فلما كانت الليلة ٤٦

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن رسل ملك القسطنطينية قبَّلوا الأرض بين يدي الملك عمر النعمان بعد أن حكوا له، ثم أعلموه بالهدية، وكانت الهدية خمسين جارية من خواص بلاد الروم، وخمسين مملوكًا عليهم أقبية من الديباج بمناطق من الذهب والفضة، وكل مملوك في أذنه حلقة من الذهب فيها لؤلؤة تساوي ألف مثقال من الذهب، والجواري كذلك، وعليهم من القماش ما يساوي مالًا جزيلًا. فلما رآهم الملك قَبِلهم وفرِح بهم، وأمر بإكرام الرسل، وأقبل على وزرائه يشاورهم فيما يفعل، فنهض من بينهم وزيرٌ وكان شيخًا كبيرًا يقال له دندان، فقبَّل الأرض بين يدي الملك عمر النعمان، وقال: أيها الملك، ما في الأمر أحسن من أنك تجهِّز عسكرًا جرارًا، وتجعل قائدهم ولدك شركان، ونحن بين يديه غلمان، وهذا الرأي أحسن لوجهين؛ الأول أن ملك الروم قد استجار بك وأرسل إليك هدية فقبلتها، والوجه الثاني أن العدو لا يجسر على بلادنا، فإذا منع عسكرك عن ملك الروم وهزم عدوَّه ينسب هذا الأمر إليك، ويشيع ذلك في سائر الأقطار والبلاد، ولا سيما إذا وصل الخبر إلى جزائر البحر، وسمع بذلك أهل المغرب؛ فإنهم يحملون إليك الهدايا والتحف والأموال.

فلما سمع الملك هذا الكلام من وزيره دندان، أعجبه واستصوبه وخلع عليه، وقال له: مثلك مَن تستشيره الملوك، وينبغي أن تكون أنت في مقدم العسكر، وولدي شركان في ساقة العسكر. ثم إن الملك أمر بإحضار ولده، فلما حضر قَصَّ عليه القصة، وأخبره بما قاله الرسل، وبما قاله الوزير دندان، وأوصاه بأخذ الأهبة والتجهيز للسفر، وأنه لا يخالف الوزيرَ دندان فيما يشور به عليه، وأمره أن ينتخب من عسكره عشرة آلاف فارس كاملين العدَّة، صابرين على الشدة. فامتثل شركان ما قاله والده عمر النعمان، وقام في الوقت واختار من عسكره عشرة آلاف فارس، ثم دخل قصره وأخرج مالًا عظيمًا وأنفق عليهم المال، وقال لهم: قد أمهلتكم ثلاثة أيام. فقبَّلوا الأرض بين يديه مطيعين لأمره، ثم خرجوا من عنده وأخذوا في الأهبة وإصلاح الشأن، ثم إن شركان دخل خزائن السلاح، وأخذ ما يحتاج إليه من العدد والسلاح، ثم دخل الإصطبل واختار منه الخيل المسوَّمة، وأخذ غير ذلك. وبعد ذلك أقاموا ثلاثة أيام، ثم خرجت العساكر إلى ظاهر المدينة، وخرج عمر النعمان لوداع ولده شركان، فقبَّل الأرض بين يديه، وأهدى له سبع خزائن من المال، وأقبل على الوزير دندان، وأوصاه بعسكر ولده شركان، فقبَّلَ الأرضَ بين يديه وأجابه بالسمع والطاعة، وأقبل الملك على ولده شركان وأوصاه بمشاورة الوزير دندان في سائر الأمور، فقَبِل ذلك ورجع والده إلى أن دخل المدينة، ثم إن شركان أمر كبار العسكر بعرضهم عليه، وكانت عدَّتهم عشرةَ آلاف فارس غير ما يتبعهم.

ثم إن القوم حملوا، ودُقَّتِ الطبول، وصاح النفير، وانتشرت الأعلام والرايات، وركب ابن الملك شركان وإلى جانبه وزيره دندان والأعلام تخفق على رءوسهم، ولم يزالوا سائرين والرسل تقدمهم إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل، فنزلوا واستراحوا، وباتوا تلك الليلة. فلما أصبح الصباح ركبوا وساروا، ولم يزالوا سائرين والرسل يدلونهم على الطريق مدة عشرين يومًا، ثم أشرفوا في اليوم الحادي والعشرين على وادٍ واسع الجهات، كثير الأشجار والنبات، وكان وصولهم إلى ذلك الوادي ليلًا، فأمرهم شركان بالنزول والإقامة فيه ثلاثة أيام، فنزل العساكر وضربوا الخيام، وافترق العسكر يمينًا وشمالًا، ونزل الوزير دندان وصحبته رسل أفريدون صاحب القسطنطينية في وسط ذلك الوادي.

وأما الملك شركان، فإنه كان في وقت وصول العسكر وقف بعدهم ساعةً حتى نزلوا جميعهم، وتفرقوا في جوانب الوادي، ثم إنه أرخى عِنان جواده، وأراد أن يكشف ذلك الوادي ويتولى الحرس بنفسه لأجل وصية والده إياه؛ فإنهم في أول بلاد الروم وأرض العدو، فسار وحده بعد أن أمر مماليكه وخواصه بالنزول عند الوزير دندان، ثم إنه لم يزل سائرًا على ظهر جواده في جوانب الوادي إلى أن مضى من الليل ربعه، فتعب وغلب عليه النوم، فصار لا يقدر أن يُركِض الجوادَ، وكان له عادة أنه ينام على ظهر جواده، فلما هجم عليه النوم نام ولم يزل الجواد سائرًا به إلى نصف الليل، فدخل به في بعض الغابات، وكانت تلك الغابة كثيرة الأشجار، فلم ينتبه شركان حتى دَقَّ الجواد بحافره في الأرض، فاستيقظ فوجد نفسه بين الأشجار وقد طلع عليه القمر وأضاء في الخافقين؛ فاندهش شركان لمَّا رأى نفسه في ذلك المكان، وقال كلمة لا يخجل قائلها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله. فبينما هو كذلك خائف من الوحوش متحيِّر لا يدري أين يتوجَّه، رأى القمر أشرف على مرج كأنه من مروج الجنة، فسمع كلامًا مليحًا وصوتًا عاليًا، وضحكًا يسبي عقول الرجال، فنزل الملك شركان عن جواده في الأشجار، ومشى حتى أشرف على نهرٍ فرأى فيه الماء يجري، وسمع كلام امرأة تتكلم بالعربية وهي تقول: وحَقِّ المسيح، إن هذا مكان غير مليح، ولكن كلُّ مَن تكلَّمَتْ بكلمة صرعتُها وكتفتها بزنارها. كل هذا وشركان يمشي إلى جهة الصوت حتى انتهى إلى طرف المكان، ثم نظر فإذا هو بنهر يسبح، وطيور تمرح، وغزلان تسنح، ووحوش ترتع، والطيور بلغاتها المعاني الحظ تشرح، وذلك المكان مزركش بأنواع النبات، كما قيل في أوصاف مثله هذان البيتان:

مَا تَحْسُنُ الْأَرْضُ إِلَّا عِنْدَ زَهْرَتِهَا
وَالْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا يَجْرِي بِإِرْسَالِ
صُنْعُ الْإِلَهِ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ مُقْتَدِرًا
مُعْطِي الْعَطَايَا وَمُعْطِي كُلِّ مِفْضَالِ
figure
فاستيقظ شركان، فوجد نفسَه بين الأشجار وقد طلع عليه القمر.

فنظر شركان إلى ذلك المكان فرأى فيه ديرًا، ومن داخل الدير قلعة شاهقة في الهواء في ضوء القمر، وفي وسطها نهر يجري الماء منه إلى تلك الرياض، وهناك امرأة بين يديها عشر جوارٍ كأنهن الأقمار، وعليهن من أنواع الحلي والحلل ما يدهش الأبصار، وكلهن أبكار بديعات، كما قيل فيهن هذه الأبيات:

يُشْرِقُ الْمَرْجُ بِمَا فِيـ
ـهِ مِنَ الْبِيضِ الْعَوَالِي
زَادَ حُسْنًا وَجَمَالًا
مِنْ بَدِيعَاتِ الْخِلَالِ
كُلُّ هَيْفَاءَ قَوَامًا
ذَاتِ غُنْجٍ وَدَلَالِ
رَاخِياتٍ لِشُعُورٍ
كَعَنَاقِيدِ الدَّوَالِي
فَاتِنَاتٍ بِعُيُونٍ
رَامِياتٍ بِالنِّبَالِ
مَائِساتٍ قَاتِلَاتٍ
لِصَنَادِيدِ الرِّجَالِ

فنظر شركان إلى هؤلاء الجواري العشر، فوجد بينهن جارية كأنها البدر عند تمامه، بحاجب مزجَّج، وجبين أبلج، وطرف أهدب، وصدغ معقرب، كاملة في الذات والصفات، كما قال الشاعر في مثلها هذه الأبيات:

تَزْهُو عَلَيَّ بِأَلْحَاظٍ بَدِيعَاتٍ
وَقَدُّهَا مُخْجِلٌ لِلسَّمْهَرِيَّاتِ
تَبْدُو إِلَيْنَا وَوَرْدُ الْحَقْلِ خَدَّاهَا
فِيهَا مِنَ الظَّرْفِ أَنْوَاعُ الْمَلَاحَاتِ
كَأَنَّ طُرَّتَهَا فِي نُورِ طَلْعَتِهَا
لَيْلٌ يَلُوحُ عَلَى صُبْحِ الْمَسَرَّاتِ

فسمعها شركان وهي تقول للجواري: تقدَّموا حتى أصارعكم قبل أن يغيب القمر ويأتي الصباح. فصارت كل واحدة منهن تتقدَّم إليها فتصرعها في الحال، وتكتفها بزنارها، فلم تزل تصارعهن وتصرعهن حتى صرعت الجميع، ثم التفتت إلى جارية عجوز كانت بين يديها، وقالت لها وهي كالمغضبة عليها: يا فاجرة، أتفرحين بصرعك للجواري؟ فها أنا عجوز وقد صرعتهن أربعين مرة، فكيف تعجبين بنفسك؟ ولكن إنْ كان لك قوة على مصارعتي فصارعيني، فإن أردتِ ذلك وقمتِ لمصارعتي أقوم لك، وأجعل رأسك بين رجليك. فتبسَّمَتِ الجارية ظاهرًا، وقد امتلأت غيظًا منها باطنًا، وقامت إليها وقالت لها: يا سيدتي ذات الدواهي، بحق المسيح أتصارعينني حقيقةً، أم تمزحين معي؟ قالت لها: بل أصارعك حقيقةً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤