فلما كانت الليلة ٩٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أصبح الصباح، وأشرق بنوره ولاح، وتبادرت الفرسان إلى حمل الرماح، دعا الملك أفريدون بخواص بطارقة وأرباب دولته، وخلع عليهم، ونقش الصليب في وجوههم، وبخَّرهم بالبخور المتقدِّم ذكره — الذي هو خراء البطريق الأكبر، والكاهن الأمكر — فلما بخَّرهم دعا بحضور لوقا بن شملوط، الذي يسمونه سيف المسيح، وبخَّره بالرجيع، وحنكه به بعد التبخير ونشقه ولطَّخ له عوارضه، ومسح بالفضلة شواربه، وكان ذلك الملعون لوقا ما في بلاد الروم أعظم منه، ولا أرمى بالنبال، ولا أضرب بالسيف، ولا أطعن بالرمح يوم النزال، وكان بشع المنظر؛ كان وجهه وجه حمار، وصورته صورة قرد، وطلعته طلعة الرقيب، وقربه أصعب من فراق الحبيب، له من الليل ظلمته، ومن الأبخر نكهته، ومن القوس قامته، ومن الكفر سيمته. وبعد ذلك أقبل على الملك أفريدون، وقبَّلَ قدمَيْه، ثم وقف بين يديه، فقال الملك أفريدون: إني أريد أن تبرز إلى شركان ملك دمشق ابن عمر النعمان، وقد انجلى عنَّا هذا الشر وهان. فقال: سمعًا وطاعة. ثم إن الملك نقش في وجهه الصليب، وزعم أن النصر يحصل له عن قريب، ثم انصرف لوقا من عند الملك أفريدون، وركب الملعون لوقا جوادًا أشقر، وعليه ثوب أحمر، وزردية من الذهب المرصَّع بالجوهر، وحمل رمحًا له ثلاث حراب، كأنه إبليس اللعين يوم الأحزاب، وتوجَّهَ هو وحزبه الكفار كأنهم يساقون إلى النار، وبينهم منادٍ ينادي بالعربي ويقول: يا أمة محمد — — لا يخرج منكم إلا فارسكم سيف الإسلام شركان صاحب دمشق الشام.

فما استتمَّ كلامه إلا وضجة في الفلا سمع صوتها جميع الملأ، وركضات فرَّقت الصفين، وأذكرت يومَ حنين، ففزع اللئام منها، وألفتوا الأعناق نحوها، وإذا هو الملك شركان ابن الملك عمر النعمان، وكان أخوه ضوء المكان لما رأى ذلك الملعون في الميدان، وسمع المنادي التفَتَ لأخيه شركان وقال له: إنهم يريدونك. فقال: إن كان الأمر كذلك فهو أحبُّ إليَّ. فلما تحقَّقوا الأمر، وسمعوا هذا المنادي وهو يقول في الميدان: لا يبرز لي إلا شركان، علموا أن هذا الملعون فارس بلاد الروم، وكان قد حلف أن يخلي الأرض من المسلمين، وإلا فهو من أخسر الخاسرين؛ لأنه هو الذي حرق الأكباد، وفزعت من شره الأجناد، من الترك والديلم والأكراد، فعند ذلك برز إليه شركان كأنه أسد غضبان، وكان راكبًا على ظهر جواد يشبه شارد الغزلان، فساقه نحو لوقا حتى صار عنده، وهزَّ الرمح في يده كأنه أفعى من الحيَّات، وأنشد هذه الأبيات:

لِيَ أَشْقَرُ سَمْحُ الْعِنَانِ مُغَايِرُ
يُعْطِيكَ مَا يُرْضِيكَ مِنْ مَجْهُودِهِ
وَمُثَقَّفٌ لَدْنُ السِّنَانِ كَأَنَّمَا
أُمُّ الْمُنَايَا رُكِّبَتْ فِي عُودِهِ
وَمُهَنَّدٌ عَضْبٌ إِذَا جَرَّدْتُهُ
خِلْتَ الْبُرُوقَ تَمُوجُ فِي تَجْرِيدِهِ

فلم يفهم لوقا معنى هذا الكلام، ولا حماس هذا النظام، بل لطَمَ وجهه بيده تعظيمًا للصليب المنقوش عليه، ثم قبَّلها وأشرع الرمح نحو شركان وكرَّ عليه، ثم طوَّح الحربة بإحدى يدَيْه حتى خفيت عن أعين الناظرين، وتلقَّاها باليد الأخرى كفعل الساحرين، ثم رمى بها شركان فخرجت من يديه كأنها شهاب ثاقب، فضجَّتِ الناس وخافوا على شركان، فلما قربت الحربة منه اختطفها من الهواء فتحيَّرت عقول الورى، ثم إن شركان هزَّها بيده التي أخذها بها من النصراني حتى كاد أن يقصفها، ورماها في الجو حتى خفيت عن النظر، والتقاها بيده الثانية في أقرب من لمح البصر، وصاح صيحة من صميم قلبه، وقال: وحقِّ مَن خلق السبع الطباق، لَأجعلَنَّ هذا اللعين شهرةً في الآفاق. ثم رماه بالحربة، فأراد لوقا أن يفعل بالحربة كما فعل شركان، ومدَّ يده إلى الحربة ليختطفها من الهواء، فعاجَلَه شركان بحربة ثانية ضربه بها فوقعت في وسط الصليب الذي في وجهه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار، وبئس القرار. فلما رأى الكفار لوقا بن شملوط وقع مقتولًا، لطموا على وجوههم، ونادوا بالويل والثبور، واستغاثوا ببطارقة الديور. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤