الفصل الثامن

الأخلاقيات

الدارما

الأخلاقيات («سيلا») هي القسم الأول من الأقسام الثلاثة للطريق الثُّماني وأساس الحياة الدينية. وتُعد التنمية الأخلاقية متطلبًا أساسيًّا لإنْماء التأمل («سامادي») والحكمة («بانيانيا»). وعيش حياةٍ أخلاقيةٍ يعني العيش وفقًا للدارما. ومصطلح «دارما» له معانٍ كثيرة، لكنَّ الفكرة الأساسية له هي القانون الكوني الذي يحكم كلًّا من العالم المادي والأخلاقي للكون. والدارما ليستْ ناشئةً عن كائنٍ أسمى ولا تخضع لسيطرة أيِّ كائنٍ أسمى، حتى الآلهة أنفسُها تخضع لقوانينها. وفي البوذية يُستخدم المصطلح للإشارة إلى كلٍّ من النظام الطبيعي وإلى مجموعة التعاليم الأخلاقية الدينية البوذية كاملةً، كما لاحظنا بالفعل. ويوجد شعور بحالة الارتباط بين الأمرين يتمثَّل في أن التعاليم البوذية تعتبر حقيقية على نحوٍ موضوعيٍّ ومتفقةٍ مع طبيعة الأشياء.

يمكن أن تترجَم كلمة الدارما إلى مصطلح «القانون الطبيعي»، وهذا المصطلح يتضمَّن كلا المعنيَيْن الأساسيَّيْن للكلمة، وهما مبدأ النظام والانتظام الذي نراه في سلوك الظواهر الطبيعية، وأيضًا فكرة وجود قانونٍ أخلاقيٍّ شاملٍ اكتشف متطلباتِه كائناتٌ حظيت بالتنوير مثل بوذا (لاحظ أن بوذا اكتشف الدارما ولم يبتكرها). وكل جانب من جوانب الحياة يخضع لحكم الدارما؛ مثل القوانين الطبيعية التي تُنظِّم شروقَ الشمس، وتَعاقُبَ الفصول وحركةَ البروج. وعلى صعيد النظام الأخلاقي تظهر الدارما في قانون الكارما الذي يحكم طريقة تأثير الأفعال الأخلاقية على الحياة الحالية والحيوات المستقبلية للأفراد. إن العيش وفقًا للدارما وتنفيذ متطلباتها يقود إلى السعادة والإنجاز والخلاص، أما إهمالها أو انتهاك حدودها فيؤدي إلى معاناةٍ لا نهائيةٍ في دورة الميلاد المتكرر («سامسارا»).

وتشترك البوذية مع التراث الأخلاقي الهندي ككلٍّ في أنها تُعبِّر عن متطلباتها الأخلاقية في صورة واجبات. والواجبات الأخلاقية الأعم في البوذية هي تلك الموجودة في الوصايا الخمس، مثل واجب الامتناع عن القتل والسرقة وهكذا (انظر الإطار التالي). وتنطبق هذه الوصايا على الجميع بلا استثناء. وعند اعتناق البوذية يأخذ (أو يَقبل) المرءُ هذه الوصايا في احتفالٍ شعائري، وتُقر طريقةُ صياغة الكلمات المستخدمة الطابعَ الحر والتطوعي للواجب المفترض أن يؤديَه الشخص.

أهيمسا أو حرمة الحياة

حجر الأساس في الأخلاقيات البوذية هو معتقد حرمة الحياة. ولاقى هذا المبدأ ترويجًا شديدًا على يد حركات («السامانا») غير التقليدية البائدة مثل البوذية والجاينية (تقليد منشق عن الهندوسية شبيه بالبوذية في عدة جوانبَ ونشأ قبلها بوقتٍ قليل)، لكنه أثَّر على المذاهب التقليدية تأثيرًا متزايدًا. ورفضت كلٌّ من البوذية والجاينية التضحيةَ بالحيوانات التي لعبت دورًا مهمًّا في الطقوس الدينية في الهند منذ الأزمان القديمة، وكان أساسُ الرفض هو اعتبارَ أنها ممارسة قاسية وبربرية. وإلى حدٍّ ما بسبب تأثير البوذية والجاينية تزايدت الاستعاضة عن قرابين الدم في التقليد البراهمي التقليدي بعطايا رمزية مثل الخضراوات والفاكهة واللبن.

الوصايا البوذية

ثَمَّةَ خمس وصايا أساسية في البوذية:

(١) الوصايا الخمس («بانياكاسيلا»).

(٢) الوصايا الثماني («أتانجاسيلا»).

(٣) الوصايا العشر («داساسيلا»).

(٤) طرق الأفعال الخيِّرة العشر («داساكوسالاكاماباتا»).

(٥) قانون الانضباط في حياة الرهبنة («باتيموكا»).

القانون الأكثر لفتًا للانتباه بين هذه القوانين هو القانون الأول المتعلق بالوصايا الخمس الخاصة بالعوام. وتمنع هذه الوصايا الخمس ما يلي: (١) القتل. (٢) السرقة. (٣) الفساد الجنسي. (٤) الكذب. (٥) تناول المُسْكرات. يكمن جوهر الأخلاق البوذية في الوصايا الأربع الأولى. ويكمل هذه القواعد مجموعة أخرى أكثر صرامةً تتوقَّف على مكانة الممارس لهذه الوصايا أو تُلائم مناسبات شعائرية معينة؛ فعلى سبيل المثال، يُعتقد أن الوصية الخامسة المتعلقة بحظْر تناوُل المُسْكرات مناسبةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ للعوام، بينما الوصايا الثماني والوصايا العشر اللتان تكملان الوصايا الخمس الأساسية بقيودٍ إضافية، كتلك المتعلقة بالأوقات التي قد يُسمح فيها بتناول الوجبات، يشيع تطبيقها باعتبارها الْتزاماتٍ إضافيةً في الأيام المقدَّسة. وطرق الأفعال الخيرة العشر هي تصوُّر يَشيع وجوده في مصادر الأبهيدارما والماهايانا بصفةٍ خاصةٍ ويحكم أفعال الجسد (١–٣)، والكلام (٤–٧)، والعقل (٨–١٠). وهذه الوصايا العشر هي: (١) عدم القتل. (٢) عدم السرقة. (٣) تجنُّب الإباحية الجنسية. (٤) عدم الكذب. (٥) الامتناع عن قول الافتراءات. (٦) الامتناع عن الكلام القاسي. (٧) الامتناع عن اللغو. (٨) عدم الطمع. (٩) عدم الكراهية. (١٠) تبنِّي الآراء الصحيحة. وتختص العناصر الثلاثة الأخيرة بالعقل وتوضِّح أنه حتى الأفكار الجيدة والسيئة يمكن أن تكون لها آثار كارمية. أما قانون الانضباط في حياة الرهبنة الموجود ضمن قواعد الرهبنة («فينايا») فهو مجموعة قواعد تزيد عن مائتي قاعدة (يختلف العدد المحدد للقواعد اختلافًا طفيفًا بين المذاهب المختلفة)، وتوضح تلك القواعد بالتفصيل ضوابط حياة مجتمع الرهبان.

وفي التقاليد المنشقة عن الهندوسية اتخذ مبدأُ حرمة الحياة أو «أهيمسا» صورةً متطرفةً في بعض الأحيان؛ فعلى سبيل المثال، كان الرهبان الجاينيون يتخذون إجراءاتٍ احتياطيةً هائلةً للحيلولة دون تدمير أشكال الحياة الدقيقة كالحشرات حتى ولو بغير قصد. وكان لممارساتهم بعض التأثير على البوذية، وفي الغالب يستخدم الرهبان البوذيون مصفاةً حرصًا على عدم تدمير الكائنات الدقيقة أثناء شُربهم للماء. كما تجنَّبوا أيضًا السفرَ خلالَ فصل الرياح الموسمية لتفادي السَّير على الحشرات والمخلوقات الصغيرة التي تتزايد أعدادها بعد الأمطار. وترفض بعضُ الثقافات البوذية ممارسةَ الزراعة بسبب التدمير الحتمي للحياة الذي يحدث بسبب حرث الأرض. عمومًا، وعلى الرغم من أن البوذية شاركَتِ الموروث الهندي (والهندوأوروبي) نظرةَ حرمة الحياة، فإنها تَعتبر تدمير الحياة خاطئًا من الناحية الأخلاقية فقط عندما يحدث التدمير عن قصدٍ أو نتيجةً للإهمال.

الفضائل

على الرغم من أن هذه القواعد مهمة للغاية في الأخلاق البوذية، فإن الحياة الأخلاقية في البوذية ترتبط بأمورٍ أكبر من مجرد اتباع تلك القواعد؛ فيجب ألا تُتَّبع الوصايا فحسب، بل يجب أن تُتبع الأسباب الصحيحة وبالحافز الصحيح. وفي هذا السياق تتجلى أهمية دور الفضائل، ويمكن تشبيه الأخلاقيات البوذية في مجملها بالعملة ذات الوجهين؛ فأحد هذين الوجهين يوجد عليه الوصايا، وعلى الوجه الآخر توجد الفضائل. وقد تُعتبر الوصايا، في واقع الأمر، مجرد قائمةٍ بالأمور التي لن يقترفها أبدًا الشخصُ الشريف.

تؤكِّد المصادر البوذية القديمة على أهمية اكتساب التوجُّهات والعادات الصحيحة كي يكون السلوك الأخلاقي تجليًا طبيعيًّا وعفويًّا للمعتقدات والقيم الراسخة والمتأصلة على نحوٍ صحيح، وليس مجرد اتباعٍ لقواعدَ خارجية. ويوضح هذا الأمر صياغاتٍ كثيرةً لهذه القواعد. وتقول إحدى صياغات النصوص عن الشخص الذي يتبع الوصية الأولى: «عندما يتخلَّى المرء عن الهراوة والسيف فإنه يحيا متعاطفًا مع كل الكائنات الحية ويحنو عليها» (كتاب ديجا). ومن ثَمَّ يصبح الامتناع عن إزهاق الروح من الناحية المثالية ناتجًا عن التعاطُف القائم على الرفق بالكائنات الحية، وليس مجردَ تقييدٍ مفروضٍ مناهضٍ للنزعة الطبيعية. ويتطلب الامتثال التام للقاعدة الأولى فهمًا عميقًا للعلاقة بين الكائنات الحية (وفقًا للبوذية، كلنا كنا آباء وأمهات وأبناء … إلخ بعضنا لبعضٍ في دورة التناسخ الطويلة)، بالإضافة إلى ميلٍ ثابتٍ للإحسان والشفقة على جميع الكائنات. وعلى الرغم من أن قليلًا من الناس هم من أجادوا هذه القدرات، فإن احترام هذه القواعد يجعل الأشخاص يألفون حالة أولئك الذين أجادوا هذه القدرات؛ ومن ثَمَّ يقتربون خطوةً من التنوير. في الجماعة البوذية القديمة لم يضع بوذا أية قواعد؛ لأنه لم تكن توجد حاجة لأيٍّ منها؛ نظرًا لأن كل أعضاء «السانجا» كانوا «آرهات». فقط عندما انضم غير المتنورين إلى الجماعة كان لزامًا وضعُ قوانين لضبط السلوك.

والفضائل، كما يوضح أرسطو، تتعلق بالأمور الصعبة؛ فتتمثَّل مهمة الفضائل في مواجهة الطبائع السلبية (أو الرذائل) مثل الغرور والأنانية. وقوائم الفضائل والرذائل المطولة التي تظهر في الأدبيات اللاحقة استُنبطتْ من مجموعةٍ أساسيةٍ لفضائل ثلاث، هي «الفضائل الأساسية» البوذية الثلاث المتمثِّلة في عدم التعلُّق («أراجا»)، والإحسان («أدوسا»)، والفهم («أموها»). وهي أضداد «جذور الشر» الثلاثة المذكورة في الفصول السابقة، وهي الطمع («راجا»)، والكراهية («دوسا»)، والوهم («موها»). وعدم التعلُّق يعني غياب رغبة الأنانية التي تُلطخ السلوك الأخلاقي عن طريق تخصيص المكانة المرموقة لاحتياجات المرء الشخصية. والإحسان يعني توجُّهًا يقوم على المودَّة تجاهَ كلِّ الكائنات الحية، والفهم يعني معرفة الطبيعة البشرية والمصلحة البشرية كما هو موضح في معتقداتٍ مثل الحقائق الأربع النبيلة.

أخلاقيات الرهبنة

تحكم حياةَ الراهب البوذي أو الراهبة البوذية لائحةُ قواعد الرهبنة («فينايا»). ولائحة قواعد الرهبنة هي جزء من قانون بالي، وهي عبارة عن كتاب جامع للمعلومات المتعلقة بكل جوانب جماعة الرهبان. وتصف أصولَ الرهبنة وتاريخَها والمجالسَ الأولى، والخلافاتِ التي نشبت حول سلوكيات الرهبنة، وتروي كيف نشأت تقاليد الجماعة. ويوجد في لائحة قواعد الرهبنة قانون مكوَّن من ٢٢٧ مادة يُعرَف باسم «الباتيموكا» يقدم تعليماتٍ مفصلةً حول الطريقة التي يجب أن يعيش بها الرهبان في الجماعة. وتشبه لائحةُ قواعد الرهبنة في كثيرٍ من النواحي قاعدةَ القديس بنيديكت التي قُدِّمت في القرن السادس باعتبارها نموذجًا للحياة اليومية للرهبان المسيحيين، غير أن لائحة قواعد الرهبنة أطول بكثيرٍ من قاعدة القديس بنيديكت. وتروي ضمن أمورٍ أخرى الظروف التي كانت سببًا في إضافة كل قاعدةٍ من قواعد الرهبنة، وتحكي أيضًا عن التعديلات التي أُجريت عليها عندما طرأتْ ظروف جديدة. ويُقدَّم بوذا على أنه مؤلِّف القواعد، على الرغم من أن الدليل الداخلي يشير إلى أن كثيرًا من هذه القواعد يعود تاريخه إلى ما بعد وفاته. وتُقدِّم اللائحة الكثير من المعلومات الفنية المتعلقة بأنواع المعاطف التي يرتديها الرهبان، والطريقة التي يلزم تشييد الأديرة بها، ومدى ارتفاع الأَسرَّة عن الأرض، وأنواع البُسُط المستخدمة، وهكذا.

وبالإضافة إلى الكثير من التفاصيل المتشابكة عن الحياة اليومية للرهبان، تتضمن لائحةُ قواعد الرهبنة الوصايا الأخلاقيةَ الأساسيةَ مثل تلك المتعلقة بحظر إزهاق الأرواح والسرقة والكذب. علاوةً على ذلك، تُعد السجلات التي ترصد انتهاكاتٍ معينةً لهذه الوصايا مصدر معلوماتٍ ثريًّا للغاية من الناحية الأخلاقية؛ فكثير من الوقائع التاريخية المذكورة يُسلِّط الضوءَ اللازم إلى حدٍّ كبيرٍ على المبادئ الأخلاقية التي تُشكِّل أساسًا للقواعد نفسِها. وبينما تُقدَّم القواعد الأخلاقية في كتابات بوذا بشكلٍ مقتضبٍ وبقليلٍ من التفسير، يمكن أن نلاحظ في لائحة قواعد الرهبنة طبيعة الجُرم المقترَف بقدرٍ كبيرٍ من الوضوح. إن التعليقات والمناقشات المتعلقة بتفسير قواعد الرهبنة هي أقرب نقطة الْتِقاءٍ بين البوذية وبين مبحث فلسفة الأخلاق، كما أنها تقدم مصدرًا مهمًّا للغاية لتوضيح كثيرٍ من النقاط الأخلاقية.

ولذلك، يمكن اعتبار الوصايا المتعددة لحياة الرهبنة المذكورة سلفًا مزيجًا من الوصايا «الأخلاقية» والممارسات الإضافية الهادفة إلى اكتساب رباطة الجأش وضبط النفس. إن العدد الكبير لقواعد الرهبنة يضمن الانصياعَ والالتزامَ داخل مجتمعات الرهبان؛ بحيث تكون النزاعات والخلافات في أدنى مستوياتها، ولتقدُّم الجماعة نفسِها باعتبارها نموذجًا أخلاقيًّا مصغَّرًا للعالم ككلٍّ.

الوسيلة الماهرة

كان من أهم الابتكارات في أخلاقيات الماهايانا مبدأ الوسيلة الماهرة («أوبايا كوشاليا»). وجذور هذه الفكرة متأصلة في مهارة بوذا في تعليم الدارما، وتظهر هذه المهارة في قدرته على تكييف رسالته مع السياق الذي يقدمها فيه؛ فعلى سبيل المثال، عند التحدُّث مع البِرَهمَن، يشرح بوذا في أغلب الأحيان تعاليمه في ضوء الإشارة إلى طقوسهم وتقاليدهم، فيقود جمهوره تدريجيًّا نحو حقيقة المعتقد البوذي. وكوَّنتِ الحكايات الرمزية والاستعارات والتشبيهات جزءًا مُهمًّا من أسلوبه التعليمي، وكانت مصممةً بمهارة بما يتناسب مع مستوى جمهوره.

طوَّرت الماهايانا هذه الفكرةَ بطريقةٍ جديدةٍ تمامًا عن طريق التصريح، في نصوصٍ مثل «سوترا اللوتس»، بأن التعاليم الأولى لم تُقدَّم فحسب بطريقةٍ ماهرة، بل كانت في مجملها «وسيلة ماهرة». وكان لهذه الفكرة انعكاسات معينة على الأخلاقيات؛ فلو كانت التعاليم الأولى مؤقتة وليست مطلقة، لأصبحت الوصايا التي تضمُّها تلك التعاليم هي أيضًا ذاتَ طبيعةٍ مؤقتةٍ وليست مطلقة. وبهذه الطريقة أصبحَتِ القواعد الواضحة والصارمة التي يجدها المرء مرارًا وتكرارًا في المصادر الأولية التي تحظر أنواعًا معينة من التصرفات؛ يمكن تفسيرها إلى حدٍّ كبيرٍ على أنها تعليمات إرشادية للأشخاص في المرحلة التمهيدية وليست ملزِمةً على نحوٍ مطلق. واستطاع رهبان البوديساتفا، الأبطال الأخلاقيون الجدد للماهايانا، أن يزعموا أنهم حقَّقوا زيادةً في مساحة الحرية والمرونة الأخلاقية اعتمادًا على إدراكهم لأهمية الشفقة. ونظرًا لتعهُّد البوديساتفا بإنقاذ كل البشر، فقد سجَّلَ كثير من النصوص أدلةً واضحةً على تذمُّر البوديساتفا من ضرورة اتِّباع القواعد والتعليمات التي تبدو كأنها تَحُول دون تنفيذه لمهمته. وأدَّت الحاجة إلى كسر القواعد أو تعليقها لصالح الشفقة إلى تأليف نصوصٍ معينةٍ تُرسي قوانينَ سلوكيةً جديدةً لرهبان البوديساتفا تسمح لهم في بعض الأحيان بعدم اتِّباع الوصايا. وفي الصور الأكثر تطرُّفًا لهذا الأمر، أصبح حتى القتلُ مبررًا لمنع شخصٍ من ارتكاب جريمةٍ شائنةٍ (مثل قتْل شخصٍ حظيَ بالتنوير) سيعاني بسببها القاتل من القصاص الكارمي. وأصبح الكذب أيضًا، وغيره من الأمور التي تنتهك الوصايا، مسموحًا به في ظروفٍ استثنائية.

الحقوق

على الرغم من ذِكر الواجبات، فإنه لم يُذكر أي شيءٍ حتى الآن عن الحقوق. إن شعاراتٍ مثل «حق الاختيار» و«حق الحياة» و«حق الموت» (في سياق القتل الرحيم) هي العملة الرائجة في الجدل المعاصر. ورغم ذلك، لم تَذكر المصادر البوذية الأولى أيَّ كلمةٍ مرادفةٍ لفكرة «الحقوق» على النحو المفهوم في الغرب. وقد ظهر مفهوم الحق في الغرب نتيجةً لمزيجٍ معينٍ من التطوُّرات الاجتماعية والسياسية والفكرية لم تتكرَّر في أي مكانٍ آخر. ومنذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر احتلَّ هذا المفهوم الصدارةَ في المشهد القانوني والسياسي، وقدَّم لغةً سهلةً ومرنةً يمكن للأفراد من خلالها التعبيرُ عن مطالبهم الرامية إلى تحقيق العدالة. ويمكن تعريف الحق بأنه قوة يمتلكها الفرد ويستطيع استخدامها. وقد تتمثَّل هذه القوة في فائدةٍ أو استحقاقٍ يسمح لحامل الحق بمطالبة الآخرين أو تحصين نفسه ضد المطالب التي يسعى الآخرون إلى فرضها عليه.

إذا كانت البوذية لا تحتوي على أي مفهومٍ للحقوق، فكيف يمكن للبوذيين استخدام لغة الحقوق عند مناقشة الأمور الأخلاقية؟ قد يقول البوذي إن لغةَ الحقوق ليست مستغرَبةً في البوذية؛ لأن الحقوق والواجبات كلتاهما مرتبطة بالآخر. ويمكن اعتبار الحق مقابلًا للواجب. فإذا كان «أ» لديه واجب تجاه «ب»، فإن «ب» يقف في موقف المستفيد وله «حقٌّ» في أي نوعٍ من أنواع المنفعة الصادرة عن أداء «أ» لواجبه. وعلى الرغم من أن الحقوق ليست مذكورةً صراحةً في المصادر البوذية، فمن الممكن اعتقاد أنها مذكورة بطريقةٍ ضمنيةٍ في فكرة الواجبات الدارمية. فإذا كان من واجب الملك أن يحكم بالعدل، فإذنْ يمكن القول بأن للمواطنين «الحقَّ» في معاملةٍ عادلة. وبقدرٍ أكبر من التعميم، إذا كان من واجب الجميع ألا يُزهقوا الأرواح، فإن كل الكائنات الحية تتمتع بحق الحياة؛ وإذا كان من واجب الجميع الامتناعُ عن السرقة، فللجميع الحق في ألا يُحرَموا ظلمًا من ممتلكاتهم؛ وبذلك يمكن القول إن مفهوم الحقوق مذكور بطريقةٍ ضمنيةٍ في الدارما، وأن الحقوق والواجبات تشبهان فرصتين منفصلتين تؤديان إلى تحقيق المصلحة العامة على صعيد العدالة.

حقوق الإنسان

تضع مواثيق حقوق الإنسان المعاصرة، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام ١٩٤٨، قائمةً بالحقوق الأساسية التي يجب أن يمتلكها كلُّ البشر دون تمييزٍ على أساس العرق أو المعتقد. وكثير من البوذيين ينضم إلى مثل هذه المواثيق، وفي أغلب الأحيان يمكن السماع عن قادةٍ بوذيين، مثل الدالاي لاما، يتبنَّون المبادئ التي تُجسدها هذه المواثيق. ويبدو أن المصادر البوذية الأولى تنبَّأت ببعض هذه الحقوق؛ فمثلًا يمكن رؤية أن حقَّ عدمِ الاستعباد موجودٌ في حظر قانون بالي الاتِّجارَ في الأحياء (كتاب أنجوتارا). ويمكن القول أيضًا إن حقوق الإنسان الأخرى مذكورة على نحوٍ ضمنيٍّ في الوصايا البوذية؛ فعلى سبيل المثال، حق عدم التعرُّض للقتل أو التعذيب يمكن اعتبار أنه مذكور ضمنيًّا في الوصية الأولى.

ورغم ذلك، وبوجهٍ عام، لا يوجد لدى المصادر البوذية التقليدية سوى القليل كي تقوله حول المسائل التي تُعتبر اليوم قضايا متعلقةً بحقوق الإنسان. وفي ظل غياب مفهومٍ واضحٍ للحقوق، وبالطبع هذا ليس من غير المتوقَّع، لا بد للبوذية من تقديم فكرةٍ عن كيفية تأصيل فكرة حقوق الإنسان في المعتقد البوذي. كيف يمكن للبوذية فعل ذلك؟ من الممكن أن تبدأ بالإشارة إلى أن حقوق الإنسان ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة الكرامة الإنسانية. وفي واقع الأمر، يشتق كثير من مواثيق حقوق الإنسان على نحوٍ واضحٍ فكرةَ الحقوق من فكرة الكرامة الإنسانية. وفي كثيرٍ من الأديان يقال إن الكرامة الإنسانية نابعة من حقيقة أن البشر خُلقوا على صورة الإله. وبطبيعة الحال، لا تُقدِّم البوذية مثل هذا الزعم. وهذا يصعب من رؤية المصدر المحتمل للكرامة الإنسانية في البوذية. وإذا كان من غير الممكن البحث عن الكرامة الإنسانية من منطلقٍ ديني، فمن الممكن البحث عنها من المنطلق الإنساني. وفي البوذية يبدو أن الكرامة الإنسانية تنبع من قدرة البشر على اكتساب التنوير، كما هو واضح من الشخصية التاريخية لبوذا والقديسين في التراث البوذي. إن بوذا احتفاءٌ حيٌّ بالقدرة الإنسانية، وفي المعرفة العميقة والشفقة اللتين يمثلهما — وهذه صفات يمكن لكل البشر محاكاتها — يمكن أن توجد الكرامة الإنسانية. تُعلِّمنا البوذية أن جميعنا بُددة محتملون (بعض مذاهب الماهايانا تعبر عن ذلك بقول إن كل البشر يمتلكون «طبيعة بوذا» أو بذرة التنوير). وبموجب هذه القدرة المحتمَلة على اكتساب التنوير التي يتشاركها البشر، فإن كل الأفراد يستحقون الاحترام؛ ولذلك يقتضي العدلُ وجوبَ حماية حقوق كل فرد.

الحرب والإرهاب

كما لاحظنا، فإن التعاليم البوذية تُناهض العنف بشدةٍ وتعتبره نتيجةً لحالاتٍ ذهنيةٍ مرتبطةٍ بالطمع («راجا»)، والكراهية («دوسا»)، والوهم («موها»). وتَعتبر أن العدوان يُذْكيه الاعتقاد الخاطئ في وجود الذات («أتمان») والرغبة في حماية تلك الذات من الضرر. وهذا الإحساس القوي بالذات وما يرتبط به من أمورٍ (مثل: «ممتلكاتي»، «بلدي»، «عِرقي») يولِّد إحساسًا قويًّا بالانقسام يؤدِّي إلى الشك والكراهية تجاه كل ما هو «غريب» أو «آخر». إن هدف التعاليم البوذية هو إذابة الإحساس بالذات، ومعه الخوف والكراهية اللذان يسببان نشوب الصراع.

ويُعد الصبر («كهانتي») من الفضائل المهمة في هذا الصدد؛ نظرًا لأن انعدام التسامُح وانعدام الحلم هما غالبًا سبب النزاعات العنيفة. ويوجد الكثير من القصص البوذية التي تُضرب مثلًا على ممارسة الصبر، مثل قصة «كهانتيفادي جاتاكا». وفي هذه القصة يُظهر «كهانتيفادي»، أحد النساك، الجَلَد عندما لم يغضب حتى بعد أن قُطعت أطرافه واحدًا تلو الآخر بِناءً على أوامرِ أحدِ الملوك. وتعتمد ممارسة الصبر على رباطة الجأش («أوبيكها») أو الرزانة تجاهَ كلِّ الناس، سواءٌ أكانوا أصدقاءَ أم أعداءً. ومن الواضح أن الأشخاص الذين يُمثِّلون أعداءنا حاليًّا كانوا على نحوٍ شبه أكيدٍ أصدقاءنا في حياةٍ أخرى، فلا أحد سيظل عدوًّا للأبد.

عندما تتحدث المصادر القديمة عن الحرب فإنها تُدينها تمامًا دون استثناء؛ لأن الحرب تتضمَّن القتلَ، والقتلُ يعدُّ خرقًا للوصية الأولى. ولا يمثل سببُ الحرب قيمةً كبيرةً سواءٌ أكانت الحرب تُخاض لسببٍ هجوميٍّ أم دفاعيٍّ؛ لأن خسارة الأرواح ستحدث نتيجةً لها. وفي تناقضٍ واضحٍ مع وجهة نظر الإسلام حول مصير المحاربين الذين يموتون في حربٍ مقدسة، يُعبِّر بوذا عن وجهة نظره في «سوترا نيباتا» (كتاب ساميوتا نيكايا) فيقول إن الجنود الذين يموتون في المعركة لا يدخلون إلى جنةً خاصةً، بل يدخلون إلى جحيمٍ خاصٍّ؛ إذ في لحظة موتهم كانت عقولهم مصمِّمةً على القتل. وتؤكِّد بعض المصادر أنه حتى القتل دفاعًا عن النفس أو دفاعًا عن الأسرة أو الأصدقاء يعد خطأً، وتمدح في العموم توجُّهَ عدم المقاومة عند التعرُّض للعنف. ويروي التعليق على مجموعة أقوال «دامَّابادا» كيف أن أقارب بوذا، شعب ساكيا، عندما تعرَّضوا للهجوم في إحدى المرات، رضُوا بأن يُقتلوا بدلًا من أن يَخرقوا الوصية الأولى. وتوجد أمثلة أخرى في حكايات «جاتاكا» وغيرها تتحدث عن أمراءَ وملوكٍ تنازلوا عن عروشهم بدلًا من اللجوء إلى العنف للدفاع عن ممالكهم.

وفي أغلب الأحيان، يشير البوذيون إلى الملك أشوكا باعتباره نموذجًا يوضِّح كيف يجب أن يحكم الحكَّام من خلال وسائلَ سلمية. وكما هو موضَّح في الفصل السادس، فقد حكم أشوكا إمبراطوريةً كبيرةً في الهند في القرن الثالث الميلادي. وبعد ثماني سنواتٍ من تتويجه أمَر جيوشه بمهاجمة كالينجا، وهي منطقة على الساحل الشرقي نجحتْ في مقاومته. كانت الحملة دمويةً وكانت الخسائر في الأرواح كبيرة. وفي أحد الإعلانات العديدة (الإعلان الصخري الرابع عشر) المحفورة على الصخور والأعمدة في كل أنحاء المملكة، قال أشوكا إنه في حملة كالينجا هُجِّرَ ١٥٠ ألف شخص، وقُتل ١٠٠ ألفٍ في المعركة، ومات عدد أكبر من ذلك في الاضطرابات التي صاحبَتِ الحملة. وتحدَّث عن ضِيقه من معاناة أناسٍ عاديين مهذبين («براهمة، ونسَّاك، وأتباع أديانٍ مختلفة») أصيبوا أو قُتلوا أو افترقوا عن أحبائهم. لقد أخافته خسارة الأرواح في الحرب وأدَّت إلى تغيُّرٍ كاملٍ في قلبه؛ ونتيجةً لذلك تخلَّى عن استخدام الحملات العسكرية، وقرَّر الحكم منذ ذلك الوقت بالدارما، وقال: «إن الغزو بالدارما أفضل أنواع الغزو.» ومن الواضح أن أشوكا تمنَّى محاكاة التصوُّر الكلاسيكي المتمثِّل في تشاكرافارتين، الملك البوذي الصالح. ورغم ذلك، فمن الملاحَظ أنه على الرغم من أن تشاكرافارتين، تلك الشخصية الأسطورية، يُصوَّر على أنه يغزو سلميًّا من خلال قوة الدارما، فإنه رغم ذلك يحتفظ بجيشه ويصطحبه معه في كلِّ أسفاره إلى الممالك المجاورة. في ضوء هذه الأمور الغريبة، راود بعضَ الباحثين الشكُّ حول كون موقف البوذية من استخدام القوة محددًا كما بدا في البداية أم لا. وهذه التحفُّظات عزَّزتْها المصادر اللاحقة. وقد وضع أحد مصادر الماهايانا القديمة، الذي يحمل اسم «ساتياكاباريفارتا»، والذي يعود على الأرجح إلى القرن الثاني الميلادي، نوعًا أوليًّا من فلسفة الحرب العادلة التي تقول إنه يمكن اللجوء إلى الحرب في حالة فشل الوسائل الأخرى، بشرط ضرورة أن يُجرِّب الملوكُ في البداية الصداقةَ، ثم المساعدة، ثم الترهيب قبل اللجوء إلى الحرب. ويَستخدِم النص مفاهيمَ من بوذية الماهايانا مثل الشفقة والوسائل الماهرة لتبرير الحرب والتعذيب والعقوبات القاسية دعمًا لحملات الغزو من أجل نشْر نفوذ البوذية. إن هذه الفكرة الجديدة المتمثلة في أن العنف السياسي يمكن كذلك التفكير في استخدامه تأخذنا بعيدًا عن بوذا المسالم الذي يصوره لنا قانون بالي بأنه لم يغفر مطلقًا استخدامَ العنف تحت أي ظروف. ونَصُّ «كالاتشاكرا تانترا»، وهو نَصٌّ مفضَّل للدالاي لاما الحالي، يحتوي على فقراتٍ مثيرةٍ للجدل تتنبَّأ باندلاع «حرب مقدسة» بين البوذيين و«البربريين» (بالسنسكريتية: «ملكشا») وتتوقَّع قدوم تشاكرافارتين الذي سوف يهزم البربريين في المعركة. ويحدد بعض الباحثين هويةَ هؤلاء «البربريين» قائلين إنهم القوات المسلمة التي هاجمتِ الأديرةَ البوذية في شمال غرب الهند في أواخر العصور الوسطى، بينما يفسِّر آخرون هذه الفقرات تفسيرًا نفسيًّا ويقولون إنها تصف الصراع الداخلي الذي يَشنُّه ممارسو الدين ضد قوات الظلام المتمثِّلة في الكراهية والغضب والعدوان.

وأيًّا كانت طريقة تفسير النصوص، فإن التاريخ يُظهر أن كثيرًا من الحكام البوذيين قد فشلوا في اتِّباع مثال أشوكا المسالم. وفي التاريخ القديم لسريلانكا، نشب العديد من المعارك بين السنهاليين والغزاة التاميل القادمين من الهند. ويُعتبر الملك السنهالي دوتهاجاماني (القرن الأول الميلادي) بطلًا قوميًّا لأنه هزم الجنرال التاميلي إلارا، وذكرى هذا الانتصار مخلَّدة في السجل السنهالي «ماهافانسا»، وهو سجل تاريخي للقرنين الخامس والسادس الميلاديين يروي تاريخ جزيرة سريلانكا. ويصور السجل الصراع بأنه نوع من «الحرب المقدسة» بين البوذيين والهندوس ويمجِّد النصر البوذي. ويروي كيف شعر دوتهاجاماني بالندم بعد الانتصار (تمامًا مثل أشوكا)، لكن طمأنه الرهبان المتنوِّرون («الآرهات») بأنه ما دام يدافع عن «الدارما» فإنه لم يفعل شيئًا مخالفًا للوصايا البوذية. وفي العصور المعاصرة تحدَّث رهبان بارزون، مثل الراحل والبولا راهولا، مستحسنين «الوطنية الدينية»، ووصفوا حملة دوتهاجاماني بأنها «حرب مقدسة». وأثناء الحرب الأهلية الأخيرة في سريلانكا، أقام الرهبان البوذيون بانتظامٍ طقوسًا دينية من أجل الجيش، واليوم يوجد رهبان بوذيون يخدمون في القوات المسلحة التايلاندية والكورية والأمريكية.

في الفترة المعاصرة، كثيرًا ما شنَّ الرهبان البوذيون حملاتٍ هجوميةً صريحةً ضد خصومهم، وطالبوا بمحْوهم باستخدام القوة. وفي سبعينيات القرن العشرين نادى الراهب التايلاندي كيتيفودو، المعارضُ القويُّ للشيوعية، في تصريحاتٍ علنيةٍ بإبادة الشيوعيين، وزعم أن هذا واجب ديني وضروري لحماية الأمة التايلاندية، ومملكتها، ودينها القومي (البوذية). وحسب وجهة نظره، فإن قتل ٥ آلاف شيوعي ثمن يستحق دفعه لضمان سلامة ٤٢ مليون تايلاندي.

لم يكن جنوب آسيا المنطقةَ الوحيدةَ التي نشبت فيها الحروب؛ فأثناء بعض الفترات التاريخية، كانت بعض أجزاءٍ من شرق آسيا ساحةَ قتالٍ مستمرٍّ إلى حدٍّ كبير، وتورَّطت البوذية، وكانت في أغلب الأحيان شريكًا نشطًا في أحداث العنف. وفي اليابان، في العصور الوسطى، أصبحَتِ الأديرة البوذية مؤسساتٍ كبيرةً تمتلك الأراضي، وجنَّدتْ رهبانًا محاربين («سوهي») لحماية أراضيها ولتهديد أعدائها. وكانت المعارك تنشب بين الطوائف البوذية بعضها وبعضٍ، وأيضًا بينها وبين الحكام العسكريين («شوجون») والبلاط الإمبراطوري. ووجد كثير من محاربي الساموراي معتقدات وممارسات بوذية الزن تناسب نُظُمهم العسكرية إلى حدٍّ كبير؛ حيث دربوا عقولهم للوصول إلى حالةٍ عاليةٍ من اليقظة مكَّنتهم من الاحتفاظ بتركيزهم وانضباطهم في ساحة المعركة. وتأثرت الفنون القتالية مثل المبارزة بالسيوف والرماية بمبادئ الزن، ومثَّل المعتقد الفلسفي المتمثِّل في اللامثنوية أو الخواء («شونياتا») أيديولوجيةً مناسبةً ترافق تعطيل الأعراف الأخلاقية؛ ذلك الأمر الذي اعتقد الكثيرون أنه مناسب في أوقات الفوضى والاضطراب الاجتماعي.

وكانت هذه النزعة العسكرية واضحةً أيضًا في الفترة الحديثة؛ حيث قدَّمت الجماعات البوذية دعمًا فعالًا للوطنية اليابانية. وقدَّمت مدارس الزن ومدارس الأرض النقية الدعمَ المالي أثناء الحرب مع الصين في الفترة من ١٩٣٧ إلى ١٩٤٥، وفي الحرب العالمية الثانية دعمت معظم المدارس البوذية (باستثناء مدرسة سوكا جاكاي) الحملة اليابانية على الحلفاء. وقد اشترك أيضًا الرهبان والراهبات الصينيون في الحرب الكورية. وقد ألقى أحد الرهبان، المبجل شينداو، خطابًا في عام ١٩٥١ قال فيه: «إن إبادة الشياطين الأمريكيين الإمبرياليين الذين يُدمِّرون السلام العالمي تتفق مع المعتقدات البوذية؛ فهو أمر لا يستحق اللوم، لكنه في واقع الأمر سوف يجعلنا نستحق المكافأة.» وعلى الرغم من تأكيد التعاليم البوذية على السلمية، فإن التاريخ يكشف التورُّط المستمر للبوذيين، العوام والرهبان على حدٍّ سواء، في الحروب على مدار قرونٍ كثيرة.

وفي الوقت نفسه، أدَّت أيضًا الفترة المعاصرة إلى ظهور معارضةٍ شديدةٍ لاستخدام القوة العسكرية؛ ففي اليابان، تأسَّست طائفة نيبونزان ميوهوتي على يد نيتشيداتسو فوجي في عام ١٩٤٧ في أعقاب الهجوم النووي على ناجازاكي وهيروشيما. وبوصفها منبثقةً عن بوذية نيتشيرين، تعمل الجماعة على دعم السلمية ومعارضة استخدام الأسلحة النووية، وبَنَتْ ما يزيد على ستين «ستوبا» أو «باجودات السلام» في اليابان، بالإضافة إلى خمسة في الهند واثنين في كلٍّ من سريلانكا، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. ومن الجماعات البوذية المؤثرة أيضًا سوكا جاكاي الدولية، وتحت قيادة رئيسها الحالي، دايساكو آيكيدا، ظلَّت تسعى نحو تحقيق هدفها المتمثل في «تحقيق السلام من خلال مناهضة كافة أشكال العنف». وتوجد طائفة يابانية ثالثة نَشِطة على هذه الجبهة، هي ريشو كوسي كاي التي أنشأت مؤسسة نيوانو للسلام في عام ١٩٧٨ من أجل «الإسهام في تحقيق السلام العالمي». والسؤال حول إن كانت السلمية خيارًا واقعيًّا في العالم المعاصر الذي يتزايد فيه العنف يعد سؤالًا مثيرًا للجدل على نطاقٍ واسع. وكثير من الجماعات البوذية تؤمن بوجود بدائلَ فعالةٍ غير عنيفةٍ لاستخدام القوة في معظم المواقف. ولطالما قيل على نطاقٍ عريضٍ إن «السلمية لا تعني السلبية»، وإنه ربما لو استُخدمت الموارد التي أُنفقت على الحروب في العمل على تحقيق السلام لما نشب كثيرٌ من النزاعات المستعصية إلى حدٍّ كبير، أو لتوصلنا إلى حلها منذ زمنٍ بعيد.

الإرهاب

على نطاقٍ وثيق الصلة بالمعضلة الأخلاقية المسمَّاة الحرب، تأتي مشكلة كيفية التعامُل مع الهجمات الإرهابية، مثل الهجوم على مركز التجارة العالمي في ١١ سبتمبر ٢٠٠١. هل الطريقة الصحيحة للتعامُل مع الانتهاكات الإرهابية هي محاربةُ النار بالنار؟ مالَ القادة البوذيون الذين تحدَّثوا علنًا عن مسألة «الحرب على الإرهاب» إلى الإشارة إلى ثلاثة أمور؛ الأمر الأول هو التأكيد على الحاجة إلى الفهم الكامل للأسباب التي أدَّت إلى وقوع أحداث ١١ سبتمبر. وفي إشارة إلى معتقد النشأة المعتمد («براتيتيا ساموتبادا»)، أوضحوا أن تلك الأحداث لا تنشأ عشوائيًّا، لكنها نتيجة لتفاعلاتٍ معقدةٍ على مستوياتٍ عديدة. وإلى أن تُفهم الظروف التي أدَّت إلى الهجمات ويُجرى التعامل معها، فإن التوصُّل إلى حلٍّ دائمٍ ليس بالأمر الممكن. أما الأمر الثاني فيتمثَّل في أن الرد على القوة بالقوة يُعد خطأً. وتُعد كلمات «الدامابادا» وثيقة الصلة في هذا الصدد:

لقد امتهنني، لقد ضربني، لقد قهرني، لقد سرقني. إن أولئك الذين يحملون مثل هذه المشاعر لا يوقفون كراهيتهم. (فينايا)

الكراهية لا تُهدِّئها الكراهية أبدًا. وبعدم الكراهية فقط تهدأ الكراهية. هذه حقيقة أبدية. (فينايا)

وعبَّرتْ أون سان سو تشي، قائدة الحركة الديمقراطية في بورما والفائزة بجائزة نوبل للسلام في عام ١٩٩١، عن وجهة نظرها حول الإرهاب فقالت:

كما تعلمون، أنا بوذية. وباعتباري بوذية، فإن الجواب بسيط وواضح جدًّا، وهو أن الشفقة والرحمة هما الحل الشافي الحقيقي. أنا متأكِّدة من أنه عندما يكون لدينا شفقة ورحمة في قلوبنا، فإننا لن نتمكَّن من التغلُّب على الإرهاب فحسب، بل سنتغلَّب على كثيرٍ من الشرور التي تجتاح العالم.

أما الأمر الثالث الذي يتحدَّثون عنه غالبًا، فهو الحاجة إلى التأمُّل ونقْد الذات حول الدور الذي من الممكن أن نكون لعبناه بأنفسنا، سواءٌ على نحوٍ مباشرٍ أو غير مباشر، في إثارة الصراع؛ فبعد هجوم ١١ سبتمبر، قال الراهب الفيتنامي والقائد البوذي النشط تيك نيت هان إنه كان من الأفضل لأمريكا أن تلجأ إلى الحوار بدلًا من القوة العسكرية. وبالنسبة إليه كان السؤال المحوري هو: «لماذا يكرهنا أحدٌ لدرجةٍ تدفعه لفعل ذلك؟» وكان جوابه: «إذا كنا قادرين على الاستماع إليه، فإنه سوف يخبرنا.»

من المحتمَل أن تتزايد أهمية البُعد الأخلاقي والتشريعي للبوذية مع انتشارها في الغرب. وستكون طريقة تكيُّفها مع الأخلاقيات الغربية والقانون الغربي وتأثيرها عليهما من الجوانب الأكثر إبهارًا في المواجهة الثقافية المعاصرة، وهذا هو موضوع الفصل القادم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤