الفصل السابع

ضغط أخلاقي

«هناك رجلٌ يريد مقابلتك، سيدي الرئيس.»

كانت الساعة التاسعة والربع. وقبل عشر دقائق خرجت الفتاتان، كان مونتيجو نيوتن قد استقرَّ على تمضية ساعات الانتظار جالسًا قبل أن يُضطرَّ إلى ارتداء ملابسه. وضع أوراق اللعب التي كان يخلطها.

«رجل يريد مقابلتي؟ مَن هو، يا فريد؟»

«لا أعرف؛ لم أرَه من قبل. يبدو لي «مخبرًا».»

مخبر! رفع مونتي حاجبيه، لكن ليس في ذعر. لقد التقى بالكثير من المخبرين على مدار حياته المهنية المتقلبة، ولقد فقد الشعور بالرهبة ناحيتهم قبل وقت طويل.

قال بإيماءةٍ من رأسه: «أدخِله إلى هنا.»

كان الرجل النحيف الذي يرتدي بدلة سهرة والذي دخل بهدوء إلى الغرفة؛ غريبًا بالنسبة إلى مونتي الذي كان يعرف معظم الشخصيات البارزة في عالَم التحريات الجنائية. ورغم ذلك كان وجهه مألوفًا نوعًا ما.

سأله الرجل الغريب: «كابتن نيوتن؟»

«هذا اسمي.» وقف نيوتن مبتسمًا.

التفت الزائر متمهلًا نحو الباب الذي خرج منه الخادم.

سأله بنبرةٍ هادئة، ومدروسة، قائلًا: «هل خدَمُك يسترِقون السمع دومًا عبر ثقب الباب؟» امتقعَ وجه نيوتن. وفي خطوتين واسعتين وصل إلى الباب وفتحه على مِصراعيه، ليُلاحظ في التوقيت المناسب خطوات الخادم المتوارية.

«قف مكانك!» قالها مستدعيًا الرجلَ مرة أخرى، وقد ظهر على وجهه العبوس. وصاح بأعلى صوته قائلًا: «إذا كنت تريد أن تعرف شيئًا، هلا دخلت وسألتني؟ إذا أمسكت بك تسترِقُ السمع مرةً أخرى عند بابي، فسأقتلك!»

ابتعد الرجل وهو يُتمتم باعتذار.

«كيف عرَفت؟» سأله نيوتن مزمجرًا، وهو يعود إلى الغرفة ويُغلق الباب وراءه.

رد الغريب قائلًا: «لديَّ حَدْس نحو التجسس»، ثم استطرد دون توقفٍ قائلًا: «لقد جئت لزيارة الآنسة ميرابيل ليستر.»

أضاق نيوتن عينَيه.

قال بهدوء: «أوه، لديك حَدس، أليس كذلك؟» ثم أضاف: «الآنسة ليستر ليست في المنزل. لقد غادرت قبل ربع ساعةٍ مضت.»

«لم أرَها تخرج من المنزل.»

«كلا، في الواقع، خرجت عبر المَرْأب. أﺧ… إر» كان بصدد أن يقول «أختي» ولكنه ظن من الأفضل ألَّا يفعل، «صديقتي الشابة …»

قال الغريب: «جين سميث المزيفة. أليس كذلك؟»

بهت وجه نيوتن. كان قد وصل سريعًا إلى الحد الذي أوشك عنده أن يفقد قدرته على ضبط النفس، وهي تُمثل جزءًا كبيرًا من ميزاته الأخلاقية.

سأله: «مَن تكون، على أي حال؟»

بلَّل الغريب شفتَيه بطرَف لسانه، وهو سلوك مزعج جدًّا من جانبه، لسببٍ لا يمكن تفسيره.

قال بكل بساطة: «اسمي ليون جونزاليس.»

تراجع الرجل إلى الخلف على نحوٍ غريزي. بالطبع! الآن تذكَّر، بهت لون وجنتَيه، ليُصبح شاحبًا. وبجهد ابتسم مجبرًا.

قال: «أحد رجال العدالة الأربعة المهيبين؟ يا لكم من رجال استثنائيِّين!» ثم أضاف: «أتذكر قبل عشرة — خمسة عشر عامًا مضت، كنت أخشى مجرد ذِكر اسمك — جئت لتنفذ العقاب الذي أخفَق القانون في تنفيذه، أليس كذلك؟»

قال ليون بلطف: «يجب أن تضع ذلك في صندوق ذكرياتك. لستُ في مِزاجٍ يسمح بالحديث عن الذات في هذه اللحظة.»

ولكن لا يمكن إسكات نيوتن.

كان يتحدَّث — بتمهُّل، وبحدةٍ بعض الشيء — قائلًا: «أعرف رجلًا سيتسبَّب لك يومًا ما في قدرٍ كبير من الإزعاج، يا سيد ليون جونزاليس؛ رجلًا لا ينسى اسمك أبدًا في صلواته. لن أخبرك مَن هو.»

«ليس ضروريًّا. أنت تشير إلى الرائع أوبيرزون. ألم أقتل أخاه؟ أجل، أظن أنني محق. كان الرجل ذا الرأس المدبب والفكِّ السفلي البارز للأمام. قضية مثيرة: وددت لو أنني قد حصلت على قياساته، ولكن كنتُ في عجلة شديدة.»

تحدَّث وكأنه يعتذر عن تعجُّله.

«ولكننا ابتعدنا عن الموضوع الأساسي، يا سيد نيوتن. أنت تقول إن السيدة الشابة غادرت منزلك عبر المرأب، وكنت بصدد القول إنها غادرت في رفقة الآنسة … لا أعرف ماذا تسميها. لماذا غادرت بتلك الطريقة؟»

كان ليون جونزاليس يملك شيئًا أكثرَ من الحدس للتجسس: كان يملك حدسًا للصدق، وعرف شيئَين على الفور؛ الأول أن نيوتن لم يكذب حين قال إن الفتاة غادرت المنزل، والثاني أنه يوجد سببٌ وجيه، ولكنه ليس بالضرورة منذرًا بالشر، للمغادرة السرية.

«إلى أين ذهبت؟»

ردَّ الآخر في إيجاز: «إلى المنزل». وتابع: «إلى أين عساها أن تذهب؟»

«لقد جاءت لتناول العشاء؛ بنية المبيت هنا هذه الليلة؟»

قاطعه مونتي نيوتن بنبرة هجومية: «اسمع، يا جونزاليس». وتابع: «لقد كنت أنت وعصابتك أناسًا رائعين قبل عشرين عامًا، ولكن حدث الكثيرُ منذ ذلك الحين — لم نَعُد نرتجف خوفًا من ذِكر اسم رجال العدالة الثلاثة. أنا لستُ طفلًا — أتفهمُ ذلك؟ وأنت عن قربٍ لستَ مخيفًا بدرجة بالغة. إذا أردت أن تشتكيَ إلى الشرطة …»

قال ليون: «ميدوز موجودٌ بالخارج. أقنعتُه أن يسمح لي بمقابلتك أولًا»، فانتفض نيوتن.

وقال في تشكُّك: «بالخارج؟»

قطع خطوتين نحو النافذة وأزاح الستارة جانبًا. على الجهة الأخرى من الشارع، وقف رجل عند حافة الرصيف، متأملًا مجرى التصريف بإمعان. عرَفه على الفور.

قال: «حسنًا، أحضِره.»

«إلى أين ذهبت هذه السيدة الشابة؟ هذا كلُّ ما أريد معرفته.»

«قلت لك، لقد ذهبت إلى المنزل.»

توجَّه ليون إلى الباب وأشار إلى ميدوز؛ تشاورا معًا بأصوات منخفضة، ثم دخل ميدوز إلى الغرفة وحيَّاه صاحب المنزل بإيماءة غير مرحبة.

«ما الفكرة من وراء ذلك، يا ميدوز … من إرسال هذا الرجل ليستجوبني؟»

قال ميدوز في برود: «هذا الرجل جاء من تلقاء نفسه. إذا كنت تقصد السيد جونزاليس؟ ليس لديَّ الحق لأمنع أي شخص من استجوابك. أين السيدة الشابة؟»

«أخبرتك، أنها ذهبت إلى المنزل. إذا كنت لا تُصدقني، فتِّش المنزل — فليفعل أيٌّ منكما.»

لم يكن يُخادعهما؛ كان ليون متأكدًا من ذلك. التفت إلى المحقِّق.

«أنا شخصيًّا لا أريد أن أزعج هذا الرجل أكثر من ذلك.»

كان بصدد مغادرة الغرفة، ثم التفت وقال من فوق كتفه: «تلك الأفعى نشطت مرة أخرى، يا نيوتن.»

«عن أي أفعى تتحدَّث؟»

«لقد قتلت رجلًا الليلة على جسر التايمز. أتمنى ألا تفسد أمسية ليزا ماراثون.»

لاحظ ميدوز، وهو يُراقب الرجل، أن لون وجهه تغيَّر.

وقال بصوتٍ عالٍ: «أنا لا أعرف ماذا تقصد.»

«لقد رتَّبت مع ليزا أن تتعرف على باربرتون الليلة وتستدرجه في الحديث. وها هي ذي الفتاة، المسكينة، تأنَّقت لتقتل، وتُغويَ رجلًا ميتًا — رجلًا مقتولًا وحسب.» التفَت فجأة، وصار صوته أكثرَ خشونة. وأردف قائلًا: «هذه كلمة مناسبة، أليس كذلك، يا نيوتن … قتل عمد؟»

«لم أكن أعرف أي شيء عن الأمر.»

بينما كانت يد نيوتن تقترب من الجرس، قال ليون: «يمكننا الخروج بمفردنا.»

أغلق الباب خلفهما، وبعدها مباشرةً سمع صوت إغلاق الباب الخارجي، واتجه مونتي إلى النافذة بعد فوات الأوان ليشاهد رحيل ضيفيه غير المرحَّب بهما، وصعد إلى غرفته ليغيِّر ملابسه، كان ذهنه مشوشًا بعض الشيء.

ناداه الخادم من الرَّدهة.

«أنا آسفٌ بشأن ذلك الأمر، يا سيدي. ظننت أنه «مخبر».»

«أنت تسرف في الظن، يا فريد …» ألقى نيوتن الكلمات على خادمه مزمجرًا. وأردف قائلًا: «عُد إلى مكانك — ألا وهو قاعة الخدم. سأَقْرَع لك الجرس إذا أردتك.»

استأنف صعوده على السُّلم واستدار الرجل متجهِّمًا.

فتح باب غرفته، وأضاء النور، وأغلق الباب وكان في منتصف الطريق متجهًا إلى تسريحته، حين أطبقت ذراعٌ فولاذية حول رقبته، ترنَّح فجأةً إلى الوراء وسقط على الأرض، نظر لأعلى إلى وجه جونزاليس الغامض.

همس صوتٌ في أذنه قائلًا: «إذا صرختَ فسأقتلك!»

رقد نيوتن في سكون.

تمتمَ قائلًا: «سأنتقم منكَ على ذلك.»

هزَّ الآخر رأسه.

«لا أظن ذلك، إذا كنت تقصد ﺑ «الانتقام» أنك ستشتكي للشرطة. لقد كنت تحت مراقبتي مدةً طويلة، يا مونتي نيوتن، وستندهش حين تعلم أنني قمتُ بعدة زيارات إلى منزلك. هناك خزنة صغيرة في الجدار خلف تلك الستائر» وأشار نحو زاوية الغرفة، ثم استطرد قائلًا: «هل ستُفاجَأ حين تعرف أنني فتحتها وصوَّرت جميع الوثائق التي بداخلها فوتوجرافيًّا؟»

رأى الخوف في عينَي الرجل حين وضع زوجَين من الأصفاد الألومنيوم ذات التصميم الغريب حول رُسغَي مونتي. وبمجهودٍ لا يُذكر رفعه، رغم ثِقَله، وألقى به على الفراش، وأغلق الباب وعاد، ثم جلس على الفراش، وشرع أولًا في ربط كاحِلَيه ثم خلع على مهلٍ حذاء سجينه.

سأله مونتي في انزعاج: «ما الذي ستفعله؟»

قال جونزاليس الذي خلع فردةً واحدة من الحذاء وخلع الجورب الحريري، وأخذ يفحص قدَم الرجل العاريةَ بدقة: «أنوي معرفة إلى أين أُخذت الآنسة ليستر». وتابع: «إن التحقيقات العادية والقانونية الصارمة تستغرق وقتًا وتفشل في النهاية — ولسوء الحظ بالنسبة إليك، ليس لديَّ دقيقةٌ لنُضيعها.»

«قلت لك إنها ذهبت إلى المنزل.»

لم يردَّ ليون عليه. فتح دُرج خِزانة الملابس، وبحث عن شيءٍ بعضَ الوقت، وفي النهاية وجد مبتغاه: وشاحًا حريريًّا رقيقًا. بهذا الوشاح، كمَّم فم الرجل، رغم أنه كان يُقاوم على الفراش.

ثم قال: «في موسامودس، إذا قلت هذه الكلمة أمام صديقي جورج مانفريد، احرص على نطقها نطقًا صحيحًا؛ هو سريع الغضب بخصوص هذه النقطة — بعضٌ من أصدقائك أخذوا رجلًا يُدعى باربرتون، الذي قتلوه فيما بعد، وحاولوا إجباره على الحديث عن طريق حرق قدمَيه. كان بطلًا. سأرى إلى أيِّ مدًى تتمتَّع أنت بالبطولة.»

قال نيوتن بصوتٍ مكتوم: «بالله عليك لا تفعل!»

كان جونزاليس يمسك بعلبة معدنية مسطَّحة أخرجها من جيبه، شاهده المحتجَز، مذهولًا، وهو يفتح الغطاء ويُخرج ولاعة سجائر بالقرب من سطحها الداكن. برز لهب أزرق وتمايل مع تيار الهواء.

قال ليون: «قوات الشرطة هي مؤسسة أكثرُ من ممتازة.» ثم وجد لبِّيسة حذاء فِضية على الطاولة وأخذ يسخِّنها بلهب الولاعة في هدوء، ممسكًا الطرفَ الآخذ في التسخين سريعًا بمنديل حريري. وأردف قائلًا: «ولكن لسوء الحظ، عندما تتعامل مع جرائم العنف، فإن الضغطَ الأخلاقي والمعاملةَ اللطيفة لا يُسفِران عن شيءٍ أشدَّ تأثيرًا في صدور أعدائك من الشعور بالازدراء والسخرية. فالإنجليزي الذي صنع من القانون إلهًا، تخلَّى عن سجن المجرمين وجلْدهم، ولم يتبقَّ سوى عدد قليل من المجرمين. وعندما أتى المسلَّحون الروس إلى لندن، لم تفعل السلطات شيئًا سوى التصرُّف الذكي الوحيد؛ ألا وهو: سحبت الشرطة ونزلت بسلاح المدفعية، ابتغاءً لشيء واحد فقط، ألا وهو قتل المسلحين بأي ثمن. أهل العنف يخشون بعضهم البعض. فالمسلح يعيش في رعب من السلاح — بالمناسبة، فهمت أن الحرس القديم عاد بكامل قوَّته؟»

عندما يتحدَّث ليون في هذا الموضوع، يمكنه أن يُواصل الحديث لساعات.

تمتم مونتي قائلًا: «لا أعرف ماذا تقصد.»

«ولن تعرف.» رفع الدخيل لبِّيسةَ الحذاء المسودَّة والمنبعثَ منها الدخان، ووضعها بالقرب من وجهه بقدرِ ما يمكنه.

قال، وهو يقترب ببطءٍ من الفراش: «أجل، أظن أن هذا سيفي بالغرض.»

سحب الرجل قدمَيه لأعلى تحسُّبًا للألم، بيْد أن يدًا طويلة أمسكت كاحلَيه وبسطَتهما مرةً أخرى.

«لقد ذهبَتا إلى الحفل التنكري الراقص لكلية الفنون الجميلة.» بدا الصوت أجشَّ رغم وجود المنديل.

«الحفل التنكري الراقص؟» نظر إليه جونزاليس، ثم ألقى لبِّيسة الحذاء الساخنة في المدفأة، وأزاح الكمامة من على فمِه. وسأله: «ولماذا ذهبتا إلى الحفل التنكري الراقص؟»

«كنتُ أريدهما أن تُخليا الطريق الليلة.»

«هل من المحتمل أن يكون أوبيرزون في هذا الحفل؟»

«أوبيرزون؟» اتسعَت ابتسامة الرجل لتصير ضحكة هيسترية.

«أو جيرتر؟»

هذه المرةَ لم يضحك السيد نيوتن.

وقال: «لا أعرف مَن تقصد.»

ردَّ ليون بنبرةٍ غير مبالية، وهو يفكُّ عقدة المنديل الذي يوثِق الكاحلين قائلًا: «سنخوض في ذلك فيما بعد». وتابع: «يُمكنك أن تنهض الآن. متى تتوقَّع عودتهما؟»

«لا أعرف. قلت لجوان لا تتعجَّل؛ لأنني سأستقبل شخصًا ما هنا الليلة.»

بدا الأمر مقبولًا. تذكَّر ليون أن حفل كلية الفنون الجميلة هو حفلٌ بالملابس التنكرية، وأن ثَمة سببًا للمغادرة عبر المرأب بدلًا من البابِ الأماميِّ للمنزل. علَّق نيوتن، كما لو أنه كان يقرأ أفكاره، قائلًا:

«كانت فكرة الآنسة ليستر، الخروج من البوابة الخلفية. كانت تشعر بالخجل الشديد؛ فهي ترتدي عباءة.»

«لونها؟»

«خضراء، ذات قلَنسوة حمراء.»

رمَقه ليون بنظرة سريعة.

«مميزة جدًّا. ما الغرض؟»

تذمَّر نيوتن، وهو يجلس على حافة السرير ليلبسَ الجورب قائلًا: «لا أعرف الغرض وراء هذا». وتابع: «ولكن أعرف هذا يا جونزاليس»، قالها بغضبٍ عارم يشوبه الخوف؛ وأردف قائلًا: «ستندم على ما فعلتَه بي!»

سار ليون إلى الباب، ووضع المفتاح وفتحه.

قال وهو يرحل: «أتمنى ألا تندمَ لأنني لم أقتلك.»

انتظر مونتي نيوتن حتى رأى عبر نافذته المرتفعة الجسمَ النحيف يسير على طول الرصيف ويختفي عند الزاوية، ثم نزل للطابق السفلي بسرعة، لابسًا فردة حذاء واحدةً، ليزور المنزل ٩٣ شارع نيو كروس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤