فلما كانت الليلة ١١٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن تاج الملوك خاران ابن الملك سليمان شاه لما مهر في الفروسية وفاق أهل زمانه، صار من فرط جماله إذا خرج إلى بعض أشغاله، يفتتن به كلُّ مَن رآه حتى نظموا فيه الأشعار، وتهتكت في محبته الأحرار؛ لما حوى من الجمال الباهر، كما قال فيه الشاعر:

عَانَقْتُهُ فَسَكِرْتُ مِنْ طِيبِ الشَّذَا
غُصْنًا رَطِيبًا بِالنَّسِيمِ قَدِ اغْتَذَى
سَكْرَانُ مَا شَرِبَ الْمُدَامَ وَإِنَّمَا
أَمْسَى بِخَمْرِ رُضَابِهِ مُتَنَبِّذَا
أَضْحَى الْجَمَالُ بِأَسْرِهِ فِي أَسْرِهِ
فَلِأَجْلِ ذَاكَ عَلَى الْقُلُوبِ اسْتَحْوَذَا
وَاللهِ مَا خَطَرَ السُّلُوُّ بِخَاطِرِي
مَا دُمْتُ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ وَلَا إِذَا
إِنْ عِشْتُ عِشْتُ عَلَى هَوَاهُ وَإِنْ أَمُتْ
وَجْدًا بِهِ وَصَبَابَةً يَا حَبَّذَا

فلما بلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، دبَّ عذاره الأخضر على شامة خده الأحمر، وزانهما خالٍ كنقطة عنبر، وصار يسبي العقول والنواظر، كما قال فيه الشاعر:

أَضْحَى لِيُوسُفَ فِي الْجَمَالِ خَلِيفَةً
يَخْشَاهُ كُلُّ الْعَاشِقِينَ إِذَا بَدَا
عَرِّجْ مَعِي وَانْظُرْ إِلَيْهِ لَكَيْ تَرَى
فِي خَدِّهِ عَلَمَ الْخِلَافَةِ أَسْوَدَا

وكما قال الآخَر:

مَا أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَحْسَنَ مَنْظَرًا
فِيمَا يُرَى مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ
كَالشَّامَةِ الْخَضْرَاءِ فَوْقَ الْوَجْنَةِ الـْ
ـحَمْرَاءِ تَحْتَ الْمُقْلَةِ السَّوْدَاءِ

وكما قال الآخَر:

عَجِبْتُ لِخَالٍ يَعْبُدُ النَّارَ دَائِمًا
بِخَدِّكَ لَمْ يُحْرَقْ بِهَا وَهْوَ كَافِرُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّ بِاللَّحْظِ مُرْسَلًا
يُصَدِّقُ بِالْآيَاتِ وَهْوَ لَسَاحِرُ
وَمَا اخْضَرَّ ذَاكَ الْخَدُّ نَبْتًا وَإِنَّمَا
لِكَثْرَةِ مَا شُقَّتْ عَلَيْهِ الْمَرَائِرُ

وكما قال الآخَر:

إِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ سُؤَالِ النَّاسِ عَنْ
مَاءِ الْحَيَاةِ بِأَيِّ أَرْضٍ مُنْهَمِرْ
وَلَقَدْ أَرَاهُ بِثَغْرِ ظَبْيٍ أَغْيَدٍ
حُلْوِ اللَّمَى وَعَلَيْهِ شَارِبُهُ الْخَضِرْ
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ مُوسَى يَلْتَقِي
مَعَهُ هُنَالِكَ سَائِلًا لَمْ يَصْطَبِرْ

فلما صار بتلك الحالة وبلغ مبلغ الرجال زاد به الجمال، ثم صار لتاج الملوك خاران أصحاب وأحباب، وكل مَن تقرَّب إليه يرجو أن يصير سلطانًا بعد موت أبيه، وأنه يكون عنده أميرًا. ثم إنه تعلَّقَ بالصيد والقنص، وصار لم يفتر عنه ساعة واحدة، وكان والده الملك سليمان شاه ينهاه عن ذلك؛ مخافةً عليه من آفات البر والوحوش، فلم يقبل منه ذلك، اتفق أنه قال لخدَّامه: خذوا معكم عليق عشرة أيام. فامتثلوا ما أمرهم به، فلما خرج بأتباعه للصيد والقنص ساروا في البر، ولم يزالوا سائرين أربعة أيام حتى أشرفوا على أرضٍ خضراء، فرأوا فيها وحوشًا راتعة، وأشجارًا يانعة، وعيونًا نابعة، فقال تاج الملوك لأتباعه: انصبوا الحبائل هنا، وأوسعوا دائرة حلقتها، ويكون اجتماعنا عند رأس الحلقة في المكان الفلاني. فامتثلوا أمره، ونصبوا الحبائل، وأوسعوا دائرة حلقتها، فاجتمع فيها شيء كثير من أصناف الوحوش والغزلان، إلى أن ضجت منهم الوحوش، وتنافرت في وجوه الخيل؛ فأغرى عليها الكلاب والفهود والصقور، ثم ضربوا الوحوش بالنشاب، فأصابوا مقاتل الوحوش، وما وصلوا إلى آخِر الحلقة إلا وقد أخذوا من الوحوش شيئًا كثيرًا، وهرب الباقي. وبعد ذلك نزل تاج الملوك على الماء، وأحضر الصيد وقسَّمه، وأفرد لأبيه سليمان شاه خاص الوحوش، وأرسله إليه، وفرَّق البعض على أرباب دولته، وبات تلك الليلة في ذلك المكان.

فلما أصبح الصباح أقبلت عليهم قافلة كبيرة مشتملة على عبيد وغلمان وتجار، فنزلت تلك القافلة على الماء والخضرة، فلما رآهم تاج الملوك قال لبعض أصحابه: ائتني بخبر هؤلاء، واسألهم لأي شيء نزلوا في هذا المكان؟ فلما توجَّهَ إليهم الرسول قال لهم: أخبرونا مَن أنتم، وأسرعوا في رد الجواب. فقالوا له: نحن تجار، ونزلنا هنا لأجل الراحة؛ لأن المنزل بعيد علينا، وقد نزلنا في هذا المكان؛ لأننا مطمئنون بالملك سليمان شاه وولده، ونعلم أن كل مَن نزل عنده صار في أمان واطمئنان، ومعنا قماش نفيس جئنا به من أجل ولده تاج الملوك. فرجع الرسول إلى ابن الملك، وأعلمه بحقيقة الحال، وأخبره بما سمعه من التجار، فقال ابن الملك: إذا كان معهم شيء جاءوا به من أجلي، فما أدخل المدينة ولا أرحل من هذا المكان حتى أستعرضه. ثم ركب جواده وسار، وسارت مماليكه خلفه إلى أن أشرف على القافلة، فقام له التجار، ودعوا له بالنصر والإقبال، ودوام العز والأفضال، وقد ضُرِبت له خيمة من الأطلس الأحمر، مزركشة بالدر والجوهر، وفرشوا له مقعدًا سلطانيًّا فوق بساط من الحرير، وصدره مزركش بالزمرد؛ فجلس تاج الملوك، ووقف المماليك في خدمته، وأرسل إلى التجار وأمرهم أن يحضروا بجميع ما معهم، فأقبل عليه التجار ببضائعهم، فاستعرض جميعَ بضاعتهم، وأخذ منها ما يصلح له ووفى لهم بالثمن، ثم ركب وأراد أن يسير، فلاحَتْ منه التفاتة إلى القافلة، فرأى شابًّا جميل الشباب، نظيف الثياب، ظريف المعاني، بجبين أزهر، ووجه أقمر، إلا أن ذلك الشاب قد تغيَّرت محاسنه، وعلاه الاصفرار من فرقة الأحباب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤