فلما كانت الليلة ٩٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الكفار صاحوا على بعضهم قائلين: خذوا بثأر لوقا. وصار ملك الروم ينادي بالأخذ بثأر إبريزة، فعند ذلك صاح الملك ضوء المكان، وقال: يا عباد الملك الديَّان، اضربوا أهل الكفر والطغيان ببيض الصفاح، وسمر الرماح. فرجع المسلمون على الكفار، وأعملوا فيهم الصارم البتَّار، وصار ينادي منادي المسلمين ويقول: عليكم بأعداء الدين يا محبِّي النبي المختار، هذا وقت إرضاء الكريم الغفَّار، يا راجي النجاة في اليوم المخوف، إن الجنة تحت ظلال السيوف. وإذا بشركان قد حمل هو ومَن معه على الكفار، وقطعوا عليهم طريق الفرار، وجالَ بين الصفوف وطاف، وإذا بفارس مليح الانعطاف، قد فتح في عسكر الكفار ميدانًا، وجالَ في الكَفَرَة حربًا وطعانًا، وملأ الأرض رءوسًا وأبدانًا، وقد خافت الكفار من حربه، ومالت أعناقهم لطعنه وضربه، قد تقلَّدَ بسيفين لحظ وحسام، واعتقل رمحين قناة وقوام، بوفرة تغني عن وافر عدد العساكر، كما قال فيه الشاعر:

لَا تَحْسُنُ الْوَفْرَةُ إِلَّا وَهْيَ
مَنْشُورَةُ الْفَرْعَيْنِ يَوْمَ النِّزَالْ
عَلَى فَتًى مُعْتَقِلٍ صَعْدَةً
يَعُلُّهَا مِنْ كُلِّ وَافِي السِّبَالْ

ويقول الآخَر:

أَقُولُ لَهُ لَمَّا تَقَلَّدَ سَيْفَهُ
كَفَتْكَ سُيُوفُ اللَّحْظِ عَنْ ذَلِكَ الْعَضْبِ
فَقَالَ: لِحَاظِي سَيْفُهَا لِذَوِي الْهَوَى
وَسَيْفِي لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا لَذَّةُ الْحُبِّ

فلما رآه شركان قال: أعيذك بالقرآن، وآيات الرحمن، مَن أنت أيها الفارس من الفرسان؟ فلقد أرضيتَ بفعلك الملكَ الديَّان، الذي لا يشغله شأن عن شأن؛ حيث هزمتَ أهل الكفر والطغيان. فناداه الفارس قائلًا: أنت الذي بالأمس عاهدتني، فما أسرع ما نسيتني! ثم كشف اللثام عن وجهه حتى ظهر ما خفي من حُسْنه، فإذا هو ضوء المكان؛ ففرح به شركان إلا أنه خاف عليه من ازدحام الأقران، وانطباق الشجعان، وذلك لأمرين: أحدهما صغر سنه وصيانته عن العين، والثاني أن بقاءه للمملكة أعظم الجناحين، فقال له: يا ملك، إنك قد خاطرْتَ بنفسك، فألصق جوادك بجوادي، فإني لا آمن عليك من الأعادي، والمصلحة في ألَّا تخرج من تلك العصائب، لأجل أن ترمي الأعداء بسهمك الصائب. فقال ضوء المكان: إني أردتُ أن أساويك في النزال، ولا أبخل بنفسي بين يديك في القتال. ثم انطبقت عساكر الإسلام على الكفار، وأحاطوا بهم من جميع الأقطار، وجاهدوهم حق الجهاد، وكسروا شوكة الكفر والعناد والفساد؛ فتأسَّفَ الملك أفريدون لما رأى ما حلَّ بالروم من الأمر المذموم، وقد ولَّوا الأدبار، وركنوا إلى الفرار، يقصدون المراكب، وإذ بالعساكر قد خرجت عليهم من ساحل البحر، وفي أولهم الوزير دندان مجندل الشجعان، وضرب فيهم بالسيف والسنان، وكذا الأمير بهرام صاحب دوائر الشام، وهو في عشرين ألف ضرغام، وأحاطت بهم عساكر الإسلام من خلف ومن أمام، ومالت فرقة من المسلمين على مَن كان في المراكب، وأوقعوا فيهم المعاطب، فرموا أنفسهم في البحر، وقتلوا منهم جمعًا عظيمًا يزيد عن مائة ألف خنزير، ولم ينجُ من أبطالهم صغير ولا كبير، وأخذوا مراكبهم بما فيها من الأموال والذخائر والأثقال، إلا عشرين مركبًا، وغنم المسلمون في ذلك اليوم غنيمةً ما غنم أحد مثلها في سالف الزمان، ولا سمعت إذن بمثل هذه الحرب والطعان، ومن جملة ما غنموه خمسون ألفًا من الخيل غير الذخائر والأسلاب، مما لا يحيط به حصر ولا حساب، وفرحوا فرحًا ما عليه مزيد بما مَنَّ الله عليهم من النصر والتأييد.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر المنهزمين، فإنهم وصلوا إلى القسطنطينية، وكان الخبر قد وصل إلى أهلها أولًا بأن الملك أفريدون هو الظافر بالمسلمين، فقالت العجوز ذات الدواهي: أنا أعلم أن ولدي ملك الروم لا يكون من المنهزمين، ولا يخاف من الجيوش الإسلامية، ويردُّ أهل الأرض إلى ملة النصرانية. ثم إن العجوز كانت أمرت الملك الأكبر أفريدون أن يزين البلد، فأظهروا السرور، وشربوا الخمور، وما علموا بالمقدور، فبينما هم في وسط الأفراح إذ نعق عليهم غراب الحزن والأتراح، وأقبلت عليهم العشرون مركبًا الهاربة، وفيها ملك الروم، فقابَلَهم أفريدون ملك القسطنطينية على الساحل، وأخبروه بما جرى لهم من المسلمين، فزاد بكاؤهم، وعلا نحيبهم، وانقلبت بشارات الخير بالغمِّ والضير، وأخبروه أن لوقا بن شملوط حلَّتْ به النوائب، وتمكَّنَ منه سهم المنية الصائب، فقامت على الملك أفريدون القيامة، وعلم أن اعوجاجهم ليس له استقامة، وقامت بينهم المآتم، وانحلت منهم العزائم، وندبت النوادب، وعلا النحيب والبكاء من كل جانب. ولما دخل ملك الروم على الملك أفريدون، وأخبره بحقيقة الحال، وأن هزيمة المسلمين كانت على وجه الخداع والمحال، قال له: لا تنتظر أن يصل من العسكر إلا مَن وصل إليك. فلما سمع الملك أفريدون ذلك الكلام وقع مغشيًّا عليه، وصار أنفه تحت قدميه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤