تمهيد

هارولد جيمس

تُعتبَر قصةُ سويسرا مثالًا للنجاح، تمامًا كما أشار جيمس برايدنج في هذا الكتاب المتميز والزاخر بالمعلومات؛ ففي القرون الوسطى كانت سويسرا مجتمعًا فقيرًا يعيش في بيئةٍ جبلية مُقفِرة، وكانت صادراتُها الرئيسية تقتصر على الجنود الذين كانوا يقاتلون بصفتهم مُرتزقةً في حروبِ شعوبٍ أخرى، وعادةً ما كانت العائلات تعاني من عَوَزٍ مُدْقعٍ يدفعها إلى إرسال أطفالها للعمل مثل العبيد في منازل الأثرياء في ألمانيا وأماكنَ أخرى. أمَّا سويسرا الحديثة فهي مجتمعٌ مزدهر وبلادٌ تتمتع بقدْرٍ أكبر من المرونة وسهولة التكيف في مُواجَهة الصدمات والمُؤثِّرات الخارجية مُقارنةً بجيرانها؛ فأزمةُ السبعينيات الاقتصادية لم تُؤثِّر فيها إلا قليلًا، كما أن مُعدَّل البطالة فيها بعد أزمةِ عامِ ٢٠٠٧ بقي أقلَّ من نصفِ ما كان عليه في سائرِ أوروبا.

***

يُركِّز هذا الكتاب بشكلٍ خاص على الصفات الريادية في إدارة الأعمال، ويُبيِّن الأسبابَ التي دَفعَت سويسرا إلى إنتاج هذا الكمِّ الهائل من الاختراعات والأفكار والمنتجات المميزة. ما مِن شكٍّ في أن رواد الأعمال يميلون إلى العمل فُرَادى، ولكنْ من الخطأ الظنُّ أنهم موجودون بمفردهم داخل فراغٍ اجتماعي، بل على العكس من ذلك فهُم جزءٌ من مجتمعٍ مُبدِع يُجيد الابتكار والتطوير، ويساهم في إحراز المزيد من التقدُّم؛ فنحن نفكر الآن من منظور ريادة الأعمال الجماعية.

غالبًا ما تتبادر إلى أذهان الأجانب مِزحةُ الممثل أورسون ويلز الشهيرةُ بخصوصِ سويسرا في فيلم «الرجل الثالث» حيث قال:

لقد عاشت إيطاليا ثلاثين عامًا تحت حكم الأرستقراطيِّين من عائلة بورجيا، وعَرفَت خلالها الحربَ والرعب والقتل وسفك الدماء، لكنها أنتجت مايكل أنجلو وليوناردو دافينشي وشَهِدت فترةَ نهضةٍ حقيقية. أمَّا في سويسرا، حيث كان الناس يتعايشون معًا بمحبةٍ أخوية، وكان تاريخهم يفخر بخمسمائة عامٍ من الديمقراطية، فماذا صنعوا؟ لقد صنعوا ساعةَ الوقواق.

كما أنَّ أول ما قد يتبادر إلى أذهانِ آخَرين عند الحديث عن سويسرا هو البنوك أو الشوكولاتة، لكنَّ ذلك لا يُجسِّد الواقع؛ فسويسرا لا يمكن اختصارها في مُنتَجٍ واحد، بل ينبغي فهْمُ الكيفية التي ترتبط بها أنواع الابتكار المختلفة.

تكمن قوةُ هذا الكتاب في أنه يعرض ببساطةٍ مدى تنوُّع مجالات الابتكار السويسرية: من قطاع النسيج إلى السياحة والمواد الغذائية، ومن مجال الهندسة والتكنولوجيا الطبية والكيمياء والصيدلة إلى التجارة والتأمين، عِلاوةً على الهندسة المعمارية والبناء وصناعة الساعات.

إن العامل الجغرافي يلعب دورًا في تكوين بيئة الأعمال الرائدة هذه؛ ففي سويسرا هناك العديد من الأماكن المعزولة إلى حدٍّ بعيدٍ، التي لها اختصاصاتُها وهياكلها الاجتماعية ومعتقداتها الدينية؛ ولذلك فإن الربط بين هذه الأماكن النائية يُعتبَر مهمةً هائلة. كما أن الجسور والأنفاق تُعتبَر وسائلَ ضروريةً لتأمين التواصُل والتكامُل؛ ومن ثَمَّ هناك العديد من المناطق المختلفة التي لديها مُنتَجاتٌ متنوعة تُتاجِر بها، وتتفاعل فيما بينها. وهذا هو السبب الذي يجعل الترابُط في اقتصاد الاتحاد السويسري بمثابةِ أنبوبِ اختبارٍ يُمكِن أن يُشكِّل مُؤشِّرًا لكيفيةِ عمل نظام العولمة.

كما أن هناك مُنتَجاتٍ مميزةً تُقدِّمها سويسرا بشكلِ مجموعةٍ من الخِدمات المتكاملة؛ فقطاعا الفنادق والسياحة مثلًا يعتمدان على قطاع المواصلات، كما أن قطاعَيِ المصارف وشركات التأمين يعملان جنبًا إلى جنب مع قطاع التجارة. ومن هذا المُنطلَق يمكن الحديث هنا عن سِماتٍ «سويسرية» خاصة.

يُعتبَر الانفتاح سمةً سويسرية مميزة؛ فالعديدُ من الشخصيات الديناميكية التي رَسمَت مَعالمَ العلامات التجارية العالَمية الشهيرة كانت قد وَفدَت إلى سويسرا من بلدانٍ أخرى هربًا من الاضطهاد، وفي بعض الأحيان من الفقر، مثل: هاينريخ نِستله المولود في فرانكفورت، الذي غيَّرَ اسمَه لاحقًا إلى «هنري»؛ وجوليوس ماجي الذي كان ابنَ مهاجرِين إيطاليِّين؛ كما نشأت صناعةُ الساعات بفضل الهاجينوت الفرنسيِّين الذين فرُّوا من الاضطهاد الديني للويس الرابع عشر؛ وكذلك أريستو جونز الذي أتى من بوسطن لصنع الساعات في مدينة شافهاوزن؛ ونوربرت دو باتيك وهو أرستقراطيٌّ بولندي فرَّ بعدَ فشلِ انتفاضةِ عامِ ١٨٣٠ وعمل في جنيف صانعَ ساعاتٍ قبل الانضمام إلى أدريان فيليب الفرنسي الذي طوَّرَ آلياتٍ أوتوماتيكيةً لملء الساعات؛ ومن أوكسبريدج قُرْب لندن جاء شارل براون الذي تعاوَنَ مع فالتر بوفيري الألماني الأصل لتكوين شركة براون بوفيري للهندسة؛ كما أن إميل بورليه من جنوب غرب ألمانيا قد شيَّدَ المصنعَ العملاق أورليكون لإنتاج الأسلحة؛ وسيزار سيرونو الإيطالي قام بتأسيسِ ثالثِ أكبرِ شركة أدوية؛ وتاديوس رايخشتاين البولندي الذي طوَّرَ الفيتامين «سي» الاصطناعي لشركة هوفمان لاروش، كانَ قد درس في معهد التكنولوجيا المُتعدِّدة الاختصاصات في مدينة زيورخ.

ولكن هذا الانفتاح كان له تأثيرٌ كبير في الاتجاه المعاكس أيضًا؛ فسيزار ريتز — الشاب الذي كان الأصغرَ بين ١٣ أخًا من أبٍ سويسري مزارِع — أصبح معروفًا عالَميًّا عبرَ فنادقه في لندن وباريس. وبعدما تعلَّمَ رجلٌ يُدعى شارل إدوارد جانيري غراي صناعةَ الساعات في بلده الأم سويسرا، انتهى به الأمر أن أصبح مهندسًا معماريًّا ذا شهرةٍ عالمية وبات معروفًا باسم «لو كوربوزييه». كما أن مهندسًا سويسريًّا يُدْعَى أوثمار أمَّان قام بربط مدينة نيويورك بمدينة نيوجيرسي عبر جسر «جورج واشنطن بريدج»، وبربطِ جزيرةِ ستاتن بمنطقةِ بروكلين عَبْر جِسرِ «فيرازونو بريدج».

لقد اعتَمدَت نقاطُ قوةٍ سويسرا لوقتٍ طويل على عددٍ استثنائي من الشركات العائلية الناجحة، وبالرغم من المشكلات المألوفة التي تطرأ عادةً (مثل الصراع على الخلافة وتبديد الميراث على أيدي وَرَثة غيرِ أكْفاء)، فإن رأسمالية العائلات تتيح استمراريةَ هذه الشركات التي تعمل على رعاية المُنتَج أو العلامة لأطولِ وقتٍ ممكن، وبهذا نَجحَت المُنتَجات السويسرية الأفضل والأكثر رسوخًا في الحفاظِ على أسمائها وعلى مراكزها المرموقة، حتى بعد فترةٍ طويلة من انتقال الملكية إلى أشخاصٍ آخرين.

يعرض هذا الكتاب أيضًا بشفافيةٍ المشكلاتِ السويسريةَ التي غالبًا ما تظهر بأقصى حِدَّةٍ ممكنة في الشركات الكبرى، مثل شركة الخطوط الجوية السويسرية التي اعتَمدَت — مثلها مثل بنك يو بي إس — استراتيجياتٍ أكثرَ طموحًا مما هو معقول، في محاولةٍ منها لكي تصبح أكبرَ الشركاتِ العالَمية الهائلة في مجالِ عملها؛ فالمؤسسات الكبرى تتيح لمديريها مساحةً أكبر لاعتمادِ سلوكٍ غير مسئول يُؤدِّي بسهولةٍ إلى اتِّباع سياساتٍ ترُكِّز على تحقيق أرباحٍ قصيرةِ الأجل ونتائجَ ماليةٍ فوريةٍ بدلًا من التركيز على الاستمرارية المُستدامة على المدى الطويل.

إلا أن الإخفاقات أيضًا غالبًا ما تسبِّب تداعياتٍ كارثيةً في القطاع العام، ويُمكِن أن تؤثِّرَ على طريقةِ رسمِ السياسات العامة. وقد أدى ضَعْف السياسات الحكومية إلى بعضِ أسوأ الأخطاء والمشكلات السويسرية وأخطرها على مدى السبعين سنة الماضية: على سبيل المثال، في مضمار العلاقات مع ألمانيا النازية خلال فترة الحرب الصعبة، وإبَّان التفاوُضات على اتفاقِ ما بعد الحرب لتحديد الأموال الموجودة فيما يُعرَف ﺑ «حسابات بلا وَرَثة»، التابعة لليهود الذين ذهبوا ضحيةَ المحرقة، وتحويلها إلى الأنظمة التي تولَّتِ الحكمَ بعد الحرب في بولندا والمجر، أو مرةً أخرى خلال التسعينيات عند التعامُل مع قضية «الحسابات المصرفية الخامدة».

ولعلَّ أحد أهم الأسئلة في عالَمٍ تسوده العولمة هو: كيف يمكن لبلدٍ أو مجتمعٍ استنباطُ الحلول للمشكلات والأزمات؟ إن البلدان الصغيرة الحجم التي تتوافر فيها روابطُ التضامن الوثيقة تتميز عن سواها بعددٍ من مزايا التفوق؛ فعلى سبيل المثال، خلالَ فترة الكسادِ الكبير في الثلاثينيات، وفي جوٍّ تزايَدَ فيه التوتُّرُ على الصعيدَين الجغرافي والسياسي، عَمِلتِ اتحاداتُ العمال جنبًا إلى جنب مع أرباب العمل لإيجادِ حلولٍ للمشكلات التي كانت تتعرَّض لها آنذاك الصناعةُ الهندسية السويسرية.

كما أن حجم البلد الصغير يَحدُّ من نطاق تدخُّل الحكومة، وعلى وجه الخصوص عندما ينشأ الانطباع أن الحكومة قد تحقِّق أداءً أفضلَ في رسم مسار التنمية الاقتصادية؛ فسيكون من المستحيل مثلًا — في الوقت الحاضر — إنشاءُ حِزَمٍ تنشيطية في القطاع العام لمواجهةِ أزماتِ الهيكلة التي تطرأ بصفةٍ دورية على قطاع الصناعة. وفي سبعينيات القرن الماضي عندما كان هناك تباطؤٌ اقتصاديٌّ عامٌّ، تبيَّنَ أن سويسرا لم تواكِبِ التطوُّرَ الذي عرفه قطاعُ صناعة الساعات التي تعمل بالكوارتز، وخسر اثنان من أصلِ كلِّ ثلاثة عمَّال في هذا القطاع وظائفَهم. ولو جرى اعتمادُ بَرْنامجِ تحفيزٍ مماثِلٍ لبرنامج «النقد مقابل السيارات القديمة» الذي طُبِّقَ في العديد من البلدان مؤخرًا للتشجيع على شراء السيارات الجديدة، لَكان ذلك بلا جدوى، كما أن إعطاءَ حوافزَ للمواطنِين السويسريِّين لاستبدال ساعاتهم القديمة بساعاتٍ جديدة كان من شأنه تأجيلُ التراجُع في القطاع لفترةٍ زمنية قصيرة فقط؛ ومن ثَمَّ فإن إعادة إحياءِ قطاعٍ ما تعتمد على روح المبادرة في إدارة الأعمال، وفي هذه الحالة لا بد من ذِكْر إرنست تومكيه ونيكولا حايك (اللبناني الأصل) اللَّذَيْن طوَّرا ساعة سواتش الأنيقة بالرغم من ثمنها الزهيد، وهي التي أضافت تصاميمَ جديدةً وأَدخلَت مفهومَ عناصر الموضة التي لم تكن معروفةً أو معمولًا بها في صناعة الساعات التقليدية.

غير أن هذا لا يعني أن الحكومة لا تتدخل بتاتًا؛ فالمصلحةُ العامة واستقرار الأسعار وتطبيق حقوق الملكية وحمايتها كلها عواملُ مهمة لتوفير أرضيةٍ مستقرة يُمكِن بفضلها اتخاذُ القرارات على مستوى الإدارة. وفي هذا الصدد — وكذلك في مواجهة الحاجة المستمرة لسياسةٍ منفتحة — يُمكن لسويسرا أن تُقدِّم مثالًا يُحتذَى به في البلدان الأخرى التي تُواجِه تحديات العولمة. وقد يمكننا بالفعل التفكير في أن براعة العمل الهندسي في بناءِ جسرٍ ما (إلى جانب الإسهام الإبداعي والاجتماعي) من شأنها أن تشكِّلَ صورةً مجازية تُجسِّد فيها سويسرا مَعالِمَ الطريق نحو تحقيق الدمج والتكامُل في مجتمعٍ عالَميٍّ آخذٍ في التطوُّر تقنيًّا وروحيًّا.

هارولد جيمس، وُلِدَ في المملكة المتحدة، وحصل على جائزة إلين ماكارثر للتاريخ الاقتصادي في جامعة كامبريدج. بدأ التدريس في جامعة برنستون في عام ١٩٨٦، وهو حاليًّا أستاذ في الشئون الدولية بكلية وودرو ويلسون في الجامعة نفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤