الفصل الأول

شركة أوبيرزون

«مطلوبٌ في الحال، براتبٍ سنوي قدره ٥٢٠ جنيهًا إسترلينيًّا، سكرتيرة لمختبر. فتاة صغيرة السن؛ لا يشترط الخبرة السابقة، ولكن لا بد من أن تكون قد اجتازت اختبارًا معترَفًا به يشمل مادتَي الفيزياء والكيمياء اللاعضوية (المستوى الأساسي). الأولوية لمن تنحدر من أسرةٍ لها باعٌ في المجال العلمي. التقديم من خلال إرسال خطاب على صندوق بريد رقم ٩٧٥٤، ديلي ميجافون. إذا طلب صاحب الإعلان من المتقدمة للوظيفة الحضورَ لإجراء مقابلةٍ شخصية؛ يتكفَّل هو بدفع أجرة المواصلات من أي محطة تقع في نطاق مسافة مائة وخمسين ميلًا من لندن.»

أرسل صديقٌ مخلص إحدى الصحف التي تحتوي على هذا الإعلان إلى مزرعة هيفيتري، ووضع دائرةً حول الإعلان بقلم رصاص أزرق اللون. وجدَت ميرابيل ليستر الجريدةَ على أريكة الرِّواق حين عادت بعد أن أطعمَت الدجاج، وظنَّت أن مَن أرسلها هو سمسار أراضي منطقة ألينجتون الذي لطالما لفتَ انتباهها إلى أصحاب الإعلانات الذين يتمنَّون شراء المزارع الزهيدة الثَّمن. كان هذا من عادته. أما ميرابيل فكان يُساورها شعورٌ بأنه يكره وجودَها في الريف، وكان حريصًا أن يحل محلَّها مالكٌ أقلُّ فقرًا. فتحَتِ الغلافَ بإصبع إبهامٍ يكسوه التراب، وانتقلت بطبيعة الحال إلى صفحة الإعلانات، وما زال السمسار يُسيطر على تفكيرها. تفحَّصت عيناها سريعًا عمودَ «مطلوبٌ للشراء». كان هناك عدةُ إعلانات من نوعية «سادة محترمون يطلبون شراء مزرعة صغيرة في منطقة جيدة»، ولكن لم يَرُق لها أيٌّ منها، وكانت تتساءل عن السبب الذي جعل الرجلَ البخيل يُنفق بنسَين ونصفًا على طابَع بريد وورقةٍ حين وقعت عينها على الإعلان المرسوم حوله دائرة. هتفت ميرابيل قائلة: «رباه!» وقد تباعدَت شفتاها الحمراوان في دهشةٍ يغلبها الحماس. رفعت العمةُ ألما عينَيها عن دفتر قصاصات الجرائد، وقد تفاجأت من دخول ميرابيل باندفاع. قالت ميرابيل بنبرةٍ استعراضية، وهي تُشير بإصبعها إلى الإعلان: «أنا!» ثم تابعت: «أنا شابةٌ صغيرة السن، من دون خبرة، لديَّ شهادة عُليا، وكان لأبي شأنٌ في مجال العلوم. ونحن، يا ألما، على بُعد مسافة مائة وأربعين ميلًا بالضبط من مدينة لندن!»

«يا إلهي!» قالتها العمةُ ألما، وهي سيدة ذات مظهر هزيل ومروِّع، يبثُّ الرعب في نفوس التجار والعاملين في المزرعة، رغم أنها امرأةٌ وديعة للغاية.

«أليس هذا رائعًا؟ هذا يحلُّ كلَّ مشكلاتنا. سنترك المزرعة لمارك، وننتقل إلى شقَّتنا في بلومزبري — يمكننا تحمُّل تكلفة تذكرة أو تذكرتين للمسرح أسبوعيًّا.»

قرأَت ألما الإعلانَ مرةً ثانية.

قالت بنبرةِ حذرٍ معتادة: «يبدو جيدًا، رغم أنني لا تُعجبني فكرة عملك، يا عزيزتي. والدك العزيز …»

قالت ميرابيل بنبرة قاطعة: «كان سيوصلني إلى المدينة، وكنت سأحصل على الوظيفة الليلة.»

ولكن ألما لم تكن متأكدة. فلندن مليئةٌ بالمخاطر والشرور التي لا تُوصف والمتربصة في أزقَّتها ودروبها المظلمة. وهي نفسُها لم تذهب إلى لندن مطلقًا إلا رغمًا عنها.

قالت ألما: «لقد ذهبت إلى هناك قبل سنواتٍ حين كان رجالُ العدالة الأربعةُ المرعبون هناك، يا عزيزتي»، واستمعت ميرابيل، التي كانت تحبها، إلى قصتها المحفوظة. وواصلت ألما: «لقد أرعبوا لندن. لم يكن في استطاعة المرء أن يخرج ليلًا وهو متأكد من أنه سيعود حيًّا مرة أخرى … أما وقد حصلوا على عفوٍ غيرِ مشروط! فهذا يُشجِّع الجريمةَ بكل بساطة.»

قالت ميرابيل (وكان هذا ردَّها المحتوم): «عزيزتي، لم يكونوا مجرمين مطلقًا. هم رجالٌ أثرياء بذَلوا حياتهم لمعاقبة أولئك الذين يُفلتون من أصابع القانون العتيقة الزلقة. وقد عُفي عنهم بسبب المهامِّ الاستخباراتية التي أنجزوها في الحرب؛ أحدهم عمل لمدة ثلاثة أشهر في مكتب الحرب الألماني، ولم يكونوا أربعةً مطلقًا، بل كانوا ثلاثةً فقط. وأودُّ أن ألتقيَ بهم … لا بد أنهم لطفاء!»

عندما تظهر التكشيرة على وجه العمَّة ألما، يُصبح وجهها بشعًا. تحاشَت ميرابيل أن تلتقيَ بعينَيها.

قالت: «على أي حال، هم ليسوا في لندن الآن، يا عزيزتي، وسيُمكنك النوم في هدوء في الليل.»

تساءلت الآنسة ألما جودارد بنبرةٍ متشائمة: «ماذا عن الأفعى؟»

في الوقتِ الحاليِّ، كان موضوع الأفعى هو أحدَ الموضوعات التي لا يتمنَّى أيُّ شخص يُفكِّر في زيارة لندن أن يُذكِّره بها أحد. إذ يستيقظ ستة ملايين شخص من نومهم كلَّ صباح، ويفتحون الجرائد ويبحثون عن آخر أخبارِ الأفعى. ثماني عشرة جريدةً يومية لا تترك يومًا مطلقًا دون أن تُخبرَ قراءها بأن الخوف كان سلوكًا صِبيانيًّا، وتعلِّقَ تعليقًا صادمًا على النَّزعات العصبية للعصر؛ كما أنها تنشر، على أوقاتٍ منتظمة، تفاصيلَ دقيقةً عن المامبا السوداء، وعاداتها وطابَعها الفتاك، وتُخصِّص طاقِمًا كبيرًا من المراسلين المتحمسين «للعمل على هذه القصة الإخبارية».

لقد هربَت المامبا السوداء، وهي أكثر الثعابين الأفريقية فتكًا، من حديقة الحيوان في إحدى الليالي الباردة والضبابية في شهر مارس. وكان من المفترض أن تكون هذه هي نهاية القصة – فقرة من ثلاثة سطور، تتبعها في اليوم التالي فقرة أخرى من ثلاثة سطور تذكر تفصيليًّا كيف عُثر على الأفعى ميتةً على الأرض المتجمدة؛ لأن المامبا لا تستطيع أن تعيش في درجة حرارةٍ أقلَّ من ٧٥ فهرنهايت. ولكن الفقرة الثانية لم تظهر أبدًا. وفي الثاني من أبريل، عثَر شرطيٌّ على رجلٍ متكومٍ عند مدخلٍ في ميدان أورم. وتبيَّن أنه سمسار بورصة معروف، وثريٌّ فيما يبدو، يُدعى إيميت. كان قد فارق الحياة. ووجد في وجهه المتورم جُرحَين لثقبَين صغيرين، وأبدى العالِم البارز الذي استُدعي للمشورة رأيَه بأن الرجل تُوفِّي إثر لدغة أفعى؛ أفعى مميتة للغاية. كانت الليلة باردة، وكان الرجل قد ذهب إلى المسرح بمفرده. وصرَّح سائقُه بأنه قد ترك سيده بروحٍ معنوية مرتفعة عند عتبة الباب. أظهر المفتاحُ الذي عُثر عليه في يدِ الرجل المتوفَّى أنه قد لُدغ قبل أن تبتعد السيارة. وعندما جرى التحقُّق من أحواله، تبيَّن أنه كان مفلسًا على نحوٍ ميئوس منه. وقد اختفت مبالغُ مالية ضخمة كانت قد سُحبت من حسابه البنكي قبل ستة أشهر.

لم تكَد لندن تتعافى من هذه المفاجأة الصادمة، حتى ظهرت الأفعى من جديد. هذه المرة في الشارع المزدحم، ليقعَ اختيارها على ضحية متواضعة، رغم أنها ضحية ليست فوق مستوى الشبهات بأيِّ حال من الأحوال. سجين سابق يُدعى سيرك، مشرَّد قليل الحظ بلا أموال، شُوهد يسقط أرضًا من خلال حارس الحديقة بالقرب من تمثال أخيل في حديقة هايد بارك. وبمجرد أن وصل إليه الحارس، كان قد تُوفِّي. لم يكن هناك أيُّ علامة على وجود أفعى — لم يكن هناك أحدٌ بالقرب منه. هذه المرة، تركَت الأفعى لدغتها على الرُّسغ — جرحان لثقبين بالقرب بعضهما من بعض.

بعد مرور شهر، سقط الرجل الثالث ضحيةً للأفعى. كان موظفًا في بنك إنجلترا، رجل محترم شُوهد يسقط في قطار مترو الأنفاق، وعند نقله إلى المستشفى، تبيَّن أنه قد تُوفِّي أيضًا بلدغةِ أفعى.

هكذا صارت الأفعى رمزًا يوميًّا للخوف، وذاع صيتها المشئوم حتى طوَّق الآفاق ووصل إلى مزرعة هيفيتري.

قالت ميرابيل، وهي ترتجف: «سحقًا!» وتابعَت: «ألما، أتمنى لو أنك لا تحتفظين بهذه الفظائع في دفتر قُصاصات الجرائد.»

قالت ألما بنبرةٍ متَّزنة: «إنها تُمثل حقيقة الحياة»، ثم أردفت متسائلةً: «متى تُحددين موعد مقابلتك الشخصية؟» فضحكَت الفتاة.

قالت بلهجة عَملية: «سنبدأ على الفور، من خلال التقديم للوظيفة». ثم أضافت: «ولست بحاجةٍ إلى البدء في تعبئة صناديقك لوقت طويل جدًّا!»

وبعد مرور ساعة اعترضتْ طريقَ ساعي بريد القرية، وسلَّمتْه خطابًا.

وكانت هذه هي بدايةَ المغامرة التي شملت أشخاصًا وأقدارًا كثيرة، والتي كادت أن تُسطِّر نهاية رجال العدالة الثلاثة، وتُحوِّل قلب لندن ذاتَ يوم إلى ساحة معركة.

جاء الردُّ بعد يومين من إرسال الخطاب، مكتوبًا على الآلة الكاتبة، وشخصيًّا على نحوٍ مدهش، وجاءت كلماته باعثةً على الفضول في بعض المواضع. وكان هناك مبررٌ لذلك؛ إذ كانت ترويسة الصفحة مكتوبًا عليها:

أوبيرزون آند سميتس، تجار ومُصدِّرون.

وفي اليوم الثالث، نزلت ميرابيل ليستر من حافلة في سيتي رود، ومرَّت عبر بوابة المغامرة المتواضعة، تبِعها سائقٌ يتملَّكه الفضولُ رآها تدخل، ولحِق بها في الرَّدهة.

«معذرةً يا سيدتي، هل أنت السيدة كارتر؟»

لا تبدو ميرابيل بأنها سيدةُ أيِّ شخص.

ردَّت قائلةً: «كلا»، ثم ذكرت اسمها.

«ولكنك السيدة الآتية من هيرفورد، أنتِ تعيشين مع والدتك في تيلفورد بارك … أليس كذلك؟»

كان الرجل منفعلًا جدًّا لدرجة أنها لم تتضايق من إلحاحه. فمن الواضح أن لديه تعليماتٍ بمقابلة سيدة غريبة، وكان يخشى أن يفقدها.

«لا بد أنك مخطئ؛ أنا أعيش في مزرعة هيفيتري، داينهام، مع عمَّتي.»

«هل تُدعى كارتر؟»

ضحكت.

«الآنسة ألما جودارد، الآن هل هذا يرضيك؟»

«إذن، لستِ أنت السيدة التي أنتظر اصطحابها، يا آنسة.»

انسحبَ السائق معتذرًا.

انتظرت الفتاة في غرفة الانتظار المزدانة لمدة عشر دقائق قبل أن يعود الشابُّ ذو الوجه الشاحب والشعر النافر، والمتيبس والنظارات الطبية الضخمة العديمة الإطار. كان وجهه ضخمًا، وخاليًا من التعبيرات، وخطيرًا. ولقد لاحظت ميرابيل شيئًا غريبًا وهو أن كل رجل رأته في المكتب كان من نفس النوعية. رجالٌ ذَوو أجسام ضخمة وثقيلة يُعطونها انطباعًا بأنه جرى استدعاؤهم من مهمةٍ عاجلة جدًّا للتعامل مع تفاهة استفساراتها. كانوا رجالًا انعقدَت ألسنتهم يُحدِّقون فيها بجدية عبر عدساتهم السميكة ويُومئون برءوسهم أو يهزُّونها بِناءً على مقتضيات اللحظة. توقَّعت أن تلتقيَ بأجانبَ في مقر شركة أوبيرزون آند سميتس؛ تخيلتهم ألمانًا، وتفاجأت فيما بعدُ من اكتشافها أن كلًّا من الرؤساء وطاقم العاملين كانوا بالأساس سويديين.

لم ينبس الشابُّ ذو الوجه الشاحب، ببِنت شَفة، وفقًا لتقاليد المكان؛ أومأ لها إيماءةً صغيرةً برأسه، ثم دخلت غرفةً أكبر، حيث يجلس ستة رجال على ستة مكاتب ويكتبون بنشاط، كانت أنوفهم مندسَّةً بنظارات قِصَر النظر في الدفاتر والأوراق التي تستحوذ على انتباههم. لم يرفع أحدٌ نظره إليها أثناء مرورها عبر بوابة بارتفاع الخَصر، تفصلُ الزائر عن طاقم العاملين. كانت هناك خريطةٌ لأفريقيا برُقَعٍ خضراء كبيرة معلَّقة بين نافذتين. وفي أحد أركان الغرفة، تكوَّمت عشَرةٌ من الأنياب العاجية الضخمة، كلٌّ منها يحمل ملصقًا معلَّقًا. كان هناك نموذجٌ لسفينة بخارية في صندوقِ عرض موضوع على حافة النافذة، وعلى حافة نافذة أخرى تمثال خشبي محلِّي منحوت على نحوٍ غير متقَن.

توقَّف الشابُّ أمام بابٍ خشبي ثقيل وطرَق عليه. وعندما أجابه صوتٌ عميق، فتح الباب وتنحَّى جانبًا ليسمحَ لها بالمرور. كانت غرفةً عملاقة — كانت هذه أنسبَ كلمةٍ خطرَت على بالها — أظهر مساحتَها الشاسعةَ خلوُّها شبه التام من قِطع الأثاث. طاولةٌ كتابة صغيرة جدًّا من خشب الأبانوس، وكرسيان صغيران للغاية، وخِزانة سوداء طويلة وضيقة تتناسب مع فجوة بالجدار، كان هذا كلَّ الأثاث الذي استطاعت رؤيته. كانت الجدران العالية مغطاةً بورقةٍ ذهبية. أربع عوارض خشبية باللون الأحمر الزاهي تمرُّ عبر السقف الأسود — أما الأرضية فكانت مغطاةً بالكامل بسجادة باللون الأرجواني الغامق. ويبدو أن ثمة خريطةً ملفوفة فوق المدفأة — ينسدل من الإفريز خيطٌ طويل ورفيع، وينتهي بشُرَّابة قريبة المنال.

كانت الغرفة بمثابة مشهدٍ لم تكن الفتاة تتوقَّع رؤيته، مع قلة أثاثها؛ إذ وقفت الفتاة تُحدِّق وتُقلِّب بصرها من الجدران إلى السقف، حتى لاحظَت أن مرشدها يُصدر إشاراتٍ عاجلة، ثم تقدمَت نحو الرجل الواقف وظهره إلى جذوة النار الصغيرة المشتعلة داخل المدفأة الفضية.

كان فارعَ الطول أشيبَ الشعر؛ انطباعها الأول عنه أنه ذو جبهة مرتفعة للغاية. أما وجهه الشاحب فكان طوليًّا، وعن قربٍ أكثر، رأته مغطًّى بخطوطٍ وتجاعيد لا تُعد ولا تُحصى. قدَّرَت أن عمره خمسون عامًا حتى تحدَّث، فأدركت أنه أكبر من ذلك بكثير.

«الآنسة ميرابيل ليستر؟»

لم تكن لغته الإنجليزية ممتازةً تمامًا؛ كانت طريقةُ حديثه متأنيةً على نحوٍ غريب، وكان يتلعثم قليلًا.

«تفضلي بالجلوس. أنا الدكتور إريك أوبيرزون. لستُ ألمانيًّا. أنا معجَب بالألمان، ولكني سويدي. هل أنتِ مقتنعة؟»

ضحكت، وعندما تضحك ميرابيل ليستر، ينسى الرجال الأقلُّ حدةً من الدكتور إريك أوبيرزون جميعَ المسائل الأخرى. لم تكن فارعةَ الطول — وإنما نحافتها وتناسُق قَوامها يجعلها تبدو كذلك. كان في وجهها وعينَيها الرماديتين مَسحةٌ ريفية؛ كانت تنتمي للبساتين حيث تتساقطُ أزهار التفاح مثلما تتساقط الثلوج الكثيفة على الأغصان العارية؛ إلى جدول المياه الباردة التي تجري بصخب تحت شُجيرات الزعرور البري. انعكست أشعة شمس أبريل في عينَيها وامتدَّت أسفل قدميها المروج المخملية الناعمة الدائمة.

وبالنسبة إلى الدكتور أوبيرزون، كانت فتاة ترتدي زيًّا أزرقَ مفصلًا لدى خياط. رأى أنها ترتدي قبعة صغيرة ذات حافةٍ مستقيمة تؤطِّر وجهها فوق حدود حاجبِها المنحني. من شأن الشخص الألمانيِّ أن يرى هذه التفاصيلَ، كونه عاطفيًّا بائسًا. لم يكن الدكتور ألمانيًّا؛ بل كان يكرهُ عواطفهم.

«هلَّا تجلسين! هل خضعتِ إلى تدريبٍ علمي؟»

هزَّت ميرابيل رأسها بالنفي.

قالت بأسًى معترفة: «كلا، لم أحصل، ولكني اجتزتُ اختباراتِ المواد التي ذكَرتها في إعلانك.»

«ولكن والدكِ، ألم يكن عالِمًا؟»

أومأت برزانة.

فأردف قائلًا: «لكنه لم يكن عالِمًا عظيمًا. إنجلترا وأمريكا لا تُنجبان مثلَ هؤلاء الرجال. أه، لا تُحدثيني عن رجالٍ مثل كلفين وإديسون ونيوتن! كانوا رجالًا ناقصين، مملِّين، مثقلين … لم تكن فيهم الحماسة.»

تفاجأت بعضَ الشيء؛ ولكنها كانت مستمتعةً كذلك. كان رفضُه الهادئ لرجالٍ يحظَون بالاحترام في الأوساط العلمية صادقًا على نحوٍ واضح جدًّا.

«الآن، حدِّثيني عن نفسك». قالها وهو يجلس على الكرسيِّ ذي الظهر المستقيم الصُّلب بجوار المكتب الصغير.

«يؤسفني أنه ليس هناك الكثيرُ لقوله، يا دكتور أوبيرزون. أنا أعيش مع عمتي في مزرعة هيفيتري في جلوستر، ولدينا شقة في داوتي كورت. أنا وعمتي لدينا دخلٌ صغير — وأظن أن هذا كل شيء.»

أمرَها قائلًا: «واصلي حديثكِ من فضلكِ». وتابع: «أخبريني عن شعوركِ حين تسلَّمتِ خطابي — أرغب في التعرُّف على طريقة تفكيرك. هذه هي الطريقة التي أُكوِّن بها جميع الآراء؛ وهكذا صنعتُ ثروتي الطائلة. من خلال تحليل العقول.»

لقد توقعتُ الكثير من الاختبارات؛ اختبار في العلوم الأساسية، ربما اختبار على الآلة الكاتبة (كان هذا أكثر شيء تخشاه)، ولكنها لم تحلُم أبدًا للحظةٍ واحدة بأن الخطاب المنمَّق الذي يطلب منها الحضورَ إلى مقر شركة أوبيرزون آند سميتس في سيتي رود سيقودها إلى تجربة تحليل نفسي.

«لا يسَعُني إلا أن أخبرك بأنني كنت مندهشة!» قالتها وقد ضمَّت شفتيها على نحوٍ قد يُخبره بالكثير لو كان خبيرًا بالطبيعة البشرية كما يدَّعي. وأردفت قائلة: «بطبيعة الحال إن الراتب يروق لي — عشرة جنيهات أسبوعيًّا هو معدَّلٌ عالٍ للأجور، لا أعتقد أنني مؤهلة …»

«بل مؤهَّلة.» صار صوته الأجشُّ أكثرَ حدةً حين قاطعها بهذه العبارة. واستطرد قائلًا: «أنا بحاجةٍ إلى سكرتيرة مُختبر. وأنت مؤهلة» تردَّد، ثم واصل حديثه: «بسبب النَّسب العريق. أيضًا» ثم تردد مرة أخرى لجزء من الثانية، وأردف قائلًا: «وبسبب التعليمِ العامِّ أيضًا. ستبدَئين مباشرةَ مهامِّك قريبًا!» لوَّح بيدٍ طويلة ونحيلة ناحيةَ الباب الموجود في زاوية الغرفة. وقال: «ستتسلَّمين وظيفتك على الفور.»

بدا أنَّ قسماتِ الوجه الطويل، والجبهةَ المرتفعة على نحوٍ غريب، والأنفَ المنتفخ، والفمَ العريض، المحدَّب تتضافر معًا حين يتحدث. ففي لحظةٍ تمتلئ جبهته بالثنايا والتجاعيد — وفي لحظةٍ أخرى، تُصبح ملساءَ بصورة نسبية. طرَف أنفه يعلو ويهبِط مع كل كلمة، تظل فقط عيناه الصغيرتان، العميقتان ثابتتَين دون أن تطرِف لثانية. لقد رأت عيونًا كهذه من قبل، بُنِّية وشجية. بماذا تذكِّرها؟ كلماته الأخيرة جعلتها تصل إلى حدِّ الذعر.

قالت في انفعال: «أوه، لا يمكنني البدء اليوم.»

قال بنبرةٍ حاسمة: «اليوم، وإلا فلن تحصلي على الوظيفة أبدًا.»

اضطُرَّت إلى مواجهة أزمة. كان الراتب مغريًا جدًّا؛ بل كان ضروريًّا. كانت المزرعة متعثرةً وتشقُّ طريقها بصعوبة؛ نظرًا إلى أن ألما لم تكن تُجيد الإدارة. ويتناقص الدخل أكثرَ فأكثر. ففي العام الماضي، الشركة التي استثمرت فيها ثروتها الضئيلة لم تمنحها حصةَ ربحٍ واضطُرت إلى التخلي عن قضاء عطلتها في سويسرا.

«سأبدأ الآن.» اضطُرَّت إلى حسم أمرها واتخاذ هذا القرار.

«جيدٌ جدًّا؛ وتلك هي رغبتي.»

كان لا يزال يُخاطبها كما لو أنها في اجتماعٍ عام. قام من على كرسيِّه، وفتح بابًا صغيرًا ودخلت غرفةً أصغر. لقد رأت معاملَ من قبل، ولكن لم ترَ شيئًا متناسقًا على نحوٍ جميل للغاية كهذا — رفوف متراصَّة بعضها فوق بعض، من برطمانات البورسلين الأبيض، وقواريرَ زجاجية، منقوش أسماء محتوياتها بالحروف المصنفرة؛ وطاولة عمل بطول الغرفة، تراصت عليها أجهزةٌ من كل شكل ولون على نحوٍ مرتَّب. وفي وسط الغرفة، تمتدُّ منضدة طويلة، ذات سطحٍ زجاجي، وهنا على زجاج مقاوم للأتربة، وُضِعت أجهزة حساسة، تتنوَّع بين موازين تعرف أنها قد تتأثَّر بذرات التراب، وأجهزة كهربائية، معقَّدة جدًّا لدرجةِ أن قلبها وجِلَ عند رؤيتها.

تساءلت بنبرة محبطة: «ماذا عساي أن أفعل؟»

كان كل شيء جديدًا على نحوٍ جميل؛ كانت واثقة من أنها ستُسقط أحد هذه البرطمانات الجميلة — فجأةً طارت من ذهنها علوم المعمل الدراسي، ليبقى خاويًا على عروشه.

«ستفعلين قطْعًا.» وعلى نحوٍ ملحوظ بدرجة كافية، بدا الدكتور في هذه اللحظة في حَيرةٍ من أمره مثل الفتاة تمامًا. «أولًا الكميات. ففي كل برطمان أو قارورة توجد كمِّية. ما المقدار؟ ومَن يعرف هذا المقدار؟ السكرتيرة الأخيرة كانت مهمِلة، وغبية. لم تحتفظ بأيِّ دفاتر. أحيانًا، أبحث عن شيء — لا أجده هناك! كل شيء اختفى. هذا أمرٌ مؤسف للغاية.»

تساءلت، وقد استعادت آمالَها من جديد في بساطةِ مهمَّتها: «هل ترغبُ أن أُجري جَردًا؟»

كان هناك عددٌ كافٍ من أجهزة القياس والموازين. اصطفَّت الأخيرة في صفٍّ كفصيلة من الجنود مصنَّفة حسَب حجمها. كان كل شيء جديدًا جدًّا ومنظمًا جدًّا. كانت هناك رائحةُ طِلاء جافٍّ في الغرفة وكأن المكان قد طُلي مؤخرًا.

قال صاحب الوجه الطويل: «هذا كلُّ شيء.» ووضع يده في جيب معطفه الطويل وأخرج محفظةً كبيرة. وأخذ منها عُملتَين ورَقيتَين جديدتين.

وقال بإيجاز: «عشرة جنيهات.» ثم أردف قائلًا: «نحن ندفع مقدمًا. ثمَّة شيء واحد أودُّ أن أعرفه.» وتابع: «بخصوص العمة. هل هي في لندن؟»

هزَّت ميرابيل رأسها نافيةً.

«كلا، هي في البلدة. توقَّعت أن أعود بعد ظهر هذا اليوم، وإذا … وفقت، كنا سنأتي إلى المدينة غدًا.»

زمَّ شفتَيه المكتنزتَين؛ حدَّقت في انبهارٍ إلى جبهته العريضة التي يعتصرها التفكير.

«ستتوتَّر هي إذا مكثتِ في لندن الليلة … أليس كذلك؟»

ابتسمت وهزَّت رأسها.

«كلا. سأمكث في الشقة؛ لطالما مكثت وحدي هناك، ولكن هذا ليس ضروريًّا. سأرسل إليها برقية أطلب منها أن تستقلَّ أول قطار.»

«مهلًا.» رفع يدًا مختالة وعاد مسرعًا إلى غرفته. وعاد بحُزمة من نماذج البرقيات. وقال بلهجةٍ آمرة: «اكتبي برقيتك. وسيُرسلها أحد الموظفين على الفور.»

أخذت الورقة الفارغة بامتنانٍ وكتبتْ عليها مستجِدَّات موقفها والطلب.

وقالت: «شكرًا لكَ.»

انحنى الدكتور أوبيرزون، وتوجَّه إلى الباب، ثم انحنى مرة أخرى، وأغلق الباب خلفه.

ولحسن الحظ ومن أجل راحتها النفسية، لم يكن لدى ميرابيل ليستر الفرصةُ لتستشير مديرها أو تُحاول أن تفتح الباب. فلو أنها فعلت ذلك، لاكتشفت أن الباب كان موصدًا من الخارج. أما بالنسبة إلى البرقية التي كتبتها، فقد تحوَّلت إلى رمادٍ أسود في مِدفأته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤