فلما كانت الليلة ٥٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة إبريزة قالت للبطريق: هذا رجل واحد وأنتم مائة بطريق، فإذا أردتم مصادمته فابرزوا له واحدًا بعد واحد ليظهر عند الملك مَن هو البطل منكم. فقال البطريق ماسورة: وحقِّ المسيح لقد قلت الحقَّ، ولكن ما يخرج له أولًا غيري. فقالت له الجارية: اصبر حتى أذهب إليه وأعرفه بحقيقة الأمر، وأنظر ما عنده من الجواب، فإن أجاب الأمر كذلك، وإنْ أبى فلا سبيل لكم إليه، وأكون أنا ومَن في الدير وجواريَّ فداه. ثم أقبلت على شركان وأخبرته بما كان، فتبسَّم وعلم أنها لم تخبر أحدًا بأمره، وإنما شاع خبره حتى وصل إلى الملك بغير إرادتها، فرجع باللوم على نفسه، وقال: كيف رميت روحي في بلاد الروم؟ ثم إنه لما سمع كلام الجارية قال لها: إن بروزهم إليَّ واحدًا بعد واحد إجحاف بهم، فهلَّا يبرزون لي عشرة بعد عشرة؟ وبعد ذلك وثب على قدميه، وسار إلى أن أقبل عليهم، وكان معه سيفه وآلة حربه، فلما رآه البطريق وثب إليه وحمل عليه، فقابَلَه شركان كأنه الأسد وضربه بالسيف على عاتقه، فخرج السيف يلمع من أمعائه، فلما نظرت الجارية ذلك عظُم قدر شركان عندها، وعرفت أنها لم تصرعه حين صرعته بقوَّتها، بل بحُسْنها وجمالها.

ثم إن الجارية أقبلت على البطارقة، وقالت لهم: خذوا بثأر صاحبكم. فخرج له أخو المقتول، وكان جبارًا عنيدًا، فحمل على شركان فلم يمهله شركان دون أن ضربه بالسيف على عاتقه، فخرج السيف يلمع من أمعائه، فعند ذلك نادت الجارية وقالت: يا عُبَّاد المسيح، خذوا بثأر صاحبكم. فلم يزالوا يبرزون إليه واحدًا بعد واحد، وشركان يلعب فيهم بسيفه حتى قتل منهم خمسين بطريقًا، والجارية تنظر إليهم، وقد قذف الله الرعبَ في قلوب مَن بقي منهم، وقد تأخَّروا عن البِراز ولم يجسروا على البروز إليه، بل حملوا عليه حملة واحدة بأجمعهم، وحمل عليهم بقلبٍ أقوى من الحجر إلى أن طحنهم طحن الدروس، وسلب منهم العقول والنفوس، فصاحت الجارية على جواريها وقالت لهن: مَن بقي في الدير؟ فقلن لها: لم يبقَ أحد إلا البوابين. ثم إن الملكة لاقته وأخذته بالأحضان، وطلع شركان معها إلى القصر بعد فراغه من الحرب، وكان بقي منهم قليل كامن له في زوايا الدير، فلما نظرت الجارية إلى ذلك القليل قامت من عند شركان، ثم رجعت إليه وعليها زردية ضيقة العيون وبيدها صارم مهند، وقالت: وحق المسيح، لم أبخل بنفسي عن ضيفي ولا أتخلَّى عنه، ولو أني أبقى بسبب ذلك معيرة في بلاد الروم. ثم إنها تأملت البطارقة، فوجدته قد قتل منهم ثمانين، وانهزم منهم عشرون، فلما نظرت إلى ما صنع بالقوم قالت له: بمثلك تفتخر الفرسان، فلله درك يا شركان. ثم إنه قام بعد ذلك يمسح سيفه من دم القتلى، وينشد هذه الأبيات:

وَكَمْ مِنْ فِرْقَةٍ فِي الْحَرْبِ جَاءَتْ
تَرَكْتُ كُمَاتَهُمْ طَعْمَ السِّبَاعِ
سَلُوا عَنِّي إِذَا شِئْتُمْ نِزَالِي
جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي يَوْمِ الْقِرَاعِ
تَرَكْتُ لُيُوثَهُمْ فِي الْحَرْبِ صَرْعَى
عَلَى الرَّمْضَاءِ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ

فلما فرغ من شعره أقبلت عليه الجارية متبسمة، وقبَّلت يده، وقلعت الدرع الذي كان عليها، فقال لها: يا سيدتي، لأي شيء لبست الدرع الزرد وشهرت حسامك؟ قالت: حرصًا عليك من هؤلاء اللئام. ثم إن الجارية دعت البوَّابين، وقالت لهم: كيف تركتم أصحاب الملك يدخلون منزلي بغير إذني؟ فقالوا لها: أيتها الملكة ما جرت العادة أننا نحتاج إلى استئذانٍ منك على رُسُلِ الملك، خصوصًا البطريق الكبير. فقالت لهم: أظنكم ما أردتم إلا هتكي وقتل ضيفي. ثم أمرت شركان أن يضرب رقابهم، فضرب رقابهم، وقالت لباقي خدَّامها: إنهم يستحقون أكثر من ذلك. ثم التفتت لشركان وقالت له: الآن ظهر لك ما كان خافيًا، فها أنا أُعلِمك بقصتي؛ اعلم أني بنت ملك الروم حردوب، واسمي إبريزة، والعجوز التي تُسمَّى ذات الدواهي جدتي أم أبي، وهي التي أعلمت أبي بك، ولا بد أنها تدبِّر حيلةً في هلاكي، خصوصًا وقد قتلتَ بطارقة أبي، وشاع أني قد تحزَّبْتُ مع المسلمين، فالرأي السديد أنني أترك الإقامة هنا ما دامت ذات الدواهي خلفي، ولكن أريد منك أن تفعل معي مثل ما فعلتُ معك من الجميل؛ فإن العداوة قد وقعت بيني وبين أبي، فلا تترك من كلامي شيئًا، فإن هذا كله ما وقع إلا من أجلك.

فلما سمع شركان هذا الكلام طار عقله من الفرح، واتسع صدره وانشرح، وقال: والله لا يصل إليك أحد ما دامت روحي في جسدي، ولكن هل لك صبر على فراق والدك وأهلك؟ قالت: نعم. فحلَّفها شركان وتعاهدَا على ذلك. فقالت: الآن طاب قلبي، ولكن بقي عليك شرط آخَر. فقال: وما هو؟ فقالت له: أنك ترجع بعسكرك إلى بلادك. فقال لها: يا سيدتي، إن أبي عمر النعمان أرسلني إلى قتال والدك بسبب المال الذي أخذه، ومن جملته الثلاث خرزات الكثيرة البركات. فقالت له: طِبْ نفسًا، وقَرَّ عينًا، فها أنا أحدِّثُكَ بحديثها، وأخبرك بسبب معاداتنا لملك القسطنطينية؛ وذلك أن لنا عيدًا يقال له عيد الدير، كل سنة تجتمع فيه الملوك من جميع الأقطار، وبنات الأكابر والتجار، ويقعدون فيه سبعة أيام، وأنا من جملتهم، فلما وقعت بيننا العداوة منعني أبي من حضور ذلك العيد مدةَ سبعِ سنين، فاتفق في سنة من السنين أن بنات الأكابر من سائر الجهات قد جاءت من أماكنها إلى الدير في ذلك العيد على العادة، من جملةِ مَن جاء إليه بنت ملك القسطنطينية، وكان يقال لها صفيَّة، فأقاموا في الدير ستة أيام، وفي اليوم السابع انصرفت الناس، فقالت صفية: أنا ما أرجع إلى القسطنطينية إلا في البحر، فجهزوا لها مركبًا فنزلت فيها هي وخواصها، فلما حلُّوا القلوع وساروا، فبينما هم سائرون وإذا بريح قد خرج عليهم، فأخرج المركب عن طريقها، وكان هناك بالقضاء والقدر مركب نصارى من جزيرة الكافور، وفيها خمسمائة إفرنجي، ومعهم العدة والسلاح، وكان لهم مدة في البحر، فلما لاح لهم قلع المركب التي فيها صفية ومَن معها من البنات، انقَضُّوا عليها مُسرِعين، فما كان غير ساعة حتى وصلوا إلى تلك المركب، ووضعوا فيها الكلاليب، وجرُّوها وحلوا قلوعهم، وقصدوا جزيرتهم، فما بعدوا غير قليل حتى انعكس عليهم الريح، فجذبهم إلى شعب بعد أن مزَّقَ قلوعَ مركبهم، وقرَّبَهم منَّا، فخرجنا فرأيناهم غنيمةً قد انساقَتْ إلينا، فأخذناهم وقتلناهم، واغتنمنا ما معهم من الأموال والتحف، وكان في مركبهم أربعون جارية، ومن جملتهم صفية بنت الملك، فأخذنا الجواري وقدَّمْناها إلى أبي، ونحن لا نعرف أن من جملتهن ابنة الملك أفريدون ملك القسطنطينية، فاختار أبي منهن عشر جوارٍ، وفيهن ابنة الملك، وفرَّقَ الباقي على حاشيته، ثم عزل خمسة فيهن ابنة الملك من العشر جوارٍ، وأرسل تلك الخمسة هدية إلى والدك عمر النعمان مع شيء من الجوخ، ومن قماش الصوف، ومن القماش الحرير الرومي، فقَبِل الهدية أبوك، واختار من الخمس جوارٍ صفية بنت الملك أفريدون، فلما كان أول هذا العام أرسل أبوها إلى والدي مكتوبًا فيه كلام لا ينبغي ذكره، وصار يهدِّده في ذلك المكتوب ويوبخه، ويقول له: إنكم أخذتم مركبنا من منذ سنتين، وكانت في يد جماعة لصوص من الإفرنج، ومن جملة ما فيها بنتي صفية، ومعها من الجواري نحو ستين جارية، ولم ترسلوا عليَّ أحدًا يخبرني بذلك، وأنا لا أقدر أن أُظهِر خبرها خوفًا أن يكون في حقي عار عند الملوك من أجل هتك ابنتي، فكتمت أمري إلى هذا العام، والذي بيَّن لي ذلك أني كاتبْتُ هؤلاء اللصوص، وسألتهم عن خبر ابنتي وأكَّدْتُ عليهم أن يفتِّشوا عليها ويخبروني عند أي ملك هي من ملوك الجزائر، فقالوا: واللهِ ما خرجنا بها من بلادك. ثم قال في المكتوب الذي كتبه لوالدي: إن لم يكن مرادكم معاداتي، ولا فضيحتي وهتك ابنتي، فساعة وصول كتابي إليكم ترسلوا إليَّ بنتي من عندكم، وإن أهملتم كتابي وعصيتم أمري، فلا بد أن أكافئكم على قبيح أفعالكم وسوء أعمالكم.

فلما وصلت هذه المكاتبة إلى أبي وقرأها، وفهم ما فيها، شقَّ عليه ذلك، وندم حيث لم يعرف أن صفية بنت الملك بين تلك الجواري ليردَّها إلى والدها، فصار متحيرًا في أمره، ولم يمكنه بعد هذه المدة المستطيلة أن يرسل إلى الملك عمر النعمان ويطلبها منه، وقد سمعنا من مدة يسيرة أنه رُزِق من جاريته التي يقال لها صفية بنت الملك أفريدون أولادًا، فلما تحقَّقنا ذلك علمنا أن هذه الورطة هي المصيبة العظمى، ولم يكن لأبي حيلة غير أنه كتب جوابًا للملك أفريدون يعتذر إليه فيه، ويحلف له بالأقسام أنه لم يعلم أن ابنته من جملة الجواري التي كانت في تلك المركب، ثم أظهره على أنه أرسَلَها إلى الملك عمر النعمان، وأنه رُزِق منها أولادًا. فلما وصلت رسالةُ أبي إلى أفريدون ملك القسطنطينية قام وقعد، وأرغى وأزبد، وقال: كيف تكون ابنتي مسبية بصفة الجواري، وتتداولها أيدي الملوك، ويطئونها بلا عقد؟ ثم قال: وحقِّ المسيح والدين الصحيح، إنه لا يمكنني أن أتقاعد عن هذا الأمر دون أن آخذ الثأر وأكشف العار، فلا بد أن أفعل فعلًا يتحدث به الناس من بعدي.

وما زال صابرًا إلى أن عمل الحيلة، ونصب مكائد عظيمة، وأرسل رسلًا إلى والدك عمر النعمان، وذكر له ما سمعت من الأقوال، حتى جهَّزَك والدك بالعساكر التي معك من أجلها، وصيَّرك إليه حتى يقبض عليك أنت ومَن معك من عساكرك. وأما الثلاث خرزات التي أخبر والدك بها في مكتوبه، فليس لذلك صحة، وإنما كانت مع صفية ابنته، وأخذها أبي منها حين استولى عليها هي والجواري التي معها، ثم وهبها لي وهي الآن عندي، فاذهب أنت إلى عسكرك ورُدَّهم قبل أن يتوغَّلوا في بلاد الإفرنج والروم؛ فإنكم إذا توغلتم في بلادهم يضيِّقون عليهم الطرق، ولم يكن لكم خلاص من أيديهم إلى يوم الجزاء والقصاص، وأنا أعرف أن الجيوش مُقِيمون في مكانهم؛ لأنك أمرتهم بالإقامة ثلاثة أيام مع أنهم فقدوك في هذه المدة، ولم يعلموا ماذا يفعلون.

فلما سمع شركان هذا الكلام صار مشغول الفكر بالأوهام، ثم إنه قبَّل يد الملكة إبريزة وقال: الحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بك، وجعلك سببًا لسلامتي وسلامة مَن معي، ولكن يعزُّ عليَّ فراقك، ولا أعلم ما يجري عليك بعدي. فقالت له: اذهب أنت الآن إلى عسكرك ورُدَّهم، وإن كانت الرسل عندهم فاقبض عليهم حتى يظهر لكم الخبر وأنتم بالقرب من بلادكم، وبعد ثلاثة أيام أنا ألحقكم، وما تدخلون بغداد إلا وأنا معكم، فندخل كلنا سواء. فلما أراد الانصراف قالت له: لا تنسَ العهْدَ الذي بيني وبينك. ثم إنها نهضت قائمة معه لأجل التوديع والعناق، وإطفاء نار الأشواق، وبكت بكاءً يذيب الأحجار، وأرسلت الدموع كالأمطار، فلما رأى منها ذلك البكاء والدموع اشتدَّ به الوَجْد والولوع، ونزح في الوداع دمع العين، وأنشد هذين البيتين:

وَدَعَّتْهُا وَيَدِي الْيَمِينُ لِأَدْمُعِي
وَيَدِي الْيَسَارُ لِضَمَّةٍ وِعِنَاقِ
قَالَتْ أَمَا تَخْشَى الْفَضِيحَةَ قُلْتُ لَا
يَوْمُ الْوَدَاعِ فَضِيحَةُ الْعُشَّاقِ

ثم فارقها شركان ونزل من الدير، وقدموا له جواده، فركب وخرج متوجهًا إلى الجسر، فلما وصل إليه مَرَّ من فوقه، ودخل بين تلك الأشجار، فلما تخلَّص من الأشجار، ومشى في ذلك المرج، وإذا هو بثلاثة فوارس، فأخذ لنفسه الحذر منهم، وشهر سيفه وانحدر، فلما قربوا منه ونظر بعضهم بعضًا عرفوه وعرفهم، ووجد أحدهم الوزير دندان ومعه أميران، وعندما عرفوه ترجَّلوا له وسلَّموا عليه، وسأله الوزير دندان عن سبب غيابه، فأخبره بجميع ما جرى له مع الملكة إبريزة من أوله إلى آخِره، فحمد الله تعالى على ذلك، ثم قال شركان: ارحلوا بنا عن هذه البلاد؛ لأن الرسل الذين جاءوا معنا رحلوا من عندنا ليُعلِموا ملكهم بقدومنا، فربما أسرعوا إلينا وقبضوا علينا. ثم نادى شركان في عسكره بالرحيل فرحلوا، ولم يزالوا سائرين مُجِدِّينَ في السير حتى وصلوا إلى سطح الوادي، وكان الرسل قد توجَّهوا إلى ملكهم، وأخبروه بقدوم شركان، فجهَّزَ إليه عسكر ليقبضوا عليه، وعلى مَن معه.

هذا ما كان من أمر الرسل وملكهم، وأما ما كان من أمر شركان، فإنه سافر بعسكره مدة خمسة أيام ثم نزلوا في وادٍ كثير الأشجار واستراحوا فيه مدة، وبعد ذلك ساروا منه، ولم يزالوا سائرين مدة خمسة وعشرين يومًا حتى أشرفوا على أوائل بلادهم، فلما وصلوا إلى هناك أمنوا على أنفسهم، ونزلوا لأخذ الراحة، فخرج إليهم أهل تلك البلاد بالضيافات، وعليق البهائم، ثم أقاموا يومين ورحلوا طالبين ديارهم، وتأخَّرَ شركان بعدهم في مائة فارس، وجعل الوزير دندان أميرًا على مَن معه من الجيش، فسار الوزير دندان بمَن معه مسيرة يوم، ثم بعد ذلك ركب شركان هو والمائة فارس الذين معه، وساروا مقدار فرسخين حتى وصلوا إلى محل مضيق بين جبلين، وإذا أمامهم غبرة وعَجَاج، فمنعوا خيولهم من السير مقدار ساعة حتى انكشف الغبار، فبَانَ من تحته مائة فارس ليوث عوابس، وفي الحديد والزرد غواطس، فلما أن قربوا من شركان ومَن معه صاحوا عليهم وقالوا: وحقِّ يوحنا ومريم، إننا قد بلغنا ما أملناه، ونحن خلفكم مُجِدُّونَ السيرَ ليلًا ونهارًا حتى سبقناكم إلى هذا المكان، فانزلوا عن خيولكم، وأعطونا أسلحتكم وسلِّموا لنا أنفسكم حتى نجود عليكم بأرواحكم.

figure
ثم نادى شركان في عسكره بالرحيل، ولم يَزالوا سائرين حتى وصلوا إلى سطح الوادي.

فلما سمع شركان ذلك الكلام لاجت عيناه، واحمرَّت وجنتاه، وقال لهم: يا كلاب النصارى، كيف تجاسرتم علينا، وجئتم بلادنا، ومشيتم في أرضنا؟! وما كفاكم ذلك حتى تخاطبونا بهذا الخطاب! أظننتم أنكم تخلصون من أيدينا، وتعودون إلى بلادكم؟ ثم صاح على المائة فارس الذين معه وقال لهم: دونكم وهؤلاء الكلاب، فإنهم في عددكم. ثم سلَّ سيفه وحمل عليهم، وحملت معه المائة فارس، فاستقبلتهم الإفرنج بقلوب أقوى من الصخر، واصطدمت الرجال بالرجال، ووقعت الأبطال في الأبطال، والتحم القتال، واشتد النزال، وعظمت الأهوال، وقد بطل القيل والقال، ولم يزالوا في الحرب والكفاح، والضرب بالصفاح إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، فانفصلوا عن بعضهم، واجتمع شركان بأصحابه، فلم يجد أحدًا منهم مجروحًا غير أربعة أنفس حصل لهم جراحات سليمة، فقال لهم شركان: أنا عمري أخوض بحر الحرب العجاج المتلاطم من السيوف بالأمواج، وأقاتل الرجال، فوالله ما لقيت أصبر على الجلاد وملاقاة الرجال مثل هؤلاء الأبطال. فقالوا له: اعلم أيها الملك أن فيهم فارسًا إفرنجيًّا وهو المقدَّم عليهم، له شجاعة وطعنات نافذات، غير أن كل مَن وقع منَّا بين يديه يتغافل عنه ولا يقتله، فوالله لو أراد قتلنا لَقتَلَنا بأجمعنا. فتحيَّرَ شركان لما سمع ذلك المقال، وقال: في غدٍ نصطفُّ ونبارِزهم، فها نحن مائة ونطلب النصر عليهم من رب السماء، وباتوا تلك الليلة على ذلك الاتفاق.

وأما الإفرنج فإنهم اجتمعوا عند مقدمهم، وقالوا له: إننا ما بلغنا اليومَ في هؤلاء إربًا. فقال لهم: في غدٍ نصطفُّ ونبارزهم واحدًا بعد واحد. فباتوا على الاتفاق أيضًا، فلما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، وطلعت الشمس على رءوس الروابي والبطاح، وسلمت على محمد زين الملاح، ركب الملك شركان، وركب معه المائة فارس، وأتوا إلى الميدان كلهم، فوجدوا الإفرنج قد اصطفوا للقتال، فقال شركان لأصحابه: إن أعداءنا قد اصطفوا، فدونكم والمبادرة إليهم. فنادى منادٍ من الإفرنج: لا يكون قتالنا في هذا اليوم إلا مناوبة بأن يبرز بطل منكم إلى بطل منَّا. فعند ذلك برز فارس من أصحاب شركان، وساق بين الصفين وقال: هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يبرز لي اليومَ كسلان ولا عاجز. فلم يتم كلامه حتى برز إليه فارس من الإفرنج غريق في سلاحه، وقماشه من ذهب، وهو راكب على جواد أشهب، وذلك الإفرنجي لا نبات بعارضيه، فسار جواده حتى وقف في وسط الميدان، وصادمه بالضرب والطعان، فلم يكن غير ساعة حتى طعنه الإفرنجي بالرمح فنكسه عن جواده، وأخذه أسيرًا، وقاده حقيرًا، ففرح به قومه ومنعوه أن يخرج إلى الميدان، وأخرجوا غيره، وقد خرج إليه من المسلمين آخَر وهو أخو الأسير، ووقف معه في الميدان، وحمل الاثنان على بعضهما ساعةً يسيرةً، ثم كرَّ الإفرنجي على المسلم، وغالطه وطعنه بعقب الرمح فنكسه عن جواده، وأخذه أسيرًا، ولا زال يخرج إليهم من المسلمين واحدًا بعد واحد، والإفرنج يأسرونهم إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، وقد أسروا من المسلمين عشرين فارسًا، فلما عايَنَ شركان ذلك عظم عليه الأمر، فجمع أصحابه وقال لهم: ما هذا الأمر الذي حَلَّ بنا؟ أنا أخرج في غدٍ إلى الميدان، وأطلب مبارزة الإفرنجي المقدَّم عليهم، وأنظر ما الذي حمله على أن يدخل بلادنا، وأحذِّره من قتالنا، فإن أبى قاتلناه، وإن صالَحَنا صالَحْناه.

وباتوا على هذه الحال إلى أن أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، ثم ركب الطائفتان، واصطفَّ الفريقان، فلما خرج شركان إلى الميدان رأى الإفرنج قد ترجَّل منهم أكثر من نصفهم قدام فارس منهم، ومشوا قدامه إلى أن صاروا في وسط الميدان، فتأمل شركان ذلك الفارس، فرآه الفارس المقدم عليهم وهو لابس قباء من أطلس أزرق، ووجهه فيه كالبدر إذا أشرق، ومن فوقه زردية ضيقة العيون، وبيده سيف مهنَّد، وهو راكب على جواد أدهم في وجهه غُرَّة كالدرهم، وذلك الإفرنجي لا نبات بعارضيه، ثم إنه لكز جواده حتى صار في وسط الميدان، وأشار إلى المسلمين وهو يقول بلسان عربي فصيح: يا شركان، يا ابن عمر النعمان الذي ملك الحصون والبلدان، دونك والحرب والطعان، وابرز إلى مَن قد ناصَفَك في الميدان، فأنت سيد قومك، وأنا سيد قومي، فمَن غلب منا صاحبه أخذه هو وقومه تحت طاعته. فما أتمَّ كلامَه حتى برز له شركان وقلبه من الغيظ ملآن، وساق جواده حتى دنا من الإفرنجي في الميدان، فكَرَّ عليه الإفرنجي كالأسد الغضبان، وصدمه صدمة الفرسان، وأخذا في الطعن والضرب، وصارا في حومة الميدان كأنهما جبلان يصطدمان، أو بحران يلتطمان، ولم يزالا في قتال وحرب ونزال من أول النهار إلى أن أقبل الليل بالاعتكار، ثم انفصل كلٌّ منهما عن صاحبه، وعاد إلى قومه. فلما اجتمع شركان بأصحابه قال لهم: ما رأيت مثل هذا الفارس قطُّ، إلا أني رأيت منه خصلة لم أرها من أحد غيره، وهو أنه إذا لاح له في خصمه مضرب قاتل، يقلب الرمح ويضرب بعقبه، ولكن ما أدري ماذا يكون مني ومنه، ومرادي أن يكون في عسكرنا مثله ومثل أصحابه.

وبات شركان، فلما أصبح الصباح خرج له الإفرنجي، ونزل في وسط الميدان، وأقبل عليه شركان، ثم أخذا في القتال، وأوسعا في الحرب والمجال، وامتدت إليهما الأعناق، ولم يزالا في حرب وكفاح وطعن بالرماح إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، ثم افترقَا ورجعَا إلى قومهما، وصار كلٌّ منهما يحكي لأصحابه ما لاقاه من صاحبه، ثم إن الإفرنجي قال لأصحابه: في غدٍ يكون الانفصال. وباتوا تلك الليلة إلى الصباح، ثم ركب الاثنان، وحملَا على بعضهما، ولم يزالا في الحرب إلى نصف النهار، وبعد ذلك عمل الإفرنجي حيلةً، ولكز جواده، ثم جذبه باللجام، فعثر به ورماه فانكبَّ عليه شركان، وأراد أن يضربه بالسيف خوفًا أن يطول به المطال، فصاح به بالإفرنجي وقال: يا شركان، ما هكذا تكون الفرسان، إنما هو فعل المغلوب بالنسوان. فلما سمع شركان من ذلك الفارس هذا الكلام رفع طرفه إليه، وأمعن النظر فيه، فوجده الملكة إبريزة التي وقع له معها ما وقع في الدير، فلما عرفها رمى السيف من يده، وقبَّل الأرض بين يديها وقال لها: ما حملك على هذه الفعال؟ فقالت له: أردتُ أن أختبرك في الميدان، وأنظر ثباتك في الحرب والطعان، وهؤلاء الذين معي كلهم جوارٍ، وكلهن بنات أبكار، وقد قهرن فرسانك في الميدان، ولولا أن جوادي قد عثر بي لَكنتَ ترى قوتي وجلادي. فتبسَّمَ شركان من قولها، وقال لها: الحمد لله على السلامة، وعلى اجتماعي بك يا ملكة الزمان.

ثم إن الملكة إبريزة صاحت على جواريها وأمرتهن بالرحيل بعد أن يطلقن العشرين أسيرًا الذين كُنَّ أسرنهم من قوم شركان، فامتثلت الجواري أمرها، ثم قبَّلن الأرض بين يديها، فقال لهن: مثلكن مَن يكون عند الملوك مدَّخرًا للشدائد. ثم إنه أشار إلى أصحابه أن سلموا عليها؛ فترجلوا جميعًا وقبلوا الأرض بين يدي الملكة، ثم ركب المائتا فارس، وساروا في الليل والنهار مدةَ ستة أيام، وبعد ذلك أقبلوا على الديار، فأمر شركان الملكة إبريزة وجواريها أن ينزعن ما عليهن من لباس الإفرنج. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤