الفصل الخامس عشر

وشيوخ الطريق، وما شيوخ الطريق؟! كانوا كثيرين مُنْبَثِّين١ في أقطار الأرض، لا تكاد تخلو منهم المدينة أسبوعًا، وكانت مذاهبهم مختلفة، وكانوا قد تقسَّموا الناس فيما بينهم فجعلوهم شيعًا، وفرَّقوا أهواءهم تفريقًا عظيمًا، وكانت المنافسة حادةً في الإقليم بين أسرتين من أصحاب الطريق، لإحداهما أعلاه وللأخرى أسفله.
وإذا كان أهل الإقليم ينتقلون ولا يأبَون على أنفسهم الهجرة من قريةٍ إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة داخل الإقليم، فقد كان يتَّفق أن ينزل أتباع إحدى الأسرتين حيث تتسلَّط الأسرة الأخرى، وكان زعماء الأسرتين يتنقلون في الإقليم يزورون أتباعهم وأشياعهم، ولله ما كان يحدث من الخصومات يوم يهبِط صاحبُ العالية إلى السافلة، أو يصعد صاحب السافلة إلى العالية! وكان أبو الصبيِّ من أتباع صاحب العالية، أخذ عنه العهد، وأخذ عنه أبوه من قبل. وكانت أم الصبي من أتباع صاحب العالية أيضًا، بل كان أبوها من أنصاره وحَواريِّيه٢ المقربين إليه، ومات صاحب العالية وخلفه على الطريق ابنه الحاج … وكان أنشط من أبيه، وأقدر على الكيد واللؤم، وأنهض للخصومة، كان أقرب من أبيه إلى الدنيا، وأبعد من أبيه عن الدين.
وكان أبو الصبي قد هبط إلى السافلة واستقرَّ فيها، فكانت لصاحب العالية عادة أن يزوره مرَّة في كلِّ سنة، وكان إذا أقبل لم يُقبل وحده، ولم يقبل في نفرٍ قليل، وإنما أقبل في جيش ضخم؛ إن لم يبلغ المائة فليس ينحطُّ عنها إلا قليلًا. ولم يكن يتَّخذ قُطُرَ السكة الحديدية ولا سفن النيل، وإنما كان يتَّخذ الجياد والبغال والحمير، يسير ومِن حوله أصحابه فيمرون بالقرى والدساكر، ينزلون ويرحلون في أبَّهة وضخامة، منتصرين حيث لا سلطان إلا لهم، مُتَحَدِّين٣ حيث لخصومهم شيء من القوة. وكانوا إذا زاروا أسرة الصبيِّ أقبلوا حتى ينزلوا، فإذا الشارع ممتلئ بهم وبخيلهم وبغالهم وحُمُرهم، قد أخذوه من القناة إلى أقصاه الجنوبيِّ، وإذا الشَّاءُ تذبح، وإذا السُّمُط٤ ممدودَةٌ في الشارع، وإذا هم إلى طعامهم في شرَه لا يعدِله شرَه، والشيخ جالس في المنظرة ومن حوله أصفياؤه وأولياؤه، وبين يديه صاحب البيت وأخصَّاؤه يأتمرون أمرَه،٥ فإذا فرغوا من الغداء انصرفوا عنه، فنام حيث هو، ثم نهض فتوضأ. فانظر إلى الناس يَستبِقون ويختصمون أيُّهم يصب عليه الماء! فإذا فرغ فانظر إليهم يستبقون ويختصمون أيهم يصيب من وَضوء٦ الشيخ جَرْعةً! والشيخ عنهم في شغل، يصلِّي فيطيل الصلاة، ويدعو فيطيل الدعاء، حتى إذا فرغ من هذا كلِّه جلس للناس وهم يتقاطرون عليه؛ منهم من يقبِّل يده وينصرف خاشعًا، ومنهم من يتحدَّث إليه لحظةً أو لحظاتٍ، ومنهم من يسأله حاجة، والشيخ يجيب أولئك وهؤلاء بألفاظ غريبة غامضة، يذهبون في فهمها وتأويلها المذاهب.

أُدخل عليه الصبيُّ، فمسح رأسه وتلا قول الله تعالي: وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا، من ذلك اليوم اقتنع أبو الصبي بأن سيكون لابنه شأن، فإذا صُلِّيَت المغرب مُدَّت الموائد وأكل الناس، ثم تُصلَّي العشاء، ثم يُنصَب المجلس.

ونَصْبُ المجلس عبارة عن اجتماع الناس إلى حلْقة الذكر، يذكرون الله قاعدين ساكنين، ثم تتحرك رءوسهم وترتفع أصواتهم قليلًا، ثم تتحرَّك أنصافهم وترتفع أصواتهم قليلًا، ثم تنبث في أجسامهم رِعدة فإذا هم جميعًا وقوف؛ قد دُفعوا في الهواء كأنما حركهم لولبٌ، وقد انبثَّ في الحلقة شيوخ يُنشدون شعر ابن الفارض وما يُشبهه من الشعر. وكان لهذا الشيخ خاصة كَلَفٌ بقصيدة معروفة، فيها ذكر الإسراء والمعراج، أولها:

منْ مكَّةَ والبيتِ الأمْجَدْ
لِلْقُدْسِ سَرَي ليلًا أحْمَدْ

كان الشيوخ يرتِّلونها ترتيلًا، وكان الذاكرون يحركون أجسامهم على هذا الترتيل، ينحنون ويستقيمون كأنما يرقِّصهم هؤلاء الشيوخ ترقيصًا.

ومهما يَنْسَ الصبيُّ فلن ينسى ليلةً غلط فيها أحد المنشدين فوضع لفظًا مكان لفظ من القصيدة، وإذا الشيخ قد ثار وفار، وأرغى وأَزْبَد،٧ وصاح بملء صوته: يا بَني الكلاب! لعن الله آباءكم وآباء آبائكم وآباء آباء أبائكم إلى آدم! أتريدون أن تُخربوا بيت الرجل!

ومهما ينسَ الصبيُّ فلن ينسى تأثير هذه الغضبة في نفوس الذاكرين، وفي نفوس الناس من حولهم، وكأن الناس قد اقتنعوا بأن الغلط في هذه القصيدة مصدر شؤم لا يشبهه شؤم، وأظهر أبو الصبيِّ تأثيرًا وفزعًا، ثم اطمئنانًا وهدوءًا. فلما انصرف الشيخ من الغد وتذاكرتِ الأسرة ما كان من أمره، وما كان من قصَّته مع الذاكرين والمنشدين، ضحك صاحب البيت ضحكة لم يشكَّ الصبي بعدها في أن إيمان أبيه بهذا الشيخ لم يكن خالصًا من الشك والازدراء … نعم من الشك والازدراء! فقد كان طمع الشيخ وحرصه أظهر من أن ينخدع بهما من له حظٌّ من أناة وتفكير.

وكان من أشد الناس مقتًا للشيخ وسخطًا عليه أمُّ الصبي، كانت تكره زيارته، وتستثقل ظلَّه، وتؤدي ما تؤدي، وتُعِدُّ ما تُعِدُّ وهي كارهة ساخطة، لا تكاد تُمسك لسانها إلا في مشقة وعناء؛ ذلك لأن زيارة الشيخ كانت ثقيلة على هذه الأسرة التي كانت تعيش من سَعة، ولكنها كانت فقيرة على كل حال.

كانت زيارة الشيخ تستهلك كثيرًا من القمح والسمن والعسل وما إلى ذلك، وكانت تكلِّف صاحب البيت الاقتراض لشراء ما لا بُدَّ منه من الضأن والمعز، وكان الشيخ لا يُلِمُّ بهذه الأسرة إلا ارتحل من غده وقد أخذ شيئًا راقه وأعجبه؛ يأخذ في هذه المرة بساطًا، وفي هذه شالًا من الكشمير، وعلى هذا النحو.

كانت زيارة هذا الشيخ وأصحابه شيئًا ترغب فيه الأسرة رغبة شديدة، لأنه يمكِّنها من الفخر ورفع الرأس، ومناوأة الأشباه والنظائر، وتكرهه كرهًا شديدًا لأنه يكلفها ما يكلفها من المال والمشقة. كانت شرًّا لا بدَّ منه جرت به العادة، وصادف هوًى في الناس. وكان اتصال الأسرة بهذا البيت من بيوت الطريق قويًّا متينًا، ترك فيها آثارًا باقية من الأخبار والقصص، وأحاديث الكرامات والمعجزا. وكانت أم الصبي وأبوه يجدان لذةً في أن يتحدَّثا إلى أبنائهما بهذه الأخبار والأحاديث، ولم تكن أمُّ الصبي تدع فرصة إلا قصَّت فيها هذه القصة: «حج أبي ومعه جَدَّتي مع الشيخ خالد مرَّة، وكان الشيخ قد حجَّ ثلاث مرات تبعه فيها أبي، واستصحب أمَّه في هذه المرة، فلما فرغوا من الحج وانصرفوا إلى المدينة، وقعت الشيخة في بعض الطريق من الرَّحْل،٨ فانحطم ظهرها انحطامًا، وعجزت عن المشي والحركة، وأخذ ابنها يحملها وينقُلُها من مكان إلى مكان، ويجد في ذلك من المشقة والعناء ما شكاه إلى الشيخ ذات يوم، فقال له الشيخ: ألست تزعم أنها شريفة من نسل الحسن بن عليٍّ؟ قال: بلى، قال: فهي ذاهبة إلى جَدِّها، فإذا انتهيت بها إلى المسجد النبويِّ فضعها في ناحية منه، وخلِّ بينها وبين جَدِّها يصنع بها ما يشاء. وكذلك فعل الرجل؛ وضع أمَّه في ناحية من نواحي المسجد، وقال لها في لغة الفلاح الجافية يملؤها مع جفوتها الحب والإشفاق: أنتِ وَجَدُّك، فليس لي بكما شأن. ثم تركها وتَبِع شيخه يريد أن يطوف بقبر النبيِّ. قال الرجل: فوالله ما خطوت خُطُواتٍ حتى سمعت أمي تناديني، فالتفتُّ فإذا هي قائمة تسعى، وأَبَيْتُ أن أعود إليها، فإذا هي تعدو من ورائي عَدْوًا، وإذا هي تسبقني إلى الشيخ وتطوف مع الطائفين.»

وكان أبو الصبي لا يَدَعُ فرصةً إلا ذكر فيها عن الشيخ هذه القصة: ذكر أمامه أن الغزاليَّ قال في بعض كتبه: إن النبيَّ لا يمكن أن يُرى فيما يرى النائم، فغضب الشيخ وقال: والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي! لقد رأيته بعَيْنَيْ رأسي هذا راكبًا بغلته. وذكر له ذلك مرة أخرى فقال: والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي، لقد رأيته بِعَيْنَيْ رأسي هذا راكبًا ناقته، وكان أبو الصبيِّ يستنبط من ذلك أن الغزالي قد أخطأ، وأن عامة الناس يستطيعون أن يروا النبيَّ فيما يرى النائم، وأنَّ الأولياء والصالحين يستطيعون أن يَروْه وهم أيقاظ. وكان أبو الصبي يُثبت هذا بحديث يرويه كلَّما ذكر هذه القصة، وهو: «من رآني في المنام فقد رآني حقًّا فإن الشيطان لا يتمثَّل بي.»

وعلى هذا النحو حفظ الصبيُّ ألوانًا من أخبار الكرامات والمعجزات وأسرار الصوفية، وكان إذا أراد أن يتحدث بشيء من ذلك إلى أترابه ورفاقه في الكُتَّاب قصوا عليه أمثاله؛ يضيفونه إلى صاحب السافلة ويؤمنون به إيمانًا شديدًا.

كانت لأهل الريف؛ شُيوخِهم وشُبَّانِهم وصبيانِهم ونسائِهم عقليةٌ خاصة فيها سذاجة وتصوَّف وغفلة، وكان أكبر الأثر في تكوين هذه العقلية لأهل الطريق.

١  أي منتشرين في نواحي الأرض.
٢  الحَواريُّ: الناصر.
٣  التحدي: طلب المباراة للغلبة.
٤  السُّمُط: جمع سِماط بالكسر، وهو ما يُبسط ليُوضع الطعام عليه.
٥  ائتمر أمره: امتثله.
٦  الوَضوء بفتح الواو: الماء الذي يُتوضأ منه.
٧  أرغى وأزبد: ضجَّ غضبًا، وتَهدَّد وتَوعَّد.
٨  الرحل للبعير كالسرج للفرس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤