الفصل الثاني عشر

من أجهزة الكمبيوتر العملاقة حتى فأرة الحاسوب

لم تبزغ شمس أي حضارةٍ عظيمةٍ إلا بعد إتقانها فن الحساب، وكل الحضارات سعت إلى تطوير أساليب هذا الفن، ولجأت في النهاية إلى ابتكار الآلات لتبسيط العمليات الحسابية المعقَّدة التي يتطلَّب إنجازها وقتًا طويلًا. وبمرور الزمن تطوَّرت هذه الأساليب والآلات لتُصبح الصناعات الضخمة لأجهزة الكمبيوتر والبرمجيات المعروفة اليوم، وقد قدَّمَ المُبتكرون والمصمِّمون ورجال الأعمال السويسريون مساهمتَهم في تشييدِ ما تحوَّلَ اليومَ إلى قصة نجاح في مجال النمو الصناعي الذي يَشهده العصر الحديث، غير أن جهودهم كانت متعثِّرة وغير متناسِقة، فعلماء تكنولوجيا المعلومات وصانعو الآلات السويسريون استطاعوا مرارًا وتكرارًا احتلال مركز الطليعة لكن كانوا يعودون ويتقهقَرُون من جديدٍ أمام المنافسة الشديدة ووتيرة التغيير المتسارِعة في مجال صناعات التكنولوجيا. إلا أن بعضهم نجح في الصمود، وحتى في تحقيق النجاح الباهر، لا سيَّما في مجال البرمجيات. كما أن هناك مؤشِّراتٍ تدلُّ على أن سويسرا سوف تلعب دورًا هامًّا في ثورة تكنولوجيا المعلومات، وعلى وجه التحديد في مجال البرمجيات الذي يشهد نموًّا متزايدًا ويَعِدُ بتحقيق أرباحٍ طائلة.

***

طال انتظار آلة «المليونير»

إن أول سويسري أدخل ابتكارًا ناجحًا على علم الحساب هو على الأرجح يوست بورجي المولود في عام ١٥٥٢، والذي كان عمره ٢٧ عامًا عندما التحق بالعمل لدى لاندجريف في منطقة هيسِّيه ساعاتيًّا وصانعَ أدوات. كانت مهمته صيانةَ وتحسينَ أدواتِ المرصد الفلكي التابع للاندغريف، ولتسهيل الحسابات الفلكية المعقَّدة قام بابتكار أول نظام لوغاريتمي في العالم، ولكنه لسوءِ الحظ لم يُعلَن عن ابتكاره فورًا، وهذا أمر حدث مرات عديدة في سويسرا؛ ولهذا السبب نُسِبَ مفهوم اللوغاريتم إلى عالِم الرياضيات الأسكتلندي جون نابيير الذي قام بوصف هذا المفهوم في بيان نُشِر في عام ١٦١٤. بعد ذلك، انقضى ما يُقارب ثلاثة قرون قبل ظهور الموهبة الاستثنائية السويسرية التالية في مجال الوسائل المساعدة على الحساب، ظهر أوتو شتايجر — وهو مخترع من مدينة سانت جالن — في أواخر القرن التاسع عشر وقام بتطوير آلة حاسبة رباعية الوظائف تؤدي العمليات الحسابية الأساسية الأربع، وهي الجمع والطرح والضرب والقسمة، وفي عام ١٨٩٩ أقنع شتايجر صناعيًّا يُدْعَى هانس إيجلي بالشروع في تصنيع الآلة في مصنع في مدينة زيورخ وبيعها بكميات تجارية تحت اسم «المليونير»، وما ميَّز هذه الآلة عن الآلات الأخرى المتحدِّرة في معظمها من الجهاز الذي اختُرِع في عام ١٦٤٢ على يد فيلسوف ومبتكِر فرنسي يُدْعَى بلايز باسكال، هو طريقة عملها البسيطة نسبيًّا.

التكنولوجيا التي تجاوزت سويسرا

بعد مرور تسع سنوات تقريبًا، بدأ مصنع إيجلي للآلات الهندسية الدقيقة بإنتاج آلة حاسبة رباعية الوظائف أصغر حجمًا، طوَّرها سويسري يُدْعَى إرفين يانتس. كانت النماذج الأولى من هذه الآلة الحاسبة التي عُرِفَت باسم «ماداس» تعمل بنظام ميكانيكي بحت يُشغَّل بواسطة مفاتيح ومقبض لف دوَّار، أمَّا النماذج التالية فباتت تعمل بالكهرباء واستمرَّ تصنيعها بنُسَخ متزايدة التطوُّر حتى منتصَف الخمسينيات، ولكن باستثناءِ مثل هذه الآلات، لم تَشهد سويسرا تطوُّرات جديرة بالذكر في مجال تكنولوجيا المعلومات خلال النصف الأوَّل من القرن العشرين، كما لم يُحرَز أيُّ تقدُّمٍ حتى عام ١٩٥٠ عندما أبدى أستاذ الرياضيات إدوارد شتيجل (من الجامعة التقنية الوطنية بمدينة زيورخ) اهتمامَه بالحاسوب المُبرمَج Z4 من تصميم الرائد الألماني في هذا المجال كونراد زوسيه، استأجر نموذجًا منه وقام بتركيبه في زيورخ.
كان زوسيه قد طوَّر حاسوب Z4 (الذي كان يعمل بالمرحَّلات الكهربائية) في عام ١٩٤٢، وعند نهاية الحرب العالَمية الثانية نَجَا الحاسوب معه أثناء هروبه من برلين. وبالرغم أن الحواسيب الإلكترونية العاملة بالصمامات كانت متوافِرة في عام ١٩٥٠، وكانت أسرع من Z4 بمائة ضِعْف، إلا أنها كانت نادرة جِدًّا إذ لم يتوافَر منها سوى نموذج واحد في الولايات المتحدة وآخَر في المملكة المتحدة، وكانت تكاليفها باهظة جِدًّا بالنسبة إلى ميزانية الجامعة التقنية الوطنية. كان Z4 الذي استورده شتيفل، والذي كان يتناسَب مع حاجاته، أولَ حاسوبٍ يُركَّب في واحدة من جامعات أوروبا القارية، واستُخدِم بشكل مكثَّف بين عامَيْ ١٩٥٠ و١٩٥٥، واستُعِينَ به لإنجاز ٥٥ مشروعًا لمختلِف إدارات الجامعة التقنية الوطنية، وكذلك للشركات الصناعية، وكان أكثر هذه المشاريع أهميةً هو مشروع بناء سد ديكسنس الكبير في كانتون فاليس البالغ ارتفاعه ٩٣٥ قدمًا، والذي أُنجِز بين عامَيْ ١٩٥١ و١٩٦٥؛ حيث ساهَمَ حاسوب Z4 في حل العمليات الحسابية المعقَّدة لقياس مدى وحدود الإجهاد.

بناء الحاسوب المتكامل

كان العمل البحثي الذي قام به شتيفل ومساعده هاينز راتيسهاوزر باستخدام حاسوب Z4 قد أدَّى إلى اكتشافات هامة وأساليب حسابية جديدة، وكانت المساهمة الأكثر أهميةً التي قدَّمها راتيسهاوزر تتمثَّل في التطوير المُبكر لما كان يُعرَف بالمجمِّع، وهو عبارة عن جهاز يحوِّل التعليمات البرمجية المكتوبة إلى لغةِ حاسوبٍ ثنائيةِ العناصر تتألف من سلسلة من الأصفار والآحاد التي يُمكن للحاسوب معالجتها. أدرك شتيفل أن معهد الرياضيات التطبيقية سيَحتاج عاجلًا أم آجلًا إلى حاسوب خاص به، ولكن في عام ١٩٥٠ لم تكُنْ مثل هذه الأجهزة متوافرةً بشكلٍ يتيح شراءها من السوق؛ ومن ثَمَّ لم يكن أمامه خيارٌ سوى أن يَصنع حاسوبه الخاص.
figure
إعلان لشركة آبل تُعدِّد فيه مزايا لغة البرمجة «باسكال» المستخدَمة في حاسوبها آبل-٢.
figure
نيكلاوس فيرث طوَّرَ لغةً لبرمجة الحواسب «باسكال» في عام ١٩٧٠ في الجامعة التقنية الوطنية في زيورخ.
كان هدف شتيفل صنعَ حاسوب شامل ومتعدِّد الأغراض لا يكون في متناول العلماء في الجامعة التقنية الوطنية فحسب، بل في متناول الشركات الصناعية السويسرية أيضًا، إلا أن مشروعه الذي أطلق عليه اسم «الحاسوب الإلكتروني للجامعة التقنية الوطنية» لم يُواجه تفهُّمًا كبيرًا من طرف جامعته، فضلًا عن رفضها تقديمَ أيِّ دعمٍ له، ولكن ذلك لم يَثْنِه عن عزمه، فشَرَعَ بتصنيع حاسوبه في عام ١٩٥٤. كان من المقرر إنجاز المشروع في صيف ١٩٥٥ ليتوافق مع تاريخ الاحتفال بمئوية الجامعة التقنية الوطنية، ولكن مشكلات غير متوقَّعة حالت دون ذلك؛ في البداية عانى راتيسهاوزر من مشكلات صحية، ثم بعد ذلك قرَّرَ أمبروس شبيسر — الرئيس الفني للمشروع — ترْكَ منصبِه للالتحاق بشركة آي بي إم بصفته أول مدير لمختبَر أبحاث جديد في سويسرا (وكان هذا المنصب مُغرِيًا بشكلٍ لم يستطِعْ رفضه)، وبذلك تعطَّلَ العمل على مشروع أول حاسوب سويسري من صنعٍ محلي، وكان من الضروري انتظار عامين آخَرين قبل دخول الحاسوب الخدمة الفعلية. كان الجهاز الجديد أقوى ١٠٠ مرة من حاسوب Z4 الكهروميكانيكي، واستُخدِم في البداية لحل المشكلات في مجالَي الفيزياء والتكنولوجيا، لكن سرعان ما أُضِيفت استعمالات جديدة شملت الطب والبيولوجيا. استمر استخدام الحاسوب الإلكتروني للجامعة التقنية الوطنية حتى عام ١٩٦٣، حين استُبدِل به حاسوبٌ أسرعُ بكثير كان من إنتاج شركة كونترول داتا كوربوريشن في الولايات المتحدة.

شركة آي بي إم تتنبه

كانت الجهود التي تُبذَل في مجال الحوسبة في الجامعة التقنية الوطنية هامةً بما فيه الكفاية لتشجيع شركة آي بي إم على إقامة مركز أبحاثها الأوروبي في سويسرا في عام ١٩٥٦، وهو مركز لا يزال قائمًا حتى الآن وتخرَّجَ فيه أربعة من الفائزين بجائزة نوبل. كانت تلك الفترة في بدايات عصر الحاسوب فترةَ ازدهارٍ كبيرٍ حقَّقت فيها سويسرا إنجازات باهرة، بدايةً في مجال الأجهزة، ومن ثَمَّ في البرمجيات أيضًا في وقت لاحق. وفي هذا الميدان، برزت شخصيتان كانت لهما أهمية خاصة وهما: هاينس روتيسهاوزر ونيكلاوس فيرث، فبعد تخرُّج فيرث مهندسًا مختصًّا في الكهرباء في عام ١٩٥٩، قضى عدة سنوات في دراسة الحوسبة في جامعات أمريكية قبل العودة إلى سويسرا في عام ١٩٦٧، ومنذ منتصف الخمسينيات لعب روتيسهاوزر دورًا هامًّا في تطوير لغة البرمجة ألجول، التي عمل فيرث لاحقًا على تطويرها بمقدار إضافي. ارتقى فيرث بسرعة ليُصبحَ أستاذًا في علوم الحاسوب في الجامعة التقنية الوطنية، حيث كشف في عام ١٩٧٠ عن لغةِ برمجةٍ جديدة تُسَمَّى «باسكال»، وكانت سهلة الفهم لتدريس البرمجة بفضل تركيبتها الواضحة وقواعدها البسيطة، وفي السنوات التي تلَتْ ذلك، أصبحت لغة باسكال واحدةً من أكثر لغات تعليم البرمجة شعبيةً في العالم، لأسباب ليس أقلها أن معهد أنظمة الكمبيوتر في الجامعة التقنية الوطنية قد وزَّعها تقريبًا بالمجان.

ولعلَّ من المدهش أن لا أحد في سويسرا قد خامرتْه الفكرة لإطلاق لغة برمجة يكون لها أيضًا هدف تجاري؛ ومن ثَمَّ تكون مُنتَجًا يُمكن تسويقه، وهذا تحديدًا هو ما قام به فيليب خان، وهو مواطن أمريكي مولود في فرنسا. فبعدَ أن تابَعَ دراستَه في الجامعة التقنية الوطنية وفي الجامعة العليا للفنون في زيورخ، رجع خان إلى الولايات المتَّحدة وأسَّسَ شركة برمجيات بورلاند التي أطلقَتْ من بين أول مُنتَجاتها برنامجًا متكاملًا باسم «توربو باسكال» صُمِّم خصوصًا للحواسيب الصغيرة التي كانت متوافِرةً في ذلك الوقت. عرفت شركة بورلاند نجاحًا باهرًا بفضل هذا المُنتَج، وتُشير التقديرات إلى أنه خلال الثمانينيات كان أكثر من نصف البرامج التي استُخدِمت في الحاسوب الشخصي من إنتاج شركة آي بي إم (الذي أُطلِق في عام ١٩٨١) مكتوبة بلغة توربو باسكال.

بين ولادة الفكرة ودخول السوقِ طريقٌ طويلة

أثبَتَ السويسريون بصفةٍ عامة عدم قدرتهم على تسويق مُنتَجاتهم في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفشلهم في ذلك الأمر، ويظهر أن ذلك يَنطبق بشكل خاص على صناعة الأجهزة، ولعلَّ أبرز دليل على ذلك قد تمثَّلَ في تكنولوجيا بلانار السيليكون المستخدَمة في تصنيع الترانزستورات التي اخترعها سويسري يُدْعَى جون هورني، وتبنَّتْ فكرتَه شركاتٌ سويسرية مثل شركة أورليكون كونترافيس التي صنعت أنظمةً رقمية تَعتمِد على الرقاقات الإلكترونية لتوجيه الأسلحة، غير أن شركة كونترافيس فشلت في استغلال إمكانيات هذه التكنولوجيا استغلالًا كاملًا، فالخطوات الحاسمة في تطوير الحواسيب الصغيرة التي تعتمِد على الرقاقات الإلكترونية جاءت على أيدي شركات من الولايات المتَّحدة مثل: إنتل وموتورولا وروكويل.

figure
أنطون جونتسينجر، مطوِّر الحاسوب المدهش «جيجا بوستر» في التسعينيات.
figure
حاسوب جيجا بوستر، وهو حاسوب صغير الحجم ومُنخفِض السعر لكنه عالي الأداء، وكان أول مُنتَج للشركة الفرعية التابعة للجامعة التقنية الوطنية التي كان أنطون جونتسينجر يُدِيرها، وهي شركة إس سي إس لأنظمة الحوسوبة العالية الأداء.
ولكن تاريخ الحواسيب العملاقة السويسرية يُعلمنا الكثير أيضًا. فالرجل الذي كان وراء هذا النجاح هو أنطون جونتسينجر، ابن مزارع من كانتون سولوتورن، الذي تخرَّجَ من الجامعة التقنية الوطنية في عام ١٩٩٠ بدكتوراه في العلوم التقنية، وكان موضوعُ أطروحته الذي تركَّزَ على الحواسيب المتوازية قد جعله يفوز بجائزة الابتكار من الجامعة التقنية الوطنية، وبجائزة سيمور كراي؛ وهي جائزة تمنحُها شركة كراي للبحوث في مجال الحَوسبة العالية الأداء. وفي نفس السنة، طوَّرَ برفقة ثلاثة من زملائه في العملِ الحاسوبَ المتوازي MUSIC الذي كان يحتوي على ١٧٠ مُعالِجًا للمعلومات مكَّنته من القيام ﺑ ١٠ مليارات عملية حسابية في الثانية، وعلى الرغم من توافُر حواسيب أكثر قدرةً في تلك الفترة، فإنها كانت كلها أكبر حجمًا بكثير، وتكلفتها تساوي أضعاف تكلفة هذا الحاسوب، شارك مطوِّرو أجهزة الكمبيوتر السويسريون هؤلاء — الذين كانوا نَكِرة لا يعرفهم أحد — في مسابقة جوردون بيل للحوسبة في مدينة مينيابولس، وكان من بين المشاركين عمالقةٌ مثل شركة كراي للبحوث، وشركة آي بي إم، وشركة إنتل، ولكن أعمال السويسريين أثارت ضجة كبيرة بحصولهم على المرتبة الثانية، وبين عشية وضُحاها صار جونتسينجر مشهورًا وعيَّنته الجامعة التقنية الوطنية أستاذًا مساعدًا في معهد تكنولوجيا الإلكترونيات. وفي عام ١٩٩٤، عندما نشرت مجلة تايمز أسماء الشخصيات المائة التي سيكون لها تأثيرٌ في القرن الواحد والعشرين بحسب رأي المحرِّرين، كان اسم جونتسينجر الاسمَ السويسري الوحيد في هذه القائمة.
ولاستغلال فكرة حاسوب MUSIC تجاريًّا أسَّسَ جونتسينجر شركة إس سي إس لأنظمة الحوسوبة العالية الأداء في عام ١٩٩٣، وكان حاسوب «جيجا بوستر» أول مُنتَج للشركة، وهو حاسوب عالي الأداء بأسعار معقولة للغاية أُطلِقَ في عام ١٩٩٥. كان الجهاز يَحتوي على ١٫٧ جيجا فلوبس (ما يعني مليارات عمليات الفاصل العائم في الثانية)، وكان حجمه لا يَزيد عن حجم حقيبة صغيرة، وعلى عكس المنتَجات المنافسة، كان يستهلك ٤٥٠ وات فقط؛ أيْ ما يعادل استهلاك حاسوبَيْن عاديَّيْن. كان حاسوب جيجا بوستر مُدهِشًا للغاية، حتى إن شركة إس سي إس باعت عشرة حواسيب منه في فترة وجيزة، ومع ذلك كان النجاح الذي عرفتْه الحواسيب السويسرية غير مستدام؛ نظرًا لأن مجرد الاستمرار في تحديث برامج التشغيل أنتج تكاليفَ تفوق موارد الشركات الصغيرة، وفي حين أن الحواسيب العالية الأداء كانت مسألة إثبات نفوذٍ ومكانةٍ بالنسبة إلى الشركات الكبيرة، وغالبًا ما كانت مدعومةً من طرف شركات أخرى أو من طرف الدولة، فإن شركة إس سي إس لم تكن لديها مثل هذه الفوائد أو الموارد؛ ومن ثَمَّ عمل جونتسينجر على تعديل الهدف التجاري لشركته؛ فعوضًا عن إنتاج وتسويق حواسيبه الخاصة، قرَّرَ التركيزَ على مجالٍ أكثر تعقيدًا أَلا وهو تطوير نُظُم وبرمجيات خاصة لتلبية احتياجات العملاء المحدَّدة، مثل: معالج لمصنع فرز البطاطا يقوم بقياس حجم حبات البطاطا على الحزام الناقل في أقل من ثانية لاختيار المناسِب منها، وبفضل مثل هذه البرامج، استطاعت الشركة الحصول على عقود مربحة في مجالات نشاط متخصِّصة محدَّدة، واليومَ تُعَدُّ إس سي إس شركةَ خدماتٍ ناجحةً بالرغم من تواضُع حجمها، وتُشغِّل لحسابها ٧٠ شخصًا.

ثورة على وشك الاندلاع

غالبًا ما كانت الشركات السويسرية الرائدة المتخصِّصة في مجال الحوسبة غير قادرة على تسويق ابتكاراتها تجاريًّا بسبب صِغَر حجم شركات الحوسبة في سويسرا، في حين أن تكنولوجيا المعلومات في قطاع الاتصالات غالبًا ما كانت تتركَّز بشكلٍ كبير على السوق المحلية المتمثِّلة في السلطات العامة والمشاريع التي تُديرها الدولة. هذا بصرف النظر عن أنه خلال جزء كبير من القرن العشرين، عرفت سويسرا أعلى كثافة من حيث عدد المشتركين في خدمات الهاتف في العالم، وهو ما كان من المفروض أن يُوفِّر ظروفًا مثاليةً لهذا القطاع، علاوةً على ذلك، أدركت سويسرا في وقت مبكِّر أهمية التحول الرقمي في نُظُم الاتصالات وفي بعض المجالات الأخرى مثل حوسَبة حركة التلكس حوالي عام ١٩٧٠، وكانت رائدة في وضع أسس هذه التكنولوجيا الجديدة واستعمالاتها على الصعيد العالمي.

في عام ١٩٦٩، بدأ تخطيط مشروع طموح لبناء نظام اتصالات رقمي مُتكامِل، إلا أن هذا المشروع الضخم اصطدم بواقعِ صعوبةِ تحقيق المشاريع البحثية الكبرى عندما تكون تحت رعاية الدولة، كما أن المؤسَّسات التي دُعِيت للمشاركة في هذا المشروع لم تكن الأنسب له، بل اختِيرت بحسب تماشيها مع سياسات الحكومة الخاصة بمجالَي التشغيل والصناعة؛ ومن ثَمَّ فإن مجموعة الشركات المتألِّفة التي كانت من المفترض أن تُنجِز نسخة سويسرية من نظام الاتصالات الرقمي المتكامل تضمَّنت — إلى جانب مؤسسة البريد والبرق والهاتف المملوكة للدولة — الشركات الثلاث الكبرى المهيمنة على السوق في سويسرا، وهي شركة هازلر، وشركة ألبيس فيركيه زيورخ (التي أصبحت لاحقًا شركة سيمنز ألبيس)، ومؤسسة ستاندرد للهاتف والراديو.

ولربما كانت الناحية التقنية هي سبب تخلُّف المشروع مقارَنةً بالمنافسين، فبحلول عام ١٩٨٣، عندما تم رسميًّا التخلي عن المشروع، كان قد أُهدِر مبلغ ٢٢٠ مليون فرنك سويسري هباءً، وكانت النتيجة الملموسة الوحيدة لهذا المشروع هي عملية إدماج الشركات الثلاث لتكوين شركة أسكوم التي باتَتِ اليومَ متخصِّصةً وناجحة في مجال الاتصالات اللاسلكية واختبار شبكات الاتصالات وتأمينها، وتعمل الشركة حاليًّا في ٢٠ بلدًا وتوظِّف حوالي ٢١٠٠ شخص حول العالم، كما أن مبيعاتها في عام ٢٠١٠ بلغت ٥٧٠ مليون فرنك سويسري.

فأرة الحاسوب التي أحدثت ضجة كبيرة

لعلَّ التفسير الذي يتبادر إلى الأذهان أحيانًا عن سبب فشل سويسرا في تحقيق نجاح كبير في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هو عدم وجود عقول نيِّرة جديدة فيها، ولكن في المقابل كانت جامعات كاليفورنيا تعجُّ بالعقول النيِّرة خلال السبعينيات وبداية الثمانينيات، كما أن مؤسسات النخبة — مثل جامعة بيركلي وجامعة ستانفورد ومعهد ستانفورد للبحوث ومركز البحوث بالو ألتو التابع لشركة زيروكس — كانت أرضًا خصبةً لتخريج العاملين في مجال تطوير الحواسب، ومن بين الأشخاص الذين كانوا يتابعون أبحاثَ ما بعد التخرُّج في جامعة ستانفورد، كان هناك دانيال بوريل خريج مدرسة الفنون التطبيقية الفيدرالية في مدينة لوزان، وكذلك بييرلويجي زاباكوستا وهو مهندس إيطالي. وقد عمل الاثنان معًا لدى عودتهما إلى أوروبا على تطوير البرمجيات، وفي عام ١٩٨١ تلقَّيَا طلبًا من شركة ريكوه اليابانية لإجراءِ دراسةٍ للجدوى الاقتصادية وقابلية التنفيذ لمشروعٍ كان الهدف منه إنتاج نظام نشر مكتبي يُمكِّن المستخدِم من العمل به بواسطة فأرة الحاسوب.

figure
دانيال بوريل، شريك مؤسِّس لشركة لوجيتيك.
figure
فأرة الحاسوب اللاسلكية التي اخترعتها شركة لوجيتيك تعمل بتكنولوجيا الأشعة تحت الحمراء.
في ذلك الوقت، لم تكن فأرة الحاسوب مُتوافرةً بعدُ في الأسواق، ولكن بصفتهما خريجَيْ معهد ستانفورد، كان باستطاعة بوريل وزاباكوستا استخدام «الأربانِت» الذي بات يُعرَف اليومَ بالإنترنت، وبفضل ذلك تمكَّنا من الاهتداء إلى روَّاد هذه التكنولوجيا، ومن بينهم على سبيل المثال: جون دانيال نيكود من سويسرا، الذي كان يعمل بروفيسورًا في مختبر المعلوماتية الدقيق التابع لمدرسة الفنون التطبيقية الفيدرالية في مدينة لوزان. وفي عام ١٩٨١ بعد أن انضمَّ إلى فريقهما جياكومو ماريني الذي كان مديرًا سابقًا في شركة أوليفيتي، استخدم بوريل وزاباكوستا الأموالَ التي حصلا عليها من شركة ريكوه لتأسيس شركة لوجيتيك في بلدة في كانتون فو، شاءت الصُّدَف الغريبة أن يكون اسمها أبل. منذ ذلك الحين، عمل الشركاء الثلاثة بتعاون وثيق مع مختبر نيكود، ونجحوا في إدخال تحسين ملحوظ على أداء فأرة الحاسوب العاملة بشكل كهروميكانيكي محض، فقد سُجِّلت حركات فأرة الحاسوب بطريقةٍ جديدة بواسطة أجهزة استشعار كهروبصرية، كما استُخدِمَ للمرة الأولى معالِجٌ دقيق لتشغيلها والتحكُّم بها، وكانت النتيجة إطلاق P4 الذي كان أول جهاز من إنتاج شركة لوجيتيك، وخلافًا لأنواع فأرة الحاسوب التي كانت متوافِرة حتى ذلك الوقت، لم يكن سر P4 يكمن في الجهاز بحد ذاته، بل في برنامج عمله الذي صُمِّم خصوصًا لأداء الغرض المطلوب منه، وهذا ما أتاح لشركة لوجيتيك المتخصِّصة في البرمجيات أن تحقِّق تفوُّقًا — ثبَت أنه قابل للاستمرار — على الشركات المنافسة التي طالما ركَّزَتْ نشاطها على إنتاج الأجهزة.

فأرة الحاسوب: أداة التحكم المركزية

في عام ١٩٨٢ شرعت شركة لوجيتيك بتطوير عملية إنتاج فأرة الحاسوب في شركة أخرى مستقلة بذاتها، وكان زبائن الشركة المُحتمَلون في معظمهم من الشركات المصنِّعة للحواسيب التي تقدِّم للمُستخدمين تطبيقات خاصة في مجال التصميم بمساعدة الحاسوب أو التصاميم البيانية المُعَدَّة للطباعة والنشر. في السنوات القليلة الأولى، كان تمويلُ تطويرِ شركة لوجيتيك يعتمد بالخصوص على أموال مشروع ريكوه، ولكن عندما انتهى مصدر الدعم هذا في عام ١٩٨٦، باتت الشركة قائمةً على أُسُسٍ متينة بفضل الطلبات التي انهالت عليها من أبرز الشركات المصنِّعة مثل شركة أبولو للحواسيب وشركة هوليت باكارد. وفي عام ١٩٨٤ تنبأت شركة آبل أن فأرة الحاسوب ستكون أداة التحكم الرئيسية لأي حاسوب، وهو تنبؤ ثبتَتْ صحته، لكنه في ذلك الوقت واجَهَ لا مبالاة كبيرة من طرف شركات إنتاج الحواسيب الشخصية وبرمجياتها، كما أن شركة مايكروسوفت رفضت إمكانية إدخال تكنولوجيا شركة لوجيتيك على مُنتَجاتها.

إن هذا الرفض الذي بدا لأول وهلة أنه نكسة، ثبت لاحقًا أنه ضربة حظ بالنسبة إلى شركة لوجيتيك، فبعد أن رفضت شركة مايكروسوفت تبني تلك الفكرة، قرَّرت الشركة دخول سوق المستخدم النهائي مباشَرةً وكسب الزبائن بنفسها، وكانت اللحظة الحاسمة في عام ١٩٨٦ عندما أطلقت شركة لوجيتيك مُنتَجًا يُباع بالتجزئة بسعر أقل بنسبة ٤٥ في المائة من سعر فأرة شركة مايكروسوفت، فانطلقت المبيعات بوتيرة تصاعدية هائلة، وفي عام ١٩٩١ احتفلت شركة لوجيتيك ببلوغ مبيعاتها ١٠ ملايين فأرة حاسوب. في العام التالي، قامت شركة مايكروسوفت بتسويق أول شاشة إلكترونية للمستخدمين، وهذا ما بات يعني — على حين غرة — أن كل مستخدم للحاسوب الشخصي في العالَم تقريبًا سيحتاج إلى شراء فأرة، في البداية، أدَّى ذلك إلى زيادة هائلة في مبيعات لوجيتيك، ولكن الشركة مرَّتْ لاحقًا بأوقات أكثر صعوبة؛ نظرًا لأن الشركات المنافسة ذات الأسعار المنخفِضة في شرق آسيا سرعان ما بدأت تضغط للدخول إلى هذه السوق العامة الجديدة الناشئة.

إن حرب الأسعار الضارية التي لا تَرحم دفعت الشركة إلى اتخاذ تدابير وإجراءات صارمة، فقرَّرَ بوريل — الذي كان آنذاك يَشْغَل منصب المدير التنفيذي للشركة منذ عام ١٩٩٢ — تقليصَ حجم مجموعة مُنتَجات الشركة (التي باتت تشمل آنذاك الماسحات الضوئية وآلات التصوير)، وإغلاقَ مرافق الإنتاج في إيرلندا والولايات المتحدة، واستبدل بها فتح مصنع ذي قدرة تنافُسية عالية في الصين، ونقل مكتب الشركة الرئيسي من سويسرا إلى وادي السيليكون في الولايات المتحدة (مع المحافظة على مقرِّها الأوروبي وإدارات التطوير التابعة لها في سويسرا). وخلال أواخر التسعينيات بدأت المبيعات ترتفع من جديد، وفي الألفية الجديدة شهدت مبيعات الشركة ازديادًا ملحوظًا لدرجة أنها لم تتأثر بأزمة فقاعة شركات الإنترنت. وفي عام ٢٠٠٣ بيعت الفأرة رقم ٥٠٠ مليون، وقد تحوَّلَ الجزء الأكبر من أعمال الشركة الآن نحو سوق البيع بالتجزئة، وأصبحت شركة لوجيتيك تتنافس ندًّا لندٍّ على الصعيد العالمي مع الشركات العملاقة، مثل: مايكروسوفت وأبل وسوني.

النجاح ليس بالضرورة حليف الجميع

لا بد من قياس النجاح المثير للإعجاب لشركة لوجيتيك التي باتت اليومَ واحدةً من أكبر الشركات في غرب سويسرا على قدم وساق، بالإخفاق المروع الذي عانته شركة أخرى تقع هي أيضًا في الجزء الناطق بالفرنسية من سويسرا، وهي شركة كانت قد وضعت سابقًا معاييرَ قياسيةً جديدة تم تبنِّيها في جميع أنحاء العالم. كانت هذه الشركة بايار بوليكس المتخصصة في مجال الهندسة الدقيقة، تأسَّست هذه الشركة في البداية كمصنع للساعات في عام ١٨١٤ على يد مويز بايار، وهو ساعاتي وميكانيكي ومخترع، وسرعان ما أصبحت الشركة تنتج مجموعةً واسعة من الأجهزة التقنية كان من بينها مُنتَجان حازا على شهرة عالمية، وهما آلة كاتبة سُوِّقت تحت العلامة التجارية «هرميس»، وكاميرا للأفلام السينمائية من فئة ١٦ ملم أُنتِجت مئات الآلاف منها وبِيعت تحت اسم بوليكس. أمَّا الآلة الكاتبة المحمولة «هرميس بيبي» التي صُنِعت لأول مرة في عام ١٩٣٥، فكانت بمثابة الكمبيوتر المحمول في عصرها؛ إذ لم تُضاهيها آنذاك أية آلة كاتبة أخرى من حيث سهولة النقل والاستخدام ورخص الثمن والجودة. وبفضلها أصبحت سويسرا ثالثَ أكبر منتج للآلات الكاتبة في العالم، وكان هناك كُتَّاب مثل إرنيست هيمنجواي وجون شتاينبيك وماكس فريش، قد أصدروا كُتُبًا ذات شهرة عالمية مُستعينين بآلاتهم الكاتبة من نوع هرميس، وفي منتصَف ستينيات القرن المنصرم، كانت الشركة تشغِّل تقريبًا ٦ آلاف شخص في مدينتَيْ إيفردون وسانت كروا، وما يَزيد عن ألفَيْ شخصٍ خارج سويسرا.

figure
الفنان والموسيقي ديتر ماير، رائد موسيقى التكنو أمام آلته الكاتبة «هرميس بيبي».

ولكن بداية عصر التكنولوجيا الرقمية كانت قد قَرَعَت أجراسَ نهاية الشركة بالرغم من محاولتها عبثًا الصمودَ واللحاقَ بركب هذه الصناعة الجديدة التي أدَّت — من بين أشياء أخرى — إلى تسجيل براءة اختراع لطابعة تعمل بنفْث الحبر، إلا أن الانتقال من هندسة الآلات الكهربائية الدقيقة إلى الإلكترونيات شكَّلَ لها صعوبات لم تستطع التغلب عليها. وفي عام ١٩٧٤ اشتُرِيت شركة بايار بوليكس من طرف شركة أويميج النمساوية المتخصِّصة في إنتاج المعدات السينمائية، التي بدورها صُفِّيت في عام ١٩٨٢، واليومَ لا توجد سوى مجموعة صغيرة من التقنيين الذين يعملون تحت اسم شركة بوليكس إنترناشونال على تجميع الكاميرا الأسطورية بوليكس من مخزونات القِطَع والأجزاء التي ما زالت متوافِرة.

التحوُّل الذي شهدته شركة كوديلسكي

بالرغم من أن شركة لوجيتيك هي الشركة السويسرية الكبيرة الوحيدة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فإن عددًا من الشركات السويسرية في المجالات التخصُّصية ذات التقنيات العالية قد ارتقت إلى أعلى المراتب الدولية، ويتميَّز البعض منها بتاريخ طويل. ولعل أفضل مثال على ذلك هو شركة كوديلسكي التي بدأت نشاطها بإنتاج آلات تسجيل الصوت العالية الجودة؛ ومن ثَمَّ أعادت التموضُع، فأصبحت اليومَ فعليًّا شركةً رائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات.

كان ستيفان كوديلسكي من عائلة مهاجِرين بولنديِّين، وقد صنع أول آلة تسجيل عندما كان طالبًا في معهد الفنون التطبيقية في مدينة لوزان. وفي عام ١٩٥١ أسَّسَ شركته الخاصة وطوَّر آلة التسجيل «ناجرا»، التي صُمِّمتْ خصيصًا للصحافيين العاملين في محطات الراديو، واختُبِرت الآلة أثناء محاولة فريق سويسري تسلُّق جبل إفرست في عام ١٩٥٢، وفي عام ١٩٥٣ اصطحب أوجوست بيكار المُسجِّلة معه أثناء محاولته تحطيم الرقم القياسي في الغوص في أعماق البحار على متن الغواصة ترييست، ومنذ ذلك التاريخ أُنتِجت الآلة بأعداد كبيرة وجرى تحسينها باستمرار. كانت هذه الآلات مصمَّمة خصيصًا للاستخدام المهني في الأفلام والراديو والتلفاز، كما قام كوديلسكي أيضًا بإنتاج نماذج خاصة للمخابَرات والجيش وأخرى لقياس التردُّدات الصوتية.

أقفال رقمية للأبواب والتلفزيونات

إلا أن الشركة غيَّرت استراتيجيتها خلال الثمانينيات بشكلٍ جذري للاستفادة من بدء العمل بمفهوم دفع رسوم لمشاهَدة التلفاز، وكان أول زبون للشركة في عام ١٩٨٩ محطة التلفزيون الفرنسي كانال بلَس، وبعد ذلك شهدت الشركة عقدًا من النمو المُتواصِل. ولكن أعمالها تأثَّرَتْ بشكلٍ سلبي خلال الأزمة التي عانى منها قطاع البث التلفزيوني في عام ٢٠٠٢، ولكن خلال عامين فقط عادت الشركة لتسجيل نتائج قياسية؛ ومن ثَمَّ وسَّعت الشركة مجالَ عملها بتطوير نُظُمِ ضبطِ الدخول إلى الأماكن العامة مثل الملاعب الرياضية، ودخلت مجال تحديات جديدة منها التلفزيون الرقمي، والتقاط إرسال التلفزة على الهواتف الجوالة.

كانت أنظمة ضبط الدخول والخروج من اختصاص شركة أخرى سويسرية هي شركة كابا، ففي عام ١٨٦٢ أقام صانع أقفال يُدْعَى فرانس باور مصنعًا في مدينة زيورخ لصنع صناديق النقد، لكن النجاح الحقيقي الذي عرفته شركته كابا بدأ في عام ١٩٣٤ عندما اخترع ميكانيكيٌّ هاوٍ يُدْعَى فريتز شوري قفلًا أسطوانيًّا بمفتاح ذي وجهَيْن. حصل مؤسِّس الشركة فرانس باور على براءة اختراع لهذا الجهاز، وبما أنه كان معروفًا شعبيًّا بلقب صانع صناديق النقد Kassenbauer قام بتسمية القفل كابا Kaba أيْ بالأحرف الأولى من لقبه بالألمانية. وحتى اليوم هناك نسبة كبيرة من المباني في سويسرا مزوَّدة بأقفال كابا، هذا وقد تطوَّرت أنظمة أقفال كابا بشكل أتاح للشركة دخول حيِّز تكنولوجيا المعلومات، وتحتوي مفاتيح كابا اليوم على شريحة إلكترونية مجهَّزة بشيفرة رقمية فردية تُخزَّن في القفل مع تحديد عدد الأشخاص المخوَّلين للدخول بحيث يُمكِن التثبُّت من شخصهم بواسطة جهاز كمبيوتر مركزي؛ ومن ثَمَّ فإذا فَقَد أحد الأشخاص مفتاحه وحاوَلَ شخصٌ آخَر الدخول به، يُبطَل فورًا عملُ المفتاح ويُمنَع الشخص من الدخول، وشركة كابا هي واحدة من أكبر الشركات المورِّدة في مجال أجهزة ضمان الأمن والحماية، وهي تُشغِّل ٧٧٠٠ شخص في أكثر من ٦٠ بلدًا، وحقَّقت مبيعات سنوية بلغَت حوالي ١٫١ مليار فرنك سويسري للعام ٢٠٠٩ / ٢٠١٠.

أتمتة المختبرات

كانت هناك أيضًا خطوة انتقال مُماثِلة من مجال الهندسة الدقيقة إلى مجال الإلكترونيات تكلَّلت بالنجاح حقَّقَتْها شركة ميتلر إنسترومنتس التي باتت معروفةً اليومَ باسم شركة ميتلر توليدو المتخصِّصة في ميدان الموازين الدقيقة. يرجع تاريخ هذه الشركة إلى عام ١٩٤٥ عندما شرع المهندس إرهارت ميتلر بإنتاج ميزانه الميكانيكي ذي الكفة الواحدة بكميات تسويقية، وعلى الرغم من أن موازين ميتلر كانت — حتى خلال خمسينيات القرن الماضي — تستطيع قياس الوزن بدقة تصل إلى جزء واحد من عشرة ملايين من الجرام، فقد بدأت الشركة في أواخر السبعينيات باستخدام الوحدات الدقيقة الحديثة العهد لمعالجة المعطيات في موازينها؛ مما أفضى إلى إيجاد استخدامات جديدة كليًّا مثل الأجهزة التلقائية لتعبئة المواد، وهذا ما أتاح لمُستخدِمي الأجهزة من الصناعيِّين تحقيقَ وفورات كبيرة تسمح بسداد ثمن الجهاز في غضون أشهر قليلة. وضعت الشركة كذلك معاييرَ جديدة في مجال أتمتة المختبرات، وكان أحد أهم نشاطاتها الثلاثة هو إنتاج موازين تتضمَّن تقنيات المعالجات الدقيقة للمعطيات لاستخدامها في تجارة التجزئة، وفي عام ١٩٨٠ باع ميتلر شركته إلى شركة سيبا جايجي، وبعد انقضاء ٩ سنوات استحوذ على شركة توليدو، وهي أكبر منتج للموازين في الولايات المتحدة، واليومَ أصبحت شركة ميتلر توليدو مملوكة من شركة الاستثمار آي إي إيه، ويبلغ عدد العاملين فيها حوالي ١٠ آلاف شخص في عام ٢٠١٠، كما تُحقِّق مبيعات تبلغ ١٫٩٦٨ مليار دولار أمريكي.

ومن بين الشركات السويسرية الأخرى الناجِحة والناشطة دوليًّا في مجال إنتاج الأجهزة، هناك شركة ديتفيلر كايبلز، وشركة رايخليه ودي ماساري، وشركة هوبر وسوهنر، غير أن أكثر هذه الشركات ابتكارًا هي شركة باومر هولدينج، إحدى الشركات الرائدة في مجال أجهزة الاستشعار الدقيقة. أُسِّست الشركة في عام ١٩٥٢ على يد هربرت باومر، وهو مهندس متخرِّج من الجامعة التقنية الوطنية، وكان عمره آنَذاك ٣٢ عامًا، وبعد أربع سنوات طوَّر مفتاحًا كهربائيًّا يستشعر الحركات الميكانيكية ويُحوِّلها إلى نبضات كهربائية، وفي عام ١٩٥٩ طوَّر باومر مفاتيح كهربائية دقيقة في أنظمة تحكُّم مبرمجة تراقِب وتتحكم في عمليات الإنتاج ذات التحكم الكهربائي، وسرعان ما انتشرت معلومة أن مدينة فراونفيلد في سويسرا تنتج أكثر أجهزة الاستشعار دقةً في العالم. اكتسب باومر سمعة مميزة بفضلِ تطويرِ ابتكاراتٍ مثل مُستشعِر الليزر الضوئي وأجهزة الاستشعار لمعالجة الصور، واليومَ تمتلك مجموعة باومر ٣٦ شركة تابعة في ١٨ بلدًا، وهي المزوِّد الرئيسي لأجهزة تكنولوجيا الاستشعار في قطاع التصنيع والتجهيز الآلي، وتُشغِّل المجموعة حوالي ألفَيْ شخص، كما بلغت مبيعاتها في عام ٢٠١٠ ما يقارب ٣٦٠ مليون فرنك سويسري.

صنع الذاكرة الإلكترونية

هناك أيضًا العديد من الشركات السويسرية التي أوجدت لنفسها مكانةً في مجال الأعمال ذات التقنية المتطوِّرة المتمثِّلة في إنتاج رقائق الكمبيوتر، وللمرة الأولى لعب الدعمُ الذي قدَّمَتْه الدولة دورًا إيجابيًّا هامًّا، ففي عام ١٩٨٥ أُنشِئ معهد النُّظُم المتكاملة في الجامعة التقنية الوطنية، وكان يترأسَّه فولفجانج فيختنر، وهو فيزيائي نظريات من أصل نمساوي كان قد عمل لدى مختبَرات إيه تي آند تي بِل، وقد استفاد المعهد المذكور كثيرًا من قرار الحكومة الاتحادية الذي بموجبه خُصِّصَ تمويلٌ إضافي لتكنولوجيا المعلومات في التعليم العالي، وهذا ما مكَّن الجامعة التقنية الوطنية في زيورخ من اللحاق بركْب المؤسسات الرائدة مثل معهد ستانفورد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة بيركلي في كاليفورنيا في مجال التدريس والبحث المتعلِّق بأشباه الموصلات المتكاملة. قام فيختنر بإطلاق برنامج يُمكِّن الطلاب من تصميم الرقائق الإلكترونية الخاصة بهم، ثم القيام بتصنيعها لدى إحدى الشركات المتخصِّصة بإنتاج أشباه الموصِّلات، وفي سويسرا هناك ثلاث شركات ناشطة في هذا المجال، وهي شركة براون بوفيري (التي أصبحت لاحقًا إيه بي بي)، وشركة فازيليك (وهي جزء من مجموعة فيليبس الهولندية)، وشركة إي إم ميكرو إليكترونيك (المملوكة من شركة إس إم إتش لصناعة الساعات)، وبفضْل علاقات فيختنر مع مثل هذه الشركات، استطاع المعهد الذي يُدِيره الحصولَ على عقودِ تطويرٍ لصالح شركات رائدة في صناعة أشباه الموصلات، ومنها شركة إيه بي بي وموتورولا وإنتل وناشونال سيمي كونداكتر وتوشيبا. ولا يتجلَّى نجاح معهد النظُم المتكاملة فقط من خلال تخرُّج أكثر من ٥٠٠ طالب (حصل ١٠٠ منهم على درجة الدكتوراه) منذ افتتاحه، بل أيضًا من خلال شركات صناعة أشباه الموصِّلات الموجودة في سويسرا، التي ارتفع عددها من ثلاث شركات في عام ١٩٨٥ إلى ٢٠ شركة حاليًّا، وهذه تشمل شركة سويسبيت التي أُنشِئت في عام ٢٠٠١ إثرَ عمليةِ استحواذٍ قام بها فريق إدارة قسم منتَجات ذاكرة الكمبيوتر (قدرة تخزين المعطيات) التابع لشركة سيمنس، وبفضل مبيعات تجاوزت ٦٠ مليون فرنك سويسري، وحجم إنتاج سنوي يبلغ ٦ ملايين وحدة ذاكرة وبطاقة استذكار، تُعَدُّ شركة سويسبيت أكبرَ منتجٍ مستقل لمنتجات الذاكرة الإلكترونية في أوروبا.

الاقتصاد الجديد: ازدهار ثم إخفاق ثم انتعاش

إن الأمثلة التي سبق ذكرها تُبيِّن جليًّا أن الشركات السويسرية قد نجحت في احتلال مكانة مرموقة بين الشركات الرائدة عالَميًّا في مجالات تخصُّصية ذات نوعية عالية من تكنولوجيا المعلومات، لكن النشاط التخصُّصي بشكل مكثف للشركات ليس عاملًا مهمًّا في تحديد مسارات التوجهات المستقبلية في الأسواق العالمية، وفي مجال الثورات التكنولوجيا والمعلوماتية التي نتجَت عن ظهور الإنترنت، لا تلعب الشركات السويسرية سوى دورٍ محدود جِدًّا، وخلال فترة الاندفاع التي عرفتها نهاية التسعينيات، نشأ عدد كبير ومتزايد من الشركات الرائدة في مجال الإنترنت تحت راية «الاقتصاد الجديد»، حاملةً أسماءً رنَّانةً تُثير الإعجاب، وغالبًا ما كانت تتميز بأنماط عمل تُثير الدهشة، دام هذا الوضع حتى شهر مارس من عام ٢٠٠٠ عندما انفجرَت فقاعة شركات الإنترنت فجأة، واختفى عدد كبير من تلك الشركات، ولم يَعُدْ لها أثرٌ على شاشات المتداولين في سوق البورصة، باستثناءِ شركةِ برمجياتٍ يقع مقرُّها في مدينة بازل وهي شركة داي، فبعد دخولها إلى السوق خلال ذروة فقاعة الاقتصاد الجديد تحت اسم داي إنترأكتيف، واجهَتِ الشركةُ فترةَ كساد عميقة، ولكنها استطاعت بعد ذلك تدارُك الأمر، مثلها مثل أفضل الشركات التي نجت من فقاعة الدوت كوم وعادت إلى الانتعاش، وفي شهر أكتوبر من عام ٢٠١٠ استُحوِذَ عليها بمبلغ ٢٤٠ مليون دولار أمريكي من طرف شركة أدوبي الأمريكية العملاقة لإنتاج البرمجيات.

لقد ثبت أن قطاع البرمجيات هو قطاع مُثمِر للشركات السويسرية الصغيرة والمتوسطة الحجم من أمثال شركة تيمينوس للبرمجيات التي أسَّسها جورج كوكيس في جنيف في عام ١٩٩٣. كان للشركة مُنتَج واحد هو برنامج حاسوبي خاص بالبنوك يُسَمَّى «جلوبوس» طُوِّر في الأصل في المملكة المتحدة من طرف خمسة مصرفيِّين سابِقين في بنك سيتي، وتناقلت ملكيتَه عدةُ شركات قبل أن يَنتهى في أيدي شركة تمينوس. وعلى مدى السنوات القليلة التالية، أضافت الشركة تحسينات منطقية على برنامج جلوبوس وزادت من فعالية استخداماته؛ ممَّا أكسَبَها عملاءَ من جميع أنحاء العالم بما في ذلك العديد من البنوك الكبرى. واليومَ تُعَدُّ شركة تيمينوس من بين الشركات الرائدة في مجال أنظمة تكنولوجيا المعلومات المتكامِلة للبنوك، وتُستخدَم منتجاتها في ٦٠٠ مؤسسة مالية في ١٢٠ بلدًا، ولكن شركة تيمينوس ليست الشركة السويسرية الوحيدة التي نجحت في احتلال مكانة مرموقة في مجال البرامج المصرفية، بل هناك أيضًا شركة إي آر آي بانكير وفينوفا ومجموعة أفالوك التي أُنشِئت تحت اسم بي زد إنفورماتيك، وهي شركات تلعب دورًا هامًّا في هذا المجال.

برمجيات وأسرار

تُقدِّم سويسرا اليومَ مساهماتٍ كبيرةً في مجال صناعة البرمجيات، وهذا ما قامت به على مدى عقود من الزمن؛ فعلى سبيل المثال: تكونت شركة إي إل سي إيه إنفورماتيك في عام ١٩٦٨ على أيدي ثُلَّةٍ من المتخرِّجين من الكلية المتعدِّدة الفنون في مدينة لوزان، الذين بدءوا العملَ على تطوير نظام ضبط ومراقبة مؤازَر بواسطة الحاسوب لمحطات توليد الطاقة الكهرومائية في سد ديكسنس الكبير (وهي محطة تستمد طاقتَها ممَّا يُعَدُّ اليومَ خامسَ أعلى سد في العالَم)؛ ثم تابعَتِ الشركةُ نشاطَها ووسَّعَتْه ليشملَ إنتاجَ برنامج حاسوبي لضبط معالجة المعطيات يستند على بنوك المعلومات التي كانت آنذاك مفهومًا جديدًا نسبيًّا في مجال معالجة البيانات؛ ومن ثَمَّ توسَّعت الشركة أخيرًا إلى شرق آسيا وغزَتْ سوق فيتنام. واليومَ تُشغِّل شركةُ إي إل سي إيه إنفورماتيك حوالي ٥٠٠ شخص في لوزان وزيورخ وجنيف وبيرن ولندن وباريس ومدريد ومدينة هوشي مينه. هناك أيضًا مجموعة شركات نوزر — الأقل شأنًا على الصعيد العالمي — المتخصِّصة في البرمجيات والنظم المتكاملة والخدمات الاستشارية، وقد بدأت مسيرتها في متجَر لبيع كمبيوترات ماكنتوش في مدينة فينترتور في عام ١٩٨٤، إلا أنَّ المجموعةَ اليومَ — بعد إنجاز عمليات استحواذ مختلفة — أصبحَتْ ناشطة في سويسرا وألمانيا وكندا، وفي عام ٢٠١٠ كانت تشغِّل حوالي ٤٣٠ شخصًا، وبلغت مبيعاتها حوالي ٨٥ مليون فرنك سويسري. كما أن قطاع توفير الأمن لتكنولوجيا المعلومات هو قطاع صغير ولكنه مهم بالنسبة إلى الشركات السويسرية، وشركة كريبتو هي قصةُ نجاحٍ آخَر في هذا المجال؛ إذ تأسَّست الشركة في عام ١٩٥٢ على يدِ عالِمٍ في مجال التعمية والتشفير يُدعَى بوريس هيجيلين، الذي رجَّحَ أن سويسرا المحايدة ستكون المكانَ المثالي لبناءِ شركةٍ تعمل في مثل هذا النشاط الحسَّاس، واليومَ تُعَدُّ شركةُ كريبتو رائدةً في مجال عمل سري للغاية، ويتكوَّن عملاؤها الرئيسيون من الجيوش والمخابرات والدوائر الحكومية والخدمات الدبلوماسية.

لا غرابةَ في أن بعض الشركات المُبدعة في مجال البرمجيات هي من الشركات الشابة الحديثة العهد التي تحتاج إلى إثبات وجودها بمرور الوقت، وإحدى هذه الشركات هي شركة دوديل التي أُسِّست في عام ٢٠٠٧، والتي توفِّر برامجَ جداولِ تخطيطِ المواعيد على الإنترنت التي تَشهد إقبالًا متزايدًا من قِبَل المستخدمين في الولايات المتحدة وأوروبا. وهناك شركة ناشئة ناجحة أخرى هي سفوكس التي طوَّرت برنامجًا لتحليل التركيب الصوتي والتعرف على الأصوات. تأسَّست شركة سفوكس في عام ٢٠٠٠ على يد طلاب متخرِّجين من الجامعة التقنية الوطنية، وفي عام ٢٠٠٩ عهدت شركة جوجل لشركة سفوكس بمهمة تطوير أنظمة تَخاطُب تكنولوجية لهواتفها الذكية، وفي شهر يونيو من عام ٢٠١٠ استحوذَت عليها شركة نويانس للاتصالات، وهي شركة برمجيات أمريكية متخصِّصة في مجال تطبيقات التخاطب والتصوير بمبلغ ٨٧ مليون فرنك سويسري (أيْ ما كان يوازي في ذلك الوقت ١٢٥ مليون دولار أمريكي). وقد أصبح موقع الشركة في مدينة زيورخ مركز كفاءات تابع لشركة نويانس للاتصالات.

أين اختفت الشركات العملاقة؟

يُبيِّن هذا الفصل ما قدَّمَتْه سويسرا من مساهمات كبيرة غالبًا ما تكلَّلت بالنجاح في مجال تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات على الصعيد العالَمي، لكن ذلك لم يمنع بعض الشركات من تفويت العديد من الفرص والإمكانيات الناشئة، ولا شكَّ أن هناك مجموعةً من الشركات الصغيرة الحجم والناجحة نسبيًّا التي تُمثِّل سمةً من سمات القطاعات الصناعية السويسرية، ولكن النجاحات العالمية الكبيرة التي حقَّقتها سويسرا مثلًا في قطاعاتٍ مثل الهندسة وصناعة الأغذية والتمويل لم تُحالِف قطاع الاتصالات.

وكلما طُرِح السؤال: لماذا لم تَقُم سويسرا بإنشاء شركة كبرى على الصعيد العالمي في مجال خدمات الإنترنت أو الحوسبة أو الاتصالات؟ غالبًا ما يكون السبب الذي يُستشهَد به هو أن الفشل في الابتكار في قطاع الاتصالات — مثلًا — يعود إلى كون القطاع في ملكية الدولة، وفي حين كُسِرت الحواجز شبه الاحتكارية لمؤسسة إيه تي آند تي (المؤسسة الأمريكية الرسمية للبريد والهاتف) في الولايات المتَّحدة منذ زمن طويل يعود إلى عام ١٩٨٤؛ مما فتَحَ مجالات العمل أمام الشركات الأخرى، غير أن ذلك لم يحصل في سويسرا إلا في عام ١٩٩٨. وفي مجال الحوسبة والسوق الشاملة للبرمجيات، عانت سويسرا كثيرًا من صِغَر حجم سوقها، إذ إن المشاريع الكبرى — مثل مشاريع أجهزة الكمبيوتر العملاقة، والتطبيقات المخصَّصة للسوق الشاملة — تتطلَّب موارد استثمار هائلة للبقاء في السباق. وقد أثبت قطاع الحوسبة في سويسرا أنه صغير جِدًّا لدرجةِ أنه لا يُمكن أن يَتوافر له نوعٌ من الدعم التمويلي المتبادَل الذي يشكِّل أساسًا للنجاح في مثل هذا القطاع.

المستقبل: ربما يكون في أيادٍ أجنبية

لا شكَّ بأن هناك صلةَ ترابُط استثنائية بين سويسرا وقطاعَيْ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ فعلى سبيل المثال: أكثر من ٨٠ في المائة من السويسريين لديهم اتصال بواسطة الإنترنت، وهذه نسبة لا تُضاهى إلا في عدد قليل من البلدان، كما أن اعتماد تكنولوجيا المعلومات في قطاع الأعمال السويسري قد بلغ درجةً عاليةَ المستوى بشكلٍ استثنائي. وهناك حاليًّا حوالي ١٣٥٠٠ شركة تنشط في مجال تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات؛ ولذلك فليس من محضِ الصدفة أن الشركات العالَمية الرائدة في هذا المجال تجد سويسرا مكانًا جذَّابًا لأداء العديد من الوظائف المختلِفة (انظر الفصل الرابع عشر). كما أن شركاتٍ عالميةً كبرى — من أمثال إي باي وجوجل ومايكروسوفت وآي بي إم وأورانج وتي سيستيمز وسيمنز وديل وإي دي إس وياهو ورويتر وهيوليت باكارد — قد استثمرَت مبالغَ كبيرةً من المال لإنشاء مقراتها الأوروبية ومراكز مبيعاتها وخدمات زبائنها أو مراكز بحوثها في سويسرا، وذلك لأسباب ليس أقلها أنها تستطيع بذلك استقطاب موظفين على درجةٍ عالية من التأهُّل والحفاظ عليهم. وعلى سبيل المثال، تقع أكبر مُنشأة بحوث تابعة لشركة جوجل خارج حدود الولايات المتَّحدة في مدينة زيورخ تحديدًا، في حين أن شركة هيوليت باكارد باشرت منذ عام ١٩٥٩ بإدارة منظمة التسويق الأوروبية التابعة لها في مدينة جنيف، وفي ذلك الوقت كانت هذه أول قاعدة تابعة للشركة تُقام خارج الولايات المتَّحدة. وقد تكون هذه الدوافع بالتحديد — كما كانت غالبًا في تاريخ سويسرا — هي التي ستقود الموجة القادمة من الشركات المعلوماتية في سويسرا.

التواريخ الرئيسية.
قبل ١٨٠٠
١٥٨٨ يوست بورجي يقوم بتطوير أول نظام لوغاريتمات في العالم.
١٨٠٠–١٨٩٩
١٨٦٢ فرانس باور يؤسِّس مصنعًا لصناعة الأقفال وصناديق النقد في مدينة زيورخ، وهي الشركة التي أصبحَت لاحقًا شركة كابا.
١٨٥٦ جوستاف أدولف هازلر يتولى إدارة مكاتب التلغراف الوطني السويسري.
١٩٠٠–١٩٩٩
١٩١٥ أدولف ديتفيلر يُؤسِّس شركة أسلاك ديتفيلر.
١٩٢٠ إنشاء مؤسسة البريد والبرق والهاتف بملكية الدولة السويسرية.
١٩٤٥ إرهارت ميتلر يؤسِّس شركة ميتلر إنسترومنتس في مدينة كوزناخت.
١٩٤٨ ويل ستودر يؤسِّس شركة ريفوكس.
١٩٥٠ إدوارد شتيفِل يجلب حاسوب Z4 من صنع كونراد زوسيه ليُثبته في الجامعة التقنية الوطنية بزيورخ.
١٩٥١ ستيفان كوديلسكي يؤسِّس شركةً تحمل اسمه في مدينة شيستو-سور-لوزان.
١٩٥٢ هربرت باومر يؤسِّس شركة باومر إليكتريك في مدينة فراوينفيلد.
١٩٥٥ أمبروز شبيسر يُصبح أول مدير لمختبر أبحاثٍ جديد تابع لشركة آي بي إم في سويسرا.
١٩٧٠ نيكلاوس فيرث يُطلق برنامجَه الجديد لِلُغة الحواسيب «باسكال».
١٩٨١ دانيال بوريل وزملاؤه من المتخرِّجين يؤسِّسون شركة لوجيتيك.
١٩٨٤ هانس نوزَر يُؤسِّس شركة نوزَر للهندسة.
١٩٨٩ شركة ميتلر إنسترومنتس تستحوذ على شركة توليدو للموازين، ويصبح اسم الشركة ميتلر توليدو.
١٩٨٩ مويز أساراف يؤسِّس شركة إي آر آي بانكير في جنيف.
١٩٩٠ أنطون غونسينجر يطوِّر الحاسوب المتوازي MUSIC.
منذ ٢٠٠٠
٢٠٠٤ شركة جوجل تفتتح مركزًا للأبحاث في مدينة زيورخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤