الفصل التاسع عشر
«أمَّا في هذه المرَّة فستذهب إلى القاهرة مع أخيك، وستصبح مُجاورًا، وستجتهد في طلب العلم. وأنا أرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضيًا وأراك من علماء الأزهر، قد جلست إلى أحد أعمدته ومن حولك حلْقة واسعة بعيدة المدى.»

وفي الحق أنه لم يفهم لماذا صدَّق وعد أبيه في هذه السنة؛ فقد أخبر الصبيَّ ذات يوم أنه مسافر بعد أيام. وأقبل يوم الخميس، فإذا الصبي يرى نفسه يتأهب للسفر حقًّا، وإذا هو يرى نفسَه في المحطة ولمَّا تشرق الشمس، وهو يرى نفسه جالسًا القرفصاء منكَّس الرأس كئيبًا محزونًا، ويسمع أكبر إخوته ينهره في لطفٍ قائلًا له: لاتنكِّس رأسك هكذا، ولا تأخذ هذا الوجه الحزين فتُحزن أخاك. ويسمع أباه يشجِّعه في لطف قائلًا: ماذا يحزنك؟ ألست رجلًا؟ ألست قادرًا على أن تفارق أمَّك؟ أم أنت تريد أن تلعب؟ ألم يكفك هذا اللعب الطويل؟!
شهد الله ما كان الصبيُّ حزينًا لفراق أمه، وما كان الصبيُّ حزينًا لأنه لن يلعب، إنما كان يذكر هذا الذي ينام هنالك من وراء النيل، كان يذكره، وكان يذكر أنه كثيرًا ما فكر في أنه سيكون معهما في القاهرة تلميذًا في مدرسة الطب. كان يذكر هذا كله فيحزن، ولكنه لم يقل شيئًا ولم يظهر حزنًا، وإنِّما تكلَّف الابتسام، ولو قد أرسل نفسه مع طبيعتها لبَكَى ولأبكى من حوله أباه وأخويه.
وانطلق القطار ومضت ساعات، ورأى صاحبنا نفسه في القاهرة بين جماعة من المجاورين قد أقبلوا إلى أخيه فَحَيَّوهُ، وأكلوا ما كان قد احتمله لهم من طعام.
انقضى هذا اليوم، وكان يومُ الجمعة، وإذا الصبيُّ يرى نفسه في الأزهر للصلاة، وإذا هو يسمع الخطيب شيخًا ضخم الصوت عاليَه، فخم الراءات والقافات، لا فرق بينه وبين خطيب المدينة إلا في هذا. فأمَّا الخُطبة فهي ما كان تعوَّد أن يسمع في المدينة. وأما الحديث فهو هو، وأما النعت فهو هو، وأما الصلاة فهي هي؛ ليست أطول من صلاة المدينة ولا أقصر.
وعاد الصبيُّ إلى بيته أو قل إلى حجرة أخيه، خائب الظن بعض الشيء، وسأله أخوه: مارأيك في تجويد القرآن ودرس القراءات؟ قال الصبيُّ: لست في حاجة إلى شيء من هذا؛ فأمَّا التجويد فأنا أتقنه، وأما القراءات فلست في حاجة إليها، وهل درست أنت القراءات؟ أليس يكفيني أن أكون مثلك؟ إنما أنا في حاجة إلى العلم، أريد أن أدرس الفقه والنحو والمنطق والتوحيد.
قال أخوه: حسبُك! يكفي أن تدرس الفقه والنحو في هذه السنة.
كان الصبيُّ إذن يعرف الشيخ، وكان سعيدًا بالذَّهاب إلى حلقته والاستماع له، وكم كان مبتهجًا حين خلع نعليه عند باب المسجد ومشى على الحصير ثم على الرخام ثم على هذا البساط الرقيق الذي فُرش به المسجد، وكم كان سعيدًا حين أخذ مكانه في الحلقة على هذا البساط إلى جانب عمود من الرخام، لمسه فأحب ملاسته ونعومته، وأطال التفكير في قول أبيه: «إني لأرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضيا وأراك صاحب عمود في الأزهر.» وفيما هو يفكر في هذا ويتمنى أن يمس أعمدة الأزهر ليرى أهي كأعمدة هذا المسجد، وللطلاب من حوله دَوِيٌّ غريبٌ، أحس أن هذا الدويَّ يخفت ثم ينقطع، وغمزه أخوه بيده قائلًا في صوت خافت: لقد أقبل الشيخ. اجتمعت شخصية الصبي كلها حينئذٍ في أذنيه وأنصت، ماذا يسمع؟ يسمع صوتًا خافتًا هادئًا رزينًا ملؤه شيء؛ قل: إنه الكِبر، أو قل: إنه الجلال، أو قل: إنه ما شئت، ولكنه شيء غريب لم يحبه الصبي، ولبث الصبيُّ دقائق لا يميز مما يقول الشيخ حرفًا، حتى إذا تعودت أذناه صوت الشيخ وصدى المكان سمع وتبيَّن وفهم، وقد أقسم لي بعد ذلك أنه احتقر العلم منذ ذلك اليوم؛ سمع الشيخ يقول: «ولو قال لها أنت طَلَاقٌ أو أنت ظَلَامٌ أو أنت طَلَالٌ أو أنت طَلَاةٌ، وقع الطلاق ولا عِبرة بتغيير اللفظ.» يقول ذلك متغنيًا به مرتلًا له ترتيلًا في صوت لا يخلو من حشرجة، ولكنَّ صاحبه يحتال أن يجعله عذبًا. ثم يختم هذا الغناء بهذه الكلمة التي أعادها طوال الدرس: «فاهم يا أدَع!» وأخذ الصبيُّ يسأل نفسه عن «الأَدَع» هذا ما هو؟ حتى إذا انصرف عن الدرس سأل أخاه: ما الأدع؟ فقهقه أخوه وقال: الأَدَعُ؛ الجدع في لغة الشيخ.
ومضى به أخوه بعد ذلك إلى الأزهر، فقدَّمه إلى أستاذه الذي علمه مبادئ الفقه والنحو سنة كاملة.