فلما كانت الليلة ١٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية، والجماعة والخليفة وجعفر يسمعون الكلام: ثم إن عمي ضرب ولده بالنعال وهو راقد كالفحم الأسود، فتعجَّبْتُ من ضربه، وحزنت على ابن عمي حيث صار هو والصبية فحمًا أسود، ثم قلتُ: بالله يا عمي، خفِّفِ الهمَّ عن قلبك، فقد اشتغل سري وخاطري بما قد جرى لولدك، وكيف صار هو والصبية فحمًا أسود، أَمَا يكفيك ما هو فيه حتى تضربه بالنعال؟! فقال: يا ابن أخي، ولدي هذا كان من صغره مولعًا بحب أخته، وكنتُ أنهاه عنها، وأقول في نفسي: إنهما صغيران، فلما كبرَا وقع بينهما القبيح، وسمعت بذلك ولم أصدِّق، ولكني زجرتُه زجرًا بليغًا، وقلت له: احذر من هذه الفعال القبيحة التي لم يفعلها أحدٌ قبلك، ولا يفعلها أحدٌ بعدك؛ وإلا نبقى بين الملوك بالعار والنقصان إلى الممات، وتشيع أخبارنا مع الركبان، وإياك أن تصدر منك هذه الفعال، فإني أسخط عليك وأقتلك. ثم حجبته عنها، وحجبتها عنه، وكانت الخبيثة تحبه محبةً عظيمة، وقد تمكَّنَ الشيطان فيهما، فلما رآني حجبتُه، فعل هذا المكان الذي تحت الأرض خفيةً، ونقل فيه المأكول كما تراه، واستغلني لما خرجتُ إلى الصيد، وأتى إلى هذا المكان فغار عليه وعليها الحقُّ — سبحانه وتعالى — وأحرقهما، ولَعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى. ثم بكى وبكيتُ معه، وقال لي: أنت ولدي عوضًا عنه.

ثم إني تفكَّرْتُ ساعةً في الدنيا وحوادثها؛ مِن قتْلِ الوزير لوالدي، وأخذه مكانه، وتلَفِ عيني، وما جرى لابن عمي من الحوادث الغريبة؛ فبكيت، ثم إننا صعدنا ورددنا الطابق والتراب، وعملنا القبر كما كان، ثم رجعنا إلى منزلنا، فلم يستقر بيننا الجلوس حتى سمعنا دقَّ طبول وبوقات ورمحت الأبطال، وامتلأت الدنيا بالعجاج والغبار من حوافر الخيل، فحارت عقولنا ولم نعرف الخبر، فسأل الملك عن الخبر، فقيل: إن وزير أخيك قتله، وجمع العسكر والجنود، وجاء بعسكره ليهجموا على المدينة في غفلة، وأهل المدينة لم يكن لهم طاقة بهم، فسلَّمُوا إليه. فقلت في نفسي: متى وقعت أنا في يده قتلني. وتراكمت الأحزان، وتذكرت الحوادث التي حدثت لأبي وأمي، ولم أعرف كيف العمل، فإن ظهرتُ عرفني أهل المدينة وعسكر أبي فيسعون في قتلي وهلاكي، فلم أجد شيئًا أنجو به إلا حلق ذقني فحلقتها، وغيَّرْتُ ثيابي وخرجت من المدينة، وقصدت هذه المدينة والسلام؛ لعل أحدًا يوصلني إلى أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين؛ حتى أحكي له قصتي، وما جرى لي، فوصلت إلى هذه المدينة في هذه الليلة فوقفت حائرًا، ولم أدْرِ أين أمضي، وإذا بهذا الصعلوك واقف فسلَّمْتُ عليه، وقلت له: أنا غريب. فقال: وأنا غريب أيضًا. فبينما نحن كذلك، وإذا برفيقنا هذا الثالث جاءنا وسلَّمَ علينا، وقال: أنا غريب. فقلنا له: ونحن غريبان. فمشينا وقد هجم علينا الظلام، فساقنا القدر إليكم، وهذا سبب حلق ذقني، وتلف عيني.

فقالت الصبية: ملِّسْ على رأسك ورُحْ. فقال لها: لا أروح حتى أسمع خبر غيري. فتعجَّبوا من حديثه، فقال الخليفة لجعفر: واللهِ أنا ما رأيت مثل الذي جرى لهذا الصعلوك.

حكاية الصعلوك الثاني

ثم تقدَّمَ الصعلوك الثاني وقبَّل الأرض وقال: يا سيدتي، أنا ما وُلِدت أعور، وإنما لي حكاية عجيبة لو كُتِبت بالإبر على آماق البصر لَكانت عبرةً لمَن اعتبر؛ فأنا ملك ابن ملك، وقرأت القرآن على سبع روايات، وقرأت الكتب على أربابها من مشايخ العلم، وقرأت علمَ النجوم، وكلامَ الشعراء، واجتهدت في سائر العلوم حتى فُقْتُ أهلَ زماني، فعَظُم حظي عند سائر الكَتَبة، وشاع ذكري في سائر الأقاليم والبلدان، وشاع خبري عند سائر الملوك، فسمع بي ملك الهند، فأرسل يطلبني من أبي، وأرسل إليه هدايا وتحفًا تصلح للملوك، فجهَّزَني أبي في ست مراكب، وسرنا في البحر مدة شهر كامل حتى وصلنا إلى البر، وأخرجنا خيلًا كانت معنا في المركب، وحمَّلنا عشرة أحمال هدايا، ومشينا قليلًا، وإذا بغبار قد علا وثار حتى سدَّ الأقطار، واستمر ساعةً من النهار، ثم انكشف فبان من تحته ستون فارسًا وهم ليوث عبوس، فتأملناهم وإذا هم عرب قطَّاع طريق، فلما رأونا ونحن نفرُّ قليل، ومعنا عشرة أحمال هدايا لملك الهند، رمحوا علينا وشرعوا الرماح بين أيديهم نحونا، فأشرنا إليهم بالأصابع، وقلنا لهم: نحن رسل إلى ملك الهند المعظَّم، فلا تؤذونا. فقالوا: نحن لسنا في أرضه، ولا تحت حكمه.

figure
سِرْتُ حتى وصلتُ إلى مدينةٍ عامرةٍ بالخير، فقد أقبَلَ الربيع عليها بورده.

ثم إنهم قتلوا بعض الغلمان، وهرب الباقون، وهربت أنا بعد أن جُرِحت جرحًا بليغًا، واشتغلت عنَّا العرب بالمال والهدايا التي كانت معنا، فسرتُ لا أدري أين أذهب، وكنت عزيزًا فصرتُ ذليلًا، وسرت إلى أن أتيت رأس الجبل، فدخلت مغارة حتى طلع النهار، ثم سرت منها حتى وصلت إلى مدينة عامرة بالخير قد ولَّى عنها الشتاء ببرده، وأقبل عليها الربيع بورده، ففرحت بوصولي إليها، وقد تعبت من المشي، وعلاني الهم والاصفرار؛ فتغيَّرَتْ حالتي، ولا أدري أين أسلك، فملت إلى خياط في دكان، وسلَّمتُ عليه فردَّ عليَّ السلامَ، ورحَّبَ بي وباسطني، وسألني عن سبب غربتي، فأخبرته بما جرى لي من أوله إلى آخره؛ فاغتمَّ لأجلي، وقال: يا فتى، لا تُظهِر ما عندك، فإني أخاف عليك من ملك هذه المدينة؛ لأنه أكبر أعداء أبيك، وله عنده ثأر.

ثم أحضر لي مأكولًا ومشروبًا، فأكلت وأكل معي، وتحادثت معه في الليل، وأخلى لي محلًّا في جانب حانوته، وأتاني بما أحتاج إليه من فراش وغطاء، فأقمتُ عنده ثلاثة أيام، ثم قال لي: أَمَا تعرف صنعةً تكتسب بها؟ فقلت له: إني فقيه طالب علم، كاتب حاسب. فقال: إن صنعتك كاسدة في بلادنا، وليس في مدينتنا مَن يعرف علمًا ولا كتابةً غير المال. فقلت: واللهِ لا أدري شيئًا غير الذي ذكرته لك. فقال: شد وسطك، وخُذْ فأسًا وحبلًا، واحتطب في البَرِّيَّةِ حطبًا تتقوَّت به إلى أن يفرج الله عليك، ولا تعرِّف أحدًا بنفسك فيقتلوك. ثم اشترى لي فأسًا وحبلًا، وأرسلني مع بعض الحطابين، وأوصاهم بي، فخرجت معهم واحتطبت، فأتيت بحمل على رأسي فبعته بنصف دينار، فأكلت ببعضه وأبقيت بعضه، ودمت على هذا الحال مدة سنة، ثم بعد السنة ذهبت يومًا على عادتي إلى البَرِّيَّةِ لأحتطب منها، ودخلتها فوجدت فيها خميلة أشجار فيها حطب كثير، فدخلت الخميلة وأتيت شجرةً وحفرتُ حولها وأزلت التراب عن جدارها، فاصطكت الفأس في حلقة نحاس، فنظفت التراب، وإذا هي في طابق من خشب، فكشفته فبان تحته سُلَّمٌ، فنزلت إلى أسفل السلم، فرأيت بابًا فدخلته، فرأيت قصرًا محكم البنيان، فوجدتُ فيه صبية كالدرة السنية، تنفي عن القلب كلَّ هَمٍّ وغَمٍّ وبَلِيَّة، فلما نظرت إليها سجدتُ لخالقها لما أبدع فيها من الحسن والجمال، فنظرت إليَّ وقالت لي: أنت إنسي أم جني؟ فقلت لها: إنسي. فقالت: ومَن أوصلك إلى هذا المكان الذي لي فيه خمسة وعشرون سنة، ما رأيت فيه إنسيًّا أبدًا؟ فلما سمعت كلامها وجدتُ له عذوبةً، وقلت لها: يا سيدتي، أوصلني الله إلى منزلك، ولعله يزيل همي وغمي.

وحكيتُ لها ما جرى لي من الأول إلى الآخر، فصعب عليها حالي، وبكت وقالت: أنا الأخرى أُعلِمُكَ بقصتي، فاعلم أني بنت ملك أقصى الهند صاحب جزيرة الأبنوس، وكان قد زوَّجني بابن عمي، فاختطفني ليلةَ زفافي عفريت اسمه جرجريس بن رجموس بن إبليس، فطار بي ونزل في هذا المكان، ونقل إليه كل ما أحتاج إليه من الحلي والحلل، والقماش والمتاع، والطعام والشراب، وفي كل عشرة أيام يجيئني مرةً فيبيت هنا ليلةً، وعاهدني إذا عرضَتْ لي حاجة ليلًا أو نهارًا أن ألمس بيدي هذين السطرين المكتوبين على القُبَّة، فما أرفع يدي حتى أراه عندي، ومنذ كان عندي له اليومَ أربعةُ أيام، وبقي له ستة أيام حتى يأتي، فهل لك أن تقيم عندي خمسة أيام، ثم تنصرف قبل مجيئه بيوم؟ فقلت: نعم. ففرحَتْ، ثم نهضت على أقدامها، وأخذت بيدي وأدخلتني من باب مقنطر، وانتهت بي إلى حمام لطيف ظريف، فلما رأيتُه خلعتُ ثيابي وخلعَتْ ثيابها، ودخلت فجلست على مرتبة، وأجلستني معها، وأتَتْ بسكر مُمَسَّك وسقتني، ثم قدَّمت لي مأكولًا، فأكلنا وتحادثنا، ثم قالت لي: نَمْ واسترِحْ، فإنك تعبان. فنمت يا سيدتي، وقد نسيت ما جرى لي وشكرتها، فلما استيقظتُ وجدتها تكبس رجلي فدعوت لها، وجلسنا نتحادث ساعةً، ثم قالت: واللهِ إني كنتُ ضيقةَ الصدر وأنا تحت الأرض وحدي، ولم أجد مَن يحدِّثني خمسة وعشرين سنةً، فالحمد لله الذي أرسلك إليَّ، ثم أنشدت:

لَوْ عَلِمْنَا مَجِيئَكُمْ لَفَرَشْنَا
مُهْجَةَ الْقَلْبِ أَوْ سَوَادَ الْعُيُونِ
وَفَرَشْنَا خُدُودَنَا وَالْتَقَيْنَا
لِيَكُونَ الْمَسِيرُ فَوْقَ الْجُفُونِ

فلما سمعتُ شعرها شكرتها، وقد تمكَّنَتْ محبتها في قلبي، وذهب عني همي وغمي، ثم جلسنا في منادمة إلى الليل، فبِتُّ معها ليلة ما رأيت مثلها في عمري، وأصبحنا مسرورين، فقلت لها: هل أطلعك من تحت الأرض، وأريحك من هذا الجني؟ فضحكت وقالت: اقنع واسكت، ففي كل عشرة أيام يومٌ للعفريت وتسعةٌ لك. فقلتُ وقد غلب عليَّ الغرام: فأنا في هذه الساعة أكسر هذه القبة التي عليها النقش المكتوب لعلَّ العفريت يجيء حتى أقتله، فإني موعود بقتل العفاريت. فلما سمعَتْ كلامي أنشدَتْ تقول:

يَا طَالِبًا لِلْفِرَاقِ مَهْلًا
بِحِيلَةٍ قَدْ كَفَى اشْتِيَاقُ
اصْبِرْ فَطَبْعُ الزَّمَانِ غَدْرٌ
وَآخِرُ الصُّحْبَةِ الْفِرَاقُ

فلما سمعتُ شعرها لم ألتفت لكلامها، بل رفست القبة رفسًا قويًّا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤