السيد فهد المارك

مندوب مقاطعة إسرائيل في السفارة السعودية، بيروت

سيِّدي

لسبب يتضح بعد سطور ستدرك، يا سيدي، لماذا أبطأت بالجواب على رسالتك تاريخ ٦ أيار.

غير أني أود أن أشكرك شكرًا حارًّا، لا يمليه أدب المراسلة فحسب على توجهك إليَّ بكتابك المذكور.

وإنني واثق أنك لا تبغي تصيد المديح ولا شراءه، فمن الواضح أن هذه القمة التي أحيا في ذروتها، ويحيا فيها رفقائي، حُرِّمَ فيها القنص على مدار السنة؛ وما كانت فيها الكلمة، ولن تكون سلعة برسم البيع، بل إن الكلمة كانت فيها، وستبقى، إفصاحًا عن فكر وعاطفة كثيرًا ما يتزين بها نبيل فقير، ويعرى عن ارتدائها ثري أمير.

لذلك أبتهج بسؤالك عن الأثر، الذي تركته زيارة سمو الأمير سعود، موقنًا أن غايتك التعرف الطاهر إلى المنافع، التي جناها العالم العربي لقاء ما بذل سموه وبذلناه من وقت ومن مال.

وأخالك على معرفة تامة أن الفريق الذي يشرفني أن أكون في معسكره، يؤمن بالعروبة الصحيحة، ويهمه أن تأتي زيارة أمير عربي توظيفًا نافعًا لجهد ومال، لا هدرًا لهما ولا دعسة مغلوطة على محرك سيارة العروبة، يقذف بها إلى الوراء بدلًا من دفعها إلى الأمام.

كذلك لا أجد تصادمًا بين نشاطك في المفوضية كمندوب لمقاطعة إسرائيل، وبين اهتمامك بنشر كتاب عن الانطباعات الخاصة، التي تركتها زيارة سمو الأمير؛ فنحن الذين نؤمن بمدرحية الحياة، نفهم مظاهرها التي تبدو للجاهل أو الساذج، متضاربة.

ننطلق يا سيدي، من قاعدة رئيسية واحدة، هي أننا نحن هنا، وأنتم في المملكة العربية السعودية، نعيش في لذاذات الأعزل المترف، وفي ظلال حراب جائع مسلح، اغتصب بعض دارنا، ويتحفز لاغتصاب دارنا وداركم، وهو في رأي الكثيرين قادر على الظفر ساعة يريد.

إذن فسؤالك يجب أن يصاغ في كلمات ثانية، قد تصبح قراءتها هكذا:

«ما الذي فعلته هذه الزيارة في سبيل إقصاء ظلال حراب العدو، الذي يهددكم ويهددنا؟»، والجواب يتناثر في أجوبة كثيرة؛ فإنه من الجميل أن يكون سمو الأمير قد تعرف إلينا وإلى بلادنا، ونحن قد تعرفنا إليه، وأنه من المسرِّ أن يكون سموه قد تحدث إلى جلالة أبيه في الليلة الثانية من إقامته بيننا؛ فسمعناه على الراديو الخاص يهتز صوته قائلًا: «إن لبنان زحف لملاقاتنا حريمًا ورجاجيل.»

كانت في صوته غُنَّةٌ بدوية تستحب، وحمية عاطفة، سرنا أن أوحيناها، ومن المعروف يا سيدي، أن سموه وهب الكثير من الأموال، بعضها كانت دعسات مغلوطة، وبعضها كان خطوات في السبيل السوي.

ولو أن سفارتكم تنشر ما ظهر في ذلك الكتاب، حيث وقَّع عليه القابضون إيصالاتهم، فعرفنا كل الأسماء، لاتقينا خطر حكم يبنى على معلومات ناقصة، لا يعززها إلا الحدس والتخمين، ولكن مبدأ الهبة هو مبدأ مغلوط، وقد ينتهي العالم النفسي، الذي يتحرى الحوافز إلى تصنيف الكريم والشحيح في مقعد واحد هو الأثرة؛ فتنقبض كف البخيل مدافعة عن أنانية، وتبسط كف الكريم ناشرة أنانيته؛ لذلك نراهم نظموا الإحسان في الغرب، ومن أجل هذا علقت الكاتبة الأميركية «دروثي طمسن» بشيء من الهزء على ما رأته في «جدة» من كرم بقولها:

والعطاء عند هؤلاء الناس يُعَدُّ فضيلة.

هذا تعليق امرأة فاضلة عُرفت بصداقتها لنا، وعرفت أنها تنتمي إلى أكرم شعب عرفه التاريخ، وهي بقولها هذا تعني أن الهبات للأشخاص هي عادة شرقية تشبه الرذيلة، وقد تهدم خلق الواهب والموهوب، وأنه في العصر الذي يجب فيه علينا أن نبني دولة، ونكشف عن قوى أمة يجب أن يأتي البذل لهذه الدولة، وفي سبيل هذه الأمة لا بخشيشًا يرمى في كف متسول، لكانت هذه الزيارة أكثر نفعًا، لو أن ما بذله سمو الأمير جاء قرضًا لدولة أو إعانات لمؤسسات عامة؛ ولكان أجدى لنا ولكم أن يبذل هذا المال لا للمداحين والمستجدين، بل ثمنًا لقاذفة أو لبعثة عسكرية أو لتشييد مستشفى خيري.

أما إذا تعدينا المال والهبات، فإني لأذكر أن في بيروت اليوم سياسيين ثلاثة، كنت أتصل باثنين منهم تلغرافيًّا وتلفونيًّا في كل ليلة من مانيلا (الفلبين)، حيث كنت مقيمًا، وكان هؤلاء الثلاثة في نيويورك أعضاء لوفدين من وفود الدول العربية، وإني أذكر بحرقة وبألم ما سمعته من أحدهم ذات ليلة على التلفون، وفي إبان معركة التصويت، على تقسيم فلسطين أن الكارثة تحجبها كلمة تصدر عن المملكة العربية السعودية، تلك الكلمة التي لم تنطق بها مملكتكم يا سيدي سنة ١٩٤٧. وإنه ليؤلمني أن أقرأ اليوم عدد ٢٠ مايو من جريدة «الهرلد تربيون» أنباء مقابلة فوستر دالز مع سمو الأمير فيصل وزير خارجيتكم؛ فأجد أنهما تحدثا في الرياض عن العلاقة الودية التي تربط مملكتكم بأميركا، فأستمع وزير خارجيتكم إلى دالز يقول:

إنه سيسعى إلى تحسين العلاقة الأميركية والدول العربية، وأنهما بحثا ببعثات أميركية تأتي إلى السعودية، وأنهما تحدثا عن مشكلة البريمي مع بريطانيا، وأنهما جاءا على ذكر آبار الزيت وآبار الماء.

يؤلمني يا سيدي، أن لا تنطق السعودية اليوم بالكلمة، التي كان يجب عليها أن تنطق بها عام ١٩٤٧، وأنه من الظلم أن نتجنى على المسئولين في المملكة السعودية؛ فنقول: إن الذنب ذنبهم وحدهم. الذنب ذنبك يا سيدي، وذنبي أنا وجريمتك وجريمتي وجريمة هؤلاء المتعاظمين، المحيطين بالمسئولين في بلادك، تستثيرهم نفسية الفراشين والحجاب والخصيان و«الكورتزان»؛ فلا يسعفون الأمراء وسواهم على تفهم الأمور، وهؤلاء لم تترسخ فيهم بعد عقلية الدولة، وما تحرروا من فضائل البداوة التي ما عرفت الدولة، وعرفت القبيلة.

هل اغتنمنا من وجود سمو الأمير بيننا فرصة لإيضاح المسئولية الكبرى، ولاستثارته لتجنيد قواه الهائلة من مالية واستراتيجية؟ أم إننا اقتصرنا في حفلاتنا وضيافتنا على التملق والترفيه؟ قد يكون من الظلم أن نصدر حكمًا باكرًا، ومن العدل والروية أن ننتظر الأسابيع المقبلة لنتثبت من أن هذه الزيارة عوضت عن موقف السعودية عام ١٩٤٧، أو أنها أيقظت ضميرها.

أما من الناحية الاقتصادية، فمن الواضح أن إنفاق مليون ونصف ليرة أو مليوني ليرة، وهو المبلغ الذي أنفقه سموه هنا، لا تضر بلبنان، ولكنه كان أنفع للبنان أن يصدر تشريع في جدة يبيح أسواقها للفاكهة اللبنانية، ويمنع عن السعودية الفاكهة الإيطالية التي تكاد تحتكر أسواقكم.

أما في ما يتعلق بشركات النفط وعلاقاتكم معها معروفة، فهل اغتنم أحدهم أو اغتنم سموه هذه الزيارة ليتفهم أن الذين سرقوا حكومتهم، لا يأنفون من سرقة حكومتكم، وأن الذين تحاكمهم محاكم العدل في بلادهم يستحقون أن تحاكمهم محاكم العدل في بلادكم؟ وهل تقصى في بيروت خلال هذه الزيارة، لماذا عقد مجلس الأمن الأميركي جلستين في عهد ترومن، وفي عهد أيزنهاور، وتقدم إلى النيابة العامة في وشنطن سائلًا أن تمنع التحقيق الجنائي عن شركات النفط صونًا لأسماء أميركية وغير أميركية، تشتغل في دوائر الاستخبارات؟ وهل تساءل سموه، وهو يهز الأيدي ويتقبل الترحاب في بيروت من مواطنين لنا وغير مواطنين، وممن يتمتعون بثقة سموه، وينعمون بعطفه وعطف أسرته عن الحلف الشرير، الذي يؤلف بين أفراد هذه العصابة؟ وهل تَقَصَّىْ سموه وتقصيتم — بحكم مهمتكم كمندوب لمقاطعة إسرائيل — وبيروت قاعدة الجاسوسية والتهريب لإسرائيل — في أي وخم ازدهرت بواسق بعض الأشجار في هذه الغابة، وفي أعماق أي ظلمة غابت هذه الجذور، ومن يدفع ومن يقبض ليرش على هذه القاذورات أغلى العطور؟!

هل اخترقت الأصوات الصادقة هذا الكوردون الذي سوَّر سموه؛ فسمع أن ليس له في دمشق وبغداد وعمان إلا كل صديق وكل حليف، أم إن مسمعه لم يصغ إلا إلى تجار الوشاية ومستغليِّ التفرقة؟

أية انطباعات أحدثتها زيارة صاحب السمو؟ استمع إلى الجواب من تل أبيب تعلنه إذاعتها — أنهم أقاموا معرضًا للأسلحة بعضها الرشاش، الذي أطلقوا عليه اسم «هوزي»، وأنت يا سيدي تريد أن تصدر كتابًا ملؤه مديح وثناء أكثره مشترى بمال.

هلَّا قرأت أسرار سقوط فرنسا المفاجئ في الحرب الأخيرة، وهي الدولة التي لعبت أدوارًا رئيسية في تاريخ الدنيا؟ رجوتك أن تطالعها لتتعرف إلى من سبب سقوطها، حتى لو اطَّرحنا المثالية جانبًا؛ لوجدنا في الخطر الذي ينقض عليك وعليَّ وعلى سموه ما يجعل هذه الصراحة واجبًا بسيطًا، ويسم التمويه بطابع الخيانة.

لك ودي، ولك رجائي أن تجعل من نفسك في وظيفتك وحياتك ونشاطك جنديًّا، يطيب له الحرمان وتطيب التضحية.

نحن أقرب إلى النار مما تظن. إنهم يربون في «تل أبيب» البزاة والصقور والعقبان، ونحن هنا نتلف أعشاشها.

رجوتكم يا سيدي أن لا تصدر هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤