استهلال
من أجل الإنسان
تتأتَّى ضرورة قول جدِّي في القرآن الآن، من حقيقة أن العالم الواقعي لم يكن، في
الأغلب، هو
ساحة المعركة التي اندلعت في الإسلام، حول ما إذا كان الإنسان قادرًا وفاعلًا أو أنه
محض
كيان عاجز، لا قدرة له ولا تأثير، بل إن هذه المعركة قد اتخذت — وللغرابة — ساحاتها الرئيسة
على امتداد فضاءات «الميتافيزيقي» والمفارق، وأعني من الله والقرآن بالذات، فالذين تصارعوا
حول صفات الله، مثلًا، وكان منهم من أثبتها «قديمة وزائدة على الذات» في مقابل مَن نفى
عنها
أن تكون هكذا، وأثبتها فقط بوصفها «اعتبارات في النظر إلى الذات» كانوا — في الحقيقة
—
يتخذون من الصفات ساحة يحسمون عليها معركتهم حول الإنسان بالأساس. ويترتب ذلك على حقيقة
أن
القول في الله بأن صفاته «قديمة وزائدة على ذاته» اقترن — وكان ذلك لازمًا — بالقول في
الإنسان «أنه لا تأثير لقدرته في مقدوره (أو فعله) أصلًا، بل القدرة والمقدور واقعان
بقدرة
الله تعالى.»
١ ويرتبط ذلك بأن قول هؤلاء بالقيام الأولاني القديم للصفة بالذات،
٢ لا بد أن يحيل إلى الدور التابع للوعي في مسألة، أو فعل الوصف، وعلى النحو الذي
ينتهي إلى تثبيت الحضور التابع أو الخاضع للإنسان، على العموم. ولعلَّ هذا المعنى يتأكد
حين
يدرك المرء أن من تصوروا الصفات — في المقابل — على أنها اعتبارات في النظر إلى الذات،
قد
عملوا على تثبيت الحضور الفاعل للإنسان، بسبب ما انتهوا إليه من «إن الخلقَ هم الذين
يجعلون
لله الأسماء والصفات»،
٣ ويعني بما هي اعتباراتهم في النظر إلى جلال ذاته.
وإذا كان الله قد تبدَّى، هكذا، كساحة للتصارع حول الإنسان، فإنه لن يكون غريبًا أن
يستحيل القرآن، بدوره، إلى ساحة لنفس هذا الصراع أيضًا، وأعني من حيث ما ينطوي عليه من
إغراء التعالي به إلى عالم الميتافيزيقي والمفارق. وهكذا، فإنَّ من تصوَّروا القرآن «صفة
قديمة
لله»، كانوا مشغولين بتثبيت وضعٍ بعينه للإنسان، يكون فيه مُستلبًا وعاجزًا، وذلك بمثل
ما إن
من سيتصورونه — في المقابل — «خطابًا يخص الإنسان» كانوا مشغولين بتثبيت تصور للإنسان
يكون
فيه قادرًا على الفعل في العالم.
وإذ يبدو، هكذا، أن الخطاب النافي للإنسان يعلق نفسه على قول في الصفات والقرآن،
لا يرى
إليهما إلا في تعلُّقهما بالله فحسب، بل يلحُّ على طمس حقيقة دخول الإنسان والعالم في
بنائهما، فإنه يلزم التأكيد على أن كلًّا من الله والقرآن إنما يحضران، وفقط، كمحض قناعين
لمن يُراد إخفاؤه وراءهما (وهو السلطان)، وبصرف النظر عما تؤدي إليه هذه الممارسة من
التشويش على جلال الله وفاعلية القرآن. وبالطبع، ذلك يعني أن الأمر يتعلق، في العمق،
بمواجهة بين «الإنسان» و«السلطان»، وفقط فإن «السلطان» — أو بالأحرى فقهاؤه — يستدعون
«الله»، ومعه القرآن، ليكسبوا به معركتهم، على نحوٍ حاسمٍ. فالسلطان حاضر حضورًا جوهريًّا
في
قلب «القول في الصفات»، وإلى حدِّ استحالته إلى «أصل» يجري القياس عليه في تأويل بعض
الصفات
التي يصف الله بها نفسه في نص التنزيل، وكان ذلك إلى الحدِّ الذي مضى معه الغزالي إلى
أن
«الحضرة الإلهية لا تُفهم إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية».
٤
وبالمثل فإنه حاضر فيما يمكن القول إنه فعل التعالي بالقرآن من «خطاب يخص الإنسان»
إلى
كونه «صفة قديمة من صفات الله»، حيث إن ما سيقوم به السلطان، من خلال فقهائه، من وضع
نفسه
موازيًا أو مكمِّلًا للقرآن، وذلك من خلال المأثور المعروف «إن الله يزع بالسلطان ما
لا يزع
بالقرآن»، كان لا بدَّ أن ينعكس عليه تعاليًا بسلطته إلى الوضع الذي تكون فيه مطلقة،
وخارج
أي إمكانية للسيطرة عليها. وإذن، فإن كلًّا من الله والقرآن إنما يجري استدعاؤهما للدخول
في
المواجهة مع الإنسان، من أجل مجرد التعالي بالسلطان. وإذا كانت هذه المواجهة قد انتهت
إلى
الانتقاص من جلال الله،
٥ ومن فاعلية وحيوية القرآن، فإن السعي إلى تحريرهما من قبضة السلطان — الذي يمسك
بهما بوساطة خدمه من الفقهاء — لن يكون فقط من أجل الإنسان.
وبالطبع، فإنه لا يمكن تصور أن تكون هذه الممارسة — التي يمكن اختزالها في «الأطلقة»
— هي
محض تاريخ فات وانقضى، وبات مدفونًا في تراث القدماء؛ إذ الحق أنها كانت هناك حاضرة وفاعلة
طوال الوقت. وفقط، فإنها إذا كانت قد تخفَّت على مدى عقودٍ ماضية (تحت برقع الحداثة الذي
ظلَّ
يشف — رغم ثقله — عن كل ما يرقد تحته من البُنيات البالية العتيقة)، فإنها — ومع احتلال
تيارات الإسلام السياسي لصدارة المشهد في دول الربيع العربي — عادت للاشتغال الصريح،
من دون
أي تخفٍّ أو مواربة.
٦ وإذ عادت للاشتغال، فإنها راحت تضع أمام الأعين حقيقة «أن ما يتهدد الإنسان،
إنما يتهدد — بالمثل — الله والقرآن». وللآن، فإن تعرية هذه الحقيقة تبدو وكأنها الإنجاز
الأوحد لثورات العرب الأخيرة، وهي من نوع الإنجاز الثمين على أي حال؛ إذ هو القادر —
لا
سواه — على البلوغ بخطاب «الأطلقة» السلطوي — الذي يجعل الله والقرآن محض قناعين يشتغل
بهما
— إلى نهايته، وبما يفتح الباب أمام إنضاج شروط نمطٍ من التطور مغاير لذلك النمط المشوَّه
الذي عرفته مصر، والعالم العربي. ولعلَّ ذلك يحيل إلى أن خطاب «الأطلقة» — وليس الله
أو
القرآن أو الدين على العموم — هو ما يتهدد مسار التحوُّل الديمقراطي في العالم العربي،
وبما
يعنيه ذلك من خطورة اختزال التحول الديمقراطي في مجرد العملية السياسية فحسب، بل إنه
يبدو
أن اكتمال هذا المسار مشروط ببناء خطاب للأنسنة، يتحرر فيه الله والقرآن من التصورات
التي
تجعلهما يحضران كمجرد قناعين لسلطة مستبدة؛ إذ الحق أن متانة الارتباط بين الله والقرآن
والإنسان تبلغ حدًّا من الجوهرية يكون معه تحرير التصور الخاص بالواحد منها شرطًا في
تحرير
التصور المتعلق بالحدين الآخرين. ومن هنا إمكان اعتبار السعي وراء القرآن الحيِّ — في
هذا
الكتاب — بمثابة خطوة على طريق استكمال الشروط التي تجعل من الميسور إنجاز التحول
الديمقراطي المأمول.
وإذن، فالأمر — في الختام — لا يتعلق بأي سعي إلى طرد الدين من واقع الناس — بحسب
ما قد
يتقوَّل البعض عن عمدٍ وسوء قصدٍ — بقدر ما يتعلق بالسعي إلى تحرير الدين نفسه، من قبضة
خطاب
لا يكتفي بالحطِّ من شأن «الإنسان»، بل يضطر — في سعيه إلى تثبيت هذا الحط — إلى التنقيص
من
جلال الله، وضرب أسوار الجمود والصمت حول القرآن. ومن هنا إمكان القول بأن ما يكون من
أجل
الإنسان، إنما هو — أيضًا — من أجل الله والقرآن، والعكس.