مقدمة

في حياة كل عظيم فترة حاسمة هي تلك التي تأتيه فيها الشهرة وينال اعتراف المجتمع بعد أن كان مغمورًا. وفي أحيان غير قليلة تأتي هذه الشهرة متأخرة، حين تفرض الأعمال الكبيرة نفسها على مجتمع ظل يتجاهلها أو يقاوم تأثيرها أمدًا طويلًا. وقد لا يأتي اعتراف المجتمع بها إلا على ما هي عليه، دون أن يطرأ عليها تغيير جوهري، ومع ذلك تُقْبِل عليه الشهرة في المرحلة الأخيرة من عمره، ويصبح ملء أسماع الناس وأبصارهم بين يوم وليلة مع أن أفكاره ذاتها ظلت قبل ذلك في متناول أيدي الناس عشرات طويلة من السنين.

وتلك واحدة من المفارقات العديدة التي تحفل بها حياة هربرت ماركيوز. فقد صاغ آراءه الرئيسية في الثلاثينيات من هذا القرن، وربما قبل ذلك ولم يهتم به الناس، بل إنه ظل — على أحسن الفروض — أستاذًا ينال بعض التقدير في الأوساط الأكاديمية المتخصصة، ولكن بعد مضي قرابة ثُلث قرن على نشره لآرائه، أتته الشهرة مفاجئة على هذه الآراء نفسها. ولم تكن تلك شهرة من نوع مألوف، بل لقد أصبحت كتبه أشبه بالفيلم العالمي الذي يراه الكبير والصغير في مختلف أرجاء الدنيا، وتحوَّل أستاذ الفلسفة الأكاديمي إلى «نجم» لامع، وأصبح الشيخ الأشيب معبود الشباب الثائر المتمرد في العالم كله، وتحوَّلت كتبه إلى دليل ثوري في أيدي كل من يسيرون في مظاهرة أو يهاجمون رجال شرطة أو يعلنون إضرابًا عامًّا. ومجمل القول إن ذلك التفكير الذي صيغت معالمه الأساسية منذ أكثر من جيل مضى، وفي ظروف عالمية تختلف إلى أبعد حد عن ظروف عصر الصواريخ الذي نعيش فيه، قد أصبح في أيامنا هذه إنجيلًا لأبناء الجيل الجديد، ومرشدًا لهم في سعيهم إلى تشكيل عالم الغد.

وليس لهذه المفارقات إلا تعليل واحد هو أن العالم قد تغيَّر كثيرًا، على حين أن ماركيوز لم يتغير إلا قليلًا. فما هي إذن التغيرات التي جعلت عالمنا يلتقي مع تفكير هذا الرجل ويحوِّله من فلسفة أكاديمية إلى دليل عمل لكل من يؤمن بأن المجتمع الإنساني في حاجة إلى تغيير شامل؟ ذلك هو السؤال الذي ينبغي أن يُفهم فكر ماركيوز في ضوئه. وتلك هي المهمة التي نود أن نأخذها على عاتقنا في هذا البحث، والتي ستتيح لنا أن نقوم بتقييم شامل لفكر ماركيوز، نتبيَّن من خلاله مدى جدارة هذا المفكر بالشهرة الخيالية التي سعت إليه، ومدى قدرته على التعبير عما ينبغي أن يرفضه إنسان الحاضر، وما ينبغي أن يحققه إنسان المستقبل.

•••

وُلد هربرت ماركيوز في برلين عام ١٨٩٨م لوالدين يهوديين. وينبغي أن نظل نذكر هذه الحقيقة ونحن نتتبَّع مجرى تفكيره؛ إذ يبدو — بالرغم من الاعتقاد الشائع بأنه مفكر ذو نزعة عالمية خالصة — أنه لم يستطع التخلص من تأثير هذا الأصل اليهودي تخلصًا تامًّا. وقد درس الفلسفة في جامعة برلين ثم في فرايبورج على الفيلسوف الألماني الكبير «هيدجر» وحصل من هذه الجامعة الأخيرة على درجة الدكتوراه في الفلسفة، وكان موضوع رسالته أنطولوجيا هيجل وعلاقتها بفلسفته في التاريخ. وفي الوقت ذاته، بدأ اهتمامه بالسياسة يتخذ صورة تعاطف مع الحركة الديمقراطية الاشتراكية الألمانية، ولكنه انفصل عنها عام ١٩١٩م بعد حدث ضخم هو مقتل الزعيمين روزا لوكسمبرج وكارل ليبكنشت. وعلى الرغم من أنه أصبح في عام ١٩٢٧م رئيسًا لتحرير مجلة تدين بمبادئ هذه الحركة، مجلة Gesellshaft، فقد كان يقوم بهذه المهمة دون أي ارتباط فعلي بمبادئ هذا الحزب.

وعندما تولى النازيون الحكم عام ١٩٣٣م، غادر ماركيوز ألمانيا، شأنه شأن الغالبية العظمى من الأساتذة والعلماء اليهود في ألمانيا، وبدأت مرحلة جديدة من حياته، انقطعت فيها روابطه ببلده الأصلي، وبدأ يبحث لنفسه عن وطن ثانٍ. وبعد فترة لم تزد عن سنة قام خلالها بالتدريس في جنيف، رحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يزال يقيم فيها حتى اليوم.

وقد أسَّس ماركيوز بعد رحيله إلى الولايات المتحدة مباشرة، وبالاشتراك مع زميله ماكس هوركيمر Max Horkheimer   معهد البحوث الاجتماعية Institute Of Social Reseacrh أو لنقل على الأصح أنهما نقلا هذا المعهد من مقره في فرانكفورت إلى جامعة كولومبيا في نيويورك.
ولكن قليلًا من الكتب التي أُلِّفت عن ماركيوز تذكر في معرض حديثها عن حياته، أنه اشتغل في مكتب أبحاث المخابرات Office Of Intelligence Research التابع لوزارة الخارجية الأمريكية لمدة عشر سنوات، كان يعمل خلالها في القسم المختص بشئون شرق أوروبا ووصل إلى وظيفة نائب رئيس هذا المكتب. وامتدادًا لهذا العمل، اشتغل بمعهد الشئون الروسية التابع لجامعة هارفارد، وكان كتابه «الماركسية السوفيتية» ثمرة لعمله في هذا المركز الأخير.
وقد انضم ماركيوز من عام ١٩٥٤م إلى عام ١٩٦٧م إلى هيئة التدريس بجامعة برانديس Brandeis، ثم انتقل إلى جامعة كاليفورنيا، حيث لا يزال يعمل حتى اليوم.
ولو شئنا أن نستخلص أهم المعالم في هذا العرض الموجز لحياة هربرت ماركيوز، أعني تلك المعالم التي تُلقي ضوءًا على فكره وتفسر اتجاهاته المتباينة، لكانت أبرز هذه المعالم في رأيي هي:
  • (١)

    انتماؤه إلى أسرة يهودية، وهو الانتماء الذي ظل ماركيوز متمسكًا به، ولم يحاول أن يعلن تحرره منه، كما فعل ماركس بصورة قاطعة، وكما فعل فرويد بصورة تكاد تكون قاطعة. وليس أدل على ذلك من تلك المدة الطويلة التي قضاها في جامعة برانديس بالولايات المتحدة.

    ذلك لأن هذه الجامعة يهودية بحكم نشأتها. وهي معقل الثقافة اليهودية في أمريكا، وجميع أعضاء هيئة التدريس والطلبة فيها من اليهود.

  • (٢)

    اتجاهه إلى التعاطف مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا، ثم إعلانه بعد ذلك استقلاله عن جميع الأحزاب؛ ذلك لأن هذا الاستقلال أتاح له أن يتخذ مواقف تبدو كأنها تعبر الحواجز بين الأيديولوجيات المتعارضة، دون أن يجد في ذلك ما يتناقض مع معتقداته السياسية والاجتماعية الأصلية.

  • (٣)

    اشتغاله لمدة طويلة في أعمال تخدم نشاط الحكومة الأمريكية المتعلق بالشئون الروسية وشئون أوروبا الشرقية بوجه عام، مما يحمل على الاعتقاد باستحالة أن يكون موقفه الحقيقي هو موقف الحياد بين المعسكرين.

  • (٤)

    اتخاذه الولايات المتحدة وطنًا ثانيًا أقام فيه منذ عام ١٩٣٤م؛ أي حوالي نصف عمره، مما أتاح له فرصة الاطلاع الكامل عن كثب على أحوال الحياة في أكثر البلاد الرأسمالية تقدمًا، وزوده بمعرفة مباشرة عن طبيعة المجتمع الصناعي المتقدم، لا سيما وهو قد رحل إليها في سن النضوج، وفي وقت كانت فيه قدراته الفكرية قد بلغت مستوًى يتيح له القيام بتحليلات عميقة للمجتمع الذي يعيش فيه.

ولسنا نود، في الوقت الحالي، أن نبحث في مدى الاتساق بين هذه المعالم الرئيسية الأربعة في حياة ماركيوز، ولا سيما الثالث والرابع منها؛ ذلك لأنه يبدو أن هناك تناقضًا بين قبوله الاشتغال في خدمة النشاط الأمريكي الموجه ضد أوروبا الشرقية عامة وبين نقده الحاسم للمجتمع الصناعي المتقدم كما يتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص. وتلك بالفعل مسألة جديرة بالبحث؛ لأنها تلقي ضوءًا على موقفه العام من الأيديولوجيات المعاصرة وتكشف عن التيارات الخفية الكامنة وراء كثير من آرائه ذات المظهر التقدمي البرَّاق. غير أننا لن نستطيع خوض موضوع معقَّد كهذا — هو في واقع الأمر متعلق بتقييم ماركيوز من حيث هو مفكِّر أيديولوجي بوجه عام — إلا بعد أن نكون قد عرضنا الجوانب الرئيسية لتفكيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤