الفصل السابع

طرائق ومواد العزل الحراري للأبنية

تعاق عملية انتقال الحرارة — بأية طريقة كانت — عن طريق العزل الحراري Thermal Insulation. ويُستخدم العزل الحراري لثلاثة أهداف:١
  • (١)

    الحفاظ على حالة الشيء عند درجة حرارة مستقرة تقريبًا.

  • (٢)

    المحافظة على برودة الشيء.

  • (٣)

    المحافظة على سخونة الشيء.

بصيغةٍ أخرى فإن العزل الحراري هو طريقة للتحكم في تحرك الحرارة بحبسها داخل أو خارج مكان ما. فمثلًا، تُعزل المباني السكنية حراريًّا لتحبس الحرارة داخلها في فصل الشتاء وخارجها في فصل الصيف. ويستخدم الناس ثلاث طرق للعزل الحراري؛ لأن الحرارة تنتقل بإحدى ثلاث طرق مختلفة.

وهناك مواد معينة، كالخشب والبلاستيك، هي عوازل جيدة ضد انتقال الحرارة بالتوصيل؛ ولهذا السبب تصنع مقابض العديد من أواني المطبخ الفلزية من هذه المواد. وتسخن هذه الأواني الفلزية بسرعة بالتوصيل ولكن تبقى مقابضها باردةً.

ويمكن منع تحرُّك الحرارة بالحمل خلال الهواء بسد المجال بين منطقة حارَّة ومنطقة باردة بهواء ساكن. فمثلًا، تعمل طبقة الهواء الموجودة بين النافذة الخارجية والنافذة الداخلية على الشباك كعازل للحمل.

وتمنع السطوح التي تعكس الأشعة دون الحمراء انتقال الحرارة بالإشعاع. فعلى سبيل المثال، تعكس السقوف الفلزية اللامعة أشعة الشمس، وتمنع بالتالي انتقال حرارة الشمس إلى الداخل عن طريق السقف.

figure
رسم بياني يوضح آثار الكتلة الحرارية على التخفيف من حدة الحرارة (مصدر الصورتين والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص٣٩).

ماذا تعمل الحرارة؟ عندما تنساب الحرارة إلي داخل جسم أو تخرج منه يمكن أن تحدث تغييرات في ذلك الجسم بثلاث طرائق. فالحرارة يمكن أن تسبِّب تغييرات في: (١) درجة الحرارة. و(٢) أبعاد الجسم (طول، مساحة، حجم). (٣) حالة المادة. التغيرات في درجة الحرارة تُعتبر من أكثر الآثار المترتبة على انسياب الحرارة شيوعًا. وتُسمى كمية الحرارة اللازمة لرفع درجة حرارة جرام واحد من مادة درجة مئوية واحدة: السعة الحرارية النوعية لتلك المادة. ويطلق غالبًا على السعة الحرارية النوعية اسم الحرارة النوعية. ويستعمل العلماء الحرارة النوعية للماء — والتي تساوي واحدًا — كمرجع قياسي لحساب الحرارة النوعية لكل المواد.

يمكنك أن تعرف الارتفاع الذي يحدث في درجة حرارة جسم ما عندما تنساب إليه كمية معلومة من الحرارة إذا عرفت كتلة ذاك الجسم (مقدار ما يحتويه الجسم من مادة) والحرارة النوعية لمادته. أولًا، اضرب كتلة الجسم في الحرارة النوعية لمادته، ثم بعد ذلك اقسم كمية الحرارة التي أضيفت إلى الجسم على حاصل الضرب أعلاه. مثلًا، إذا انتقلت عشرة سعرات من الحرارة في جرام واحد من الماء، فكم درجةً ترتفع درجة حرارة الماء؟ حاصل ضرب جرام واحد في حرارة نوعية مساوية ١، يعطي واحدًا. وحاصل قسمة عشرة سعرات على ١ يساوي ارتفاعًا في درجة الحرارة مقداره عشر درجات مئوية.

ويحتاج الجسمان المتساويان في الكتلة وفي درجة الحرارة والمختلفان في الحرارة النوعية إلى كميتين مختلفتين من الحرارة المضافة لترتفع درجتا حرارتَيهما بذات المقدار. ترتفع درجة حرارة الجسم ذات الحرارة النوعية المنخفضة بمقدارٍ أكبر من المقدار الذي ترتفع به درجة حرارة الجسم ذات الحرارة النوعية المرتفعة عندما يستقبل الجسمان كميتين متساويتين من الحرارة المضافة. فمثلًا، يحتاج إلى عشرة سعرات من الحرارة لرفع درجة حرارة جرام واحد من الماء عشر درجات، ولكن عشرة سعرات من الحرارة ترفع درجة جرام واحد من النحاس ١١١ درجة. والنحاس له حرارة نوعية منخفضة ومساوية ٠٫٠٩ بالمقارنة مع الحرارة النوعية للماء التي تساوي ١.٢
لقد بنت شعوب ما قبل التاريخ الأولى مساكن مؤقتةً من المواد نفسها التي كانوا يستخدمونها للملابس. وكانت المواد الأكثر شيوعًا هي الجلود الحيوانية والفراء والصوف والمنتجات ذات الصلة النباتية مثل القصب والكتان أو القش، ولكن عمرها كان محدودًا. وفي وقت لاحق — وبسبب نمط الحياة المستقرة وتنمية الزراعة — كانوا بحاجة إلى مواد أكثر دوامًا للإسكان، مثل الحجر والخشب والأرض. وقد بُنيت كلٌّ من المنازل ومساكن الكهوف — في الوقت نفسه — من الطين، ويبدو أنها كانت شعبيةً جدًّا بسبب فوائدها الكامنة. وكان تنفيذها رخيصًا، وأرضها توفر حمايةً ممتازةً ضد الحيوانات البرية والحرائق، وخلال فترات القتال. وبالإضافة إلى ذلك تستخدم البيوت الأرضية التربة باعتبارها بطانةً عازلةً رائعة؛ نظرًا لارتفاع كثافة الأرض، وداخل درجة الحرارة يتغير ببطء شديد. وتُسمى هذه الظاهرة تأخر الحرارية Thermal Lag، وهذا هو السبب في أن تغطية الأرضيات بالطين يحافظ على الحرارة الداخلية في فصل الشتاء والباردة في الصيف.٣
فيما يتعلق بتبريد الأبنية وعزلها عن الحرارة الخارجية، لا بد لنا بدايةً من التعرف على ما يُسمى علميًّا بالكتلة الحرارية Thermal Mass، والذي يُقصد به قدرة المادة على امتصاص وتخزين الطاقة الحرارية.٤
وقد أدرك المعماريون في المدن الإسلامية — خصوصًا تلك الواقعة في الصحراء — مفهوم الكتلة الحرارية من خلال الخبرة والتجربة، فكان منهم أن بنَوا منشآت باستخدام مواد ثقيلة وذات كثافة عالية بحيث يمكنها امتصاص كمية كبيرة من حرارة أشعة الشمس أثناء النهار. ومن هذه المواد الطين والحجارة، حيث إن لها كتلةً حراريةً كبيرة؛ ولذلك فإن الجدران والأسقف التي تُبنى منها تحتفظ بالحرارة، والتي تتراكم في كلٍّ منها خلال النهار. ومع حلول الظلام يأخذ الجو بالبرودة، فتبث الجدران والأسقف عندها الحرارة داخل المبنى. ومع حلول الصباح تكون الجدران والأسقف قد بردت من الخارج، واحتفظت بقدر كافٍ من البرودة في مكوناتها؛ ولذلك عندما تشتد الحرارة نهارًا فإن هذه الجدران والأسقف تساعد على تبريد داخل المباني، فلا يشعر الناس فيها بالحرارة.٥
العزل الحراري الذي كان يُستخدم للوقاية أيضًا من حرارة الجو صيفًا؛ وقد كانت تُستخدم عدة مواد في الأبنية قديمًا من أجل هذا الغرض حسب المتوفر من البيئة المحيطة. وحتى تنجح عملية العزل لا بد من استخدام مواد تتمتَّع بكفاءة بوظيفتها في الوقاية من الحر والبرد، إضافة إلى عنصر السماكة وأسلوب البناء الذي يجب أن يتناسب مع الخصائص الفيزيائية من ناقلية ومقاومة وإنفاذية حرارية وعاكسة للضوء.٦

المبحث الأول: الآجر

عُرف الآجر في مملكة ماري عام ١٧٥٠ق.م. وقد كان البيت المستدير الأحمر يُبنى من الآجر Briquette.٧ والآجر يتكون من الغضار المقولب. وتعد صناعة الآجر من أقدم صناعات مواد البناء المعروفة؛ فقد كان الطين يوضع في القالب ويجفف في الشمس، ثم بدأت عملية شي الغضار لصنع الآجر على يد البابليين الذين استخدموه بشكل واسع في أعمال بناء قصورهم ومعابدهم وبرج بابل الشهير.٨
كما استُخدم الآجر في العمارة الإسلامية خصوصًا في مصر والعراق وإيران وبلاد المغرب العربي؛ نظرًا لقلة الحجارة والخشب، ويُعرف الآجر في العراق باسم «الطابوق»، وفي مصر باسم «الطوب الأحمر»، ويُستفاد من خاصيته في العزل الحراري لداخل المبنى عندما يُبنى بسُمكٍ كبير.٩

المبحث الثاني: الطين

يتكون الطين من تراب وماء يضاف له بعض الألياف النباتية (تبن أو قش مقطع) التي تجعل من المزيج أكثر تماسكًا. ويكاد يقتصر استخدام الطين على المناطق الجافة التي تقل فيها الأمطار الغزيرة، وفي حال نزل المطر فقد كان القار يُستخدم لحماية المنشأة من التلف. وقد استُخدم الطين في البناء نظرًا لخصائصه الممتازة في العزل الحراري؛ فقد انتشر في حضارات بلاد ما بين النهرين وعند المصريين القدماء والرومان. ويُعتبر المسجد النبوي الشريف من أوائل المباني الإسلامية التي استُعمل في بناء جدرانها الطوب المصنوع من الطين.١٠
المسجد، كما نعلم، دار للعبادة والسكينة، فلا بد أن تتوفر فيها شروط التهوية الجيدة والعزل الحراري المريح طوال فترة الاعتكاف، وقد قام الباحث السوري أحمد كمال جطل بإجراء دراسة نظرية لعملية العزل الحراري والتهوية في بناء المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، والتي يطلق عليها اسم «نظام التبريد السلبي»، وخلص إلى النتائج الآتية:١١
  • (١)

    استخدم الرسول الكريم ما توفَّر من مواد في البيئة المحيطة.

  • (٢)

    استخدم النبي ثلاثة نظم للتبريد السلبي من أجل تهوية وتلطيف أجواء المسجد.

  • (٣)

    جمع المسجد في تصميمه بين البساطة والعزل الحراري والتكلفة القليلة والمردود المرتفع.

  • (٤)

    صنعت الزيادة في حجم الجدران المتناسبة — مع زيادة مساحة المسجد وكمية الحرارة المختزنة في الجدران — توازنًا حراريًّا رائعًا، كما أن هذه الزيادة أدَّت إلى وقاية الجدران من التصدع والانهيار.

  • (٥)

    ساهم تظليل المسجد في تلطيف أجواء المسجد من خلال صنعه لتيارات الهواء، إضافةً لفتح أربعة طيقان للمظلل الشمالي.

  • (٦)

    التوزيع الذكي لجهة الأبواب كان فعالًا في عملية التهوية، حيث مثَّل البابان الغربي والشمالي منبعين للهواء، في حين كان الثالث مصرفًا له.

figure
شكل مبسط يمثل دورة الهواء في النهار في المسجد النبوي، ويلاحظ أن الرياح الغربية هي المسيطرة (مصدر الشكل: جطل، أحمد كمال، نظام التبريد السلبي الذي استخدمه النبي في بناء مسجده في المدينة المنورة، ص٣٥).
وتشتهر مدينة حران التاريخية، في محافظة شانلي أورفة جنوب شرقي تركيا، ببيوتها المخروطية الشكل، والتي يتراوح ارتفاعها بين خمسة وستة أمتار. السقف مخروطي الشكل، وهو مصنوع من القش الجاودار على إطار خشبي، ولا يوجد فيها مدخنة، وهي بهذا الشكل تسمح للمنزل بالبرودة صيفًا والدفء شتاءً.١٢
ولحسن الحظ فإن طوب التربة المجفف في الشمس هو من أسوأ موصلات الحرارة. ويرجع هذا الجزء منه إلى الانخفاض البالغ في قدرته على التوصيل طبيعيًّا (٠٫٢٢ كالوري/دقيقة/سم المربع/ لوحدة سمك الطوب المصنوع بعشرين في المائة من الرمل الناعم، و٠٫٣٢ كالوري/دقيقة/سم المربع/لوحدة سمك الطوب المصنوع بثمانين في المائة من الرمل الخشن، وهذا مقابل ٠٫٤٨ للطوب المحروق، و٠٫٨ لبلوكات الأسمنت المجوفة)، كما يرجع في جزء آخر إلى ضعف الطين مما يستلزم أن تكون جدرانه سميكة، وبيوت الطوب اللبن في مصر العليا تبقى فعلًا مبردةً إلى حدٍّ ملحوظ لمعظم اليوم، وقد ثبت في كوم أمبو أن المنازل الأسمنتية التي بنتها شركة السكر لموظفيها هي أسخن من أن يعيش المرء فيها صيفًا، وهي بالغة البرودة شتاءً، وهكذا فضَّل الموظفون أن يعيشوا في بيوت الفلاحين الطينية.١٣
figure
تنخفض قيمة الكتلة الحرارية في المساكن الطينية ذات القباب، ومثل هذه الأبنية ما تزال موجودةً حتى الآن في مدينة حران (إلى اليمين) وبعض القرى الواقعة جنوب مدينة حلب في سوريا (إلى اليسار) (مصدر الصورة والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص٣٩).
figure
تعود المنازل في قرية سكارا براي إلى العصر الحجري الحديث (أوركني إسلاند، اسكتلندا)، وهي أقدم المنازل — حوالَي ٥٠٠٠ سنة — المسقوفة بالطين في العالم. ولكن يمكننا أن نعثر على مبانٍ مماثلة في المناخ البارد مثل الدول الاسكندنافية، وأيسلندا، وروسيا، وغرينلاند وألاسكا (مصدر الصورة والتعليق: Bozsaky, Dávid, The Historical Development of Thermal Insulation Materials, pp. 49-50).
ففي بلاد الرافدين كانت تكثر زراعة القمح والشعير، وكان ينتج عن عملية فصل حبَّات القمح عن التبن الكثير من القش، فكان يؤخذ ويمزج مع الماء والطين ويصنع منه قِطع كبيرة أو صغيرة من اللبن الذي يرص بجوار بعضه لصنع الجدران، أما السقوف فقد كانت تدعم بجذوع أشجار الحور نظرًا لخصائصه في العزل والمتانة.١٤
figure
لجأ المعماريون المسلمون في شمال إفريقية (مثل تونس) إلى تصميم المباني ذات الكتل الطينية ذات القباب؛ وذلك للمحافظة على درجات الحرارة المعتدلة داخل المبنى بشكل ثابت (مصدر الصورة والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص٣٧).
ويبدو أن خلطة الطين والقش لم تكن معروفةً بالنسبة للأوروبيين إلا في القرنَين الثاني عشر والثالث عشر، حيث كان الأوروبيون الشماليون يقومون ببناء منازلهم من القش، مع بناء سقف من القش السميك بطول ٦٠–٨٠سم، وغالبًا ما كانت الجدران مصنوعةً من الطين والقش. وقد وفَّرت الألياف الجافة المجوفة من القش والقصب مستوًى ممتازًا من العزل الحراري؛ لذلك انتشرت المنازل المسقوفة بالقش بسرعة، خصوصًا في الأجزاء الشمالية من أوروبا وأمريكا.١٥
figure
في بعض البلدان العربية، مثل مدينة مطماطة في تونس، تمَّت مواجهة التفاوت الكبير في درجات الحرارة بين الليل والنهار من خلال بناء البيوت تحت سطح الأرض؛ حيث تعمل التربة كمستودع كبير للكتلة الحرارية؛ الأمر الذي يجعل درجات الحرارة داخل هذه المنازل منتظمًا وثابتًا طوال ساعات الليل والنهار، تمامًا كما هو الحال في داخل الكهوف. للأسف هذه المدينة تواجه خطر الإهمال والتدمير بسبب عدم العناية بها وعدم دعم صيانتها من قِبل الحكومة (مصدر الصورة والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص٣٩).

المبحث الثالث: الفلين

يشكل الفلين لحاء شجرة البلوط، وتنتشر زراعته في محيط البحر الأبيض المتوسط، وقد استخدمته البشرية منذ أقدم العصور؛ فقد عُثر على سدادات وصنادل وطوافات فلينية في المواقع الأثرية المصرية القديمة. وربما كان اليونانيون والرومان أول من استخدم الفلين في البناء بوصفه مادةً عازلة.١٦
قبل أن يُستخدم الفلين الطبيعي في عمليات العزل الحراري كتب بليني الأكبر The elder Pliny (توفي ٧٩م) عن الفلين في كتابه عن التاريخ الطبيعي؛ فقد كان يُستخدم في البداية لأغراض طفو شباك الصيد، كما استُخدم في صناعة الصنادل الشتوية للنساء حتى يحافظوا على أقدامهم دافئةً، وسترات النجاة في البحار. ربما عُرف الفلين قبل بليني بوقت طويل (٥٠٠ أو ١٠٠٠ سنة قبل الميلاد).١٧
figure
أبرز مثال على مدن الطين مدينة شبام الواقعة في محافظة حضرموت في شرق اليمن، والتي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، وسُميت «مانهاتن الصحراء» لمبانيها الطينية الشاهقة المنبثقة من الصخور. وقد أضافتها اليونسكو في يوليو/تموز ٢٠١٥م إلى قائمة مواقع التراث العالمي المعرض للخطر، وتعد أحد أقدم النماذج التي تمثل إبداعًا إنسانيًّا عربيًّا نابعًا من الفطرة، استطاع أن يحول قبضةً من طين الأرض إلى منازل تحمل بين جدرانها قيم الحياة البسيطة والجميلة (مصدر الصورة والتعليق: موقع http://www.huffpostarabi.com).
ويذكر بليني أيضًا أن الرومان استخدموا الفلين لعزل الأسطح. ويبدو أن الرهبان في العصور الوسطى في إسبانيا والبرتغال قد بطَّنوا الجدران الداخلية في أديرتهم بالفلين. كما صنعت بعض القبائل الأصلية في شمال إفريقية مزيجًا خاصًّا من الطين ولحاء الفلين لبناء جدران مساكنهم.١٨

فإذا علمنا أن شجرة البلوط تنمو بكثرة في البرتغال وإسبانيا والجزائر وتونس، فإن هذا يعني أن مادة الفلين كانت معروفةً بالنسبة للعرب والمسلمين، وقد استخدموها في أعمال العزل الحراري في منازلهم.

figure
استُخدم الفلين في البداية من أجل خواصه في الطفو على سطح الماء، حيث كان يربط مع الشباك أو مراسي السفن (مصدر الصورة: Thomas, Pearl Edwin, Cork Insulation, p.2).

المبحث الرابع: الحجر

لقد تمكَّن المعماري العربي من التلاعب في هندسة البيئة التي يعيش فيها؛ وذلك ليتغلب على الظروف القاسية التي تمرُّ بها منطقته، وخصوصًا التبدلات الحرارية التي تظهر تباينًا واضحًا بين الليل والنهار والصيف والشتاء، وهو ما جعله ينتقل من بيوت الشعر البدوية إلى بيوت الطين القروية، ثم إلى المنازل الحجرية ذات الثخانة العازلة لهذا التباين الحراري.

فلو أردنا تحليل البناء لوجدنا أنه قد اختار الشكل الذي يسمح له بالتغلب على الإشعاع الشمسي والناقلية الحرارية؛ ومن ثَم كان اختياره للجدران الثخينة، وفيها فتحات تعلوها قبة مصنوعة من حجارة مكسوة بخليط من التراب والتبن. هذا الشكل الهندسي من شأنه أن يزيد من زاوية وُرود أشعة الشمس صيفًا ويقللها شتاءً، وعليه فإن الطاقة التي تمتصها وحدة المساحة صيفًا تقل فلا يسخن المنزل، وتزداد شتاءً فلا يبرد المنزل كثيرًا. إضافةً لذلك فإن المواد التي تدخل في تركيب الجدران تمنع انتقال الحرارة إلى داخل المنزل بالتوصيل؛ لذلك يصبح المنزل معزولًا حراريًّا في مختلف الأوقات والأزمان، فقد صنع مناخًا خاصًّا يُدعى بالمناخ تحت المحلي.١٩
طريقة العزل السابقة تصلح في المناطق الحرارية المعتدلة والجافة (بلاد الشام والعراق)، أما في المناطق الصحراوية الشديدة الحرارة (مثل الصحراء الكبرى في ليبيا)، فإن إجراءات العزل تبدو مختلفةً؛ وذلك لأن «طبيعة الصحراء قد فرضت تأثيرًا فيزيائيًّا كبيرًا على العناصر الرئيسة المكونة للكتلة المعمارية كوحدة متكاملة كالملمس والشكل العام للكتلة ونوعية مواد البناء، وكذا على المكونات الداخلية الرئيسة والمكملة للفراغ الداخلي لمباني الصحراء.»٢٠
وقد كانت معظم جدران المنازل في مدن العالم الإسلامي تُبنى من الحجر الكلسي بسماكة ٥٠سم أو أكثر، ونظرًا للون الفاتح للحجارة فإنها تعكس جزءًا كبيرًا من الإشعاع الشمسي الساقط عليها، ونظرًا لكون الحجر الكلسي ذا سعة حرارية عالية، حيث إن كثافته كبيرة تصل إلى ١٩٢٠كج/م٣، فإن هذا يجعل زمن النفاذ الحراري من خلاله يصل إلى خمس عشرة ساعةً؛ وبالتالي فإن الحرارة الخارجية ستأخذ وقتًا طويلًا حتى تصل لداخل المبنى.٢١ وبذلك تصبح درجة الحرارة داخل المبنى أقل كثيرًا مقارنةً بخارجه، وهذه ميزة جيدة جدًّا في العزل الحراري.

وقد خصَّص ابن خلدون (توفي ٨٠٨ﻫ/١٤٠٦م) حديثًا مطولًا عن البناء وما يلحقه في تاريخه، حيث تناول مواد البناء وطرائق صنعها وأبعادها وتركيبها، ومن بينها الطوب الطيني والخشب والحجارة.

قال ابن خلدون: «هذه الصناعة أول صنائع العمران الحضري وأقدمها، وهي معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل للسكن والمأوى للأبدان في المدن؛ وذلك أن الإنسان لما جُبل عليه من الفكر في عواقب أحواله، لا بد أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر والبرد كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف والحيطان، ويؤسس جدرانها بالحجارة، ويلحم بينها بالكلس، ويعالي عليها بالأصبغة والجص، ويبالغ في كل ذلك بالتنجيد والتنميق إظهارًا للبسطة بالعناية في شأن المأوى. ثم هي تتنوع أنواعًا كثيرة؛ فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالآجر يقام بها الجدران ملصقًا بعضها إلى بعض بالطين والكلس الذي يعقد معها ويلتحم كأنها جسم واحد، ومنها البناء بالتراب خاصة تقام منه حيطان يتخذ لها لوحان من الخشب فقدران طولًا وعرضًا باختلاف العادات في التقدير. أوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس، وقد يوعد ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس ويوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدر. يسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين، ثم يوضع فيه التراب مخلطًا بالكلس ويركز بالمراكز المعدة حتى ينعم ركزه ويختلط أجزاؤه بالكلس، ثم يزاد التراب ثانيًا وثالثًا إلى أن يمتلئ ذلك الخلاء بين اللوحين وقد تداخلت أجزاء الكلس والتراب وصارت جسمًا واحدًا، ثم يعاد نصب اللوحين على صورة ويركز كذلك إلى أن يتم وينظم الألواح كلها سطرًا من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحمًا كأنه قطعة واحدة، ويُسمى الطابية، وصانعه الطواب. ومن صنائع البناء أيضًا أن تجلل الحيطان بالكلس بعد أن يحل بالماء ويخمر أسبوعًا أو أسبوعين على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للإلحام. فإذا تم له ما يرضاه من ذلك علاه من فوق الحائط، وذلك إلى أن يلتحم. ومن صنائع البناء عمل السقف بأن يمد الخشب المحكمة النجارة أو الساذجة على حائطَي البيت، ومن فوقها الألواح كذلك موصولة بالدسائر، ويصب عليها التراب والكلس ويبسط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها وتلتحم ويعالى عليها الكلس كما يعالى على الحائط.»٢٢
لا يُشترط أن يستخدم الحجر الكلسي فقط، وإنما استخدم الحجر البركاني أيضًا، وهو حجر يطحن ويخلط ببعض المواد الأخرى، كالأسمنت، ويستخدم في العزل الحراري. دخل الحجر البركاني العمارة العربية الإسلامية في دمشق في العهد المملوكي والعثماني.٢٣

المبحث الخامس: الشَّعر والجلد

قد نتساءل كيف استطاع أهل البادية حماية أنفسهم من لفح الحر في الصحاري أو البوادي التي عاشوا فيها. بمعنًى آخر، ما الإجراءات والمواد التي كانوا يستخدمونها للحصول على التبريد الذي يُبقيهم على قيد الحياة؟

في الواقع استخدم البدو عدة مواد عازلة حراريًّا من البيئة التي كانوا يعيشون فيها؛ فقد اعتمدوا في صناعة مساكنهم على الصوف لصنع الأخبية والخيام والمظلات وبيوت الشعر.٢٤
وقد ورد عن ابن الكلبي تصنيفه للبيوت عند العرب إلى ستة أنواع: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وأقنة من حجر.٢٥
ونلاحظ اعتماد أربعة منها على شعر أو جلد الحيوانات من خراف أو ماعز أو إبل أو بقر؛ فالشعر يُغزل وتُنسج منه الخيام، ويُسمى بعضها بالبجاد «إذا غزل الصوف يسرةً ونسج بالصيصة».٢٦ والصيصة هي إبرة الحائك التي يجمع بها بين السداة واللحمة. وقد تصنع من الجلود أو الأدم لكون الجلد يقاوم الحرارة الخارجية ويمنع تغلغل البرد.

الترتيب السابق الذي ذكره ابن الكلبي للبيوت بدأه من الأكبر إلى الأصغر من حيث الحجم والمساحة، مع اختلاف المادة العازلة وحسب الوضع الاجتماعي للشخص؛ فالميسورون وأصحاب الوجاهة كانوا يبنون لأنفسهم قبابًا من الجلد.

ويذكر لنا الباحث جواد علي تفاصيل أكثر عن بيوت العرب واستخداماتها:٢٧
  • (١)

    السرادق: كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء. وقيل: كل بيت من «كرسف» فهو سرادق. وترد اللفظة في الفارسية بمعنى حائط أو حاجز من نسج غليظ حول خيمة.

  • (٢)

    المضرب: هو الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك. وقد استُعمل للملوك خاصةً، لأصحاب الجاه والعز والمكانة.

  • (٣)

    المظلة: وهي الكبير من الأخبية ذات رواق، وربما كانت شقة وشقتين وثلاثًا، وربما كان لها كفاء وهو مؤخرها. قال بعض علماء اللغة: إنها تكون من الشعر. وقال بعضٌ آخر: لا تكون إلا من الثياب.

  • (٤)

    الخباء: ويُصنع من شعر أو صوف، وهو دون المظلة. وهو من بيوت الأعراب. ويذكر أهل الأخبار أن العرب كانت تضرب الأخبية لأنفسها، والمضارب لملوكها، والمضارب إنما ترتبط بالأوتاد. وذكر أن الخباء هو ما كان من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت.

  • (٥)

    الطراف: خباء من أدم يتخذه الأغنياء. و«الطوارف» من الخباء ما رفعت من جوانبه ونواحيه للنظر إلى خارج.

  • (٦)

    القباب الحمر: تصنع من أدم، حيث يأوي إليها أصحاب الجاه واليسار والمشهورون. وقد ذُكر أن النابغة الذبياني كان يُضرَب له بسوق عكاظ قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وقيل: إن بيت الأدم، قبة الملك، يجتمع فيها كل ضرب، يأكلون الطعام.

figure
لقد استطاع البدو الرُّحَّل التحايل على آثار الكتلة الحرارية من خلال صنع نسيج سميك من مادة عازلة طبيعية، بحيث تساعدهم على الحماية من أشعة الشمس المباشرة؛ مما يعني تبريد الهواء داخل الخيمة عن طريق التهوية الطبيعية (مصدر الصورتين والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص٣٩).

المبحث السادس: الخشب

الخشب مادة خلوية ليفية صلبة مسترطبة وقابلة للتشكل بسهولة، وهي تؤلف الجزء الأكبر من ساق الشجرة. وقد استُخدم الخشب في الأبنية لخصائصه العازلة حراريًّا ولطول خدمته؛ إذ يدوم الخشب الموجود في الهواء الجاف أو تحت المطر من قرن حتى قرنين كاملين.٢٨
figure
لكل جزء من أجزاء بيت الشعر عند العرب اسم، ما يهمنا هنا هو أن النسيج العازل للحرارة كان يُصنع من شعر الماعز أو وبر الجمال أو من جلودها (مصدر الصورة: إنغام، بروس، قبيلة الظفير دراسة تاريخية لغوية مقارنة، ترجمة وتعليق عطية بن كريم الظفيري، مرايا، الرياض، ١٩٩٥م، ص١١٣).
ونظرًا لقلة وجود غابات الخشب في معظم أراضي العالم الإسلامي، فقد تم الاستفادة منها في صنع الأسقف الأفقية المستوية، واستُخدم في صنع بعض القباب مثل قبة الصخرة في القدس، والتي تم تشكيلها من طبقتين من الخشب؛ تم تلبيس الخارجية منها بصفائح معدنية تعكس إشعاع الشمس بحيث إنها تحمي الداخلية الموشَّاة بأجمل النقوش والألوان، كما تم إيجاد فراغ هوائي بين هاتين الطبقتين من أجل التهوية. أيضًا استُخدم السقف الخشبي المزودج في قصر الأمير بشتاك في القاهرة الذي يعود لعام ١٣٣٤م، وقد وُضع بين الطبقتين أوانٍ فخارية بهدف تخفيف الحمل الحراري والإنشائي على المبنى والفراغات التي في أسفله.٢٩
١  دبس، محمد، معجم أكاديميا للمصطلحات العلمية والتقنية، ص٣٠٧.
٢  الموسوعة العربية العالمية، مدخل «الحرارة».
٣  Bozsaky, Dávid, The Historical Development of Thermal Insulation Materials, Periodica Polytechnica, Hungary, 2010, p. 50.
٤  McGee, Caitlin, Your Home, 5th ed., Institute of Sustainable Futures (ISF), University of Technology Sydney, 2013. p 178.
٥  جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص٣٨.
٦  وزيري، يحيى، العمارة الإسلامية والبيئة، ص١٠٥.
٧  الغزي، نادية، الطرق الشرقية القديمة للتخلص من الحر، ص١٠٣.
٨  الموسوعة العربية، مدخل «الآجر»، هيئة الموسوعة العربية، ج١، دمشق، ص٤٠٩.
٩  وزيري، يحيى، العمارة الإسلامية والبيئة، ص١٠٦.
١٠  المرجع السابق نفسه، ص١٠٦.
١١  جطل، أحمد كمال، نظام التبريد السلبي الذي استخدمه النبي (ص) في بناء مسجده في المدينة المنورة، مجلة آفاق الثقافة والتراث، العدد١٩، رجب ١٤١٨ﻫ/نوفمبر (تشرين الثاني)، تصدر عن مركز جمعة الماجد، دبي، ١٩٩٧م، ص٣٧–٣٨.
١٢  عن موقع: Alrahhalah.com.
١٣  فتحي، حسن، عمارة الفقراء، ص٣٩.
١٤  الغزي، نادية، الطرق الشرقية القديمة للتخلص من الحر، ص٥٩.
١٥  Bozsaky, Dávid, The Historical Development of Thermal Insulation Materials, p. 50.
١٦  Thomas, Pearl Edwin, Cork Insulation, p. 317.
١٧  Ibid, p. 2.
١٨  Bozsaky, Dávid, The Historical Development of Thermal Insulation Materials, p. 50.
١٩  لولح، علاء الدين، الإبداع الفني والهندسي في عمارة التراث، بحث منشور ضمن أبحاث المؤتمر السنوي ٢٠ لتاريخ العلوم عند العرب، ٢٥–٢٧ أيلول، ١٩٩٩م، إعداد مصطفى موالدي، مصطفى شيخ حمزة، منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي، حلب، ٢٠٠٦م، ص٢٣٢.
٢٠  الشطيح، الهادي علي سليمان، العمارة الداخلية والبيئة الصحراوية، بحث منشور ضمن أبحاث المؤتمر السنوي ٢٢ لتاريخ العلوم عند العرب، ٢٣–٢٥، تشرين أول، ٢٠٠١م، إعداد مصطفى موالدي، مصطفى شيخ حمزة، منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي، حلب، ٢٠٠٣م، ص٤٣١.
٢١  وزيري، يحيى، العمارة الإسلامية والبيئة، ص١٠٧.
٢٢  ابن خلدون، عبد الرحمن، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، ج١، ط٢، ص٥١١–٥١٢.
٢٣  الغزي، نادية، الطرق الشرقية القديمة للتخلص من الحر، ص١٠١.
٢٤  للوقوف على أوجه التشابه بين بيت الشعر وبيت الشعر، انظر: الخريشة، خلف، وجود التماثل بين بيت الشعر وبيت الشعر، مجلة اتحاد الجامعات العربية للآداب، المجلد ٥، العدد٢، ٢٠٠٨م، ص٥٣٣–٥٥٥.
٢٥  الزبيدي، محمد بن محمد، تاج العروس من جواهر القاموس، ج٣٤، ص١٨٤.
٢٦  المرجع السابق نفسه، ج٧، ص٣٧٧.
٢٧  علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط ٤، ج٩، ص٧–٨.
٢٨  بصمه جي، سائر، دليل المواد، ط١، دار شعاع، حلب، ٢٠٠٢م. ص١٧٧.
٢٩  وزيري، يحيى، العمارة الإسلامية والبيئة، ص١٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤