الفصل السابع والعشرون

معضلة السيد نيوتن

ربما تسير أكثرُ ضربات الحظ المحكَمة في الاتجاه الخاطئ، رغم كافة الاحتياطات المتخَذة، وهذا ما حدث مع السيد مونتيجو نيوتن؛ إذ واجهَ أمسيةً كارثية على الصعيد المالي، وشهد ليلةً لم يَذُق فيها طعم النوم. حيث إنه أقام إحدى حفلات لعب الورق؛ بيد أن النتيجة التي حصل عليها واحدة، سواءٌ أكان السببُ هو غيابَ جوان، وقلة كفاءة بديلتها ذات الشعر الناعم، أم أن النبيذ لم يُعجب أحدَ أكثر الضحايا الواعدين. فقد لعبوا الورق، وكاد الحظُّ أن يُحالف مونتي نيوتن، لكن بدلًا من أن يكسب ويحصل على شيكات بمبالغَ ضخمةٍ من منافسه، انهزمَ وسدَّد له مبلغًا كبيرًا من المال نقدًا.

بدأت الليلة بدايةً خاطئة بسبب بديلة جوان، وتُدعى ليزا. بعد أن اصطحبَت إلى المقر ابنَ مليونير أفريقي، عقب تناول عشاءٍ فاخر في نادي ميرو. كانت جوان، بالطبع، ستجلبه بمفرده، أما ليزا، الأقلُّ خبرةً، فقد سمحت لشابٍّ صديقِ الضحية بالمجيء إلى الحفل، بل إنها توقعت الثناءَ على فِطنتها وجُرأتها في الإيقاع بعصفورَين بالحجر الذي يستخدمه السيد نيوتن ببراعة، بدلًا من عصفور واحد.

لم يستَأ مونتي بسبب الوضع الحَرِج الجديد، وبدلًا من ذلك تبنَّى رأي الفتاة، حتى علم أن «غنيمة» ليزا لم تكن مثلما اعتقدت، أحدَ ضباط الحرس، بل محامٍ شابٌّ أنيق له باعٌ طويل في الممارسات الإجرامية، وعندما كان مبتدئًا، ترافع بالفعل في عدة محاكمات لصالح البلاط الملكي. وفي اللحظة التي ذُكر فيها اسمه، شعر مونتي بإحباط شديد. كما أنه كان، علاوةً على ذلك، يقظًا تمامًا. ولم يكن وضْع صديقه مناسبًا على الإطلاق.

كان هذا أولَ أمرٍ مربك حدث. أما الثاني فهو المزاج السيِّئ للاعب الذي أصرَّ على إعادة خلط ورق اللعب عندما تجاوزَت أموالُ المقامرة قيمة ٣ آلاف جنيه إسترليني بكثير. كل هذه المضايقات كان من الممكن تجاوزُها، ولكن بعد أن أعربَ عن استعداده «اللعب»، انزلقت الورقةُ التي كان يُخبئها مونتي في يده إلى الطاولة، وعلى الرغم من عدم ملاحظة اللاعبين حقيقةَ الأمر، تشتَّتَ انتباهُ المحامي آنذاك، وكان من المستحيل استعادة تلك الورقة الثمينة. كما أقدم مونتي على فعل شيء سخيف. فبدلًا من التعبير ببراعة عن الضيق بسبب الملاحظات التي أبداها ابن المليونير، قرَّر تجرِبة اللعب النزيه بالورق. ومن ثَم خسر. وعلاوةً على ذلك، قرَّر اللاعب الذي لم ينَل منه السُّكْرُ إلا قليلًا أنه عندما يفوز أحدهم بضربة حظٍّ بقيمة ٣ آلاف جنيه إسترليني، حينئذٍ يحينُ وقت التوقف عن اللعب. لذلك تذوَّق مونتي مرارة خَسارة المال، ورافق زائره إلى الباب بابتسامةٍ لطيفة للغاية ومليئة بالودِّ للحد الذي دفع الشابَّ للاعتذار عن فظاظته.

قال مونتي: «فلتأتِ في ليلةٍ أخرى وتُتِحْ لي الأخذَ بثأري.»

«أراهنك أنني سأفعل! إنني ذاهبٌ غدًا إلى جنوب أفريقيا. لكنني سأعود مطلعَ العام المقبل، وسآتي للبحث عنك.»

شاهده مونتي وهو ينزل السُّلم وتمنَّى أن يكسر عنقه.

لقد كان قلقًا على جوان، وتجاوز قلقُه الحدَّ الذي كان يظنه، فلم يتخيل أن قلقه على مجرد فتاةٍ سيبلغ هذا الحد. إن وجودها ضروريٌّ له من نَواحٍ كثيرة. ورأى أن ليزا حمقاء تفتقد البراعة، ولكنه سمح لها بالانصراف دون أن يجرح مشاعرها. لأنها مفيدةٌ من نواحٍ عديدة، ولا شيء يفسد الأمر أسرعَ من التذمر المستمر.

شعر نيوتن بوحدة شديدة داخل المنزل، وكان يتجوَّل من غرفة لأخرى، وشعر بالاستياء من نفسه؛ لأن غياب الفتاة الحمقاء، التي لم تنَل قسطًا من التعليم ولا تنتمي إلى طبقته الاجتماعية، أحدث في نفسه هذا الفارقَ الكبير. ولكنها الحقيقة؛ كان عليه الاعترافُ بذلك. كان يُبغض التفكير في تلك الغرفة الموجودة تحت الأرض. وهو يعلم مِزاجها المتقلب، وكيف أن تلك التجرِبة ستُثير أعصابها. ولكنه على أي حال تمنَّى لو أنه لم يشعر بهذه المشاعر تجاهها؛ لأنها ستتعرَّض لصدمة قادمة، ولعله توقَّع مقدار الألم الذي سينال منها؛ لذا حرَص على جعل الحاضر سعيدًا قدرَ استطاعته من أجلها.

فبعد أن ينتهيَ مما ينوي فِعله، لن يُصبح هناك سببٌ في العالم يجعلهما أصدقاءَ سوء، وسيمنحُها هدية كبيرة. والفتيات اللائي ينتمين لتلك الطبقة سرعان ما ينسَين بؤسَهن، إذا كانت الهدية كبيرة بالقدر الكافي. هكذا قال لنفسه، وهو يتقلب في فراشه، وطوال الوقت كانت أفكاره تدور حول هذا القَبو اللعين. تساءل حيالَ شعورها! لم يقلق إطلاقًا بشأن ميرابيل؛ لأنها — حسنًا — هي محطُّ الاهتمام في هذا الأمر، أما جوان فكانت الضحيةَ الحقيقية.

جافاه النومُ حتى بزوغ الفجر، واستيقظ وهو في أقصى حالات التوتر. فقد قطع وعدًا للفتاة بأنه سيزورها ويراها، ولكنه اتفق سرًّا مع أوبيرزون، على عدم الذهاب إلى المنزل حتى انقضاء الأيام الخمسة.

وبحلول وقت الغداء، لم يَعُد بإمكانه تمالكُ أعصابه، وطلب سيارته، وانطلق حتى وصل إلى نقطةٍ بين نيو كروس وبرموندسي، وأكمل بقية المسافة سيرًا على الأقدام. توقَّع السيد أوبيرزون الزيارة. فهو يتمتَّع ببصيرةٍ حادة تُمكِّنه من فهْم عقلية حلفائه، وعندما رأى هذا الرجلَ ذا الثياب الأنيقة يُحاول تلمُّس طريقه عبر الأرضية المليئة بالنفايات، هبط السلَّم ليُقابله.

قال: «غريبٌ أنك أتيت.»

تذمَّر نيوتن قائلًا: «لماذا لم تُهاتفني؟» وكان هذا هو مبرِّرَه للزيارة.

قال أوبيرزون: «لأن هناك شخصًا يُمكنه التنصُّت على كل مكالمة». وتابع: «فإذا كانت الهواتف آليةً ولا يمكن لأحد سماعُنا، لَكنتُ تحدثتُ أنا وأنت مِرارًا وتَكرارًا! ولكنتُ تحدثتُ إليك طَوال اليوم بكل سرور. ولكن ليس في ظلِّ مراقبة هذه الآنسة وتلك لخطِّ الهاتف وقولها: «انتظر لحظةً، من فضلك»، حتى تتمكنَ من إدخال رجل سكوتلاند يارد على الخط ليتنصَّت على المكالمة، قائلةً له: «الآن يمكنك التنصت!»»

«هل عاد جيرتر؟»

قال الدكتور بلهجةٍ جادة: «عاد جيرتر.»

«لم يُصِب الهدف؟ على الأقل، لم أجد شيئًا في الصحف.»

أجاب الدكتور دون اكتراثٍ قائلًا: «إنه في طريقه إلى لشبونة». وتابع: «لعله سيصل وجهته، ولعله لن يفعل! ما الفارق؟ أودُّ رؤية الرسالة؛ لأنها بيانات، والبيانات لعالِم عجوز مسكين مثلي، لها سحرٌ لا يُقاوم. هل ترغب في تناول كأس؟»

تردَّد مونتي، مثلما يترددُ دائمًا كلما قدَّم له أوبيرزون مشروبًا. فلا يمكن أبدًا أن يثقَ في أوبيرزون.

وقال أخيرًا: «سأتناول الويسكي، ولكن من زجاجةٍ كاملة، زجاجة لم تُفتح بعد. سأفتحها بنفسي.»

ضحك الدكتور ضحكةً صاخبة.

وقال: «أنت لا تثقُ بي؟» وأضاف: «يا لك من حكيم! فمَن في هذا العالم يمكنه قولُ عبارةٍ مثل «إنه صديقي. وسأثق به لآخر يوم في عمري»؟»

لم يجد مونتي حاجةً إلى إجابة هذا السؤال.

أخذ زجاجة الويسكي ورفعها باتجاه الضوء، وفحص السِّدادة، وأدخل المثقاب ليفتحها.

قال الدكتور أوبيرزون ممازحًا: «ها هو ذا ماء الصودا … ولعله مسموم هو الآخر.»

لم يكن ليقولَ هذه العبارة في أي وقت آخر. ولكن قوله لتلك العبارة كان يُنذر بتغيُّر طفيف ولكنْ مشئوم في علاقتهما. وإن كان مونتي قد لاحظ ذلك، إلا أنه لم ينطق بكلمة واحدة، واكتفى بصبِّ كأسه والجلوس على الأريكة ليرتشفَ منها. كان الدكتور يُراقبه باهتمام طوال الوقت.

«أجل، عاد جيرتر. لقد أخفق، ولكن يمكن تبريرُ الإخفاق لرجلٍ بارع مثله. فلا وجود للموظف المثالي حتى الآن، والأمر ينطبق على الرئيس المثالي أيضًا. فآخِرُ ما سمعتُه عن الأمريكي، واشنطن، أنه غادر باريس. ولا بد من تهنئته. فلو كنت مكانه وعشتُ في باريس لكنت سأغادرها دائمًا. إنها مدينةٌ بلا قيمة.»

أشعل مونتي سيجارًا، وقرَّر البدء في الحديث عن الغرض من زيارته تدريجيًّا. إذ إنه جاء لأداء مهمتَين أساسيتين. فكان يرى أن مِن واجبه زيارةَ جوان. وأراد كذلك أن يُعلن خطته لشريكته، وكان في ذلك راحةٌ له أيضًا، وليس واجبًا فحسب.

سأله: «كيف حال الفتاتين؟»

قال الدكتور أوبيرزون الذي لم يَعُد إلى مقعده بل ظل واقفًا، وبدَت وضعيةُ جسده أشبهَ بجيرتر الذي يقف منتصبًا محدقًا بلا حَراك: «إنهما في غاية السعادة. فضيوفي دومًا يُمضون وقتًا سعيدًا.»

قال الآخر بازدراءٍ: «داخل هذا الجحر؟ أنا لا أريد أن تمكثَ جوان هنا.»

هز الدكتور كتفَيه دون اكتراث.

وقال: «فلتأخذها إذن، يا صديقي. فإن كنت مستاءً لأن هذه المرأة ليست برفقتك، فلماذا تبقى هنا؟ لا نفع من بقائها. لعلها تشعر بالقلق. على أي حال سأُحضرها لك.» واتجه نحو الباب.

قال مونتي: «انتظر لحظة. سأراها لاحقًا، وربما أصطحبها للخارج، لكنني لا أريدها أن تبتعد بشكلٍ دائم. يجب أن يبقى أحدهم مع تلك الفتاة.»

سأله أوبيرزون بلطف: «ولماذا؟ ألست أنا هنا؟»

قال مونتي وهو ينظر خارج النافذة ولم تلتقِ عيناه بعينَي الدكتور: «أنت هنا، وجيرتر أيضًا هنا. وخاصةً جيرتر. ولهذا السبب لا بد من وجود شخصٍ بجانب ميرابيل ليستر ليرعاها. هل فكَّرت من قبل أن أفضل طريقةٍ للخروج من هذا المأزق البسيط هي … الزواج؟»

قال الدكتور: «أجل فكرتُ في ذلك. هل فكرتَ في ذلك أيضًا؟ هذا رائع! لقد بدأتَ تفكر.»

أصبحَت لهجته المتغيرة واضحةً بقدرٍ كافٍ الآن. استدار مونتي للرجل الذي كان لا يزال واقفًا، وهو يشعر بالرهبة منه ومن أحكامه.

قال مخاطبًا إياه، ودون مقدمات: «فلتتوقف على الفور عن هذه اللهجة الساخرة، يا أوبيرزون، سأتزوَّج هذه الفتاة». لم يعلِّق أوبيرزون على كلامه. فأضاف: «إنها ليست مخطوبة؛ وليس لديها أيُّ علاقة غرامية. أخبرتني جوان بذلك، وهي فتاة بارعة جدًّا. لا أعرف كيف سأصلح الأمر، لكنني أعتقد أن أفضل شيء يمكنني فعلُه هو التظاهر بأنني صديق وفيٌّ وأخرجها من قبو منزلك. ستشعر بالامتنان الشديد، للحد الذي يدفعها للموافقة على أي شيء تقريبًا. بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أنني تركت في نفسها انطباعًا جيدًا منذ المرة الأولى التي رأتني فيها. ومكانتي تؤهلني أن أُقدِّم لها بيتًا في أفضلِ مكان في لندن، يا أوبيرزون …»

قاطعه صوتُ أوبيرزون الرنانُ قائلًا: «تقصد بيتي.»

«بيتك؟ حسنًا، يمكننا القول بأنه بيتنا. فلن نتشاجرَ بسبب المسمَّيات.»

قال أوبيرزون: «أنا أيضًا لديَّ مكانةٌ مرموقة لأُقدِّمها لها، ولست أقدِّم لها مكانةَ رجل آخر.»

كان أوبيرزون يُحدق فيه وقد اتسعَت عيناه، بشكل كوميدي؛ فوجهُه الطويل الذي بدا بارزًا في الظلام جعله أشبهَ بقناع المسرحيات الصامتة.

«أنت؟» كاد مونتي ألا يُصدق أذنَيه.

«أنا، البارون إريك أوبيرزون.»

«بارون! أنت؟» اهتزَّت أرجاء الغرفة من ضحكات مونتي. وتابع: «عجبًا، أيها العجوز الخرِف، أيُخيَّل إليك أنها ستُوافق على الزواج منك، هل تظن ذلك؟»

أومأ أوبيرزون برأسه.

وقال وهو غاضبٌ بإنجليزيةٍ سيئةٍ قليلًا: «ستفعل أيَّ شيء أطلبه منها». وأضاف: «ربما لا تحبُّ فتاةٌ رجلًا ما، ولكن هناك ما تخشاه أكثر … هل تفهم؟ قد تقول النساء إن الموت هيِّن، ولكنهنَّ يَخْشَينَه، أليس كذلك؟»

قال مونتي بازدراء: «أنت مجنون.»

«أنا مجنون، أليس كذلك؟ وعجوز خرِف ملعون … أليس كذلك؟ ورغم ذلك سأتزوجها.»

ساد الصمت التام للحظة، ثم تابع أوبيرزون حديثه، ولكن بنبرة أكثر هدوءًا.

«لعلي مثلما تقول، ولكن لا داعي للشجار بين صديقَين على أمرٍ كهذا. ستأتي غدًا إلى هنا، وسنتناقش بشأن هذا الأمر كما نُناقش أيَّ صفقة عمل، أليس كذلك يا صديقي؟»

نظر إليه مونتي وكأنه يُحدق في حشَرة تحوم في مجال رؤيته.

وقال: «أنت لستَ سويديًّا، أنت ألماني». وأضاف: «ذلك الحديث عن أنك بارون فضحَ أمرك.»

أجابه أوبيرزون باقتضاب: «أنا من دول البلطيق، لكنني عشت سنواتٍ عديدة في السويد». وتابع: «أنا لست ألمانيًّا، ولا أحبُّهم.»

لم يَزِد عن تلك الكلمات. من المحتمل أنه شارك جيرتر اشمئزازه تجاه جيرانه في وقتٍ ما.

وتابع قائلًا: «على أي حال، لن نتشاجر». وأضاف: «أنا أحمق، وأنت أحمق، وجميعنا حَمقى. هل ترغب في رؤية امرأتك؟»

قال مونتي بفظاظة: «أود مقابلة جوان. ولكنني لا أحبُّ سماع عبارة «امرأتك» تلك.»

«سأذهب لإحضارها. فلتنتظر.»

من جديد، ظهر الحذاء الطويل من أسفل الطاولة، وأدخل الدكتور قدمَيه فيه بصعوبة، وراقَبه مونتي عبر النافذة وهو يتَّجه إلى المصنع ويختفي.

غاب خمسَ دقائق قبل أن يعود مرةً أخرى، بمفرده. تجهَّم مونتي. وتساءل عن سبب ذلك.

لهث أوبيرزون قائلًا: «صديقي، ليس من الحكمة.» وبدأت محاولات أوبيرزون تُثير قلقًا أكبرَ في نفسه.

قال مونتي: «أرغب في رؤيتها …»

«رفقًا، رفقًا؛ ستراها. ولكن جيرتر شاهدَ رجلًا غريبًا على ضفة القناة، وكان يتجوَّل ذَهابًا وإيابًا، متظاهرًا بأنه يصطاد. فأخبِرني أنت، مَن بإمكانه الصيد في القناة؟»

«وما شأن هذا الرجل بالأمر؟»

«أسألُك من جديد، هل سيكون من الحكمة إحضارها في وضح النهار؟ ألا يعتقد الرجال أن امرأ … أن هذه الفتاةَ في بروكسل؟»

لم يخطر الأمر ببالِ مونتي.

«لديَّ فكرةٌ من أجلك. إنها فكرة جيدة. ففي بعض الأحيان يُجيد أوبيرزون، العجوز الخرِف، استخدامَ عقله. هذا الصباح، أرسل لي أحدُ أصدقائي تذكرةَ دخولٍ إلى المسرح. وبهذا يمكنك أخذها الليلة. فغالبًا ما يعلو الضبابُ قليلًا عند غروب الشمس، ويمكنك مغادرة المنزل في السيارة. وفي الوقت الحاليِّ، سأرسل أحدًا لتشتيت انتباه هذا المراقب، وبعدها سأحضرها إلى المنزل حتى يمكنك رؤيتها.»

قال مونتي بإصرار: «سأنتظرها.»

وانتظرها بالفعل، وبعد نصف ساعةٍ أتت الفتاة التي كادت تُجن، واندفعت في لهفةٍ إلى داخل الغرفة، وارتمت في أحضانه.

وقف الدكتور أوبيرزون بلا حَراك ليشهد لمَّ شملِهما.

وقال: «هذا مشهدٌ جميل لا يمكنني احتمالُه، بالنسبة إلى شخص سيتزوج في القريب العاجل»، وتركَهما بمفردهما.

•••

«مونتي، لا أستطيع العودة إلى هذا المكان البغيض الليلة. سيتعيَّن عليها البقاءُ بمفردها. وهي فتاة مطيعة يا مونتي، ولكنها لا تعلم أنها تُقدَّر بالكثير من الأموال.»

سألها بلهجةٍ غاضبة: «هل كنتِ تتحدَّثين إليها؟ أخبرتك أن …»

«لا، لقد سألتها بضعةَ أسئلة فقط. فلا يمكنك أن يزجَّ بك في جُحر حقير كهذا، وتُلازم أحدهم ليلًا ونهارًا، دون أن تتحدَّث إليه، هل يُمكنك ذلك؟ مونتي، هل أنت واثقٌ تمامًا بأنها لن تُصاب بأي سوء؟»

تنحنحَ مونتي.

وقال: «أسوأ شيء قد يحدث لها هو أن تتزوج.»

اندهشَت عند سماع تلك العبارة.

«وهل يرغب أحدٌ في الزواج منها؟»

أجابها قائلًا: «أوبيرزون.»

قالت ساخرةً: «هذا العجوز!»

مرةً أخرى لم يجد ما يقوله.

قال: «لقد فكَّرت في الأمر مِرارًا، يا عزيزتي. ورأيت أن الزواج لا يعني الكثيرَ لأي شخص.»

قالت بهدوء: «إنه يعني الكثيرَ لي.»

فاندفع دون تفكيرٍ قائلًا: «فلنفترض أنني تزوجتها.»

«أنت!» قالتها وهي تبتعد مرتعدة.

«فقط ﻟ… حسنًا، إنها الحقيقة يا جوان. لعلها الطريقةُ الوحيدة للحصول على أموالها. أنتِ الآن شريكتُنا في هذا الأمر، وأنت تعرفين مكانتَكِ عندي. إنه زواج — فقط زواج صوري — لمدة عام أو اثنين، وبعدها يحدث الطلاق، ويمكننا أن نُصبح معًا، زوجًا وزوجة.»

وجَّهت رأسها نحو الباب وقالت: «هل هذا ما قصَدَه؟» وتابعت: «عندما تحدَّث عن «الزواج العاجل»؟»

«يريد أن يزوِّجها لنفسه.»

قالت بلهجةٍ حادة: «دَعْه يفعل». وأضافت: «هل تظن أنني أكترثُ للمال؟ ألا توجد طريقةٌ أخرى للحصول عليه؟»

التزمَ الصمت. كان هناك العديد من الطرق الأخرى للتحايل على الأمر بدلًا من الحصول على الرفض المباشر.

«يا إلهي! مونتي، أنت لن تفعل ذلك؟»

قال: «أنا لا أعرف بعدُ ماذا سأفعل.»

قالت بإصرارٍ وهي تتشبَّث بمعطفه: «لكنك لن تفعل هذا، أليس كذلك؟»

«سنتحدَّث الليلةَ في هذا الأمر. لقد حجز لنا العجوزُ تذاكر للمسرح. سنتناول العشاءَ في مطعم ويست ونُكمل مسيرتنا، ولا يُهم إذا ما رآنا أحد؛ فإنهم يعلمون بالفعل أنك لست في بروكسل. ولكن لماذا رائحتك غريبة هكذا؟»

ضحكت جوان، متناسيةً للحظةٍ المشكلةَ الخطيرة التي تُواجهها.

وقالت: «عيدان البخور». وتابعت: «كان المكان خانقًا ومكتومًا، ووجدتُها في المخزن مع المؤن. في الواقع، كان من الغباء فعلُ ذلك؛ لأن المكان امتلأ بالدخان. لكنه اختفى الآن.» وقالت بجدية: «مونتي، يمكنك فعلُ أشياءَ مجنونةٍ وأنت حبيس. لا أظن أنني قادرةٌ على العودة مرة أخرى.»

كاد يتوسَّل إليها قائلًا: «عودي غدًا». وتابع: «لن يستمرَّ الأمر أكثرَ من يومين أو ثلاثة، وهذا يعني لي الكثير. لا سيما الآن، بعد الأفكار التي تُراود أوبيرزون.»

«لن تُفكر مرةً أخرى في … في الزواج منها، أليس كذلك؟»

أضاف بلهجةٍ غيرِ موثوقة: «سنتحدث في هذا الأمر ليلًا على العشاء. ظننتُ أنك ستُحبين فكرة ابتزاز المال.»

اضطُرَّت جوان إلى العودة إلى محبسها لجمع بعض متعلقاتها. ووجدت الفتاة مستلقيةً على الفراش، وهي تقرأ، استقبلَتْها ميرابيل بابتسامة.

«حسنًا، هل انتهت مدة حبسك؟»

تردَّدت جوان.

«ليس بالضبط. هل تُمانعين غيابي الليلة؟»

هزَّت ميرابيل رأسها نافية. والحقيقة أنها سعدت لكونها ستُصبح بمفردها. فقد اضطُرَّت طوال ذاك اليوم إلى الاستماع إلى شكوى ونحيب هذه الفتاة المتقلِّبة، وشعرت بأنها لن تتمكنَ من الصمود أربعًا وعشرين ساعةً أخرى.

«هل أنتِ واثقةٌ من أنك لا تمانعين بقاءكِ وحدك؟»

أجابتها ميرابيل، بصدقٍ وليس مجردَ إطراء: «لا، بالطبع لا. سأفتقدك». وتابعَت: «متى ستعودين؟»

عبَس وجه الفتاة قليلًا.

«غدًا.»

«أنتِ بالطبع لا ترغبين في العودة، أليس كذلك؟ هل نجحتِ في إقناع … صديقك بالسماح لي بالخروج أيضًا؟»

هزَّت جوان رأسها نافية.

«لن يفعل ذلك أبدًا يا عزيزتي، إلا إذا …» نظرَت إلى الفتاة. وسألتها: «أنت لستِ مخطوبة، أليس كذلك؟»

نهضت ميرابيل من فراشها، وضحكت قائلة: «أنا؟! لا. هل هذه قصة أخرى سمعوا بها؟» وتابعت: «وريثة، ومخطوبة؟»

سارعت جوان بتصحيح الانطباع الخاطئ: «لا، إنهم لا يقولون بأنكِ مخطوبة.» وقالت بلهجةٍ تنم عن إعجاب حقيقي: «إنك رائعة، يا فتاة! فلو كنتُ مكانكِ لارتعدتُ خوفًا. ولكنكِ مبتهجة وكأنك ذاهبةٌ لحضور جنازة عمةٍ غنية!»

لم تعلم شيئًا عن حالة الانهيار التي كادت أن تُصيب رفيقتها ذلك اليومَ، ولم ترغب ميرابيل بإخبارها، بعد أن صارت تشعر بقوةٍ واتزانٍ أكثر.

أومأت جوان برأسها قائلةً: «أنتِ رائعة جدًّا. أتمنى لو كان لديَّ جُرأتك.»

ثم، وباندفاع، توجَّهتْ نحو الفتاة وقبَّلتها.

وقالت: «لا تشعري بالاستياء تجاهي»، وذهبَت قبل أن تتمكَّن ميرابيل من الرد.

كان الدكتور ينتظرها في المصنع.

وقال: «لقد ابتعد الجاسوس حتى جسر القناة. بإمكاننا المضيُّ قُدُمًا.» ثم تابع — وهو يشعر بالرضا: «بالإضافة إلى أنه لا يمكنه رؤيةُ ما وراءَ الجدران العالية.»

«ما حكاية الزواج من ميرابيل ليستر؟»

«إذن فقد أخبرك، أليس كذلك؟ فهل أخبرَك أيضًا أنه … أنه ينوي الزواج منها؟»

«أجل، ودَعْني أخبرك، يا دكتور، أنني أُفضِّل أن يتزوجها هو بدلًا منك.»

سألها الدكتور: «هكذا إذن!»

«أفضِّل أن يتزوجها أيُّ شخص، باستثناء أفعاك.»

التفت أوبيرزون إليها في حِدَّة. نطقت الكلمة بعفويةٍ دون التفكير في وقْعِها، وتأوهَت فزعًا عندما أدركت خطأها قائلةً: «أوه!».

قالت: «كنت أقصد جيرتر.»

قال بثبات: «حسنًا، أعلم أنكِ تقصدين جيرتر، أيتها الآنسة الصغيرة.»

ومن أجل العودة إلى المنزل، كان عليهم الالتفافُ حول المصنع في نصف دائرة، والعبورُ بين جدار القناة والمبنى ذاتِه. كان الطريق المباشر سيأخذهما إلى حفرةٍ عميقة كانت مستودعًا للحُطام منذ سنوات، وقد أخفَتْه الطبيعة الآن، بلطفها، تحت غطاءٍ أخضرَ من اللبلاب البرِّي الطبيعي. كان من المعتاد في هذا المكان أن تكون الصورة الجميلة الوحيدة مَخفيةً عن الأنظار.

كانا يلتفَّان حول ركن المصنع حينما توقَّف الدكتور، ونظر إلى أعلى نحو الجدار المرتفع الذي كان محصنًا بإفريزٍ شائكٍ من قطع الزجاج المكسورة. كان الزجاج في مكانه باستثناء بقعةٍ واحدة بعرض نحو قدَمَين، لم ينتزع منها الزجاج فحسب، بل انتزع منها المِلاطَ الذي يُثبته. كانت هناك شظايا زجاجٍ متناثرةٌ، وعلى الجانب الداخلي للجدار، كانت هناك علاماتٌ لبعض الخدوش على السطح الصلب للمِلاط.

قال الدكتور: «هكذا، إذن!»

كان يفحص الخدوش الموجودة على الجدار.

أمرها قائلًا: «انتظري»، وهُرِع عائدًا إلى المصنع، وعاد، حاملًا في كل يدٍ أداتَين صدِئتَين كبيرتين ووضعَهما على الأرض.

نجح في فتح السنون الصدئة الخشنة بالقوة، واحدًا تلوَ الآخر، حتى تباعدَت بعضها عن بعض ويجمعهما معًا مقبضٌ زنبركي. لقد رأت أشياءَ من هذا القبيل في متحف. لقد كانت أفخاخًا بشرية، أحد بقايا الأفعال البربرية الزائلة، عندما كان التعدي على ممتلكات الغير جريمةً وليست مجردَ خطيئة.

ثبَّت الفخ الثانيَ على الطريق بين المصنع والجدار.

قال: «سنرى الآن». وأضاف: «تقدَّمي!»

كان مونتي ينتظرها بنفادِ صبر. وكانت السيارة الرولز جاهزةً تشريفًا لها، وكان السائق المتجهِّم بالفعل في مكانه على عجَلة القيادة.

سألته في أثناء صعودهم إلى الطريق الممهَّد: «ما خطْب هذا السائق؟» وتابعَت: «يبدو سعيدًا جدًّا للحد الذي يجعلني أصدِّق أن والدتَه شُنقت هذا الصباح.»

أوضح لها مونتي قائلًا: «إنه مستاءٌ من عمله لدى الرجل العجوز». وأضاف: «لدى أوبيرزون سائقان. كلاهما يقوم بجولاتٍ تفقدية صباحية. وكان من المفترض أن يعود زميله الآخرُ لتولي وردية الثالثة عصرًا، ولكنه لم يأتِ. إنه السائق الأفضل بين الاثنين.»

من الواضح أن السائق كان يتعمَّد المرور فوق كل حفرة، وفي الدقائق الخمس التالية كانت تتشبَّث بأربطة الذراع وبمونتي. شعرا الاثنان بارتياحٍ عندما سلكت السيارةُ أخيرًا طريقًا مرصوفة وبدأت السيرَ في هدوء باتجاه الأضواء. ثم تلامسَت أيديهما، وللحظةٍ تفتحت هذه الزهرة الجميلة، التي نمَتْ في مثل هذه التربة البغيضة، بإشراقة الحب الذي تعرفه كلُّ امرأة، سواءٌ أكانت مكانتها رفيعةً أم دنيئة، سواءٌ أكانت صالحة أم طالحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤