الفصل الثالث والثلاثون

تحت الحصار

كان ميدوز قد تلقَّى بالفعل تحذيرًا للابتعاد عن صندوق الخطابات، ووصلت الرصاصات في النهاية إلى أحد جسور السكك الحديدية، مما تسبَّب في ارتباك أحد عمَّال تصليح قُضبان السكك الحديدية ممن تصادف وجودُه قرب مرمى النيران.

تراجع ميدوز أسفلَ السُّلم للاحتماء. وداخل السياج السلكيِّ كان هناك العشراتُ من رجال الشرطة ينتظرون. وقال: «أيها الرقيب، عُد إلى القسم في عربة الشرطة لإحضار الإمدادات». وتابع: «يبدو أنها ستكون مهمة طويلة.»

استطلع جونزاليس الأرضَ بعناية شديدة، وأدرك منذ البداية الصعوبات التي ستُواجه الطرَف المهاجم. فالجدار مرتفعٌ ولا توجد به أي فجوات؛ وأغلقت النوافذ القريبة من الأرض بإحكام؛ وحتى النوافذ الأعلى، كما توقَّع، كانت مغلَقة. ولكن المشكلة الكُبرى التي شغلَته، كانت تكمن في تحديد موقع الغرفة التي احتُجزت بها الفتاة، وبمراجعة خريطة تخيُّلية للمنزل في ذهنه، قرَّر أنها إما أن تكون في غرفة الخدَم وإما في تلك الغرفة التي أقام بها جيرتر. وعلى ضوء الكشاف استطاع رسم مخطَّطٍ سريع للطوابق التي دخلها.

انصرف ميدوز لمهاتفة مقرِّ الشرطة. وقرَّر إعادة الاتصالات الهاتفية مع الدكتور، وعندما انتهى من ذلك، اتصل بالمنزل وجاءه صوت أوبيرزون مجيبًا.

كان الحديثُ قصيرًا ولا طائلَ منه. فالشروط التي عرَضها الدكتور لم تكن لتَلْقى قَبولًا لدى أيِّ حكومة جديرة بالاحترام. فقد طالبَ بالحَصانة له ولرفاقه (وأصرَّ بشدةٍ على الشرط الأخير، مما دفع ميدوز للاعتقاد بأن أفراد العصابة كانوا ملتفِّين حول الهاتف).

قال ميدوز: «لا يَعنيني أمرُ رجالك على الإطلاق. وإن كان الأمر يرجع لي أنا، فيمكنهم أن ينصرفوا دون توجيه أيِّ تهمٍ لهم». وتابع: «فلتطلب من أحدهم أن يتحدث إليَّ عبر الهاتف.»

أجابه أوبيرزون قائلًا: «لا، بالطبع، لا». وأضاف: «من السخيف أن تطلب مني هذا الطلب.»

أغلق الهاتف عند هذا الحد، وشرح إلى الرجال المنصِتين أن الشرطة عرَضَت عليه إطلاق سراحه إذا سلَّم أفراد العصابة.

وقال ختامًا: «كما أخبرتُكم من قبل، هذا ليس أسلوبَ الدكتور أوبيرزون. فأنا لن أقبل أن أجنيَ المكاسب على حساب أصدقائي.»

وبعدها بقليل، حينما تسلَّل كوتشيني إلى الغرفة للاتصال بمقرِّ الشرطة للتأكُّد من الرواية التي قصَّها الدكتور، وجد أن السلك لم يُقطع فحسب، بل نُزع منه جزء يصل طوله إلى ياردة كاملة. لم يكن الدكتور أوبيرزون ليُخاطر بشيء.

انقضت الليلة دون حوادث أخرى. وتوافدت قوات الشرطة الاحتياطية على الحي؛ وأصبح الفِناء حول المنزل معزولًا، وحُظرت حركة الصنادل بالقناة في الاتجاهَين. وتضمنَت الإصدارات الأخيرة من الصحف الصباحية عنوانًا بالخط العريض بشأن حصار منزلٍ بمنطقة نيو كروس، وحينما وصل أول المراسلين، كانت مجموعةٌ من المشاهدين قد تجمعَت بالفعل عند كل حاجز شرطة. ولاحقًا، أطلقَت صحفُ فليت ستريت، إصداراتٍ خاصةً أكثرَ تفصيلًا؛ وزادت الحشودُ الوافدة، وعندما وصل مسئولٌ كبير في سكوتلاند يارد، بعد التاسعة بقليل، أمر بإخلاء منطقةٍ أكبر، وببعض العناء دُفعت الأوتاد البشرية الراسخة شيئًا فشيئًا إلى الخلف حتى نهاية طريق هانجمان، حتى لم يَعُد بإمكانهم رؤية المنزل. حتى هنا، تُرك ممرٌّ لسيارات الشرطة، ولم يُسمح بالدخول إلى المنطقة المحظورة إلا لحاملي التصاريح.

اتخذ الرجال الثلاثة، وبرفقتهم مدير الشرطة، من المصنع مقرًّا لهم، بعد أن أخرَجوا منه جثة جيرتر في المساء. أما النائب المفوَّض الذي أتى على الفور في الساعة التاسعة، وفحص الأفاعي النافقة، فكان أحدَ المتخصصين في علم الزواحف، وأعلن أنها أفاعي الدساس، وهو الرأي الذي خالفَه بويكارت.

فقال: «إنها نوعٌ من الأفاعي يعيش على الأشجار الأفريقية، ويُسمِّيها السكان الأصليون مامبا. ولها نوعان؛ الأسود والأخضر. وهاتان الأفعيان من النوع الأسود.»

صاح المفوَّض قائلًا: «أتقصد أفعى المامبا الخاصة بحديقة الحيوان؟» متذكرًا الاختفاءَ المثير للجدل الذي أحدثته الأفعى المميتة، الذي سبق أولَ لغز من ألغاز الأفعى.

قال بويكارت: «من المحتمل أن تعثر على عظام مامبا حديقة الحيوان في بعض جُحور وسراديب حيوان الخلد المحيطة بحديقة ريجنت بارك، لا بد أنها تجمدَت ليلة هروبها». وتابع: «من المستحيل أن تحيا في درجة حرارة مماثلة. لقد أجريت تفتيشًا دقيقًا للغاية للمنطقة، والمناطق المجاورة لحدائق الحيوان، ووجدت مساحةً شاسعة تعجُّ بسراديب حيوان الخلد. لا، هذه الأفاعي واردةٌ من الخارج، والبقية التي لا تزال في حوزته داخل غرفته الخاصة بالزواحف واردة أيضًا من الخارج.»

هزَّ مدير الشرطة رأسه.

وقال: «حتى الآن، أنا لستُ مقتنعًا بأنَّ أفعى يمكن أن تُصبح هي المسئولةَ عن كل هذه الوفَيَات»، وأخذ يجول فوق الأرض المغطَّاة بكثافة.

أنصتَ الثلاثة في صمتٍ مهذب، ولم يقدِّموا أيَّ اقتراحات.

وفي الصباح جاءهم نبأ وصول واشنطن إلى لشبونة. كان قد غادر القطار في إرون، بعد أن وفَّر له أحدُ وكلاء مانفريد رحلات طيران، وانقضت الرحلة من إرون إلى لشبونة في غضون بضع ساعات. وهو الآن في طريق العودة.

قال ليون لمانفريد: «إذا أجرى اتصالاتِه فسيعود إلى هنا الليلة، أعتقد أنه سيكون عضوًا مفيدًا جدًّا في فريقنا.»

«هل تُفكر في الأفاعي الموجودة في المنزل؟»

أومأ ليون برأسه بالإيجاب.

وقال باقتضاب: «أنا أعرف أوبيرزون»، وفكَّر جورج مانفريد في الفتاة، وعرَف أن المخاوف التي أسرَّها صديقه في نفسه، كانت مبرَّرة.

لم يقضِ أوبيرزون ورفاقُه هذه الليلة دون عمل. فمع بزوغ أول ضوء للفجر، صعدوا إلى سطح المبنى، ووفقًا لتوجيهاته، فكَّك المسلَّحون السقائفَ الأربعة التي تُغطي كل ركن من أركان سور السطح. ونظرًا إلى أنهم غيرُ معتادين على التعامل مع مثلِ هذه المعدَّات المعدِنية الثقيلة، فقد حدَّق الرجال الذين تبقَّوا من عصابة الحرس القديم برهبةً في السترات الباهتة الخاصة برشاشات ماكسيم الآلية التي انكشفَت أمامهم.

كان أوبيرزون خبيرًا بآليَّة عمل هذه الأسلحة حتى إنه أنهى تعليم طاقمه طريقةَ التصويب والتعامل معها في غضون نصف ساعة فقط. تحت السقيفة الكُبرى كان هناك حاملٌ ثلاثي القوائم قابلٌ للطي، بعد تجميعه وضع فوقه كشَّافًا صغيرًا ولكنه قوي، وأوصله بأحد المقابس الكهربائية الموجودة في السطح.

وأوضح لهم الطرق الثلاثة المؤدية إلى المنزل؛ أسوار السكك الحديدية المكشوفة، والطريق الطويل الذي بدأت تتجمَّع الحشود عند نهايته في تلك اللحظة.

وقال: «لا يُمكن لقدمٍ أن تَطأ أرضَ منزلي إلا عبر هذه الأماكن. وهي أماكنُ يُغطيها رجالي الرماة المهرة!»

وقبل الحادية عشرة بالضبط، ظهر في طريق هانجمان جرَّار آلي، يجرُّ جذعَ شجرة طويلًا معلقًا من المنتصف بالسلاسل، وأدرك أوبيرزون وهو يفحصه بعناية عبر نظارته الميدانية، أنه لا يوجد باب في العالم يُمكنه الصمود أمام هجوم هذا المقلاع. فحمل واحدةً من عشرات البنادق الملقاة على الأرض، وفحصها بعناية، ووضع مِرفقه فوق السور وأطلق النار.

رأى خوذةً تقع بعد أن أصابتها طلقةُ البندقية من فوق رأس شرطيٍّ أصابه الذهول أيضًا، فأطلق النار مرةً أخرى. ولكنه كان أكثرَ نجاحًا هذه المرة؛ لأن الشرطي الذي كان يُوجِّه قائد الجرار نحو الطريق اندفع خارجَه وطُرح أرضًا.

علَت صافرةٌ مدوية؛ وركض رجال الشرطة للاحتماء، تاركين الجرارَ دون حراسة. وأطلق النارَ مرة أخرى، ولكنه أطلقَها هذه المرةَ على سائق الجرار. فرأى الرجل يزحف تاركًا مقعده، وهو يفرُّ للاحتماء بالسياج.

مرَّت ربع ساعة دون أن يُظهر أعداؤه إشارةً لوجود أي تحرُّك، وبعدها ظهر ثمانيةُ رجال، مسلَّحين بالبنادق، يركضون عبر الفِناء باتجاه الحاجز السلكي. حينئذٍ ألقى أوبيرزون بندقيتَه، والتقط أول رشاش آليٍّ بيده، وصوَّب سريعًا نحوَهم. وترددت الأصداء المتقطعة لرشاش ماكسيم الآلي. وسقط رجلٌ؛ وتقهقر صفُّ الرجال المتقدمين. وانطلقت مرةً أخرى صافرةٌ مدوية، وتفرقوا للاحتماء، وسحبوا رفيقهم الجريح معهم.

قال ليون وهو يعَضُّ أصابعه؛ مما يؤكد قلقَه: «هذا ما كنتُ أخشاه.»

كان قد وضع سلَّمًا مقابل جدار المصنع، وصعد آنذاك إلى السقف المقلقل وثبَّت منظاره.

صاح قائلًا: «هناك رشاش ماكسيم آخَر في هذه الجهة.» وعندئذٍ، وبمجرد أن رأى رأس رجُل يتحرك فوق السور، استلَّ مسدسه وأطلق النار. وتابع الشظايا الحجرية وهي تتقاذف، وأدرك أنها ليست بتسديدةٍ سيِّئة بالنظر إلى أنها من على بُعد أربعِمائة ياردة. وكان لهذه الطلقة تأثيرٌ مزدوج؛ لأنها تسبَّبت في حذر المدافعين، وأثارت في نفوسهم الاستياءَ المطلوب.

استطاع أن يجثوَ على الأرض في آخر لحظة قبل وصول دفعة من طلقات الرشاش الآلي، وهي تُدوي وتطنُّ وترتطم بالسطح مُحدِثةً صوتَ قعقعة؛ وتطايرت إحدى بلاطات السقف وتناثرت شظاياها عاليًا في الهواء وسقطت بجانب يده.

كان وجود الفتاة هو المعضِلةَ الوحيدة. فلولا وجودُها، لكانت نهاية أوبيرزون ورفاقه حتميَّة. كان الدكتور هو الأكثرَ إدراكًا لهذه الحقيقة، وتناول شطيرةً كبيرة من لحم الخنزير وهو يحتمي بالسور، في رفاهيةٍ استثنائية؛ لأنه قليلًا ما يتناول أطعمةً صُلبة.

وقال: «سيكون ذلك صادمًا للغاية لأصدقائنا في كورزون ستريت. إنهم الآن يعَضُّون أصابعهم غيظًا.» (كاد يكون محقًّا).

تلصَّص من فوق السور، فلم يرَ أيَّ شرطي في الأرجاء. حتى القطارات التي كانت تمر في مواعيدَ منتظمة فوق الجسر توقفَت، وتحوَّلت حركةُ القطارات إلى مسارٍ آخر.

وعند الثانية عشرة والنصف، نظر عبر ثقب، ورأى صفًّا طويلًا من الرجال ذَوي الزيِّ الأصفر يجتازون طريق هانجمان، ويسيرون بمحاذاة السياج للاحتماء.

قال: «جنود»، وارتعش صوتُه لحظةً.

كانوا جنودًا بالفعل. وبدَءوا يتوافدون على فِناء المنزل، واحدًا تِلو الآخر، ولجأ كلُّ جندي إلى مكانٍ للاحتماء. وفي الوقت ذاتِه، أتاهم وميضٌ وصوتُ فرقعة من أقرب جسر. اصطدمت رصاصةٌ بالسور وكان صوت ارتدادها أشبهَ بطنين نحلة.

وظهر خطرٌ آخَرُ في الوقت ذاته، عربةٌ ضخمة، ثقيلة، محمَّلة بالمعدات، ظلَّت في منتصف الطريق ووجَّهَت فوهتها المخيفة نحو الهدف. كانت دبابة، وعلم أوبيرزون أن سلامة الفتاة فقط، هي ما يحول بينه وبين حبل المشنقة الذي ينتظره.

نزل ليراها، وفتح الباب، واندهش، عندما وجدها مستغرقة في النوم. استيقظت إثرَ سماعها صوتَ المفتاح داخل القفل، وقبِلت الخبز واللحم والماء الذي أحضره إليها دون أن تقول شيئًا.

«كم الساعة؟»

نظر إليها أوبيرزون محدقًا.

وقال: «هل تسألين عن الساعة في وقتٍ كهذا؟!»

كانت الغرفة معتمة، ولكنه أضاء الأنوار.

«إنها الظهيرة، وقد أحضر رفاقُنا جنودًا. يا إلهي! يا لكِ من امرأة مهمة حتى يأتيَ جيش كامل لنجدتك!»

لم تبالِ ميرابيل بسخريته.

«ماذا سيحدث … الآن؟»

ردَّ: «لا أعرف.» وهز كتفَيه. وتابع: «لقد أحضَروا آلةً شيطانية إلى الفِناء. لعلهم سيستخدمونها لتُوفِّر لهم درعًا للحماية، حتى يتمكَّنوا من نسف الباب. وفي تلك اللحظة سأضعُك في غرفة الأفاعي. وهذا ما سأخبر به أصدقاءنا في الحال.»

حدَّقت به في ذعر.

«أنت لن تفعل شيئًا بهذا القدْر من الشر، يا سيد أوبيرزون!»

قطَّب جبينه.

وقال: «هذا ما أنا بصدد إخبارهم به، وهو ما سأفعله»، وتركها حبيسةَ تلك الفكرة المزعجة التي أكَّدها.

ذهب إلى مكتبه وأغلق الباب، وأخرج وصلتَين من الأسلاك من جيبه، وأصلح وصلات الهاتف المقطوعة.

قال للرجل الذي أجابه — وكان شرطيًّا تولَّى مهمةَ تلقِّي أي اتصال من جهته: «أود التحدث إلى ميدوز.»

وجاءه الرد: «سأوصلك به.»

اندهش الدكتور لحظةً لأن ميدوز لم يكن هو المجيبَ. لم يكن يعلم آنذاك بأنهم أحضروا خطَّ هاتفٍ ميداني، وأن المصنع الذي اتخذوه مقرًّا للقيادة كان على اتصال بالعالم الخارجي.

لم يكن ميدوز هو المجيب، بل رجلٌ آخَر، وبنبرته الآمِرة، خمَّن أوبيرزون على الفور أنه ضابطٌ أعلى رتبةً من ميدوز.

صاح قائلًا: «أنا الدكتور أوبيرزون». وأضاف: «لقد أحضرتم دبابةً لمهاجمتي. إذا تجاوزَت تلك الدبابةُ حدود السياج السلكي، فسوف أضع الفتاة ليستر في غرفة الأفاعي، وسوف أُقيِّدها وأُطلق عليها رفاقي الصغار لينتقموا لي.»

بدأ الضابط بالحديث قائلًا: «اسمع …» ولكن أوبيرزون أغلق سماعة الهاتف.

خرَج وأغلق الباب، ووضع المفتاح في جيبه. كان الشكُّ الوحيد الذي راوده يخصُّ ولاء رفاقه. ولكن الغريب هنا أنه أخطأ في تقييم مقدار ثقتهم به بالسلب. لأن هوادة الهجوم الموجَّه ضدهم، وإحجام الجنود الواضح عن إطلاق النار عليهم، كان سببًا في رفع سقف آمالهم وتحسُّن معنوياتهم؛ وبعد ربع ساعة، وهم يُشاهدون الدبابة تستدير وتخرج إلى طريق هانجمان، كادوا يتهلَّلون ابتهاجًا.

سأل مدير الشرطة: «هل أنت واثق أنه سيُنفذ تهديده؟»

أجابه ليون بشكلٍ قاطع: «بالتأكيد». وتابع: «لا يوجد شيء على وجه الأرض سيوقف أوبيرزون. ستقتحم المنزل لتعثرَ على رجلٍ قد مات بيديه، و…» ارتجف للفكرة التي راودته. وقال: «الشيء الوحيد الذي يجب فعله هو الانتظارُ حتى المساء. إذا حضر واشنطن في موعده، أظن أننا سنتمكَّن من إنقاذ الآنسة ليستر.»

رأى الدكتور أوبيرزون من أعلى السطح، أنَّ الجنود كانوا يحفرون صفًّا من الخنادق، ووجَّه طلقاتٍ ناريةً من المدفع الرشاش باتجاههم. فتوقفوا عن عملهم لحظةً لينظروا حولهم، ثم واصلوا حفْرَهم كأن شيئًا لم يكن.

لم تكن هناك إمداداتٌ من الذخيرة؛ لذا أحجم عن إطلاق المزيد من الرصاص لحين اشتداد الهجوم. وأطلَّ من فوق السور ليفحص الأرض أسفله مباشرة، ووجد شيئًا ملتهبًا وقويًّا اخترق أذنه. ورأى أحجارَ المدخنة خلفه تتفتَّت وتتهاوى، ورفع يده ليتحسس الدماء.

قال له كوتشيني المحتمي خلف السور: «من الأفضل أن تظل بالأسفل يا أوبيرزون». وتابع: «كانوا على وشك النَّيل منك في تلك اللحظة. إنهم يُطلقون النار من فوق جسر السكك الحديدية هذا. هل تحدثتَ إلى رئيسهم؟»

أجابه أوبيرزون على الفور: «إنهم يزدادون ضعفًا». وأضاف: «يسألونني دائمًا عمَّا إذا كنت سأسلِّم الرجال أم لا؛ ويأتيهم جوابي دائمًا: «أنا لن أفعل شيئًا شائنًا كهذا أبدًا»».

غمغمَ كوتشيني، وكان يحتفظ برأيه فيما يخصُّ روح الإيثار التي يُظهرها الدكتور.

في نهاية وقتِ ما بعد الظهر، ظهر سِرب من الطائرات غربًا؛ كانت خمس طائرات تُحلق في تشكيلٍ يُشبه علامة النصر. لم يدرك أيٌّ من الرجال الموجودين على السطح مقدار الخطر الذي يُداهمهم، إنما جعلهم التوجه الذي يتخذونه والمعنويات التي يتَّسمون بها، أشبهَ بالمشاهدين. حلَّقت الطائرات على ارتفاعٍ خفيض؛ وبالعين المجردة استطاع كوتشيني قراءة أرقامها وهي تُحلق فوق المنزل، على مسافةٍ أبعدَ من مائة ياردة بكثير. فجأةً بدأ السقف ينفث نوافيرَ صغيرةً من الأسفلت. صرخ أوبيرزون محذرًا، واندفع نحو السُّلم، وتبعه ثلاثة رجال إلى الخارج. سقط كوتشيني مستلقيًا، باسطًا ذِراعَيه ورجليه، بعد أن اخترقت رأسَه رصاصتان من مدفع رشاش.

ارتفعت الطائرات المقاتلةُ في السماء، واستدارت وعادت. أنصت أوبيرزون الواقف في الطابق السفلي، إلى هدير المحرِّكات في أثناء مرورها، وتخلَّى عن حذره وصعد إلى السطح، ليكتشفَ أن بنادق الطائرات لا تزال تُطلق الرصاصات من ذيل الطائرة. كان أقربَ ما يكون إلى الموت من أي وقتٍ مضى. أصابت رصاصةٌ طرَفَ إصبعه وقطعَته في الحال. وكاد يسقط أرضًا وهو يصرخ، وترنَّح حتى وصل إلى برِّ الأمان، وهو يتلفَّظ بأغلظِ الأيمان باللغة الألمانية غير المفهومة.

لم تَعُد الطائرات. انتظر حتى اختفى ضجيجُها قبل أن يُغامر مرةً أخرى بالصعود إلى السطح ليجدَ السماء خالية. لقي كوتشيني مصرعَه، وكان من عادة أصدقائه الثلاثة إجراءُ تفتيشٍ شاملٍ لجيوبه قبل أن يرفعوا الجسد ويُلقوه من فوق السور.

ترك أوبيرزون الرجال الثلاثة على السطح، بعد أن أعطاهم تعليماتٍ صارمةً بالانحناء للاحتماء بمجرد أن يَلمحوا جَناح طائرة، ونزل للأسفل إلى مكتبه. كان مصرعُ كوتشيني نافعًا من بعض النواحي. نظرًا إلى أنه كان رجلًا تملؤه الشكوك؛ ولم ينخرط في القتال بكل جوارحه، وبدا الامر وكأن الجنديَّ المُكلَّف بإطلاق المدفع من الطائرة كان يقرأ أفكار أوبيرزون.

كان كوتشيني لاتينيًّا، يُجيد تحدُّث الإنجليزية ولا يُجيد الكتابة بها، وكان خطُّ يده مميزًا، واستمتع أوبيرزون بتقليده؛ لأن الدكتور كان بارعًا في الكتابة. استمرَّ بالكتابة طوال الساعات الثلاث التالية، وكان يقطع عمله على مراحل لزيارة الحراس الموجودين على السطح. وفي نهاية المطاف، أتمَّ عمله، ووضع توقيع كوتشيني المتعرِّج أسفلَ الصفحة الثالثة. ثم استدعى أوبيرزون أحد الرجال.

«لقد ترك كوتشيني هذا الإقرار. هلا تُوقِّع إقرارًا بصحة توقيعه؟»

سأل الرجل بفظاظة: «ما هذا؟»

«إنها رسالة تركها كوتشيني الكريم … يا لكرمه! إنه يعترفُ في هذه الرسالة أنه المسئول الوحيد عن إحضاركم إلى هنا، ولا أحد سِواه. وأنه أبقاكم هنا بالتهديدات.»

سأله الرجل: «وأنت؟»

أجابه أوبيرزون بلا خجل: «وأنا أيضًا». وتابع: «ما الفارق؟ فقد مات كوتشيني. ألَا يسَعُه إنقاذنا وهو في مثواه الأخير؟ هيا، هيا يا صديقي العزيز، ستُصبح أحمقَ إن لم توقِّع. وبعدها أرسِل صديقَينا ليُوقِّعا كذلك.»

وضع توقيعه مترددًا، وأتى الرجلان الآخَران واحدًا تِلو الآخر، ووضع الجميع توقيعاتهم تِباعًا، واكتفَوا باللجوء إلى الحيلة التي أشار إليها الدكتور، وتملَّصوا من أي مسئولية تخصُّ المشاركة في هذا الدفاع.

حلَّ الظلام وأعتمَ الليل، وتدافعَت السُّحبُ من الغرب وتساقطت الأمطار الباردة. وجلس جونزاليس، حزينًا بمعزلٍ عن رفاقه، يُراقب الجزء الأكبر من المنزل المظلم وهو يتلاشى في سماء المشهد، وهو ما زاد بؤسَه. ما فعله هؤلاء الرجال بعد ذلك … لا يهم. قُتل أحد رجال الشرطة، وهم مُدانون بالقدر ذاتِه في نظر القانون لاشتراكهم في جريمة القتل. يمكنهم الآن الشعورُ برعبٍ مضاعف؛ لأن الأسوأَ قد حدث. كان أملُه الوحيد ألَّا يُدركوا حتميةَ عقابهم المنتظر.

لم تصدر أيُّ أوامر بشنِّ هجوم. اتخذ الجنود وضعيةَ الاستعداد، وحتى الهجوم الذي شنَّته الطائرات كان نتيجةَ سوء فَهمٍ للأوامر. لقد شهد سقوط جثة كوتشيني، وفور حلول الليل، قرَّر الاقتراب من المنزل لاكتشافِ ما إذا كان هناك طريقٌ آخر بخلاف مدخل الباب الأمامي.

أنجزت الطائراتُ مهمةً أخرى بخلاف تمشيط السطح بوابل من طلقات البنادق. ففي وقتٍ متأخر من الليل، وصل مبعوث خاص بصورٍ تلسكوبية للمبنى، فحصَها القائد العسكري ومدير الشرطة بعناية.

كان ليون يُراقب المنزل عندما رأى شعاعًا أبيضَ من الضوء ينطلق ويُمشط الفِناء في حركة دائرية. توقَّع ذلك؛ كان الغرض من الوصلات الموجودة في الجدار واضحًا. وعلم، أيضًا، إلى متى ستدوم تلك التجرِبة. بعد ربع ساعة من بدء الكشَّاف الكهربائي عملية تمشيط الأرض، انطفأ المصباح، حيث فصلَت الشرطة التيار الكهربائي. ولكن لم يَدُم ذلك طويلًا، وعاد الضوء مرةً أخرى في غضونِ أقلَّ من ساعة.

أوضح جونزاليس قائلًا: «إنه يمتلك مصدرًا للطاقة في المنزل — مولِّدًا كهربائيًّا، ومحرِّكًا يعمل بالبنزين.»

كان بويكارت قد ذهب إلى المدينة وعاد بأسطوانة فولاذية طويلة وثقيلة، حملها ليون ومانفريد معًا في العَراء وترَكوها. وتعرَّضوا للقنص العنيف من أعلى السطح، وعلى الرغم من أن إطلاق النار كان عنيفًا إلى حدٍّ ما، منع الضابطُ المسئول عن العمليات أيَّ تحرك آخر في وضح النهار.

وعند منتصف الليل أتى واشنطن المبارك. كانوا ينتظرونه بلهفة؛ لأنه، من بين الجميع، كان يعرف شيئًا يجهلونه. بإيجاز، وصَف له ليون غرفةَ الأفاعي ومحتوياتها. لم يكن متأكدًا تمامًا من بعض الأنواع، لكنَّ وصفه كان قريبًا بما يكفي ليمنحَ خبيرَ الأفاعي فكرةً عن الأنواع.

قال واشنطن، وهو يهز رأسه: «أجل يا سيدي، جميعها أنواعٌ مميتة». وتابع: «أعتقد أن جميع الأنواع الموجودة، باستثناء العقارب، يمكنها أن تقتلَ رجلًا بالغًا في غضون خمسِ دقائق … أو عشر دقائق على الأكثر.»

عرَضوا عليه رُفات الأفعى الهالكة، وتعرَّف على هذا النوع على الفور، كما فعل خبير علم الحيوان عصرًا.

«إنها أفعى المامبا. وهي الأكثر فتكًا على الإطلاق. ألم ترَ غيرها برأسٍ طويل مِنجَليٍّ؟ هل رأيتَها؟ هذه إذن أفعى الدساس، وهي خطيرةٌ بالقدر ذاتِه. أما الرِّفاق الصغار ذات اللون الأحمر، فإنها أفاعٍ مَرجانية …»

أمطره ليون بأسئلته المتتالية.

«لا، يا سيدي، إنها لا تقفز، هذا ليس أسلوبَها. تتشبَّث أفاعي الأشجار بشيءٍ فوق رأسك ثم تنالُ منك بينما تمر، إنها تتمايلُ فوق الأرض، ولكن يجب أن يلمس رأسُها الأرضَ أولًا. كانت الأفعى الصغيرة المسكينة التي قتلَت جيرتر خائفةً، إنها تبدأ بالانقضاضِ عليك حينما تكون خائفة … أعرف رجلًا تعرَّض للدغةٍ في عنقه من أفعى انقضَّت عليه من فوق الأرض. ولكنها تكتفي عادةً بالنَّيل من ساقك.»

أطلعه ليون على خُطته.

أخبره واشنطن دون تردُّد: «سأرافقك.»

لكن لم يقبل بهذا العرض أيٌّ من الرجال الثلاثة. كان ليون بحاجةٍ فقط إلى رأي الخبير. فهناك عشرات العلماء في لندن، من بينهم أمناءُ المتاحف ومربُّو الأفاعي، كان بإمكانهم إخبارُه بأي معلومة تخصُّ سلوك الزواحف في الأسر. ولكنه أراد شخصًا التقى بالأفعى في بيئتها الأصلية.

وقبل ساعةٍ من بزوغ النهار، عُقد مجلس للحرب، وعرَض ليون مخطَّطه أمام السلطات، وأُقِرَّت الخُطة. ولم ينتظر لحينِ صدور الأوامر اللازمة، بل ذهب بصحبة بويكارت ومانفريد إلى حيث ترَكوا الأسطوانة، ورفَعوها، وتوجَّهوا ببطء نحو المنزل. بالإضافة إلى ذلك، حمل ليون سُلَّمًا خفيفًا وحقيبةً مليئة بالأدوات.

كانت أضواء الكشَّاف تتحرك من حينٍ لآخر، ولم تتَّجه نحوهم مدةً طويلة. وفجأةً وجدوا أنفسهم وسطَ دائرة من الضوء الساطع، وانبَطَحوا أرضًا ولامسَت وجوهُهم الأرض. قذفهم الرشاشُ الآليُّ بعنف، اهتزَّت الأرض تحت وابل الرصاص، ولكن لم يُصِب أيًّا منهم؛ والأهم من ذلك أن الأسطوانة لم تُمسَّ.

ثم فجأةً، بدأ إطلاق النيران من كل جزء في الفِناء. استهدفت النيران الكشافَ الكهربائي، ولم يستمرَّ إطلاق النار أكثرَ من دقيقة حتى انطفأ الضوء، وكان من الواضح أن رصاصةً واحدة على الأقل قد أصابت هدفها.

قال مانفريد: «الآن»، فحملوا الأسطوانة وهم يركضون. لمس بويكارت السياجَ بيده، وارتدَّ للخلف على الفور. حيث يتصل السلكُ العلويُّ من السياج بالتيار الكهربي، ولكن من الواضح أن المولِّد الكهربائي الذي لدى الدكتور لم يكن بإمكانه توليدُ تيار كهربائي قوي إلى الحد المميت. فأخرج ليون قاطعَ أسلاكٍ عازلًا للكهرباء وقطعَه بطول ستَّة أقدام، وأجرى عملية تأريض للأجزاء المقطوعة من السلك. صاروا الآن في حماية ظلِّ جدار المنزل، وبمنأًى عن خطر تدافع الطلقات.

أسنَد ليون سُلَّمه على النافذة التي توقَّفوا تحتها، وفي غضون ثانية واحدة حطَّم الزجاج، وأدار المقبض ورفع إطار النافذة. وأخرج من حقيبته مِثقابًا ماسيًّا وبدأ في ثَقْب الصفيحة الفولاذية السميكة. كان عملًا شاقًّا للغاية، وبعد عشر دقائق من العمل، أوكل المهمةَ إلى مانفريد الذي صعد مكانه.

أيًّا كان الضررُ الذي لحِق بالكشاف الكهربائي، فقد صار سليمًا الآن، وتوجهَت أشعتُه نحو الموضع الذي رصَدَهم فيه آخرَ مرة. ولكن هذه المرة لم يستقبله وابلٌ من الرصاص، واندهش أوبيرزون وأصابه القلقُ من هذا التقاعس.

بزَغ ضوء النهار في عَنان السماء، وباتت الرؤية واضحةً، وعندما رأى الدبابة تتنحَّى عن الطريق وتُغادر مكانها الذي ظلَّت واقفةً فيه طوال اليوم السابق، وتتَّجه نحو الساحة، وتتحرك ببطء باتجاه المنزل. برزَت أسنانه بابتسامةٍ عريضة، وهبط السُّلم، واندفع نحو باب غرفة الفتاة، كان هائجًا حتى إنه لم يتمكن من تمييز ثقب المفتاح في القُفلَين اللذين ثبَّتهما لتأمين الباب.

فتحَه بدفعةٍ حطَّمته، وكاد يسقط داخلَ الغرفة بهذا الاندفاع. كانت ميرابيل ليستر واقفةً بجوار الفراش، بوجهٍ شاحب كالموتى. إلا أن صوتها أتى ثابتًا، غيرَ مُبالٍ، حين سألته:

«ماذا تريد؟»

قال بصوتٍ كالفحيح: «أنتِ!» وتابع: «أنتِ، يا سيدتي الشابة الجميلة … أودُّ تقديمك للأفاعي!»

انقضَّ عليها، ولكنها لم تُظهر أيَّ مقاومة، ودفعها إلى الفِراش وأطبق زوجَين من الأصفاد الصدئة حول مِعصمَيها. وجذبها حتى تقف على قدمَيها، وسحبها إلى خارج الغرفة ونزلا السُّلم. واجه صعوبةً في فتح باب حجرة الأفاعي؛ فقد وجده عالقًا. ولكنه تمكَّن أخيرًا من دفع الباب وفتحه، توقَّفت الدفايات عن العمل؛ لأنه لم يتمكن من توفير الكهرباء لتشغيلها. لكن الغرفة كانت شديدةَ الحرارة، وعندما أشعل الأنوار، ورأت صفَّ الصناديق الطويل، خانتها قدَماها، وكادت تسقط لولا أن أحاط خَصرها بذراعه. وسحب كرسيًّا ثقيلًا إلى منتصف الغرفة، ودفعها لتجلس عليه.

صاح فيها قائلًا: «ستنتظرين هنا يا صديقتي!» وأضاف: «ستنتظرين … ولكنك لن تنتظري طويلًا!»

كانت هناك ثلاثة أربطة طويلة معلَّقة على الحائط، تُستخدم لربط الصناديق عند الضرورة للسفر بها. خلال ثانية واحدة كان هناك رِباطٌ يلتفُّ حولها وثبَّته بإحكام في الجزء الخلفي من الكرسي. ووضع الثانيَ أسفل المقعد وشدَّ الوثاق حول ركبتيها.

«الوداع، يا سيدتي الكريمة!»

أتاه صوتُ قصف الدبابة وهو في تلك الغرفة. ولكن كان أمامه عملٌ ليُنجزه. لم يجد متَّسَعًا من الوقت لفتح الصناديق. ستتحطَّم الواجهات الزجاجية بسهولة. لذا ركض نحو صفِّ الصناديق، وضرب الزجاج بفوهة مسدسه الماوزر. رأت الفتاة، التي كانت تُحدِّق في رعب، رأسًا أخضرَ يُطل من إحدى الفتحات؛ ورأت جسمًا ملتويًا ينزلق فوق الأرض برفق. ثم أطفأ الأنوار، وأغلق الباب، وظلَّت وحدها في الغرفة المرعبة.

لم يكد أوبيرزون يَدْلف إلى الرِّواق حتى انفجرَت القنبلة الأولى عند الباب. وتطايرَت شظايا الخشب أمامه، وهو يستدير ويُسرع بصعود السُّلم، ويتحسس جيبه باحثًا عن الوثيقة الثمينة التي قد تُبرئه.

بوووم!

لم يُغلق باب غرفة الأفاعي؛ وحطَّم ليون مزلاج الباب. فليدخلوا إذا أرادوا. لم يُنسَف الباب الأماميُّ بعد، ووقف يُنصت من بسطة السلَّم بالأعلى، مستندًا إلى الدرابزين. ثم هز المنزلَ انفجارٌ أكبرُ من أي وقت مضى، وبعد وقتٍ من الصمت، سمع شخصًا يركض على طول الرواق ويرتجف أمام باب غرفة الأفاعي.

فات الأوان الآن! ابتسم فرحًا، وصعد آخر مجموعة درجات من السُّلم المؤدي إلى السطح، ليجد رجالَه الثلاثة في حالة تمرُّدٍ، لم يَعُد بإمكانه قمعُه. رأى بريق الحَربة يأتيه عبر فتحة الباب، ودخل شخصٌ يلبس الكاكي إلى السطح، وإصبعه على الزناد.

وصاح عاليًا، باللهجة الكوكنية التي يتحدثها أهلُ الجهة الشرقية في لندن: «ارفعوا أيديَكم، جميعًا!»

ارتفعت أربعةُ أزواج من الأيدي، عاليًا.

تبع مانفريد الجنديَّ الآخر، وأمسك الدكتور من ذراعه.

قال: «أريدك أنت، يا صديقي»، وهبط أوبيرزون السُّلم في استسلام.

كان عليهم اجتيازُ غرفة جيرتر؛ كان الباب مفتوحًا، ودفع مانفريد أسيرَه إلى الداخل، بينما صعد بويكارت وليون السُّلم.

قال ليون بسرعة: «الفتاة بخير. قضى الغازُ على الأفاعي لحظةَ ملامَستِها الأرض، ويتعامل واشنطن مع ما تبقَّى منها حيًّا.»

ثم أغلق الباب بسرعة. كان الدكتور وحيدًا لأول مرة في حياته برفقة الرجال الثلاثة الذين يكرههم ويخشاهم.

قال مانفريد: «أوبيرزون، هذه هي النهاية.»

ارتسمت ابتسامةٌ غريبة على وجه الدكتور الذي تملؤه التجاعيد.

وقال: «لا أظن ذلك، يا أصدقائي». وتابع: «فهذا إقرارٌ من كوتشيني. وأنا لست سوى ضحيةٍ بريئة، كما سترون. اعترف كوتشيني بجميع أفعاله، وتوريطه أصدقاءه. أنا لن أُقاوم … لماذا أفعلُ ذلك؟ أنا رجلٌ أمين، ومحترم، ومواطن في بلد عظيم ولطيف. انظروا!»

أخرج الورقة. فأخذها مانفريد من يده لكنه لم يقرَأْها.

«وأيضًا، مهما يحدث، ستفقد امرأتُك تلَّ الذهب الجميل». وأضاف: «لأن غدًا هو اليوم الأخير …» شعر بالسعادة لهذه الفكرة.

قال مانفريد، وهو يدفعه باتجاه الحائط: «قف مكانك يا أوبيرزون». وتابع: «لقد حُكم عليك. لعل اعترافَك يخدع القانون، ولكنه لن يخدعنا.»

ثم لمح الدكتور شيئًا، وصرخ مذعورًا. كان ليون جونزاليس يُثبت سيجارة في المبسم الأسود الطويل الذي وجده في غرفة جيرتر.

قال ليون: «هكذا تحملها، أليس كذلك؟» وخفض السيجارة للأسفل، وضغط الزنبركَ الصغيرَ المغلف بالأبنوس. «المبسم هو حجرةٌ معزولة تحتوي على شظيتَين مثلجتين صغيرتين … لقد عثرتُ على القالب في مختبَرِك، يا سيدي الدكتور. وهما تسقطان في السيجارة، المصنوعة من المعدن، وبعدها …»

رفعها إلى شفتَيه ونفخ فيها. ولم يلحظ أحدٌ انطلاق الشظيتين المثلجتين. ولكن أوبيرزون وضع يده على خده وأصدر صرخةً مكتومة، وحدَّق بشراسة لثانية، ثم تهاوى مثل كومة من الخردة.

التقى ليون بالمحقِّق ميدوز وهو في طريقه للأعلى.

وقال: «أخشى أن صديقنا قد مات». وتابع: «وأفلتَ من حبل المشنقة.»

سأله ميدوز: «مات؟ هل انتحر؟»

قال ليون دون اكتراث: «تبدو لي كلدغةِ أفعى»، وهو يهبط الدَّرج ليعثر على ميرابيل ليستر، التي تبدَّلت حالتها بين الضحك والبكاء، بينما كان إيليا واشنطن الجادُّ يشرح لها الصفاتِ الأليفةَ الرائعة للأفاعي.

قال، في يأس: «ماتت أفاعٍ بقيمة خمسة آلاف دولار، لكن العدد المتبقِّي يكفي لافتتاح سيرك!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤