فلما كانت الليلة ١٠٣

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما رأى اللعين قد ضرب شركان بالحربة ظنَّ أنه مات، فأرسل إليه الفرسان، وكان أسبق الناس إليه الوزير دندان، وأمير الترك بهرام وأمير الديلم، فلحقوه وقد مال عن جواده فأسندوه، ورجعوا به إلى أخيه ضوء المكان، ثم أوصوا به الغلمان، وعادوا إلى الحرب والطعان، واشتدَّ النزال، وتقصفت النصال، وبطل القيل والقال، فلا يُرَى إلا دم سائل، وعنق مائل، ولم يزل السيف يعمل في الأعناق، واشتدَّ الشقاق إلى أن ذهب أكثر الليل، وكلَّتِ الطائفتان عن القتال، فنادوا بالانفصال، ورجعت كل طائفة إلى خيامها، وتوجَّهَ جميع الكفار إلى ملكهم أفريدون، وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه، وهنَّأه القسوس والرهبان بظفره بشركان، ثم إن الملك أفريدون دخل القسطنطينية وجلس على كرسي مملكته، وأقبل عليه ملك الكفار وقال له: قوَّى المسيح ساعِدَك، ولا زال مساعِدَك، واستجاب من الأم الصالحة ذات الدواهي ما تدعو به لك، واعلم أن المسلمين ما بقي لهم إقامة بعد شركان. فقال أفريدون: في غدٍ يكون الانفصال إذا خرجت إلى النزال، وطلبت ضوء المكان وقتلته، فإن عسكرهم يولون الأدبار، ويركنون إلى الفرار.

هذا ما كان من أمر الكفار، وأما ما كان من عسكر الإسلام، فإن ضوء المكان لما رجع إلى الخيام لم يكن له شغل إلا بأخيه، فلما دخل عليه وجده في أسوأ الأحوال، وأشد الأهوال، فدعا بالوزير دندان، ورستم وبهرام للمشورة، فلما دخلوا عليه اقتضى رأيهم إحضار الحكماء لعلاج شركان، ثم بكوا وقالوا: لم يسمح بمثله الزمان. وسهروا عنده تلك الليلة، وفي آخِر الليل أقبل عليهم الزاهد وهو يبكي، فلما رآه ضوء المكان قام إليه فلمس بيده على أخيه، وتلا شيئًا من القرآن، وعوَّذه بآيات الرحمن، وما زال سهرانًا عنده إلى الصباح، فعند ذلك استفاق شركان، وفتح عينيه، وأدار لسانه في فمه وتكلم، ففرح السلطان ضوء المكان، وقال: قد حصلت له بركة الزاهد. فقال شركان: الحمد لله على العافية، فإنني بخير في هذه الساعة، وقد عمل عليَّ هذا الملعون حيلة، ولولا أني زغت أسرع من البرق لَكانت الحربة نفذت من صدري، فالحمد لله الذي نجَّاني، وكيف حال المسلمين؟ فقال له ضوء المكان: هم في بكاء من أجلك. فقال: إني بخير وعافية، وأين الزاهد؟ وهو عند رأسه قاعد، فقال له: عند رأسك. فالتفَتَ إليه وقبَّلَ يدَيْه، فقال الزاهد: يا ولدي، عليك بجميل الصبر يعظم الله لك الأجر، فإن الأجر على قدر المشقة. فقال شركان: ادعُ لي. فدعا له.

فلما أصبح الصباح، وبان الفجر ولاح، برز المسلمون إلى ميدان الحرب، وتهيَّأ الكفَّار للطعن والضرب، وتقدَّمت عساكر المسلمين فطلبوا الحربَ والكفاح، وجرَّدوا السلاح، وأراد الملك ضوء المكان وأفريدون أن يحملَا على بعضهما، وإذا بضوء المكان خرج إلى الميدان، وخرج معه الوزير دندان، والحاجب وبهرام، وقالوا لضوء المكان: نحن فداك. فقال لهم: وحقِّ البيت الحرام، وزمزم والمقام، لا أقعد عن الخروج، إلى هؤلاء العلوج. فلما صار في الميدان، لعب بالسيف والسنان، حتى أذهل الفرسان، وتعجَّبَ الفريقان، وحمل في الميمنة فقتل منها بطريقين، وفي الميسرة فقتل منها بطريقين، ووقف في وسط الميدان وقال: أين أفريدون حتى أذيقه عذابَ الهوان؟ فأراد الملعون أن يولي وهو مغبون، فأقسم عليه ضوء المكان ألَّا يبرح من الميدان، وقال له: يا ملك، بالأمس كان قتال أخي، واليوم قتالي، وأنا بشجاعتك لا أبالي. ثم خرج وبيده صارم، وتحته حصان كأنه عنتر في حومة الميدان، وذلك الحصان أدهم مغاير كما قال فيه الشاعر:

قَدْ سَابَقَ الطَّرْفَ بِطِرْفٍ سَابِقٍ
كَأَنَّهُ يُرِيدُ إِدْرَاكَ الْقَدَرْ
دُهْمَتُهُ تُبْدِي سَوَادًا حَالِكًا
كَأنَّهَا لَيْلٌ إِذَا اللَّيْلُ اعْتَكَرْ
صَهِيلُهُ يُطْرِبُ مَنْ يَسْمَعُهُ
كَأَنَّهُ الرَّعْدُ إِذَا الرَّعْدُ حَضَرْ
لَوْ سَابَقَ الرِّيحَ جَرَى مِنْ قَبْلِهَا
وَالْبَرْقُ لَا يَسْبِقُهُ إِذَا ظَهَرْ

ثم حمل كلٌّ منهما على صاحبه، واحترز من مضاربه، وأظهر ما في بطنه من عجائبه، وأخذَا في الكرِّ والفرِّ حتى ضاقت الصدور، وقلَّ الصبر للمقدور، وصاح ضوء المكان، وهجم على ملك القسطنطينية أفريدون، وضربه ضربةً أطاح به رأسَه، وقطع أنفاسَه، فلما نظرت الكفار إلى ذلك حملوا جميعًا عليه، وتوجَّهوا بكليتهم إليه، فقابَلَهم في حومة الميدان، واستمر الضرب والطعان، حتى سال الدم بالجريان، وضجَّ المسلمون بالتكبير والتهليل، والصلاة على البشير النذير، وقاتلوا قتالًا شديدًا، وأنزل الله النصر على المؤمنين، والخزي على الكافرين، وصاح الوزير دندان: خذوا بثأر الملك عمر النعمان، وثأر ولده شركان، وكشف برأسه وصاح للأتراك، وكان بجانبه أكثر من عشرين ألف فارس، فحملوا معه جملةً واحدة، فلم يجد الكفار لأنفسهم غير الفرار، وتولِّي الأدبار، وعمل فيهم الصارم البتَّار، فقتلوا منهم نحوَ خمسين ألف فارس، وأسروا ما يزيد على ذلك، وقُتِل عند دخول الباب خلقٌ كثير من شدة الزحام، ثم غلَّقوا الباب، وطلعوا فوق الأسوار خوفَ العذاب، وعادت طوائف المسلمين مؤيَّدين منصورين، وأتوا خيامهم، ودخل الملك ضوء المكان على أخيه فوجده في أسرِّ الأحوال؛ فسجد شكرًا للكريم المتعال، ثم أقبَلَ عليه وهنَّأه بالسلامة، فقال له شركان: إننا كلنا في بركة هذا الزاهد الأوَّاب، وما انتصرنا إلا بدعائه المستجاب، فإنه لم يزل اليومَ قاعدًا يدعو للمسلمين بالنصر. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤