما هو مفسدة لأوليائه ومخالف لغرضهم (الدر، ص١٤٩)؛ الحسن والقبح ويُراد بهما ملاءمة الطبع ومنافرته (الملل، ص١٤٠–١٥٠؛ التحقيق، ص١٤٢-١٤٣؛ حاشية الكلنبوي، ص٢١٠-٢١١؛ الاقتصاد، ص٨٥-٨٦) وهو معنى عقلي (المحصل، ص٨٥-٨٦؛ المواقف، ص٣٢٤)؛ وتوجد المعاني الثلاث في شرح الدواني، ص٢٠٩–٢٢٦؛ الطوالع، ص١٩٥-١٩٦.
٥  حسن الأفعال وقبحها، جمال المعقولات وقبحها، الحسن والقبح يعني اللذيذ والضار والمؤلم، الحسن واللذيذ المستقبح في نظر العقل، تميز العقل بين الفضيلة والرذيلة والخير والشر، معرفة واجب الوجود وصفاته الكمالية بالعقل وحاجات الإنسان ومخاوفه وقواه الثلاث، اعتدال الذاكرة والمخيلة والمفكرة وانحرافها، تفاوت عقول الناس وما لا تصل إليه وما اتفقت عليه، إفساد الوثنية عقول الناس وعجزها عن معرفة الله والحياة والآخرة، تفاوت العقول وحاجتها إلى هدي النبوة، والنبوة وتحديدها للعقائد والجزاء وأنواع الأعمال وذلك المعين هو النبي (الرسالة، ص٦٦–٨٢). وواضح من هذه العناصر تعريف محمد عبده للحسن والقبح طبقًا للتعريف الأشعري القديم، أي النظرية الحسية مع تأسيسها على العقل اعتزالًا وعلى الوجدان معاصرة. وواضح أيضًا تداخل الموضوع مع النبوة. انظر أيضًا الفصل التاسع تطور الوحي.
٦  يعتبر الآمدي ذلك من عيوب التعريف، ويطبق الغرض على الله إذ إنه يستحيل أن يعقل الله الغرض وبالتالي يفعله المعبود، أمَّا بالنسبة لأن كونه أولى من لا كونه مما يوجب افتقار الله إليه أو بالنسبة إلى أن لا كونه أولى من كونه أو متساويان وهو نفي للغائية، كما أن جعل الغاية والغرض إنسانيًّا يضع سؤالًا عن الغاية من الجمادات والعناصر والمعدنيات وهي لا تشعر بلذة أو ألم أو صلاح أو مفسدة، وأمَّا فائدة للحيوان أو تكليف الإنسان بما يجد فيه من الآلام (الغاية، ص٢٢٦-٢٢٧). الحسن والقبح ثابتان في الشاهد بمقتضى العقل، وأمَّا في حق الله فهو غير ثابت. ويعطي الرازي لذلك حجتين: (أ) اللذة والسرور ببداهة العقل والألم والغم بالفطرة. (ب) حتى الحسن والقبح الشرعيان يقومان على الثواب والعقاب وهما بالعقل (معالم، ص٨٣–٨٥).
٧  يعتبر الغزالي ذلك أولى غلطات الوهم. فإن الإنسان قد يطلق القبيح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره ولكنه لا يلتفت إلى الغير. فكل طبع مشغوف بنفسه ومستحضر ما عداه ولذلك يحكم على الفعل مطلقًا بأنه قبيح. وقد يقول إنه قبيح في عينه وسببه أنه قبيح في حقه بمعنى أنه مخالف في نفسه فيضيع القبح إلى ذات الشيء ويحكم بالإطلاق، فهو مصيب في أصل الاستقباح ولكنه مخطئ في حكمه بالقبح على الإطلاق وفي إضافة القبيح إلى ذات الشيء ومنشئه غفلته عن الالتفات إلى غيره بل عن الالتفات إلى بعض أحوال نفسه، فإنه قد يستحسن في بعض أحواله غير ما يستقبحه مهما انقلب موافقًا لغرضه (الاقتصاد، ص٨٦-٨٧؛ غاية، ص٢٣٧-٢٣٨).
٨  هذا هو الانتقاد الذي يوجِّهه الغزالي بالتفرقة بين المقارنة الذاتية والارتباط الموضوعي (الاقتصاد، ص٨٧-٨٨).
٩  معظم هذه الانتقادات ضد دفاع الغزالي عن النظرية الحسية. والعجيب أنه يقر بعضها مثل الأساس الاجتماعي للحسن والقبح إذ يقول: «إن ما هو مخالف للأغراض في جميع الأحوال إلا في حالة نادرة فقد يحكم الإنسان عليه مطلقًا بأنه قبيح لذهوله عن الحالة النادرة ورسوخ غالب الأحوال في نفسه واستيلائه على ذكره، فيقضي مثلًا على الكذب بأنه قبيح مطلقًا في كل حال وأن قبحه لأنه كذب لذاته فقط لا لمعنى زائد، وسبب ذلك غفلته عن ارتباط مصالح كثيرة بالكذب في بعض الأحوال ولكن لو وقعت تلك الحالة ربما نفر طبعه عن استحسان الكذب لكثرة إلفه باستقباحه؛ وذلك لأن الطبع ينفر عنه من أول الصبا بطريق التأديب والاستصلاح ويلقي إليه أن الكذب قبيح في نفسه، وأنه لا ينبغي أن يكذب قط، فهو قبيح ولكن بشرط الملازمة في أكثر الأوقات وإنما يقع نادرًا فلذلك لا ينبه على ذلك الشرط ويغرس في طبعه قبحه والتنفير عنه مطلقًا.» (الاقتصاد، ص٨٧).
١٠  يكشف الغزالي عن دور التعصب للمذاهب ولأدلتها من قبول أو رفض الآراء، ويتعصب المعتزلي لمذهبه ضد الأشعري فلا يقبل فكرة حتى ولو كانت معقولة من المذهب المضاد والعكس صحيح (الاقتصاد، ص٨٧-٨٨).
١١  صفة الكمال والنقص مثل العلم حسن والجهل قبيح، ولا نزاع في أن مدركه العقل (الدر، ص١٤٩؛ المحصل، ص١٤٠–١٥٠؛ التحقيق، ص١٤٢-١٤٣؛ حاشية الكلنبوي، ص١٩٣–١٩٦، ص٢١٠). وهو معنى عقلي (المحصل، ص١٤٧؛ المواقف، ص٣٢٣).
١٢  تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلًا أو الذم والعقاب كذلك (الدر، ص١٤٩؛ المحصل، ص١٤٠–١٥٠؛ التحقيق، ص١٤٢-١٤٣؛ حاشية الكلنبوي، ص٢١١؛ المحصل، ص١٤٧) وهذا محل النزاع فهو عندنا شرعي وعند المعتزلة عقلي (المواقف، ص٣٢٤). وهو موقف المعتزلة وعلماء الأصول بوجه عام. قال المعتزلة إن ما يدرك جهة حسنه أو قبحه بالعقل ينقسم إلى الأحكام الخمسة لأنه إن اشتمل تركه على مفسدة فواجب أو فعله فحرام وإلا فإن اشتمل على مصلحة فمندوب أو تركه فمكروه وإلا فمباح. وأمَّا ما لا يدرك جهته بالعقل فلا يحكم فيه بحكم خاص تفصيلي في فعل فعل. وأمَّا على سبيل الإجمال فقيل بالحظر والإباحة والتوقف. دليل الحظر أنه تصرف في ملك الغير بلا إذنه فيحرم كما هو في الشاهد (المواقف، ص٣٢٧-٣٢٨).
١٣  يمكن رؤية التقابل والتوازي في الأحكام الخمسة في الفعل والترك أو في المصلحة والمفسدة على النحو الآتي:
١٤  المغني، ج٩؛ التعديل والتجوير، ص٣٤–٣٨، ص٧٥-٧٦؛ ووصفنا لهذه الأمور بأنها تفضل مجاز (الأصلح، ص١٢، ص٥٣–٥٥؛ استحقاق الذم، ص١٩٨؛ المحيط، ص٢٣٣-٢٣٤).
١٥  التعديل والتجوير، ص٥٨؛ الأصلح، ص١٨-١٩، ص٢١، ص٢٤.
١٦  الأصلح، ص١٥٤، ص١٦١.
١٧  قال قوم: أفعال العقلاء في العقل ثلاثة أقسام: واجب ومحظور ومتوسط بينهما، فما دلَّ العقل على وجوبه لا يتغيَّر ولا يتبدَّل كوجوب معرفة الله وتوحيده وصفاته، وجوب شكره على نعمه. وما دل العقل على حظره لا يتغير عن ذلك كتحريم الكفر والكفران بالنعم. واختلفوا فيما توسط؛ فمنهم من قال بالحظر ومنهم عيسى بن أبان وأبو هريرة. ومنهم من قال بالإباحة وهم أصحاب الرأي والبراهمة؛ فالعقول طريق إلى معرفة الواجب والمحظور (الأصول، ص٢٥-٢٦؛ التعديل والتجوير، ص٥٨؛ الأصلح، ص١٨-١٩، ص٢١، ص٢٤). وعند النجارية وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، الأشياء على الإباحة أصلًا (الأصول، ص٢٥-٢٦).
١٨  انظر الفصل العاشر، المعاد.
١٩  عند ابن الراوندي وطائفة من القدرية الأمر لم يرد إلا بالواجب أمَّا النوافل فغير مأمور بها، وعند معتزلة بغداد، المباح أيضًا أمر (الأصول، ص١٩٩-٢٠٠، ص٢٠٨؛ الأصلح، ص١٥٠-١٥١).
٢٠  (استحقاق الذم، ص١٩٤–١٩٧). الواجب من جهة العقل والسمع لا يختلف في حده لأن أكثر ما فيهما أنهما طريقان للعلم بوجوبه فاختلافهما لا يؤثر فيه وفي معناه. إن إضافة وجوب الواجب إلى العقل لا تغير معناه لأن الغرض بذلك أن العلم بوجوبه أولى في العقل، أو الدال على وجوبه معلوم بالعقل، وذلك لا يوجب مخالفة لما علم بالسمع وجوبه (التعديل والتجوير، ص٤٧). والتعريفات التقليدية للأحكام الخمسة عن طريق استحقاق الثواب أو العقاب عن الفعل أو الترك كالآتي: (أ) الواجب، ما يستحق الثواب بفعله والعقاب بتركه. (ب) المندوب، ما يستحق الثواب بفعله ولا يستحق العقاب بتركه. (ج) المباح ما لا يستحق الثواب أو العقاب بفعله أو بتركه. (د) المكروه، ما لا يستحق العقاب بفعله ويستحق الثواب بتركه. (ﻫ) المحرم (المحظور) ما يستحق العقاب بفعله ويستحق الثواب بتركه (الأصلح، ص٢٧، ص٧٢؛ استحقاق الذم، ص١٨٥–١٩٤؛ القول، ص٥٣؛ التعديل والتجوير، ص٨، ص٤٣، ص٤٦). وانظر رسالتنا: Les Mèthodes d’Exegèse, PP. 356–373. وقد آثرنا في العرض الترتيب النازل من الإيجاب إلى السلب، من الواجب حتى المحرَّم، وليس الترتيب المتقابل الواجب ثم المحرم، والمندوب ثم المكروه، وأخيرًا المباح.
٢١  إن الحسن لا ينفك عن الوجوب في الواجبات الشرعية، الوجوب يتفرع على الحسن فلا يكون الواجب واجبًا وقد يكون حسنًا (الشرح، ص٧١). من حق الواجب أن يكون حسنًا (الأصلح، ص١٦–١٨).
٢٢  الأصلح، ص١٦١–١٧١.
٢٣  هذا عند المعتزلة (الشرح، ص٤١–٤٣؛ التعديل والتجوير، ص٨، ص٤٣؛ استحقاق الذم، ص٣٠٧-٣٠٨). عند أبي هاشم وجوب المعرفة أنها لطف في أداء الطاعات واجتناب المقبحات العقلية.
٢٤  استحقاق الذم، ص٢٠٠–٢٣٤.
٢٥  التعديل والتجوير، ص٧-٨، ٣٨-٣٩، ص٥٨.
٢٦  (التعديل والتجوير، ص٧، ص٣٢-٣٣؛ المحيط، ص٢٤٣-٢٤٤). الأفعال على ضربين: أحدهما عند الاشتباه يجوز قبحه والآخر عند الاشتباه يعلم وجه حسنه؛ لأن وجوه الحسن قد يخالف بعضها بعضًا فيحسن منه الإقدام. فما الأصل فيه الإباحة يدخل في هذا الباب. فأمَّا أصل الحظر فهو من القديم الأوَّل (الأصلح، ص١٥٤-١٥٥).
٢٧  التعديل والتجوير، ص١٨، ص٢٦–٣٠؛ الشرح، ص٤١؛ الأصلح، ص ٢٤–٢٧، ص١٥٥–١٥٩، ص١٧٢؛ التحفة، ص١٤-١٥؛ حاشية الأمير، ص١٠٢؛ الدر، ص٦١–٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤