الفصل السادس

منذ هذا اليوم أصبح صبيُّنا شيخًا وإن لم يتجاوز التاسعة؛ لأنه حفظ القرآن، ومن حفظ القرآن فهو شيخ مهما تكن سنُّه، دعاه أبوه شيخًا، ودعته أمه شيخًا، وتعوَّد سيِّدنا أن يدعوه شيخًا أمام أبويه، أو حين يرضى عنه، أو حين يريد أن يترضَّاه لأمر من الأمور، فأما فيما عدا ذلك فقد كان يدعوه باسْمه، وربما دعاه «بالواد»، وكان شيخنا الصبيُّ قصيرًا نحيفًا شاحبًا زريَّ الهيئة١ على نحوٍ ما، ليس له من وقار الشيوخ ولا من حسن طلعتهم حظ قليل أو كثير، وكان أبواه يكتفيان من تمجيده وتكبيره بهذا اللفظ الذي أضافاه إلى اسمه كِبرًا منهما وعجبًا لا تلطُّفًا به ولا تحببًا إليه. أما هو فقد أعجبه هذا اللفظ في أوَّل الأمر، ولكنه كان ينتظر شيئًا آخر من مظاهر المكافأة والتشجيع؛ كان ينتظر أن يكون شيخًا حقًّا، فيتَّخذ العمَّة ويلبَس الجُبَّة والقُفطان، وكان من العسير إقناعُه بأنه أصغر من أن يحمل العِمَّة، ومن أن يدخل في القُفْطان … وكيف السبيلُ إلى إقناعه بذلك وهو شيخٌ قد حفظ القرآن! وكيف يكون الصغير شيخًا! وكيف يكون من حفظ القرآن صغيرًا! هو إذنْ مظلوم، وأيُّ ظلمٍ أشد من أن يُحال بينه وبين حقِّه في العِمَّة والجُبَّة والقُفطان!

وما هي إلا أيام حتى سئم لقب الشيخ، وكره أن يُدْعَى به، وأحس أن الحياة مملوءة بالظلم والكذب، وأن الإنسان يظلمه حتى أبوه، وأن الأُبوَّة والأمومة لا تعصِم الأب والأم من الكذب والعبث والخداع.

ثم لم يلبث شعوره هذا أن استحال إلى ازدراء٢ للقب الشيخ، وإحساس بما كان يملأ نفس أبيه وأمه من الغرور والعُجْب، ثم لم يلبث أن نَسِي هذا كلَّه فيما نَسِي من الأشياء.

على أنه في حقيقة الأمر لم يكن خليقًا أن يُدْعَي شيخًا، وإنما كان خليقًا رغم حفظه للقرآن أن يذهب إلى الكتَّاب كما كان يذهب، مُهمَل الهيئة، على رأسه طاقيته التي تُنظَّف يومًا في الأسبوع، وفي رجليه حذاء يُجَدُّ مرةً في السنة، ولا يَدَعُه حتى لا يحتمل شيئًا، فإذا تركه فليمش حافيًا أسبوعًا أو أسابيع حتى يأذن الله له بحذاء جديد. كان خليقًا بهذا كله؛ لأنَّ حفظه للقرآن لم يدُم طويلًا … أكان وحده ملومًا في ذلك؟ أم كان اللوم مشتركًا بينه وبين سيِّدنا؟ الحقُّ أن سيِّدنا أهمله حينًا وعُني بغيره من الذين لم يختموا القرآن؛ أهمله ليستريح، وأهمله لأنه لم يتقاضَ أجرًا على ختمه للقرآن. واستراح صاحبنا إلى هذا الإهمال، وأخذ يذهب إلى الكُتَّاب يقضي فيه طوال النهار في راحة مطلقة ولعب متصل، ينتظر أن تنتهي السنة ويأتي أخوه الأزهريُّ من القاهرة، حتى إذا انتهت الإجازة وعاد إلى القاهرة، استصحبه لِيُصبح شيخًا حقًّا، وليجاورَ في الأزهر.

ومضى على هذا شهرٌ وشهرٌ وشهر، يذهب صاحبنا إلى الكُتَّاب ويعود منه في غير عمل، وهو واثق بأنه قد حفظ القرآن، وسيِّدنا مطمئن إلى أنه حفظ القرآن، إلى أن كان اليوم المشئوم … كان هذا اليوم مشئومًا حقًّا؛ ذاق فيه صاحبنا لأوَّل مرَّةٍ مرارةَ الخزي والذِّلَّة والضَّعَة وكَرِه الحياة. عاد من الكتَّاب عصر ذلك اليوم مطمئنًّا راضيًا، ولم يكد يدخل الدار حتى دعاه أبوه بلقب الشيخ، فأقبل عليه ومعه صديقان له، فتلقَّاه أبوه مبتهجًا، وأجلسه في رفق، وسأله أسئلة عادية، ثم طلب إليه أن يقرأ «سورة الشعراء»، وما هي إلَّا أن وقع عليه هذا السؤال وَقْعَ الصاعقة، ففكَّر وقدَّر، وتحفَّز٣ واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وسمَّى الله الرحمن الرحيم، ولكنه لم يذكر من سورة الشعراء إلا أنها إحدى سُوَرٍ ثلاثٍ، أوَّلها «طسم»، فأخذ يُردِّد: طسم مرةً ومرةً ومرة، دون أن يستطيع الانتقال إلى ما بعدها، وفتح عليه أبوه بما يلي هذه الكلمة من سورة الشعراء، فلم يستطع أن يتقدَّم خطوة. قال أبوه: فاقرأ سورة النمل، فذكر أن أول سورة النمل كأول سورة الشعراء «طس» وأخذ يردد هذا اللفظ، وفتح عليه أبوه، فلم يستطع أن يتقدَّم خطوة أخرى. قال أبوه: فاقرأ سورة القصص، فذكر أنها الثالثة، وأخذ يردِّد: طسم، ولم يفتح عليه أبوه هذه المرة، ولكنه قال له في هدوء: قم؛ فقد كنت أحسب أنك حفظت القرآن، فقام خَجِلًا يتصبَّب عَرَقًا، وأخذ الرجلان يعتذران عنه بالخجل وصغر السن، ولكنه مضى لا يدري أيلوم نفسه لأنه نَسي القرآن، أم يلوم سيِّدنا لأنه أهمله، أم يلوم أباه لأنه امتحنه!

ومهما يكن من شيء، فقد أمسى هذا اليوم شرَّ مساء، ولم يظهرَ على مائدة العَشاء، ولم يسأل عنهُ أبوه، ودعته أمه في إعراضٍ إلى أن يتعشَّى معها فأبى، فانصرفت عنه ونام.

ولكن هذا المساء المُنْكَر كان في جُملته خيرًا من الغد؛ ذهب إلى الكُتَّاب، فإذا سيِّدنا يدعوه في جَفوة: ماذا حصل بالأمس؟ وكيف عجزت عن أن تقرأ سورة الشعراء؟ وهل نسيتها حقًّا؟ اتْلُها عليَّ! فأخذ صاحبنا يردِّد: طسم، وكانت له مع سيِّدنا قصة كقصته مع أبيه، قال سيِّدنا: عوَّضَني الله خيرًا فيما أنفقت معك من وقتٍ، وما بذلتُ في تعليمك من جَهْدٍ، فقد نَسِيتَ القرآن ويجب أن تعيده، ولكن الذنب ليس عليك ولا عليَّ، وإنما هو على أبيك؛ فلو أنه أعطاني أجري يوم ختمت القرآن لبارك الله له في حفظك، ولكنه منعني حقي فمحا الله القرآن من صدرك.

ثم بدأ يُقرئه القرآن من أوَّله، شأنه مع من لم يكن شيخًا ولا حافظًا.

١  زري الهيئة: حقيرها.
٢  استحال إلى كذا: تحول وصار. وازدراء: احتقار.
٣  تحفز: انتصب في قعدته غير مطمئن، أو استوى جالسًا على وركيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤