الفصل الرابع

كان من أوَّل أمره طُلعَةً١ لا يحفل بما يَلقى من الأمر في سبيل أن يستكشف ما لا يعلم، وكان ذلك يكلفه كثيرًا من الألم والعناء. ولكن حادثة واحدة حدَّت ميله إلى الاستطلاع، وملأت قلبه حياءً لم يُفارقه إلى الآن، كان جالسًا إلى العَشاء بين إخوته وأبيه، وكانت أمه كعادتها تشرف على حفلة الطعام، ترشد الخادم وترشد أخواتِه اللائي كنَّ يشاركن الخادم في القيام بما يحتاج إليه الطاعمون، وكان يأكل كما يأكل الناس، ولكن لأمرٍ ما خطر له خاطرٌ غريب! ما الذي يقع لو أنه أخذ اللُّقمة بكلتا يديه بدل أن يأخذها كعادته بيد واحدة؟ وما الذي يمنعه من هذه التجربة؟ لا شيء. وإذن فقد أخذ اللُّقمة بكلتا يديه وغمَسها من الطَّبَق المشترك ثم رفعها إلى فمه؛ فأما إِخوته فأغرقوا في الضَّحِك.٢ وأمَّا أمُّه فأجهشتْ٣ بالبكاء، وأما أبوه فقال في صوت هادئ حزين: ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بُنَيَّ … وأما هو فلم يعرف كيف قضى ليلته.

من ذاك الوقت تقيَّدت حركاته بشيء من الرزانة والإشفاق والحياء لا حدَّ له، ومن ذلك الوقت عرف لنفسه إرادةً قويَّة، ومن ذلك الوقت حَرَّم على نفسه ألوانًا من الطعام لم تُبح له إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين؛ حرَّم على نفسه الحساءَ والأرز، وكلَّ الألوان التي تُؤكل بالملاعق؛ لأنه كان يعرف أنه لا يُحْسِنُ اصطناع المِلْعقة، وكان يكره أن يضحك إخوته، أو تبكي أُمُّه، أو يُعَلِّمه أبوه في هدوء حزين.

هذه الحادثة أعانته على أن يفهم حقًّا ما يتحدَّث به الرُّواة عن أبي العلاء من أنه أكل ذات يومٍ دبْسًا،٤ فسقط بعضه على صدره وهو لا يدري، فلما خرج إلى الدرس قال له بعض تلاميذه: يا سيدي أكلت دبْسًا، فأسرع بيده إلى صدره، وقال: نعم، قاتل الله الشَّرَهَ! ثم حرَّم الدبس على نفسه طوال الحياة.
وأعانته هذه الحادثة على أن يفهم طَوْرًا من أطوار أبي العلاء حق الفهم؛ ذلك أن أبا العلاء كان يتستَّر في أكله حتى على خادمه؛ فقد كان يأكل في نفق٥ تحت الأرض، وكان يأمر خادمه أن يُعدَّ له طعامه في هذا النفق ثم يخرج، ويخلو هو إلى طعامه فيأخذ منه ما يشتهي. وقد زعموا أن تلاميذه تذاكروا مرَّةً بِطِّيخ حلب وجودته، فتكلف أبو العلاء وأرسل إلى حلب من اشترى لهم منه شيئًا فأكلوا، واحتفظ الخادم لسيده بشيء من البطيخ وضعه في النفق، وكأنه لم يضَعْه في المكان الذي تعوَّد أن يضع فيه طعام الشيخ، وكره الشيخ أن يسأل عن حظِّه من البطيخ، فلبث البطيخ في مكانه حتى فسد ولم يذقه الشيخ.

فهم صاحبنا هذه الأطوار من حياة أبي العلاء حق الفهم؛ لأنه رأى نفسه فيها، فكم كان يتمنى طفلًا لو استطاع أن يخلو إلى طعامه، ولكنه لم يكن يجرؤ على أن يُعلِن إلى أهله هذه الرغبة. على أنه خلا إلى بعض الطعام أحيانًا كثيرة، ذلك في شهر رمضان وفي أيام المواسم الحافلة، حين كان أهله يتَّخذون ألوانًا من الطعام حلوةً، ولكنها تؤكل بالملاعق؛ فكان يأبى أن يصيب منها على المائدة، وكانت أُمُّه تكرَه له هذا الحِرْمَان، فكانت تُفرد له طبقًا خاصًّا وتخلي بينه وبينه في حجرة خاصة، يُغلقها هو من دونه حتى لا يستطيع أحدٌ أن يُشرف عليه وهو يأكل.

على أنه عندما استطاع أن يملِك أمرَ نفسه اتَّخذ هذه الخطة له نظامًا، بدأ بذلك حين سافر إلى أوروبا لأوَّل مرة، فتكلف التعب وأبى أن يذهب إلى مائدة السفينة، فكان يُحمل إليه الطعام في غرفته. ثم وصل إلى فرنسا فكانت قاعدته إذا نزل في فندق أو في أُسْرة أن يحمل إليه الطعام في غرفته دون أن يتكلف الذَّهاب إلى المائدة العامة، ولم يترك هذه العادة إلا حين خطب قرينته، فأخرجته من عاداتٍ كثيرة كان قد أَلِفها.

هذه الحادثة أخذته بألوان من الشدة في حياته، جعلته مضرب المثل في الأسرة وبين الذين عرفوه حين تجاوز حياة الأسرة إلى الحياة الاجتماعية؛ كان قليل الأكل، لا لأنه كان قليل الميل إلى الطعام؛ بل لأنه كان يخشى أن يوصف بالشره أو أن يتغامز عليه إخوته، وقد آلمه ذلك أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن تعوَّده حتى أصبح من العسير عليه أن يأكل كما يأكل الناس. كان يُسرف في تصغير اللقمة، وكان له عمٌّ يَغيظه منه كلما رآه فيغضب ويَنهرُه٦ ويُلح عليه في تكبير اللقمة، فيضحك إخوته، وكان ذلك سببًا في أن كره عمَّه كرهًا شديدًا. كان يستحي أن يشرب على المائدة مخافة أن يضطرب القَدَحُ من يده، أو ألَّا يحسن تناوله حين يقدَّم إليه، فكان طعامه جافًّا ما جلس على المائدة، حتى إذا نهض عنها ليغسل يديه من حنفيَّة كانت هناك، شرب من مائها ما شاء الله أن يشرب، ولم يكن هذا الماء نقيًّا دائمًا، ولم يكن هذا النوع من ريِّ الظمأ ملائمًا للصحة، فانتهى به الأمر إلى أن أصبح ممعودًا،٧ وما استطاع أحد أن يعرف لذلك سببًا.
ثم حَرَّم على نفسه من ألوان اللعب والعبث كلَّ شيء، إلا ما لا يكلفه عناءً ولا يُعرِّضه للضحك أو الإشفاق، فكان أحبُّ اللعب إليه أن يجمع طائفة من الحديد وينتحي٨ بها زاوية من البيت، فيجمعها ويفرقها ويقرع بعضها ببعض، ينفق في ذلك ساعات، حتى إذ سئمه وقف على إخوته أو أترابه وهم يلعبون، فشاركهم في اللعب بعقله لا بيده، وكذلك عرَف أكثر ألوان اللعب دون أن يأخذ منها بحظٍّ، وانصرافُه هذا عن العبث حبَّب إليه لونًا من ألوان اللهو؛ هو الاستماع إلى القَصص والأحاديث؛ فكان أحب شيء إليه أن يسمع إنشاد الشاعر، أو حديث الرجال إلى أبيه، والنساء إلى أمه، ومن هنا تعلم حسن الاستماع. وكان أبوه وطائفةٌ من أصحابه يحبون القصص حبًّا جمًّا، فإذا صلَّوا العصر اجتمعوا إلى واحد منهم يتلو عليهم قصص الغزوات والفتوح، وأخبار عنترة والظاهر بيبرس، وأخبار الأنبياء والنُّسَّاك والصالحين، وكتبًا في الوعظ والسُّنن. وكان صاحبنا يقعد منهم مَزْجَرَ٩ الكلب وهم عنه غافلون، ولكنه لم يكن غافلًا عما يسمع، بل لم يكن غافلًا عما يتركه هذا القصص في نفوس السامعين من الأثر. فإذا غربت الشمس تفرق القوم إلى طعامهم، حتى إذا صلَّوُا العِشاء اجتمعوا فتحدثوا طرفًا من الليل، وأقبل الشاعر فأخذ ينشدهم أخبار الهلاليين والزناتيين، وصاحبنا جالس يسمع في أول الليل كما كان يسمع في آخر النهار.
والنساء في قرى مصر لا يُحْبِبْنَ الصمت ولا يَمِلْنَ إليه؛ فإذا خلت إحداهن إلى نفسها ولم تجد من تتحدَّث إليه، تحدَّثت إلى نفسها ألوانًا من الحديث، فغنَّت إن كانت فرحة، وعدَّدت١٠ إن كانت محزونة، وكل امرأة في مصر محزونة حين تريد. وأحب شيء إلى نساء القرى إذا خلون إلى أنفسهن أن يذكرن آلامهن وموتاهن فيعدِّدن، وكثيرًا ما ينتهي هذا التعديد إلى البكاء حقًّا. وكان صاحبنا أسعد الناس بالاستماع إلى أخواته وهن يتغنَّين، وأمه وهي تعدِّد، وكان غناء أخواته يغيظه ولا يترك في نفسه أثرًا؛ لأنه كان يجده سخيفًا لا يدل على شيء، في حين كان تعديدُ أُمِّه يهزُّه هزًّا عنيفًا، وكثيرًا ما كان يُبكيه. وعلى هذا النحو حفظ صاحبنا كثيرًا من الأغانى، وكثيرًا من التعديد، وكثيرًا من جِدِّ القصص وهَزْله، وحفظ شيئًا آخر لم تكن بينه وبين هذا كله صلة؛ وهي الأوراد التي كان يتلوها جَدُّه الشيخ الضرير إذا أصبح أو أمسى.

كان جَدُّه هذا ثقيلَ الظل بغيضًا إليه، وكان يقضي في البيت فصل الشتاء من كلِّ سنة، وكان قد صَلُح ونَسُك حين اضطرته الحياة إلى الصَّلاح والنسك، فكان يُصلي الخمس لأوقاتها، ولم يكن لسانه يفتر عن ذكر الله، وكان يستيقظ آخر الليل ليقرأ «وِرْد السَّحَر»، وكان ينام في ساعة متأخِّرة بعد أن يُصلِّي العشاء ويقرأ ألوانًا من الأوراد والأدعية. وكان صاحبنا ينام في حُجرةٍ مجاورةٍ لحجرة هذا الشيخ، فكان يسمعه وهو يتلو، حتى حفظ من هذه الأوراد والأدعية شيئًا كثيرًا. وكان أهل القرية يُحبون التصوف ويُقيمون الأذكار، وكان صاحبنا يُحب منهم ذلك؛ لأنه كان يلهو بهذا الذكر، وبما يُنشده المنشدون أثناءه. ولم يَبلُغ التاسعة من عمره حتى كان قد وَعَى من الأغاني والتعديد والقصص وشعر الهلاليين والزناتيين والأوراد والأدعية وأناشيد الصوفية جملةً صالحةً، وحفظ إلى ذلك كلِّه القرآن.

١  طلعة: كثير التطلُّع. ولا يحفل بالشيء: لا يبالي به.
٢  أُغرقوا في الضحك: بالغوا فيه.
٣  أجهشت بالبكاء: همَّت به وتهيَّأت له.
٤  الدبس: عسل التمر وعسل النحل.
٥  النفق: الحفير تحت الأرض.
٦  ينهره: يزجره.
٧  ممعود: بمعدته داء.
٨  ينتحى: يقصد.
٩  أي قريبًا منهم، ومزجر الكلب: المكان الذي يزجر فيه، وذلك أن الكلب يكون حول القوم عند الطعام فينهونه بالصوت ليبعد عنهم.
١٠  التعديد: ذكر محاسن الميت، والمراد هنا: ما تلهج به المرأة من بكاء موتاها أو ذكر أشجانها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤