الفصل العاشر

كان يوم الأربعاء، وكان صاحبنا قد قضاه فرحًا مسرورًا، زعم لسيِّدنا في أول النهار أنه قد أتمَّ الختمة، ثم فرغ بعد ذلك لاستماع القصص والأحاديث، وعَبَثِ آخر النهار.

فلما انصرف من الكتَّاب لم يذهب إلى البيت، وإنما ذهب مع جماعة من أصحابه إلى الجامع ليصلي العصر، وكان يحبُّ الذَّهاب إلى الجامع، والصعود في المنارة، والاشتراك مع المؤذن في التسليم؛ «وهو النداء الذي يلي الأذان الشرعي.»

ذهب في ذلك اليوم وصعد في المنارة، واشترك في الأذان وصلَّى، وأراد أن يعود إلى البيت، ولكنه افتقد نعْله فلم يجدها، كان قد وضعها إلى جانب المنارة، فلما فرغ من الصلاة ذهب يلتمسها فإذا هي قد سرقت. أحزنه ذلك بعض الشيء، ولكنه كان فرحًا مبتهجًا هذا اليوم، فلم يجزع ولم يُقدِّر للأمر عاقبة، وعاد إلى البيت حافيًا، وما كان أبعد المسافة بين البيت والجامع! ولكن ذلك لم يَرُعْه،١ فكثيرًا ما مشي حافيًا.

دخل البيت، وإذا الشيخ في المنْظَرة كعادته يدعوه: وأين نعلاك؟ فيجيب: نسيتهما في الكُتَّاب، فلا يحفل الشيخ بهذا الجواب، ثم يهمل الصبي حينًا ريثما يدخل فيتحدث إلى أمه وإخوته قليلًا، ويأكل كسرة من الخبز؛ كان من عادته أن يأكلها متى عاد من الكُتَّاب، ثم يدعوه الشيخ، فيسرع إلى إجابته، فإذا استقرَّ به مكانه، قال له أبوه: ماذا تلوت اليوم من القرآن؟ فيجيب: ختمتُه وتلوتُ الأجزاء الستة الأخيرة. قال الشيخ: ومازلت تحفظه حفظًا جيدًا؟ قال: نعم. قال الشيخ: فاقرأ لي سورة سبأ. وكان صاحبنا قد نسي سورة سبأ، كما نسي غيرها من السور، فلم يفتح الله عليه بحرف، قال الشيخ: فاقرأ سورة فاطر، فلم يفتح الله عليه بحرف. قال الشيخ في هدوء وسخرية: وقد زعمت أنك مازلت تحفظ القرآن! فاقرأ سورة يس. ففتح الله عليه بالآيات الأولى من هذه السورة، ولكنَّ لسانه لم يلبث أن انعقد، وريقه لم يلبث أن جفَّ، وأخذته رِعدةٌ منكرةٌ تصبَّب على أثرها في وجهه عرقٌ بارد، قال الشيخ في هدوء: قمْ واجتهد في أن تنسى نعليك كلَّ يوم، فما أرى إلا أنك أضعتهما كما أضعت القرآن، ولكنَّ لي مع سيِّدك شأنًا آخر.

figure

خرج صاحبنا من المنظرة مُنَكَّسَ الرأس مضطربًا يتعثَّر، ومضى في طريقه حتى وصل إلى الكَرَار — والكرار: حجرة في البيت كانت تُدَّخرُ فيها ألوان من الطعام، وكان يُربَّى فيها الحمام — وكانت في زاوية من زواياها القُرْمة — وهي قطعة ضخمة عريضة من الخَشَب كأنها جذع شجرة — كانت أمُّه تقطع عليها اللحم، وكانت تَدَعُ على هذه القرمة طائفة من السكاكين؛ منها الطويل، ومنها القصير، ومنها الثقيل ومنها الخفيف.

مضى صاحبنا حتى وصل إلى الكرار، وانعطف إلى الزاوية التي فيها القرمة، وأهوى إلى الساطور، وهو أغلظ ما كان عليها من سكين وأحدَّه وأثقله، فأخذه بيمناه وأهوى به إلى قفاه ضربًا! ثم صاح، وسقط الساطور من يديه، وأسرعت أمه إليه، وكانت قريبة منه لم تحفل به حينما مرَّ بها، فإذا هو واقف يضطرب والدم يسيل من قفاه! والساطور مُلقًى إلى جانبه … وما أسرع ما ألقت أمه نظرة إلى الجُرح! وما أسرع ما عرفت أنه ليس شيئًا! وما هي إلَّا أن أنهالت عليه شتمًا وتأنيبًا، ثم جذبته من إحدى يديه حتى انتهت به إلى زاوية من زوايا المطبخ، فألقته فيها إلقاءً، وانصرفت إلى عملها. ولبث صاحبنا في مكانه لا يتحرك ولا يتكلم ولا يبكي ولا يفكِّر كأنَّه لا شيء، وإخوته وأخواته مِن حوله يضطربون ويلعبون، لا يحفلون به ولا يلتفت هو إليهم.

وقرُبت المغرب، وإذا هو يُدعى ليجيب أباه، فخرج خزيان متعثرًا حتى انتهى إلى المنظرة، فلم يسأله أبوه عن شيء، وإنما ابتدره سيِّدنا بهذا السؤال: ألم تقرأ عليَّ اليوم الأجزاء الستة من القرآن؟ قال: بلى. قال: ألم تقرأ عليَّ أمس سورة سبأ؟ قال: بلى. قال: فما بالك لم تستطع أن تقرأها اليوم؟ فلم يجب، قال سيِّدنا: فاقرأ سورة سبأ، فلم يفتح الله عليه منها بحرف، قال أبوه: فاقرأ السَّجْدة، فلم يحسن شيئًا. هنا اشتد غضب الشيخ، ولكن على سيِّدنا لا على الصبيِّ، قال: وإذن فهو يذهب إلى الكتَّاب لا ليقرأ ولا ليحفظ، ولا لتُعنَى به أو تلتفت إليه، وإنما هو لعبٌ وعبثٌ! ولقد عاد اليوم حافيًا، وزعم أنه نسي نعليه في الكتَّاب، وما أظن عنايتك بحفظه للقرآن، إلا كعنايتك بمشيه حافيًا أو ناعلًا!

قال سيِّدنا: أقسم بالله العظيم ثلاثًا ما أهملته يومًا، ولولا أني خرجت اليوم من الكتَّاب قبل انصراف الصبيان، لما رجع حافيًا، وإنه ليقرأ عليَّ القرآن مرَّة في كلِّ أسبوع: ستة أجزاء في كل يوم، أسمعها منهُ متى وصلتُ في الصباح. قال الشيخ: لا أصدِّق من هذا شيئًا. قال سيِّدنا: امرأتي طالق ثلاثًا ما كذَبْتُكَ قطُّ، وما أنا بكاذبٍ الآن، وإني لأسَمِّع له القرآن مرَّة في كل أسبوع. قال الشيخ: لا أصدِّق. قال سيِّدنا: أفتظن أن ما تدفع إليَّ في كل شهر أحبُّ إليَّ من امرأتي؟ أم تظن أنِّي في سبيل ما تدفع إليَّ أستحل الحرام، وأعيش مع امرأةٍ طلَّقتها ثلاثًا بين يديك؟ قال الشيخ: ذلك شيء لا شأن لي به، ولكن هذا الصبي لن يذهب إلى الكتَّاب منذ غد. ثم نهض فانصرف، ونهض سيِّدنا فانصرف كئيبًا محزونًا، وظلَّ صاحبنا في مكانه لا يفكِّر في القرآن ولا فيما كان، وإنما يفكِّر في مقدرة سيِّدنا على الكذب، وفي هذا الطلاق المثلَّث الذي ألقاه كما يُلقِي سيجارته متى فرغ من تدخينها!

ولم يظهر الصبيُّ في هذه الليلة على المائدة، ومكث ثلاثة أيام يتجنَّب مجلس أبيه ويتجنَّب المائدة، حتى إذا كان اليوم الرابع دخل أبوه عليه في المطبخ حيث كان يحبُّ أن ينزوي إلى جانب الفرن؛ فما زال يكلمه في دعابة وعطف ورفق، حتى أنس الصبيُّ إليه، وانطلق وجهه بعد عبوسه. وأخذه أبوه بيده فأجلسه مكانه من المائدة، وعُنى به أثناء الغداء عنايةً خاصة، حتى إذا فرغ الصبي من طعامه ونهض لينصرف، قال أبوه هذه الجملة في مزاحٍ قاسٍ لم ينْسَهُ قط؛ لأنه أضحك منه إخوته جميعًا، ولأنهم حفِظوها له، وأخذوا يغيظونه بها من حين إلى حين، قال له: «أحفظت القرآن؟»

١  لم يرعه: لم يفزعه ولم يخفه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤