فلما كانت الليلة ٨١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: وقالت الجارية الثانية لوالدك المرحوم عمر النعمان: وقال رجل لمحمد بن عبد الله: أَوْصِني. فقال: أوصيك أن تكون في الدنيا مالكًا زاهدًا، وفي الآخِرة مملوكًا طامعًا. قال: وكيف ذلك؟ قال: الزاهد في الدنيا يملك الدنيا والآخرة. وقال غوث بن عبد الله: كان أخوان في بني إسرائيل قال أحدهما للآخر: ما أخوف عمل عملته؟ قال له: إني مررتُ ببيتِ فراخ، فأخذت منه واحدة ورميتها في ذلك البيت، ولكن بين الفراخ التي لم آخذها منها؛ فهذا أخوف عمل عملته، فما أخوف ما عملته أنت؟ فقال: أمَّا أنا فأخوف عمل أعمله أني إذا قمتُ إلى الصلاة، أخاف أن أكون لا أعمل ذلك إلا للجزاء. وكان أبوهما يسمع كلامهما، فقال: اللهم إنْ كانا صادقين فاقبضهما إليك. فقال بعض العقلاء: إن هذين من أفضل الأولاد. وقال سعيد بن جبير: صحبت فضالة بن عبيد، فقلت له: أَوْصِني. فقال: احفظ عني هاتين الخصلتين: ألَّا تشرك بالله شيئًا، وألَّا تؤذي من خَلْقِ الله أحدًا. وأنشد هذين البيتين:

كُنْ كَيْفَ شِئْتَ فَإِنَّ اللهَ ذُو كَرَمٍ
وَانْفِ الْهُمُومَ فَمَا فِي الْأَمْرِ مِنْ بَاسِ
إِلَّا اثْنَتَيْنِ فَلَا تَقْرَبْهُمَا أَبَدًا
الشِّرْكُ بِاللهِ وَالْإِضْرَارُ بِالنَّاسِ

وما أحسن قول الشاعر:

إِذَا أَنْتَ لَمْ يَصْحَبْكَ زَادٌ مِنَ التُّقَى
وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ
وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا

حكاية الصبية الثالثة

ثم تقدَّمت الجارية الثالثة بعد أن تأخرت الثانية وقالت: إن باب الزهد واسع جدًّا، ولكن أذكر بعضَ ما يحضرني فيه عن السلف الصالح؛ قال بعض العارفين: أنا أستبشر بالموت، ولا أتيقَّن فيه راحة، غير أني علمت أن الموت يحول بين المرء وبين الأعمال، فأرجو مضاعَفةَ العمل الصالح، وانقطاع العمل السيئ. وكان عطاء السلمي إذا فرغ من وصيته انتفض وارتعد، وبكى بكاءً شديدًا، فقيل له: لِمَ ذلك؟ فقال: إني أريد أن أُقبِل على أمر عظيم، وهو الانتصاب بين يدي الله تعالى للعمل بمقتضى الوصية؛ ولذلك كان علي زين العابدين بن الحسين يرتعد إذا قام للصلاة، فسُئِل عن ذلك فقال: أتدرون لمَن أقوم، ولمَن أخاطب؟ وقيل: كان بجانب سفيان الثوري رجل ضرير، فإذا كان شهر رمضان يخرج ويصلي بالناس فيسكت ويبطئ. وقال سفيان: إذا كان يوم القيامة أُتي بأهل القرآن فيُميَّزون بعلامة مزيد الكرامة عمَّن سواهم. وقال سفيان: لو أن النفس استقرت في القلب كما ينبغي لَطار فرحًا وشوقًا إلى الجنة، وحزنًا وخوفًا من النار. وعن سفيان الثوري أنه قال: النظر إلى وجه الظالم خطيئة.

حكاية الصبية الرابعة

ثم تأخَّرَتِ الجارية الثالثة وتقدَّمت الجارية الرابعة، وقالت: وها أنا أتكلم ببعض ما يحضرني من أخبار الصالحين: رُوي أن بشرًا الحافي قال: سمعت خالدًا يقول: إياكم وسرائر الشرك! فقلت له: وما سرائر الشرك؟ قال: أن يصلي أحدكم فيطيل ركوعه وسجوده حتى يلحقه الحدث. وقال بعض العارفين: فِعْلُ الحسنات يكفِّر السيئات. وقال بعض العارفين: التمستُ من بشر الحافي شيئًا من أسرار الحقائق، فقال: يا بني، هذا العلم لا ينبغي أن نعلمه كلَّ أحد، فمن كل مائة خمسةٌ مثل زكاة الدرهم. قال إبراهيم بن أدهم: فاستحليت كلامه واستحسنته، فبينما أنا أصلي وإذا ببشر يصلي، فقمت وراءه أركع إلى أن يؤذن المؤذن، فقام رجل رثُّ الحالة، وقال: يا قوم، احذروا الصدق الضار، ولا بأس بالكذب النافع، وليس مع الاضطرار اختيار، ولا ينفع الكلام عند العدم، كما لا يضر السكوت عند وجود الوجود. وقال إبراهيم: رأيت بشرًا سقط منه دانف، فقمت إليه وأعطيته درهمًا، فقال: لا آخذه. فقلت: إنه من خالص الحلال. فقال لي: أنا لست أستبدل نِعَم الدنيا بنِعَم الآخرة. ويُروَى أن أخت بشر الحافي قصدت أحمد بن حنبل … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤