الفصل السابع عشر

وأراد الله أن يَشْقَي «سيِّدنا» بتلميذه شقاءً غيرَ قليل؛ فلم تَكْفِه تلك الحوادث التي كانت تحدث من حين إلى حين عندما كان الشيخ يمتحن الصبيَّ، ولم تكفه هذه النكبات المتصلة التي نشأت عن عناية الصبي بحفظ الألفية وغيرها من المتون، وجعلت الصبي ثقيلًا سمجًا يتعالى على أترابه وعلى سيده، ويرى لنفسه مكانة العلماء، ويَعصي أوامر العريف، لم يكفه هذا كله، بل كانت نكبة أخرى لم يكن الرجل ينتظرها حقًّا، وكانت أشد عليه من كل النكبات الأخرى؛ لأنها مسَّته في صناعته، ذلك أن رجلًا من أهل القاهرة هبط إلى المدينة في يوم من الأيام على أنه مفتش للطريق الزراعية، وكان هذا الرجل في متوسط عمره، وكان «مطربشًا» يتكلم الفرنسية، وكان يقول إنه تخرج في مدرسة الفنون والصنائع، وكان خفيف الظل جذابًا، فما لبث أن أحبه الناس ودَعوْه إلى دورهم ومجالسهم، وما لبث أن اتصلت المودة بينه وبين أبي الصبي.

وكان قد رتب سيِّدنا في بيته يقرأ له سورة من القرآن في كل يوم، وجعل له عشرة قروش في كل شهر، وهو الأجر المرتفع الذي كان يدفعه وجوه الناس، فكان سيِّدنا محبًّا لهذا الرجل مثنيًا عليه. ولكن رمضان أقبل، وكان الناس يجتمعون في ليالي رمضان عند رجل من أهل المدينة وجيهٍ يعمل في التجارة، وكان سيِّدنا يقرأ القرآن عند هذا الرجل طوال الشهر، وكان الصبي يرافق سيِّدنا ويريحه من حين إلى حين بقراءة سورة أو جزءٍ مكانه، فقرأ ذات ليلة وسمعه هذا المفتش، فقال لأبيه: إن ابنك لشديد الحاجة إلى تجويد القرآن. قال الشيخ: سَيُجَوِّدُه متى ذهب إلى القاهرة على شيخ من شيوخ الأزهر. قال المفتش: فأنا أستطيع أن أجود له القرآن على قراءة حفصٍ، حتى إذا ذهب إلى الأزهر كان قد ألمَّ بأصول التجويد،١ وسهل عليه أن يفرغ للقراءات السبع أو العشْر أو الأربع عشْرة. قال الشيخ: وهل أنت من حملة القرآن؟ قال المفتش: ومن المُجَوِّدين، ولولا أني مشغول لاستطعت أن أقرئ ابنك القرآن على الروايات جميعًا، ولكني أحب أن أخصص له ساعة في كل يوم فأقرئه رواية حفص، وأدرِّس له أصول الفن، وأُعِدَّه بذلك للأزهر إعدادًا صحيحًا. قال القوم: وكيف لمطربشٍ يتكلم الفرنسية بحفظ القرآن ورواية القراءات؟ قال المفتش: أنا أزهريُّ تقدَّمت في دراسة العلوم الدينية إلى مدًى بعيدٍ، ثم انصرفت عنها إلى المدارس، فتخرَّجت في مدرسة الفنون والصنائع. قالوا: فاقرأ لنا شيئًا! فنزع الرجل نعليه وتربَّع ورتَّل لهم سورة هود ترتيلًا ما سمعوا مثله، فلا تسل عن إعجابهم به وإكبارهم إيَّاه، ولا تسل عمَّا أصاب سيِّدنا من الحزن والغيظ؛ فقد قضى الرجل ليلته كأنه مصعوق.٢
وأصبح الشيخ فأمر ابنه بأن يختلف٣ إلى بيت المفتش في كل يوم، وفرح الصبيُّ بهذا فرحًا شديدًا، فأعاده على أترابه في الكتَّاب وتحدَّث به الصبيان، ولا تسل عن مقدار ما كان يترك هذا الحديث في نفس سيِّدنا من الحزن؛ فقد نَهَرَ٤ الصبيَّ وأمره ألا يذكر اسم المفتش مرة في الكُتَّاب.

وذهب الصبيُّ إلى بيت المفتِّش، واتَّصل ذهابه إلى هذا البيت، وأقرأه المفتش «تُحْفَة الأطفال»، وشرح له أصول التجويد؛ علَّمه المدَّ والغُنَّ والإخفاء والإدغام وما يتصل بهذا كله. وكان الصبي معجبًا بهذا العلم، وكان يتحدث به إلى أترابه في الكتَّاب، وكان يبين لهم أن سيِّدنا لا يحسن المدَّ ولا يتقن الغنَّ، ولا يعرف الفرق بين المدِّ الكَلِميِّ والحَرْفيِّ، ولا بين المدِّ المثقَّل والمخفَّف، وكانت أصداء هذا كله تصل إلى سيِّدنا فتغمُّه وتحزنه وتخرجه أحيانًا عن طوره.

وأخذ الصبي يقرأ القرآن على المفتش من أوله، وأخذ المفتش يُعلِّمه مواضع الوقف والوصل، وأخذ الصبيُّ يقلِّد المفتش في ترتيله ويحاكي نَغَمه، وأخذ يقرأ القرآن على هذا النحو في الكتَّاب، وجعل أبوه يمتحنه، فإذا سمعه يقرأ على هذا النحو الجديد أُعْجب وطرب وأثنى على المفتِّش. وما كان شيء يغيظ سيِّدنا مثلما كان يغيظه هذا الثناء.

وقضى الصبيُّ سنةً كاملة يتردد على هذا البيت، ويقرأ القرآن على المفتش، حتى أتقن التجويد برواية حفص، وكاد يبدأ في رواية وَرْشٍ لولا أن حدثت حوادث وسافر الصبي إلى القاهرة.

أكان الصبي يحب الاختلاف إلى هذا البيت لأنه كان يعجب بالمفتش، ولأنه كان يحرص على إتقان القرآن وتجويده، وعلى أن يغيظ سيِّدنا ويظهر التفوق على أترابه؟ نعم! في الشهرين الأوَّلين من هذه السنة، فأمَّا بعد هذين الشهرين فقد كان يجذبه إلى بيت المفتش ويحببه فيه شيء آخر!

كان المفتش متوسط العمر قد بلغ الأربعين إن لم يكن قد جاوزها، وكان قد تزوَّج من فتاةٍ لم تبلغ السادسة عشرة، ولم يكن له ولد، ولم يكن يعمُر بيته الكبير إلا هذه الفتاة وجَدَّةٌ لها قد جاوزت الخمسين. فأما حين بدأ الصبي يختلف إلى هذه الدار فقد كان يذهب ويعود دون أن يلتفت إليه أحد غير المفتش، وما هي إلا أن كثر تردُّد الصبي حتى أخذت الفتاة تتحدث إليه وتسأله عن نفسه وعن أمه وعن إخوته وعن داره، وأخذ الصبي يجيبها مستحييًا، ثم متبسِّطًا، ثم مطمئنًّا. واتصلت بين هذه الفتاة وهذا الصبي مودةٌ ساذجةٌ كانت حلوةً في نفس الصبي لذيذة الموقع في قلبه، وكانت ثقيلةً على نفس هذه الشيخة، وكان المفتِّش يجهلها جهلًا تامًّا.

وأخذ الصبي يذهب إلى دار المفتش قبل الميعاد ليظفر بساعة أو بعض ساعة يتحدَّث فيها إلى هذه الفتاة، وأخذت الفتاة تنتظره، حتى إذا أقبل أخذته إلى غرفتها، فجلست وأجلسته وتحدَّثا. وما هي إلا أن استحال الحديث إلى لَعِبٍ — إلى لعبٍ كلعب الصبيان لا أكثر ولا أقل — ولكنه كان لعبًا لذيذًا. وقصَّ الصبيُّ هذا كله على أمه، فضحكت ورثت٥ للفتاة قائلة لأخت الصبيِّ: طفلةٌ زُوِّجت من هذا الشيخ لا تعرف أحدًا ولا يعرفها أحد، فهي ضيقة الصدر في حاجة إلى اللهو والعبث.

ومن ذلك اليوم سعت أم الصبيِّ في التعرُّف إلى هذه الفتاة، ودعتها إلى البيت وإلى أن تكثر التردُّد عليها.

١  ألمَّ بأصول التجويد: عرفها.
٢  مصعوق: أصابته صاعقة.
٣  يختلف هنا: يتردد.
٤  نهره: زجره.
٥  رثت للفتاة: رحمتها ورقت لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤