فلما كانت الليلة ٣٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الريس لما قال لعلي نور الدين: إلى دار السلام مدينة بغداد. طلع علي نور الدين، وطلعت معه الجارية، وعوموا ونشروا القلوع، فاندفعت المركب كأنها طير بجناحيه، كما قال فيها بعضهم هذين البيتين:

انْظُرْ إِلَى مَرْكَبٍ يُسْبِيكَ مَنْظَرُهُ
تُسَابِقُ الرِّيحَ فِي سَيْرٍ بِسَرَّاءِ
كَأَنَّهُ طَائِرٌ قَدْ مَدَّ أَجْنِحَةً
أَتَى مِنَ الْجَوِّ مُنْقَضًّا عَلَى الْمَاءِ

فسارت بهم المركب، وطاب لهم الريح؛ هذا ما جرى لهؤلاء، وأما ما جرى للأربعين الذين أرسلهم السلطان، فإنهم جاءوا إلى بيت علي نور الدين فكسروا الأبواب، ودخلوا وطافوا جميع الأماكن، فلم يقعوا لهما على خبر، فهدموا الدار ورجعوا وأعلموا السلطان، فقال: اطلبوهما من أي مكان كانَا فيه. فقالوا: السمع والطاعة. ثم نزل الوزير المعين بن ساوى إلى بيته بعد أن خلع عليه السلطان خلعة، وقال له: لا يأخذ بثأرك إلا أنا. فدعا له بطول البقاء، واطمأن قلبه، ثم إن السلطان أمر أن يُنادَى في المدينة: يا معاشر الناس كافة، قد أمر السلطان أن مَن عثر بعلي نور الدين ابن خاقان، وجاء به إلى السلطان، خلع عليه خلعة، وأعطاه ألف دينار، ومَن أخفاه أو عرف مكانه ولم يخبر به، فإنه يستحق ما يجري له من النكال، فصار جميع الناس في التفتيش على نور الدين، فلم يعرفوا له أثرًا.

هذا ما كان من هؤلاء، وأما ما كان من أمر علي نور الدين وجاريته، فإنهما وصلَا بالسلامة إلى بغداد، فقال الريس: هذه بغداد، وهي مدينة أمينة، قد ولَّى عنها الشتاء ببرده، وأقبَلَ عليها فصلُ الربيع بورده، وأزهرت أشجارها، وجرَتْ أنهارها. فعند ذلك طلع علي نور الدين هو وجاريته من المركب، وأعطى الريِّس خمسةَ دنانير، ثم سارَا قليلًا فرمتهما المقادير بين البساتين، فجاءَا إلى مكانٍ فوجداه مكنوسًا مرشوشًا بمساطب مستطيلة، وقواديس معلقة ملآنة بالماء، وفوقه مكعب من القصب بطول الزقاق، وفي صدر الزقاق باب بستان إلا أنه مغلوق، فقال نور الدين للجارية: والله إن هذا محل مليح. فقالت: يا سيدي، اقعد بنا ساعة على هذه المساطب. فطلعَا وجلسَا على المساطب، ثم غسلَا وجهَيْهما وأيديهما، واستلذَّا بمرور النسيم، فنامَا وجلَّ مَن لا ينام. وكان هذا البستان يُسمَّى بستان النزهة، وهناك قصر يقال له قصر الفرجة، وهو للخليفة هارون الرشيد، وكان الخليفة إذا ضاق صدره يأتي إلى هذا البستان، ويدخل ذلك القصر فيقعد فيه، وكان القصر له ثمانون شباكًا، ومعلَّق فيه ثمانون قنديلًا، وفي وسطه شمعدان كبير من الذهب. فإذا دخله الخليفة أمر الجواري أن تفتح الشبابيك، وأمر إسحاق النديم والجواري أن يغنوا، فينشرح صدره ويزول همه، وكان للبستان خولي شيخ كبير يقال له الشيخ إبراهيم، واتفق أنه خرج ليقضي حاجةً من أشغاله، فوجد المتفرِّجين معهم النساء أهل الريبة، فغضب غضبًا شديدًا، فصبر الشيخ إبراهيم حتى جاء عنده الخليفة في بعض الأيام، فأعلمه بذلك، فقال الخليفة: كلُّ مَن وجدْتَه على باب البستان فافعل به ما أردتَ.

فلما كان ذلك اليوم، خرج الشيخ إبراهيم الخولي لقضاء حاجةٍ عرضَتْ له، فوجد الاثنين نائمين على باب البستان مغطَّيَيْن بإزار واحد، فقال: أَمَا عرفَا أن الخليفة أعطاني إذنًا أن كلَّ مَن لقيتُه هنا أقتله؟ ولكن أنا أضرب هذين ضربًا خفيفًا حتى لا يقترب أحد من باب البستان. ثم قطع جريدة خضراء، وخرج إليهما، ورفع يده فبان بياضُ إبطه، وأراد ضربهما فتفكَّرَ في نفسه وقال: يا إبراهيم، كيف تضربهما ولم تعرف حالهما، وقد يكونان غريبَيْن، أو من أبناء السبيل، ورمَتْهما المقادير هنا؟ فأنا أكشف وجوههما وأنظر إليهما. فرفع الإزار عن وجوههما وقال: هذان حسنان لا ينبغي أن أضربهما. ثم غطَّى وجهَيْهما وتقدَّمَ إلى رِجْل علي نور الدين وجعل يكبسها، ففتح عينه فوجده شيخًا كبيرًا، فاستحى علي نور الدين ولمَّ رجلَيْه واستوى قاعدًا، وأخذ يد الشيخ فقبَّلَها، فقال له: يا ولدي، من أين أنتم؟ فقال له: يا سيدي، نحن غرباء. وفَرَّتِ الدمعة من عينه، فقال الشيخ إبراهيم: يا ولدي، اعلم أن النبي أوصى بإكرام الغريب. ثم قال له: يا ولدي، أَمَا تقوم وتدخل البستان وتتفرَّج فيه فينشرح صدرك؟ فقال له نور الدين: يا سيدي، هذا البستان لمَنْ؟ قال: يا ولدي، هذا البستان ورثتُه من أهلي. وما كان قصد الشيخ إبراهيم بهذا الكلام إلا أن يَطْمَئِنَّا ويدخلَا البستان.

فلما سمع نور الدين كلامه شكره، وقام هو وجاريته، والشيخ إبراهيم قدَّامهما، فدخلوا البستان، فإذا هو بستان بابه مقنطر عليه كروم، وأعنابه مختلفة الألوان، الأحمر كأنه ياقوت، والأسود كأنه أبنوس، فدخلوا تحت عريشة فوجدوا فيها الأثمار صنوانًا وغير صنوان، والأطيار تغرِّد بالألحان على الأغصان، والهَزار يترنم، والقمري ملأ بصوته المكانَ، والشحرور كأنه في تغريده إنسان، والفاخت كأنه شاربٌ نشوان، والأشجار قد أينعت أثمارُها من كل مأكول، ومن كل فاكهة زوجان، والمشمش ما بين كافوري ولوزي ومشمش خراسان، والبرقوق كأنه لون الحسان، والقراصية تذهل عقل كل إنسان، والتين ما بين أحمر وأبيض وأخضر من أحسن الألوان، والزهر كأنه اللؤلؤ والمرجان، والورد يفضح بحمرته خدودَ الحسان، والبنفسج كأنه كبريت دنَا من النيران، والآس والمنشور والخذامة مع شقائق النعمان، وتكلَّلَتْ تلك الأوراق بمدامع الغمام، وضحك ثغر الأقحوان، وصار النرجس ناظرًا إلى الورد بعيون السودان، والأترج كأنه أكواب، والليمون كبنادق من ذهب، وفُرِشت الأرض بالزهر من سائر الألوان، وأقبَلَ الربيعُ فأشرَقَ ببهجته المكان، والنهر في خرير، والطير في هدير، والريح في صفير، والزمان في اعتدال، والنسيم في اعتلال.

figure
وجلس نور الدين في الشُّبَّاك ومعه جاريتُه، يَنْظران إلى الأشجار.

ثم دخل بهما الشيخ إبراهيم القاعة المعلَّقة؛ فابتهجوا بحسن تلك القاعة، وما فيها من اللطائف الغريبة، وجلسوا في بعض الشبابيك، فتذكَّرَ علي نور الدين المقامات التي مضت له، فقال: واللهِ إن هذا المكان في غاية الحسن، لقد ذكَّرني بما مضى، وأطفأ من كربي جمر الغضا. ثم إن الشيخ إبراهيم قدَّمَ لهما الأكل فأكلَا كفايتهما، ثم غسلَا أيديهما، وجلس نور الدين في شباك من تلك الشبابيك، وصاح على جاريته فأتَتْ إليه، فصارَا ينظران إلى الأشجار وقد حملت سائر الأثمار، ثم التفت علي نور الدين إلى الشيخ إبراهيم، وقال له: يا شيخ إبراهيم، أَمَا عندك شيء من الشراب؟ لأن الناس يشربون بعد أن يأكلوا. فجاءه الشيخ إبراهيم بماء حلو بارد، فقال له نور الدين: ما هذا الشراب الذي أريده. فقال له: أتريد الخمر؟ فقال له نور الدين: نعم. فقال: أعوذ بالله منها، إن لي ثلاثة عشر عامًا ما فعلتُ ذلك؛ لأن النبي لعن شارِبَه وعاصِرَه وحامِلَه. فقال له نور الدين: اسمع مني كلمتين. قال: قُلْ ما شئتَ. قال: إذا لم تكن عاصِرَ الخمر ولا شارِبَه ولا حامِلَه، فهل يصيبك من لعنهم شيء؟ قال: لا. قال: خذ هذا الدينار وهذين الدرهمين، واركب هذا الحمار وقف بعيدًا، وأي إنسان وجدته يشتري فصِحْ عليه وقُلْ له: خذ هذين الدرهمين، واشترِ بهذين الدينارين خمرًا، واحمله على الحمار، وحينئذٍ لا تكون حاملًا ولا عاصرًا ولا مشتريًا، ولا يصيبك شيء مما أصاب الجميع. فقال الشيخ إبراهيم وقد ضحك من كلامه: والله ما رأيتُ أظرف منك، ولا أحلى من كلامك. فقال له نور الدين: نحن صرنا محسوبين عليك، وما عليك إلا الموافقة، فأتِ لنا بجميع ما نحتاج إليه. فقال له الشيخ إبراهيم: يا ولدي، هذا كراري قدامك، وهو الحاصل المُعَدُّ لأمير المؤمنين، فادخله وخذ منه ما شئتَ، فإن فيه فوق ما تريد.

فدخل علي نور الدين الحاصل، فرأى فيه أواني من الذهب والفضة والبللور مرصَّعة بأصناف الجواهر، فأخرج منها ما أراد، وسكب الخمر في البواطي والقناني، وصار هو وجاريته يتعاطيان، واندهشَا من حُسْن ما رأيا، ثم إن الشيخ إبراهيم جاء لهما بالمشموم، وقعد بعيدًا عنهما، فلم يزالَا يشربان وهما في غاية الفرح حتى تحكَّمَ معهما الشراب واحمَرَّت خدودهما، وتغازلت عيونهما، واسترخت شعورهما، فقال الشيخ إبراهيم: ما لي قاعدًا بعيدًا عنهما؟ كيف لا أقعد عندهما؟ وأي وقت اجتمع في قصرنا مثل هذين الاثنين اللذين كأنهما قمران؟ ثم إن الشيخ إبراهيم تقدَّمَ وقعد في طرف الإيوان، فقال له علي نور الدين: يا سيدي، بحياتي عليك أن تتقدَّمَ عندنا. فتقدَّمَ الشيخ إبراهيم عندهما، فملأ نور الدين قدحًا، ونظر إلى الشيخ إبراهيم وقال له: اشرب حتى تعرف ما لذة طعمه. فقال الشيخ إبراهيم: أعوذ بالله، إن لي ثلاث عشرة سنة ما فعلتُ شيئًا من ذلك. فتغافَلَ عنه نور الدين وشرب القدح، ورمى نفسه في الأرض، وأظهر أنه غلب عليه السكر، فعند ذلك نظرَتْ إليه أنيس الجليس، وقالت له: يا شيخ إبراهيم، انظر هذا كيف عمل معي؟ قال لها: يا سيدتي، ما له؟ قالت: دائمًا يعمل معي هكذا، فيشرب ساعة وينام، وأبقى أنا وحدي لا أجد لي نديمًا ينادمني على قدحي، فإذا شربتُ فمَن يعاطيني؟ وإذا غنَّيْتُ فمَن يسمعني؟ فقال لها الشيخ إبراهيم وقد حنَّتْ أعضاؤه، ومالت نفسه إليها من كلامها: لا ينبغي من النديم أن يكون هكذا. ثم إن الجارية ملأَتْ قدحًا، ونظرت إلى الشيخ إبراهيم، وقالت: بحياتي أن تأخذه وتشربه ولا ترده، فاقبله واجبر خاطري. فمَدَّ الشيخ إبراهيم يده، وأخذ القدح وشربه، وملأت له ثانيًا ومدت إليه يدها به، وقالت له: يا سيدي، بقي لك هذا. فقال لها: والله لا أقدر أن أشربه، فقد كفاني الذي شربته. فقالت له: واللهِ لا بد منه. فأخذ القدح وشربه، ثم أعطته الثالث فأخذه وأراد أن يشربه، وإذا بنور الدين هَمَّ قاعدًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤