الفصل الثالث عشر

وكيف لا يبتهج وقد أحسَّ منذ اليوم الأوَّل أنه ارتفع درجات؛ أصبح «سيِّدنا» لا يستطيع أن يُشرف على حفظه للألفية، ولا أن يُقرئه إيَّاها، بل ضاق الكتَّاب كله بالألفيّة، وكُلِّف الصبيُّ أن يذهب في كل يوم إلى المحكمة الشرعية؛ ليقرأ على القاضي ما يريد أن يحفظه من الألفيَّة. القاضي عالم من علماء الأزهر، أكبر من أخيه الأزهريِّ، وإن كان أبوه لا يؤمن بذلك، ولا يرى أن القاضي يُكافئ ابنه، هو على كل حال عالم من علماء الأزهر، وهو قاضي الشرع — بقاف ضخمة وراء مفخمة — وهو في المحكمة لا في الكتَّاب، وهو يجلس على دكة مرتفعة، وقد وُضِعَت عليها الطنافس والوسائد، لا تقاس إليها دكة سيِّدنا، وليس حولها نعالٌ مرقَّعةٌ، وعلى بابه رجلان يقومان مقام الحاجب، ويسمِّيهما الناس هذا الاسم البديع، الذي لم يكن يخلو من هيبة: «الرُّسُل».

نعم، كان يجب على الصبي أن يذهب إلى المحكمة في كل صباح، فيقرأ على القاضي بابًا من أبواب الألفية، وكم كان القاضي يحسن القراءة! وكم كان يملأ فمه بالقاف والراء! وكم كان صوتُه يتهدَّج١ بقول ابن مالك:
كلامُنا لفظٌ مفيدٌ كَاسْتَقِمْ
واسْمٌ وفِعلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الكلمْ
وَاحِدُه كلمةٌ والقوْلُ عَم
وكِلْمةٌ بها كلامٌ قد يُؤَمْ

ولقدِ استطاع القاضي أن يُؤثِّر في نفس الصبي، ويملأه تواضعًا حين قرأ هذه الأبيات:

وتَقتَضِي رِضًا بغير سُخطٍ
فائقةً ألفيَّةَ ابنِ مُعطي
وهو بِسَبْقٍ حائزٌ تفضيلا
مُستوجِبٌ ثنائيَ الجميلا
واللهُ يقضي بهباتٍ وافرةْ
لِي ولهُ في درجاتِ الآخِرَةْ

قرأ القاضي هذه الأبيات بصوت يحطِمه البكاء حَطمًا، ثم قال للصبي: من تواضع لله رفعه، أتفهم هذه الأبيات؟ قال الصبي: لا. قال القاضي: إن المؤلف رحمه الله تعالى، عندما بدأ في نظم ألفيته اغترَّ وأخذه الكبر فقال: «فائقة ألفية ابن معطي»، فلما كان الليل رأى فيما يرى النائم أن ابن معطٍ قد أقبل يعاتبه عتابًا شديدًا، فلمَّا أفاق من نومه أصلح من هذا الغرور وقال: «وهو بسبق حائز تفضيلا.»

وكم كان الشيخ مبتهجًا فَرِحًا حين عاد إليه الصبي عصر ذلك اليوم؛ فقصَّ عليه ما سمع من القاضي، وقرأ عليه الأبيات الأولى من الألفية! فكان يقطع هذه الأبيات بهذه الكلمة التي يعبر بها الناس عن الاستحسان: «الله! الله!»

على أنَّ لكل شيء حدًّا، فقد مضى صاحبنا في حفظ الألفية فرِحًا مبتهجًا حتى انتهى إلى باب المبتدأ، ثم فترت همته، وكان أبوه يسأله عصر كلِّ يوم: هل ذهبت إلى المحكمة؟ فيجيب: نعم.

– فكم حفظت؟ فيقرأ له ما حفظ.

ولكن الأمر ثقل عليه منذ باب المبتدأ، فأخذ يحفظ ويذهب إلى المحكمة متثاقلًا متباطئًا، حتى وصل إلى باب المفعول المُطلق، ثم لم يستطع أن يتقدَّم خُطوةً قصيرةً ولا طويلةً، ولبث يذهب إلى المحكمة في كلِّ يوم، ويقرأ على القاضي فصلًا من فصول الألفية، حتى إذا عاد إلى الكتَّاب ألقى الألفية في ناحية، وانصرف إلى عبثه ولعبه، وإلى قراءة القصص والأحاديث.

فإذا كان العصر وسأله أبوه: هل ذهبتَ إلى المحكمة؟

أجاب: نعم.

– وكم حفظت من بيت؟

أجاب: عشرين.

– من أيِّ باب؟

– من باب الإضافة، أو من باب النعت، أو من باب جمع التكسير.

فإذا قال له: اقرأ عليَّ ما حفظت، قرأ عليه عشرين بيتًا من المائتين الأوليين، مرَّةً من المعرب والمبنيِّ، وأخرى من النكرة والمعرفة، وثالثة من المبتدأ والخبر، والشيخ لا يفهم شيئًا، ولا يلاحظ أن ابنه يخدعه؛ وإنما يكتفي بأن يسمع كلامًا منظومًا، وهو مطمئن إلى القاضي. ومن غريب الأمر أن الشيخ لم يفكر مرة واحدة في أن يفتح الألفية، ويقابل على الصبيِّ وهو يقرأ، ولو قد فعل يومًا من الأيام، لكانت للصبي قصة كقصته مع سورة الشعراء، أو سبأ، أو فاطر.

على أنَّ الصبيَّ تعرَّض لهذا الخطر مرَّةً، ولولا أن أمه شَفَعتْ فيه لكان له مع أبيه موقف مشهود.

كان له أخ يختلف إلى المدارس المدنية، فعاد من القاهرة ليقضي فصلَ الصيف، واتفق أنه حضر هذا الامتحان اليومي أيامًا متصلة؛ فسمع الشيخَ يسأل الصبيَّ: أيَّ بابٍ قرأت؟ فيجيب الصبيُّ: باب العطف، مثلًا، فإذا طلب إليه أن يعيد ما قرأ، أعاد عليه باب العَلَم أو باب الصِّلة والموصول.

سكت الشاب في أول يوم، وفي اليوم الذي يليه، فلما كثر ذلك انتظر حتى انصرف الشيخ، وقال للصبيِّ أمام أمه: إنك تخدع أباك وتكذِب عليه، وتلعب في الكتَّاب، ولا تحفظ من الألفية شيئًا. قال الصبي: إنك كاذب! وما أنت وذاك؟ وإنما الألفية للأزهريين لا لأبناء المدارس! وسلْ القاضي يُنبئْكَ بأني أذهب إلى المحكمة في كل يوم. قال الشاب: أيَّ باب حفظتَ اليوم؟ قال الصبي: باب كذا. قال الشاب: ولكنك لم تقرأ هذا الباب على أبيك، وإنما قرأتَ عليه باب كذا، وهاتِ نسخة الألفية أمتحنك فيها! بُهت الصبي وظهر عليه الوجوم، وهمَّ الشابُّ أن يقصَّ القصة على الشيخ، ولكنَّ أمه توسَّلت إليه، وكان الشاب رفيقًا بأمِّه رءوفًا بأخيه، فسكت. وظلَّ الشيخ على جهله حتى عاد الأزهريُّ، فلمَّا عاد امتحن الصبيَّ، وما هي إلا أن عرف جليَّة الأمر، فلم يغضب ولم يُنذر ولم يُخبر الشيخَ، وإنما أمر الصبي أن ينقطع عن الكُتَّاب والمحكمة، وأحفظه الألفيَّة كلها في عشرة أيام.

١  تهدَّج صوته: تقطَّع في ارتعاش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤