فلما كانت الليلة ٥٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة إبريزة لما قالت للعبد الذي هو غضبان: ما بقي عليَّ إلا العبيد السود، ثم صارت تُبكِّته، وأظهرت له الغيظ، وقالت له: ويلك، ما هذا الكلام الذي تقوله لي؟! فلا تتكلم بشيء من هذا في حضرتي، واعلم أنني لا أرضى بشيء مما قلتَه، ولو سُقيتُ كأسَ الردى، ولكن اصبر حتى أُصلِح الجنين، وأُصلِح شأني وأرمي الخلاص، ثم بعد ذلك إن قدرتَ عليَّ فافعل بي ما تريد، وإن لم تترك فاحش الكلام في هذا الوقت فإني أقتل نفسي بيدي، وأفارق الدنيا وأرتاح من هذا كله. ثم أنشدت هذه الأبيات:

أَيَا غَضْبَانَ دَعْنِي قَدْ كَفَانِي
مُكَابَدَةُ الْحُوَادِثِ وَالزَّمَانِ
عَنِ الْفَحْشَاءِ رَبِّي قَدْ نَهَانِي
وَقَالَ النَّارُ مَثْوَى مَنْ عَصَانِي
وَإِنِّي لَا أَمِيلُ بِفِعْلِ سُوءٍ
بِعَيْنِ النَّقْصِ دَعْنِي لَا تَرَانِي
وَلَوْ لَمْ تَتْرُكِ الْفَحْشَاءَ عَنِّي
وَتَرْعَى حُرْمَتِي فِيمَنْ رَعَانِي
لَأَصْرُخُ طَاقَتِي لِرِجَالِ قَوْمِي
وَأَجْلِبُ كُلَّ قَاصِيهَا وَدَانِي
وَلَوْ قُطِّعْتُ بِالسَّيْفِ الْيَمَانِي
لَمَا خَلَّيْتُ فَحَّاشًا يَرَانِي
مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْكُبَرَاءِ طُرًّا
فَكَيْفَ الْعَبْدُ مِنْ نَسْلِ الزَّوَانِي

فلما سمع الغضبان ذلك الشعر غضب غضبًا شديدًا، واحمرَّت مقلتاه، واغبرَّتْ سحنته، وانتفخت مناخره، واستدلَّتْ مشافره، وزادت به النفرات، وأنشد هذه الأبيات:

أَإِبْرِيزَ اذْكُرِي إِنْ تَهْجُرِينِي
قَتِيلَ هَوَاكِ بِاللَّحْظِ الْيَمَانِي
فَقَلْبِي قَدْ تَقَطَّعَ مِنْ جَفَاكِ
وَجِسْمِي نَاحِلٌ وَالصَّبْرُ فَانِ
وَلَفْظُكِ قَدْ سَبَى الْأَلْبَابَ سِحْرًا
فَعَقْلِي نَازِحٌ وَالشَّوْقُ دَانِ
وَلَوْ أَجْلَبْتُ مِلْءَ الْأَرْضِ جَيْشًا
لِأَبْلُغَ مَأْرَبِي فِي ذَا الزَّمَانِ

فلما سمعت إبريزة كلامه بكت بكاء شديدًا، وقالت له: ويلك يا غضبان، وهل بلغ من قدرك أن تخاطبني بهذا الخطاب يا ولد الزنا وتربية الخنا؟ أتحسب أن الناس كلهم سواء؟ فلما سمع ذلك العبد النحس هذا الكلام غضب منها غضبًا شديدًا، وتقدَّمَ إليها وضربها بالسيف فقتلها، وساق جوادها قدامه بعد أن أخذ المال، وفرَّ بنفسه آبقًا في الجبال.

هذا ما كان من أمر الغضبان، وأما ما كان من أمر الملكة إبريزة، فإنها صارت طريحة على الأرض، وكان الولد الذي ولدته ذكرًا، فحملته مرجانة في حجرها، وصرخت صرخة عظيمة، وشقت أثوابها، وصارت تحثو التراب على رأسها، وتلطم على خدها حتى طلع الدم من وجهها، وقالت: وا خيبتاه! كيف قتل سيدتي عبدٌ أسود لا قيمةَ له بعد فروسيتها؟ فبينما هي تبكي وإذا بغبار قد طار حتى سدَّ الأقطار، ولما انكشف ذلك الغبار بان من تحته عسكر جرار، وكانت تلك العساكر عساكر ملك الروم والد الملكة إبريزة، وسبب ذلك أنه لما سمع أن ابنته هربت هي وجواريها إلى بغداد، وأنها عند الملك عمر النعمان، خرج بمَن معه يتنسم الأخبار من بعض المسافرين إن كانوا رأوها عند الملك عمر النعمان، فخرج بمَن معه ليسأل المسافرين من أين أتوا لعله يعلم بخبر ابنته، وكان رأى على بُعدٍ هؤلاء الثلاثة: ابنته، والعبد الغضبان، وجاريتها مرجانة، فقصدهم ليسألهم، فلما قصدهم خاف العبد على نفسه فقتلها ونجا بنفسه، فلما أقبلوا عليها رآها أبوها مرمية على الأرض، وجاريتها تبكي عليها، فرمى نفسه من فوق جواده، ووقع إلى الأرض مغشيًّا عليه، فترجَّلَ كلُّ مَن كان معه من الفرسان والأمراء والوزراء، وضربوا الخيام في الجبال، ونصبوا قبةً للملك حردوب، ووقف أرباب الدولة خارج تلك القبة، فلما رأت مرجانة سيدها عرفته، وزادت في البكاء والنحيب، فلما أفاق الملك من غشيته، سألها عن الخبر، فأخبرته بالقصة، وقالت له: إن الذي قتل ابنتك عبد أسود من عبيد الملك عمر النعمان، وأخبرته بما فعله الملك عمر النعمان بابنته.

فلما سمع الملك حردوب ذلك الكلام اسودَّت الدنيا في وجهه، وبكى بكاءً شديدًا، ثم أمر بإحضار محفة وحمل ابنته فيها، ومضى إلى قسارية، وأدخلوها القصر، ثم إن الملك حردوب دخل على أمه ذات الدواهي، وقال لها: أهكذا يفعل المسلمون بابنتي؟ فإن الملك عمر النعمان أزال بكارتها قهرًا، وبعد ذلك قتلها عبد أسود من عبيده، فوحَقِّ المسيح لا بد من أخذ ثأر بنتي منه، وكشف العار عن عرضي، وإلا قتلتُ نفسي بيدي. ثم بكى بكاء شديدًا، فقالت له أمه ذات الدواهي: ما قتل ابنتك إلا مرجانة؛ لأنها كانت تكرهها في الباطن. ثم قالت لولدها: لا تحزن من أخذ ثأرها، فوحَقِّ المسيح لا أرجع عن الملك عمر النعمان حتى أقتله وأقتل أولاده، ولَأعملنَّ معه عملًا تعجز عنه الدهاة والأبطال، ويتحدَّث به المتحدثون في جميع الأقطار، ولكن ينبغي لك أن تمتثل أمري في كل ما أقوله وأنت تبلغ ما تريد. فقال لها: وحقِّ المسيح لا أخالفك أبدًا فيما تقولينه. قالت له: ائتني بجَوارٍ نهد أبكار، وائتني بحكماء الزمان، وأجزل لهم العطايا، وأمرهم أن يعلِّموا الجواري الحكمةَ والأدب وخطاب الملوك ومنادمتهم والأشعار، وأن يتكلموا بالحكمة والمواعظ، ويكون الحكماء مسلمين لأجل أن يعلِّموهنَّ أخبار العرب، وتواريخ الخلفاء، وأخبار مَن سلف من ملوك الإسلام، ولو أقمنا على ذلك عشرة أعوام، وطوِّل روحَك واصبر؛ فإن بعض الأعراب يقول: إن أخْذَ الثأر بعد أربعين عامًا مدته قليلة، ونحن إذا علَّمنا تلك الجواري بلغنا من عدونا ما نختار؛ لأنه ممتحن بحب الجواري، وعنده ثلاثمائة جارية وست وستون جارية، وازددن مائة جارية من خواص جواريك اللاتي كنَّ مع المرحومة، فإذا تعلَّمَ الجواري ما أخبرتُك من العلوم، فإني آخذهن بعد ذلك وأسافر بهن.

فلما سمع الملك حردوب كلام أمه ذات الدواهي فرح فرحًا شديدًا، وقبَّل رأسها، ثم أرسل من وقته وساعته المسافرين والقصَّاد إلى أطراف البلاد ليأتوا إليه بالحكماء من المسلمين، فامتثلوا أمْرَه وسافروا إلى بلاد بعيدة، وأتوه بما طلبه من الحكماء والعلماء، فلما حضروا بين يديه أكرمهم غايةَ الإكرام، وخلع عليهم الخلع، ورتَّب لهم الرواتب والجرايات، ووعدهم بالمال الجزيل إذا فعلوا ما أمرهم به، ثم أحضر لهم الجواري. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤