الفصل الرابع عشر

للعلم في القرى ومدن الأقاليم جلالٌ ليس له مثلُه في العاصمة ولا في بيئاتها العلمية المختلفة، وليس في هذا شيء من العجب ولا من الغرابة، وإنما هو قانون العرض والطلب، يجري على العلم كما يجري على غيره مما يباع ويشترى. فبينما يروح العلماء ويغدون في القاهرة لا يحفل بهم أحد، أو لا يكاد يحفل بهم أحد، وبينما يقول العلماء فيكثرون في القول، ويتصرَّفون في فنونه، دون أن يلتفت إليهم أحد غير تلاميذهم في القاهرة، ترى علماء الريف، وأشياخ القرى ومدن الأقاليم، يغدون ويروحون في جلال ومهابة، ويقولون فيستمع لهم الناس مع شيء من الإكبار مؤثِّر جذَّاب، وكان صاحبنا متأثرًا بنفسية الريف، يكبر العلماء كما يكبرهم الريفيُّون، ويكاد يؤمن بأنهم فطروا١ من طينة نقية ممتازة، غير الطينة التي فُطر منها الناسُ جميعًا.

وكان يسمع لهم وهم يتكلَّمون، فيأخذه شيء من الإعجاب والدَّهَش، حاول أن يجد مثلَه في القاهرة أمام كبار العلماء، وجِلَّة الشيوخ فلم يُوَفَّق.

كان علماء المدينة ثلاثةً أو أربعة؛ قد تقسَّموا فيما بينهم إعجابَ الناس ومودَّتهم، فأمَّا أحدهم فكان كاتبًا في المحكمة الشرعية، قصيرًا ضخمًا، غليظ الصوت جَهْوَريَّه، يمتلئ شِدقُه بالألفاظ حين يتكلم، فتخرج إليك هذه الألفاظ ضخمة كصاحبها، غليظة كصاحبها، وتصدمك معانيها كما تصدمك مقاطعها. وكان هذا الشيخ من الذين لم يُفلحوا في الأزهر؛ قضى فيه ما شاء أن يقضي من السنين، فلم يُوفق للعالِميَّة ولا للقضاء، فقَنِع بمنصب الكاتب في المحكمة، على حين كان أخوه قاضيًا ممتازًا، قد جُعِل إليه قضاء أحد الأقاليم. ولم يكن هذا الشيخ يستطيع أن يجلس في مجلس إلا فخر بأخيه، وذم القاضي الذي هو معه. كان حنفيَّ المذهب، وكان أتباع أبي حنيفة في المدينة قليلين، أو لم يكن لأبي حنيفة في المدينة أتباع؛ فكان ذلك يغيظه ويحنقه على خصومه العلماء الآخرين، الذين كانوا يتبعون الشافعيَّ أو مالكًا، ويجدون في أهل المدينة صدًى لعلمهم، وطلابًا للفتوى عندهم، فكان لا يدع فرصة إلا مجَّد فيها فقه أبي حنيفة، وغضَّ فيها من فقه مالكٍ والشافعيِّ. وأهل الريف مَكَرَةٌ أذكياء؛ فلم يكن يخفى عليهم أن الشيخ إنما يقول ما يقول، ويأتي ما يأتي من الأمر، متأثرًا بالحقد والمَوْجِدة،٢ فكانوا يعطفون عليه، ويضحكون منه، وكانت المنافسة شديدة عنيفة بين هذا الشيخ وبين الفتى الأزهريِّ، كان الفتى الأزهريُّ يُنتخب خليفةً في كل سنة، فغاظه أن يُنتخب هذا الفتى خليفة دونه، ولما تحدَّث الناس أن الفتى سيُلقي خطبة الجمعة سمع الشيخ هذا الحديث ولم يقل شيئًا، حتى إذا كان يوم الجمعة وامتلأ المسجد بالناس؛ وأقبل الفتى يريد أن يصعد المنبر، نهض الشيخ حتى انتهى إلى الإمام، وقال في صوت سمعه الناس: إن هذا الشاب حديث السن، وما ينبغي له أن يصعد المنبر ولا أن يخطب، ولا أن يصلِّيَ بالناس وفيهم الشيوخ وأصحاب الأسنان، ولئن خُلِّيت بينه وبين المنبر والصلاة لأنصرفنَّ. ثم التفت إلى الناس وقال: ومن كان منكم حريصًا على ألَّا تبطل صلاته فليتبعني. سمع الناس هذا فاضطربوا، وكادت تقع بينهم الفتنة لولا أن نهض الإمام فَخَطَبَهم وصلَّى بهم، وحيل بين الفتى والمنبر هذا العام. ومع ذلك فقد كان الفتى أجهد نفسه في حفظ الخُطبة واستعدَّ لهذا الموقف أيامًا متصلة، وتلا الخُطبة على أبيه غير مرة، وكان أبوه ينتظر هذه الساعة أشدَّ ما يكون إليها شوقًا، وأعظم ما يكون بها ابتهاجًا، وكانت أمه مشفقة تخاف عليه العين، فما كاد يخرج إلى المسجد ذلك اليوم، حتى نهضت إلى جَمْرٍ وضعته في إناء وأخذت تُلقي فيه ضروبًا من البخور، وتطوف به البيت حُجرةً حُجرةً، تقف في كل حجرةٍ لحظاتٍ وتهمهم بكلمات، وظلَّت كذلك حتى عاد ابنها، فإذا هي تلقاه من وراء الباب مبخرة مهمهمة، وإذا الشيخ مُغضَب يلعن هذا الرجل الذي أكل الحسدُ قلبَه، فحال بين ابنه وبين المنبر والصلاة.
figure

وكان في المدينة عالم آخر شافعيٌّ، كان إمام المسجد، وصاحب الخطبة والصلاة، وكان معروفا بالتقى والورع، يذهب الناس في إكباره وإجلاله إلى حدٍّ يشبه التقديس؛ كانوا يتبركون به، ويلتمسون عنده شفاء مرضاهم وقضاء حاجاتهم. وكأنه كان يرى في نفسه شيئًا من الوَلاية، وظلَّ أهل المدينة بعد موته سنين يذكرونه بالخير، ويتحدثون مقتنعين بأنه عندما أنزل في قبره قال بصوت سمعه المشيِّعون جميعًا: اللهم اجعله منزلًا مباركًا، وكانوا يتحدثون بما رأوا فيما يرى النائم من حظِّ هذا الرجل عند الله، وما أُعِدَّ له في الجنة من نعيم.

وشيخ ثالث كان في المدينة، وكان مالكيَّ المذهب، ولم يكن ينقطع للعلم ولا يتَّخذه حرفة، وإنما كان يعمل في الأرض، ويتَّجر، ويختلف إلى المسجد فيؤدى الخمس، ويجلس إلى الناس من حين إلى حين، فيقرأ لهم الحديث، ويُفقِّههم في الدين متواضعًا غير تيَّاه ولا فخور، ولم يكن يحفِل به إلا الأقلُّون عددًا.

هؤلاء هم العلماء، ولكنَّ علماء آخرين كانوا مُنبثِّين٣ في هذه المدينة وقراها وريفها، ولم يكونوا أقلَّ من هؤلاء العلماء الرسميين تأثيرًا في دهماء الناس وتسلُّطًا على عقولهم؛ منهم هذا الحاج … الخياط الذي كان دكَّانه يكاد يقابل الكتَّاب، والذي كان الناس مجمعين على وصفه بالبخل والشحِّ، والذي كان متَّصلًا بشيخٍ من كبار أهل الطرق، والذي كان يزدري٤ العلماء جميعًا؛ لأنهم يأخذون علمهم من الكتب لا عن الشيوخ، والذي كان يرى أن العلم الصحيح إنما هو العلم اللَّدُنِّيُّ؛ الذي يهبط على قلبك من عند الله دون أن تحتاج إلى كتاب، بل دون أن تقرأ أو تكتب.
ومنهم هذا الشيخ … الذي كان في أول أمره حمَّارًا ينقُل للناس بضائعهم وأمتعتهم، ثم أصبح تاجرًا، واقتصرت حُمُرُه على نقل تجارته، والذي كان الناس مجمعين على أنه أكل أموال اليتامَى، وأثرَى٥ على حساب الضعفاء، والذي كان يكثر من ترديد هذه الآية وتفسيرها: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا، والذي كان يكره الصلاة في المسجد الجامع؛ لأنه كان يكره الإمام ومن إليه من العلماء، ويؤثر الصلاة في جامع صغير لا قيمة له ولا مكانة.

ومنهم هذا الشيخ … الذي لم يكن يقرأ ولا يكتب ولا يحسن قراءة الفاتحة، ولكنَّه كان شاذليًّا من أصحاب الطريق، كان يجمع الناس إلى الذِّكر، ويُفتيهم في أمور دينهم ودنياهم.

ثم منهم الفقهاء الذين كانوا يقرءون القرآن ويُقرئونه للناس، والذين كانوا يُميِّزون أنفسهم من العلماء ويتسَمَّوْن: «حملة كتاب الله»، والذين كانوا يتَّصلون بدهماء الناس والنساء منهم خاصة. كانت جمهرتهم من المكفوفين، فكانوا يدخلون البيوت يتلون فيها القرآن، وكان النساء يتحدثنَّ إليهم، ويَستفتينهم في أمور الصوم والصلاة وما إلى ذلك من أمورهنَّ. وكان لهؤلاء الفقهاء علم مخالف كلَّ المخالفة لعلم العلماء، الذين يأخذون علمهم من الكتب، والذين بينهم وبين الأزهر سبب قويٌ أو ضعيف، وكان علمهم مخالفًا أيضًا لعلم أصحاب الطرق وأهل العلم اللدنِّيِّ، كانوا يأخذون علمهم من القرآن مباشرة، يفهمونه كما يستطيعون، لا كما هو ولا كما ينبغي أن يفهم. يفهمونه كما كان يفهمه سيِّدنا، وكان من أذكى الفقهاء، وأشدهم علمًا وأقدرهم على التأويل، سأله الصبيُّ ذات يوم: ما معنى قول الله تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا؟ فأجاب هادئًا مطمئنًّا: خلقكم كالثيران لا تعقلون شيئًا! أو يفهمونه كما يفهمه جَدُّ هذا الصبي نفسِه، وكان من أحفظ الناس للقرآن، وأبرعهم في فهمه وتفسيره وتأويله، سأله حفيده ذات يوم عن قول الله تعالي: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، فقال: «على حرف دكَّة، على حرف مصطبة … فإن أصابه خيرٌ فهو مطمئن في مكانه، وإن أصابه شر انكفأ على وجهه.»

وكان صبينا يختلف٦ بين هؤلاء العلماء جميعًا، ويأخذ عنهم جميعًا، حتى اجتمع له من ذلك مقدار من العلم ضخم مختلف مضطرب متناقض، ما أحسب إلا أنه عمل عملًا غير قليل في تكوين عقله الذي لم يخل من اضطراب واختلاف وتناقض.
١  فطروا: خلقوا.
٢  الموجدة: الغضب.
٣  منبثين: منتشرين.
٤  ازدراه: احتقره واستخفَّ به.
٥  أثرى: كثُر ماله.
٦  يختلف هنا: يتردد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤